جورج بتاي - التأمل .. ت: نظيرة ابراهيم

في الأيام الأولى التي كنت أتأمّل فيها، كنت أدخل كالعادة في حالة خدر عندما أشعر فجأة أني أصبحت قضيباً منتصباً وكانت شدة اقتناعي تجعل من الصعب التملّص منها.

البرحة وبالطريقة ذاتها، انتابني شعور عنيف بأني شجرة ودون أن أقدر على الاعتراض تمددت يداي كغصنين في الظلمة. فكرة أن أكون (جسدي ورأسي) عضواً كبيراً منتصباً كانت مجنونة إلى حد جعلني أشعر برغبة في الضحك. أتتني هذه الفكرة الهزلية بأن انتصاباً بمثل هذه القسوة (الجسد الممدد في كليته كقضيب ينتصب) لا يمتلك مخرجاً آخر سوى الاستمتاع. كنت متوتراً إلى حدّ كان من المستحيل فيه عليّ أن أضحك أصلاً. كانت عيناي على ما أعتقد غائمتين في محجريهما ورأسي ملقىً للخلف وشفتاي مفتوحتين مثل القتيل الذي تمثلته في ذهني. اجتاحت ذكرى هاته الصورة عقلي في هذه الحالة غير المرتقبة دون أن تسبب الإحباط المعتاد: تدفق للرعب والنور سرى في جسدي من الأسفل إلى الأعلى. لا شيء يتجاوز الإحساس الذي يوحي به عذاب كبير.

تجنبت منذ ذلك الحين هذا النوع من التغييرات المرعبة (عنصر الفضيحة في ذاتي ليس إرادياً. إنه يتجاوزني دوماً) لكن بعد سنة تحت ضغط استثارة جنسية (والتي كان يجب أن أصمد أمامها) انتهى بي عارياً في غرفتي. كنت أتمثل واقفاً المشاهد الأكثر مجوناً. دخلت في حالة صعبة الوصف، قريبة من الكابوس ومؤلمة حيث اختلط الخدر بالإنهاك. نزلت عارياً إلى المنزل الفسيح الفارغ وجلست على المرحاض. كان عندي أمل في أن يحررني التغوّط. تشنجت حدّ الاحمرار الشديد وكان من الممكن أن أصرخ: وجدت نفسي في غرفتي لكني لم أكن أقل نهماً للنساء. في النهاية انتصب جسدي وكالسنة الفارطة حطمتني من جديد صورة المعاناة فسقطت على الأرض.

الزمن الذي يمر دون معاناة يبدو عبثياً أو إذا شئنا فهو أخرق مقارنة بالزمن الذي يفرضه الشقاء. لا لأن الألم العميق يقودنا إلى غاية ونتيجة هذا الالتفاف يقول لنا الألم الحقيقي:«لا وجود لغاية أو نتيجة تبرر عنفي، لن تقدر بأي شكل على الاحتفاظ بأدنى أمل: فلن أعيش إلا لذاتي وإنني أريدك خالصاً لي دون شرط»

مع ذلك يجب الاعتراف: «لو لم يكن الألم على ما هو عليه، مناقضاً للرغبة، لاستجاب لرغبتنا في الهرب من الحدود. لهذا فكل ما لا ينتمي إليه يبدو ضمن سلطته اعتباطياً»

كنت أتخيل نفسي محكوماً ذاتياً بالصمت في ألم غير واضح المعالم وأكبر من الكلمات… وكنت أفكر: «كم كان ألمي قاسياً، لا أحد أكثر ثرثرة مني».

هذه المعاناة تجعلنا نتنفس الموت… يلفنا الموت مسبقاً بصمت لا محدود مثل جزيرة محاطة بالماء. لكن هذا تحديداً ما لا يمكن التعبير عنه. ما أهمية كلمات لا تخترق هذا الصمت. ما نفع الكلام عن “لحظة الدفن” عندما لا يساوي القول شيئاً إذ لا يتعدى حدود الكلمات. أعلم أني عشت الأشياء إلى منتهاها حيث يصير القول مزعجاً فتدمير اللغة ليس من فعلي الخاص لكنه لم يحدث فيّ إلا بتدمير يكفعل الوقت الذي أقصاني (أنا أتكلم الآن لكن من دون جدوى)

أأكتب لاستعمال السادة؟

إذا ما تخلصت في ذاتي عبر تواتر القيم النفعية، من لحظات الرعب التي هي أساس الراحة المطلقة، لبعت سيادتي التي أمتلكها براحة تتمثل في أن لا أخاف أبداً.

لكن هذا الخوف ما هو إلا رغبة تعادل الرعب: إنه الجزع حيث توجد رغبتي في شيء يرعبني (انعدامه) إذ إنه يعمق ويثري رعبي. وإذا ما تخلصت من أسباب الخوف وقلت «يا رب» لاستخلصت من السيادة التي ترغب في تجاوز الخوف في ذاتي من ألا أصير موجوداً كما كنت وقد أصل إلى خدمة النافع (عبر حيلة أن المفيد هو أن نكون نحن خدمة للرب وبما أن الرب هو الضمانة القوية للكينونة، فالخضوع لهذا المبدأ هو أن يستمر الكائن ولا يندثر.

ليس لي ألاّ أخشى الموت وبالقدر ذاته لا أستطيع ألاّ أرغب في الموت ذاته وفي ما يعلن عنه والمتمثل في فجر الموت.

يمثل العري وفتحة البول ومجاورة الغائط للموت ما يمثله بزوغ الشمس للنهار. فحش الميتة الصغرى يعلن كلّ ساعة في ذاتي عن رعب الميتة الكبرى. لا ينقذني الرب مع العري العطن بقدر ما لا ينقدني من التحلل تحت الارض.

المتعة المفرطة للفتاة العارية والقضيب في فمها هي بالنسبة لي ضمان لليلة لا تراجع عنها. إذا قلت: «يجب قبل كل شيء أن نستمر» توجب علي أن أدين الفتاة لكني بهذه الطريقة سأتنازل عن سيادتي (سأقول راكعاً «أيها الرب»).

للتدين (الذهاب إلى أبعد حد، ما نقدر عليه معاً من ممكنات الحياة) وجهتان. إحداهما ذليلة والأخرى ذات سيادة. الأولى ليست مطلقاً فشلاً مباشراً لكنها تلحق في النهاية كل قيمة حتى الرب ذاته بالمنفعة (يعني بالكينونة) والثانية تنهك دون ان يكون لها منفذ حيث تقتضي ضمناً:

– الرغبة المنتصرة على الخوف في حالة الرعب
– الوعي بأن المتعة القصوى هي تحدٍ (ممتع يجعله الحظ ممكناً) أحمله ضد الموت
– فكرة أن الليلة التي أقع فيها لا يمكن تعويضها بأي مكان ولا بأي شكل فقد أكون دون ذلك مرتَهناً للممكن الذي قد يقدم تعويضاً لسيادتي بدل أن أكون ملفوظاً (كما أنا) في الليلة التي لن يبزغ فجرها


.
 
أعلى