إبراهيم محمود - النابغة الذبياني وغواية الردفَين - ت: صلاح صلاح

ما الذي كان مثيراً في الشاعر، المُعتبَر جاهلياً، النابغة الذبياني (ت: 18 ق. هـ، 604 م)، وهو يتمرأى في الجسد الأنثوي؟ ما الذي يربطنا، نحن أبناء اليوم، بما تردَّد على لسانه إزاء وضع جنساني من هذا النوع؟ أيّ حالة ذبيانية تترى في قيمومة الجسد المُعرَّف به ذكورياً، وهو قارئه هنا وهناك؟

ربّما، أمكن الحديث عن فعل الغواية الشعريّ الطابع، أو لحظة التجسيد الشعرية، عبر قلب وضع الجسد المُفتَتَن به، ليُصار إلى تأبيد لحظة التشهّي هذه، تدوير الاسم، ليعلَق به، كتيمة فحولة؟

النابغة الذبياني، النابغة اللحميّ اكتنازاً، بالمقابل، في ما أتته قريحته، وكما يدلّ عليه اسمه كثيراً، بالقدر الذي يكون محتفى بالحياة الفارهة، مقيماً علاقة تناظر بين بقاء الكلمة المنتقاة، استجابة للشعور المسكون بلوعة المرغوب فيه، والجسد الذي لا يقبَض عليه، جسد مناظره ومسامره، إلا تخيلياً، تتجلّى حركة النابغة والسابغة معاً، في نطاق رهانيّ، ما يبقي الآني أبديَّه!

ثمة الكثير من الشعر في الأنثوي، من ناحية الدالّ الرمزي، جرأة المكاشفة. من يجرؤ الآن، وبعد مضي الزمن الطويل هذا، على أن يمارس تغزّلاً بجسد مماثل، محرَّم على أي كان، وبسهولة، ولو التذكير به؟ أتراه كان في غواية المكاشفة، رمزاً من رموز حداثة متنقّلة، معاصرة مرتحلة؟ أعني هنا، جسد المتجرّدة، زوجة النعمان بن المنذر: الملك العتيد، كما يعرف المعني. ما هو خفي هنا: ماذا يمكن القول أكثر مما قيل في لحظة الملامسة القوليّة تلك؟ أي لذّة متحرّرة مكانياً، استوطنت شعر الشاعر، وخلّدت جسد الأنثى المحروس؟ أحيل كامل الجسد المحبوك شعرياً، على مشهد ردفيَني، ليس حبّاً في فعل التحويل هذا، وإنما لأن حركيّة الردفَيْن، والمحيط الحاف بهما، يشكّل مجمل المرغوب فيه، في الجسد الأنثوي ذاك الذي يتأصّل في الشعر العربي القديم، في مشاهد كثيرة منه، في مراحل مختلفة تاريخياً، حتى اللحظة هذه وبنسب تتحدّد جنسانياً، مع اختلاف التعبير لغوياً. إن غواية الردفين تدبير للذّة مصطفاة، في عنف لغة مؤصَّلة.

نظرت بمقلة شادن مترلّب = أحوى، أحمّ المقلتين، مقلَّدِ
والنظم في سلك يزيّن نحرها، = ذهبٌ توقَّد، كالشهاب الموقَدِ
صفراء كالسيراء، أكمل خلقها = كالغصن، في غلوائه المتأودِ
والبطن ذو عكن، لطيف طيّه، = والإتب تنفجه بثدي مقعدِ
محطوطة المتنين، غير مفاضةٍ = ريّا الروادف، بضّة المتجرّدِ

في الأبيات السالفة، ثمة وصف وتوصيف، إنما تعريف بمآثر الجسد الأنثوية، على مائدة الذكورة، إنما هو فعل الدمج بين عناصر مختلفة، يكون الجسد الأنثوي مطعَّماً بها، ليُشتهى: من الحديث عن الأنثى باعتبارها شادناً (صغير الغزال)، في تنوّع الألوان، ذات زينة واضحة، إلى الحديث الوصفيّ والتوصيف المتعلقَيْن بمربَع الصدر وقد ازداد غواية في زينته. إلى التعبير عن المظهر الخارجي، اكتمال الحسن، وتعميقاً لمشهد الغواية الأنثوية. إلى النفاذ صوب الداخل، إلى اللحم المضروب عليه، لكنه النافذ خارجاً، بحركة انثناءات، لا تُبقي المحيط به ثياباً، في وضع ثبات، بقدر ما تزداد فتنة النظر، والرغبة بالظفر بالمربرب جوّانياً. إلى جمالية اللحم في تناسق أبعاده، من حيث السمنة الطافحة، اللافحة بتيار الرغبة الصاعدة ذكورياً. إن كمال الحسن هو ما جرى النظر فيه، وما تمّ التعريف بمزاياه، وما جرى التنويه بطفح كيله تلذّذياً. إن تعرية فاتكة بالاسم، هي بيت قصيد القائل، على صعيد القول الشعري.

إنما ماذا وراء هذا الكرنفال الجسدي كلّه، رغم وحدة المقام، والمتمثّل في المتجرّدة المذهلة؟!

لا أظن أن النابغة كان يطلب الجسد الموسوم لذاته الخاصة، إنما لذاته الأخرى كذلك، ذات الذكوري الموغلة في القدم، وليس التعبير عن الجسد المهيوب ذاك إلا إجراء ذكورياً، لتكون الذاكرة قادرة أكثر على تأبيد ما يناسبها، طالما الثقافة القائمة، أو السائدة من جنس المتردّد لغوياً!

المقروء في الأبيات هذه، وأعتبرها، قادرة على مكاشفة الكثير مما كان يميّز النابغة، ليس باعتباره الاسم المعني بصاحبه، وإنما بكلّ الذين يُشار إليهم ببنان الذكورة مجتمعياً، حتى الآن:

الربط بين الجانب اللحمي، الطازج، لحم الطريدة الصحراوية، حيث يتم إبراز صنعة الوصف، في العين والألوان، وكلّها شهود عيان مكانية، لكنها داخلة في بازار القيم الجسدية.

إن الوصف لا ينفكّ عن الموصوف والواصف، فالجسد الأنثوي طريدة رغبة الواصف تماماً هنا.

الاثتمان على ما هو سرديّ، في مجال المظهر المرئي، دخول في المعترك الحياتي الإخصابي، بُعد من أبعاد المكاشفة لذات الرغبة، مثلما هو بُعد من أبعاد العلاقة التي تُبقي الأنثى في سياق المنتظَر، استجابة لما تأكَّد ذكورياً. لحظة الرغبة القصوى، هي إزاحة الستار، عن الموصوف، إذ كلّ ما قيل، هو من جنس الإقبال للنظر، لإمتاع الحسّ، ليأتي الإشباع نديم ملاطفة، وحصيلة ملامسة نافذة، ليس إلا، كما هو الجسد الممتلىء لحماً. إنه اللحم السلطاني، الملوكي، الحاكمي، لكنه الممتَلك ذكورياً.

قائل الشعر، هو طافح بشبق اللقيا، وإن لم تتمّ، وهندسة اللغة تكاشف الناطق بها! العلاقة، كما أرى، تكون في غاية الوضوح: بين تجلّي الملكية والسلطة القائمة، وهما في أوج رهبتهما وسؤددهما، والجسد الذي طفح وزنه، نظراً لأن اللحم المكتنز، اكتناز لقوّة، لنعَم، ترتدّ إلى ذات السلطة، أو إلى رفاهية باذخة. بين جسد حاكم، والمرتع المدهش، خلال حضور جسد المتجرّدة: الاسم الأثير هنا.

قوّة الدلالة، هي في دلالة القوّة، تلك التي يمثّلها اللحم الذي يكاد يُبقي الجسد، من فرض السمنة لصيقاً بالأرض، بكائنها، كما لو أنه امتداد لذات الأرض، ترسيخاً أبقى لمقام السلطان.

اكتناز الردفَيْن، حيث يثيران شهيّة النظر، له سطوته، في تفعيل رغبة آبقة، كيفما امتدّ، اليد تصدم نعومة وسخونة، وبوحاً بحليف الشبق (التوحّد بالمرغوب)، كما هو الرابط بين المتابع لما يجري سلطانياً، وما هو متوقَّع بين يديه، وكأن حضور الجسد المكتنز، حضور نعمة استثنائية، وفي الحالة هذه، تكون رسالة الشاعر المضمرة، متجاوزةً حقيقةً جنسانيةً ضيّقةً حصراً.

والوصف المقروء، لعلّه يزيد في حرمان الشاعر مما هو فيه، في تبيان فعل الكبت، رغم السفور في التعبير، في الغمز من طفرة سمنة، نعمة مرادفة، لذّة مستقرّة، في جسد عامر، تكون المتجرّدة حاملاً اسمياً لاسم أكبر، هو ممتلَك السلطان: الحاكم، المتنفّذ.

وفورة اللحم انفتاح على طبيعة خصبة تستجيب للمعنيّ بها، إنما المتملك لها، ولا يعود الفصل ممكناً بين وصف يخصّ الجسد: جسمياً، والطبيعة في سيماء أنثويتها اللافتة.

تمتدّ الغواية في الجهات كافة، لتكون علامة زمنية، تتجاوز محيطها الزمني، إلى عموم المعنى، كما لو أن كلّ امرأة وافرة اللحم، ومرغوبة، تكون المتجرّدة، والمستمتع بالجسد الدفيء والغاوي، هو النعمان ذاته وقد استحال سواه سلطانياً، بينما الشاعر، فيكون الشاهد الزمني المتجدّد، ووفقاً لتصوّر كهذا، نكون إزاء قضية جنسانية عريقة، ومذهلة، في مقوّماتها، عندما تبرز الغواية، في نسبها الأنثوي الأكثر انتشاراً، كما لو أن الشاعر الذي يسكنه غاويه، ضليع بحرَفيّة المرأة وهي تستقطب ما عداها، اللحظة الأولى في الخطيئة، لحظة التحريم، أعني الترغيب، عبر المزيد من الحظر المعلَن عن ذلك، كون الغواية، لا تتأتّى مدىً اشتهائياً، إلا بكثافة ملحوظة لأثر الغواية بالذات، وكيفية التمكّن من مصدر الغواية، وهل من غواية أكثر استثارة للذّة تغمر كامل الجسد الآخر، حين يكون الردفان الشديدا الحضور، معبراً انحدارياً، للوقوع في شرَك الجسد الوعر والملهِم معاً؟

النابغة، في لحظته المتجرّدية، لم يعرّفنا بتلك الأنثى التي بدت، أو ظهرت له في ساعة، ثانية غفلة، غير محتسبة (لا نعرف، بالدقة، في ما إذا كان الشاعر يجهلها سابقاً أم لا، هل كانت غير عالمة بأمره أم لا، هل تجرّدت له نصفياً حقاً، إيقاعاً به أم لا، هل أرادات منافسة زوجها الملك، بكينونتها اللحميّة المشتهاة وفق معايير منمذجة وقتذاك، أم لا... إلخ؟)، كما هي حقيقة الغواية، إطلالتها من الداخل، دون توقّع، لقد قادنا إلى داخلنا، إلى المصدوع في الداخل الذكوري، إلى التعريف بذلك الوقار المعتَّم عليه، كما لو أن الذكورة مرادفة للصمت، تعميقاً لهيبة الصورة الموازية، والمرأة صورة أميل إلى الصخب، إلى الخروج من الإطار، ليكون ضبطها بعد ذلك، وكما هو المعرّف بها. أو توضع المرأة في أكثر من إطار ليليّ، ظلماتيّ، رطبيّ، ناريّ كذلك، وكأن القانون المدقّق في حالة الفوضى هذه، متجسّد ذكورة، كأن الغواية إيقاع الأنثى الدائم التفعيل مكانياً، بالذكر، وعلى صعيد اللغة بالذات، وأن النابغة لم يفعل سوى ما هو شاهد له وعليه؟ كون الغواية تأتي من الخارج، كما هو العنف، الذي هو بمثابة خرق لنظام ما، والغواية تصعيد بما هو خرقيّ، ولتكون استجابة الرجل: الذكر، للغواية، دخولاً في لعبة، لا يد له فيها، رغم أنه مشتهيها، كما هو المنظور فيه، من ناحية معانقة المتخيّل، متخيّل يشدّ صاحبه الذكر، إلى تعميق النظر في ردفَيْن مكتنزَيْن، يصعدان بجسد الأنثى إلى المقام الذي يحدّده الناظر، وأن تقويم اللعبة هذه، بمثابة خروج منها، ولتبقى الغواية هناك، على مبعدة عن جسد الرجل، كما يعلّمنا جسد المتجرّدة، وقد تجاوز الاسم الواحد، وليكون الشعر بدوره، حليف الذاكرة المعمّمة، في ميسمها الذكوري.

لكن من يمكنه القول، وبتأكيد، على أن الغواية هي حقاً أنثوية، وليست متولّدة في داخل الرجل بالذات؟ سؤال: هل من غواية ممكنة لردفَي الشاعر؟

ردفا النابغة

لا يكون النابغة الذبياني، هو المثال الوحيد، في ما نحاول البتّ بأمره، في درس شعري نقدي، فثمة آخرون، لكن تعزيز منحى الذكورة الطافحة في ما استشعره، هو استشراف لحقيقة مجمل الذين عاصرهم، وحتى الذين تلوه، ممن ينتسبون إلى الإسلام تاريخياً وثقافياً، لكنهم لم يغيّبوا نبرة الفحولة تلك، لأن ثمة ما أبقاهم، ما حثّهم على المضي قُدماً في سياق التمثيل العميق لقوى الفحولة المؤمّمة ذكورياً، تحت سمع السلطة ونظرها. نعود إلى السؤال: أين هما ردفا الشاعر المنمذج؟

الحديث عن الردفَيْن، لا ينفصل عن الحديث عن التركيب الجنساني للجسد، والمبثوث فيه جمالياً، وفي أهبة التعبئة المجتمعية، لما هو قيميّ. في الشاعر كممثّل تاريخي تليد، تكون اليدان بارعتَيْن في التمثيل الإيمائي، مرفقتَيْن بالعين، إلى جانب الفم ممثّل رعشة الجسد الشبق، بينما في المرأة، وكما هو المقروء في المأثور الأدبي والتاريخي العربي الإسلامي، وحتى الآن، هنا وهناك، يصعد الردفان عتبة ضيافيّة، تستقبل الذكورة، إنهما يقابلان يدَي الشاعر: الذكر، لهذا، يصعب العثور على أي أثر، للردفَيْن، كعلامتِيْن تشغلان عموم الجسد، بالمفهوم الهندسي، إنما هما محوَّلان ناحية الأنثى، في معنى أن جسد المرأة مركَّب هنا حسابياً، بينما جسد الرجل فهندسياً، بحكم الثقافة، كيف؟

ليس لدى الرجل الموسوم ردفان، رغم أنهما محسوسان "ملموسان" فيه، لكنهما متواريان عن النظر، بالمعنى الدلاليّ، ويمكن القول بالمقابل، ليس لدى الرجل سوى هذين الردفَيْن اللذين يشكّلان علامة فارقة للتمايز ذكورياً. إنهما واقع ظاهر في مرمى النظر، لكن في سياق الحياة اليومية والرمزية، عليهما أن يكفّا عن الحضور طالما أن ثمة ما يُتحدّث باسمه في الصدارة (صدارة الجسد)، ما يمثّل الجسد الذكوري، ومن داخل الثقافة المشرعنة، ما يدفع بالردفين إلى أن يغيبا كلّيّاً داخل الخطاب الذكوري، كما هو المقروء تماماً في النصوص الشعرية الكبرى، والنابغة، لا يخفي ولاء الردفَيْن لصاحبهما، لأن المقابل الجنساني (المرأة) وباعتبارها إنجازاً ردفينياً، وإيجازاً لحمياً يحفّ بذينك الردفَيْن، كإمكان قابل للنظر، والتلمّس المباشر، هو الذي يهيئ لهذا التفاوت في منحى الجندرة.

النابغة لم يقدّم في شعره ما يدلّ على أنه حامل ردفَيْن، أو يمكن لفت النظر من خلالهما، بقدر ما إن فعل الوصف والتوصيف، منظور فيه بين الفم واليدين، كإيعاز جسديّ إشهاريّ.

بين حالة النطق الفموية، والرؤية المرافقة، وتجلّي اليد، من خلال المؤثّر الحسّيّ المركَّب: في الكلام والرؤية، يمكن الجسد الذكوري أن يحشد قواه المعبّرة عنه، أن يعلن نفيراً عاماً، أن يتهيأ لحركة إقدام إزاء الجسد الآخر الردفينيّ الطابع، باعتباره لقيا منتظرة، أو متصوّرة، مؤبّدة في المخيال الجمعي الذكوري، والشعر هو شاهد عيان لغة، تأبى إلا أن تكون ذخانية كذلك، كما هو الموصوف والمرصوف في كلّيّة الجسد الأنثوي، في إبراز شمائل الجسم المتجسّد، وفضائله، من جهة التجنيس، وهو في كامل استثارته المقصودة، إذ يظهر قابلاً للتحريك بقوّة اللغة الجماعية، بلغة أحد أبرز ممثّليها، وهو مفوَّض، كما يظهر، في أن يحيل كامل الجسد الذكوري، في علامته الجمعية الفارقة، في مناظرة جبهوية بادية، وكأن المكان متداخل مع الجسد الموصوف، كأن نبض الحياة المرسوم، إفصاح عن أن كلّ شيء على ما يرام: الجسد الأنثوي، في صفاته العالقة، مقابل الصحراء ومكوّناتها التضاريسية. الصحراء التي تُخيف في تقلّباتها، في لحافها الرملي الهائل السماكة والفتك زحفاً وتذرّراً، وفرشها المغيَّب، وما يؤمَل أن يكون في الخفاء، كما لو أن الكاسي الجسدي، هو الذي يُغري، يفتن، يغوي بالتقدّم، بإماطة اللثام: الكساء: اللحاف مجازاً، رغبة في الأبدية المتصوَّرة.

تحيين الردفَيْن، وما يحيط بهما، من أطايب المشتهيات الجسمية، هو تعيين اللغة وتزيينها، رفع الموصوف إلى مستوى الرهان، لتأكيد تسوية، تكون إجراء ناجعاً، لصدّ غائلة جوع، موت يوشك أن يداهم المكان بأهليه.

وتأبيد مشهد اللحم مع الشحم، نزع لفتيل مجاعة، لموت متربّص، وكأن الأنثى هي في حالة تماهٍ مستمرّة مع الموصوف طبيعة، في وضعية حياد، ليس لجسدها سوى أن يدخل في طواعية اللغة، في مستهلّ القول الشعري المعتمَد عليه، كما يبرز ثالوث العين رؤية، والفم كلاماً، واليد حركة وامتلاكاً.

توصيف قاعدة الجسد الأنثوي، بمثابة ارتقاء لذات الجسد الواصف، محو، أو إقصاء لما يماثله، أي في كونه منزوع الردفَيْن، كونه أماميَّ الصفات، مثلما تتبعُ الموزع في الجسد الأنثوي، رغبة في تنويع المرغوب فيه، إحالة على إمكان الاستمرار والبقاء:

زعم الهمام بأن فاها باردٌ = عذب مقبّله، شهي الموردِ
زعم الهمام، ولم أذقه، أنه = عذبٌ، إذا ما ذقته قلت: ازددِ
زعم الهمام، ولم أذقه، أنه = يشفي، بريّا ريقها، العطِش الصدي

في الحالات كلّها، لا يظهر على الشاعر أنه في وازع الخوف مما يتهدّده، طالما المأمول في الحفظ والصون، ومن داخل اللغة، وأن جسده الذي يدخل الوصف مركَّباً، مغاير لما هو موصوف به طبيعة، بحكم الانتماء الجنساني، لأن من ذلك تقوية الموقف، وتحفيز ذات اللغة، من خلال المتمثّل لها في أن يمضي قدماً صوب الموضوع في مضمار الخدمي.

جسد الأنثى، في براعة الوصف، وليس في براعة التقويم طبعاً، يشكّل عزاء من يستنطق الشاعر ذاته، فالشاعر المنغوي بالردفَيْن وتكوّرهما، وما يستحضرانه من ملذّات ومحفّزات للنظر والمتعة المتصوَّرة، ليس أكثر من وسيط، من ناقل مؤثّرات، من باعث على اللذّة التي تنذكر هنا، لأن ثمة جمعاً ذكورياً، لغة قائمة في توجّهاتها القيميّة، تجيز له ذلك كلّه.

حلو الكلام، وليس حلو المذاق، هو الذي يلخّص القصيدة المناظرة، أو الشعر الذي يتناسل في حاضرة الجسد الذكوري، بسيمائه الجمعية المحميّة، لأن المتذوّق والمتحفّز على التذوّق والتذويق، هو المتنفّذ، ولي أمر الشاعر، أو من لديه القدرة في الجمع بين إناث المخدع، وإناث الحيوانات القادرة على الإنسال، والطبيعة التي تتراءى ذات كلأ ومرعى وماء، فيكون الوجه الحسن، هو ذاته الوجه المورَّد، علامة الصحّة الوافرة، وأن ما يظهر في طراوة الوجه، هو ترجمان غاوٍ، بما يلي الكشحَيْن، أعني الردفَيْن، مآثر اللذة المسترسلة والمستقبِلة.

وفي عموم الحال، يظلّ الشاعر مقضياً في أمره، في التجلّي محذوف الردفين، كما هو الذكر المأخوذ بذكورته، وكأنه المخلوق بفم يحدّد لغةً، وعين تحدّد مكاناً وموضعاً، ويد تحدّد ما هو سائغ، أو مستساغ، ما يبقي الأنثى المأخوذة بلغة، تكاد تكون نائية تماماً، عن حكم الفعل والاسم فيها، على مستوى النحو والصرف، مقصيّة عن الشراكة في تكوين الثقافة التي تعرّف بها أكثر من كونها الجسد الآيل إلى السقوط أو الكمون في عهدة الجسد الذكوري، وتقبّل جريان فعله، الجسد المتجاوز لبلاغة الردفين المربربين، ليكون رهين المكان:اللاحركة، طالما أن الآخر، هو ممثّل الإيقاع على مستوى اللغة وتمثيل الجسد في عمومه، ولتسهل عملية النهش المجازية. أليست المرأة مستمرأة هنا، مهضومة(قابلة للهضم) مجازياً، ألا تذكّر الصورة هذه، بأصل ما، أن وضعاً افتراسياً في عوده الدوريّ، هو الذي يلخّص كامل الموضوع، أن طريدة دسمة، في مرعى آهل بعطاء الطبيعة، تجعل المطارد، على مستوى الذكورة مأخوذاً بها، وهي في انتظاره، وكأن الشعر يصعد بالمكان دائماً، إلى مستوى المتمكّن فيه...؟

هي إحدى مفارقات الثقافة الكبرى، بدءاً من الشعر الذي عمّ شرّه الجنساني، إذ اشرأب بعنقه، وتخلل مجمل مكوّنات الثقافة العربية الإسلامية ذكورية، حيث يظهر الذكر منزوع الردفين، تجسيداً لقيمومة جسد أكثر نفاذ فعل في ما هو أنوثيّ.

أقول هذا، وأنا أستحضر كامل بلاغة الناقد السعودي عبدالله الغذامي، وهو يحاول تعرية الذكورة هذه، في "متروبول" فحولتها الذائعة الصيت، في أكثر من مؤلَّف، كما لو أنه الشاهد على ما هو مأسوي في الثقافة السالفة، لكنه، وفي ما انطلق منه، وتوقّف عنده، وسعى إلى مكاشفته، مما هو جنساني مستفحل، باسم ذكورة مستفحلة، داخل نسق ثقافي هائل، وعلى أنه مغاير إزاء ما تقدّم، لم يخفِ فحولة الذكورة في ما تصدّى به، إنما برز معيناً لها.

المكر من داخل اللغة، وفي سياق التركيب الثقافي المتخيَّل، يشهد على ذلك، لهذا يمكنني القول، وبصفاء ذهنيّ تامّ: الذبيانيّة، نافذة في ذات الغذامي، وقراءة طالعه الثقافي تشي بذلك!

... بل الكفل

(مقطع من رواية "في مديح زوجة الأب" لماريو بارجاس يوسّا)

أنا كاندولوس، ملك ليديا، بلد صغير يقع بين أيونا وكاريا، في قلب تلك المنطقة التي ستُدعى بعد قرون تركيا. ليس أكثر ما أنا فخور به في مملكتي جبالها المصدّعة بفعل الجفاف أو قطعان الماعز، التي إذا اقتضت الحاجة، تحارب الغزاة الفريجيين والآيوليين والدويين القادمين من آسيا، وقطّاع الطرق الفنيقيين، اللاكيديمونيين والسيثان الرحّل الذين يأتون لنهب حدودنا، بل لوكريثيا، زوجتي.

أقول وأكرّر الكلمة. لا الردف أو العجز أو الجانب الخلفي أو القفا، بل الكفل. لأن الإحساس الذي يعتريني حين أركبها هو بالضبط هذا: امتطاء فرس ذكريّ مخمليّ، مقدام ومطيع. إنه كفل قاسٍ وعريض ربما، علاوة على وجوده في الأساطير التي تدور حوله، المتداولة في أرجاء المملكة كلّها، والتي تشعل مخيلات مواطني (تصل كلّ هذه القصص أذني، لكن عوض أن تُغضبني تثني عليّ). حين أطلب منها الانحناء ولمس السجادة بجبهتها وتقبيلها لأتمكن من تفحّصها ساعة أشاء، يحقق الشيء الثمين أعظم سحره. كلّ نصف منه جنّة دنيوية، النصفان مفصولان بشقّ رقيق ينساب ضيقاً نوعاً ما إلى الأسفل ويختفي في غابة ثملة من البياض والسواد والحرير تتوّج عمودي فخذيها الصلبين، ما يذكّرني بمذبح تلك الديانة البربرية للبابليين التي قضت عليها ديانتنا. يبدو الكفل صلباً للمستي، ناعماً لشفتي؛ شاسعاً لضمّتي ودافئاً في الليالي الباردة، إنه أكثر الوسائد المريحة لوضع رأسي عليه، ونافورة المتع ساعة كرة الحبّ. دلوفه ليس يسيراً، مؤلم في البدء، وحتى بطوليّ من وجهة نظر المقاومة التي تبديها امتدادات الجسد القرنفليّ هذا ضدّ الهجمة الذكورية. المطلوب إرادة عنيدة ودفعة عميقة، عصا مثابرة لا تجفل من شيء ولا أحد، كما هو قضيبي...



«الغاوون»، العدد 2، 1 نيسان

.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى