بابلو نيرودا / Pablo Neruda - أنشودة وإنباتات - ت: ماهر البطوطي

مذاق فمكِ، لون بشرتكِ
بشرتك، فمك،
فاكهتي
التي خرجتُ بها
من تلك الأيام الخاطفة
قولي لي،
هل كانت كل هذه الأشياء إلى جواركِ
على الدوام
عبر السنين وعبر الترحال
وعبر الأقمار وعبر الشموس
والأرض والنواح والمطر والفرح،
أم أنها تخرج الآن فحسب
من وسط جذورك
كما يخرج الماء من الأرض اليباب
إنباتات لا عهد لها بها
أو كما يصّاعد مذاق الأرض
إلى شفاه الجرة المنسية؟
لا أعرف، لا تقولي لي، أنت لا تعرفين.
لا أحد يعرف تلك الأشياء
ولكن،
حين أدنو بكل حواسي
إلى نور بشرتكِ
فإنك تختفين
تذوبين كرائحة فاكهة حمضية
وحرارة الطريق
ورائحة الذرة إذ ينفرط عقده
وزهر عسل الأصيل الصافي
وأسماء الأرض المغبرة
والعطر المطلق لوطننا:
المنغوليا والأكمة،
الدم والدقيق،
وخبب الجياد،
وقمر الضيعة المغبر،
والخبز الطازج:
آه،
كل شيئ يعود من بشرتك إلى فمي
يعود إلى فؤادي
يعود إلى جسدي
وأعود معك
لأكوِّن الأرض التي تكوّنينها:
إنكِ في نفسك الربيع العميق
أعود معكِ
لأعرف فيكِ كيف أنمو
سنواتكِ الغضة
التي كان يجب أن أشعر بها
تنمو حولي كالأغصان
إلى أن ترى
كيف أن الشمس والأرض
قد جعلتكِ من نصيب يديّ الحجريتين.
إلى أن تجعلي النبيذ يغني في عروقي
عنبة عنبة
لقد أعانتني الرياح أو الحصان
بخروجهما عن مسارهما
أن أعبر من خلال طفولتكِ
أنتِ التي شاهدتِ السماء ذاتها كل يوم
وطين الشتاء الأسمر ذاته
وأغصان أشجار البرقوق التي لا نهاية لها
وحلاوتها ذات اللون القرمزي.
كيلومترات قليلة من الليل فحسب
والمسافات المبتلة للفجر في الريف
وحفنة من الأرض تفصل بيننا
الجدران الشفافة التي لم نعبرها
إلى أن وضعت الحياة بيننا بعد ذلك
كل البحار وكل الأرض
ونقترب من بعض رغم المسافة
يبحث أحدنا عن الآخر خطوة خطوة
من محيط إلى آخر،
إلى أن رأيت السماء تحترق
وشعركِ يطير طيرانا في النور
وهرعتِ إلى قبلاتي
بنيران شهاب مطلق السراح
وحين انصهرتِ في دمائي
تلقيت في فمي
حلاوة البرقوق البري
لطفولتنا
وضممتكِ إلى صدري
كما لو أنني قد استعدت
كل الأرض وكل الحياة.
أي فتاتي المتوحشة
كان علينا أن نستعيد الزمن
وأن نمشي إلى الخلف
في بعد حياتينا
قبلة قبلة
نجمع من مكان ما منحناه دونما بهجة
ونكتشف في مكان آخر
الدرب الخفي الذي راح يدني قدميكِ إلى قدميّ
وبهذا، عبر فمي،
ترين مرة أخرى النبتة غير المكتملة
لحياتكِ
تمد جذورها
نحو قلبي الذي ينتظركِ
وتنضم الليالي
واحدة وراء أخرى
فيما بين مدننا المتباعدة
إلى الليلة التي تجمع بيننا.
ونور كل يوم،
باشتعاله أو بهدوئه
يهب نفسه لنا
فيهرب من أسر الزمن،
وبهذا
يكشف الستار عن كنزنا
في الظلال أو في الضوء
ومن ثم
تطبع قبلاتنا القبلات على وجه الحياة:
وينتظم الحب كله في حبنا
وينتهي العطش كله في عناقنا
ها نحن الآن أخيرا وجها لوجه
لقد التقينا
لم نخسر شيئا
لقد جاس أحدنا بالآخر
شفة بشفة
ولقد تغبرنا ألف مرة
بينما الموت والحياة
وكل ما حملناه معنا
ألقيناه في البحر
فأصبح كالنياشين المهجورة،
وكل ما تعملناه
لم ينفعنا في شيء
فبدأنا من أولٍ وجديد
موت وحياة
وها نحن هنا باقيان
طاهران،
بالطهر الذي نخلقه
أكثر رحابة من الأرض
التي لم تضيِّعنا
خالدان
كالنار التي ستستعر
طالما كانت هناك حياة.

.

حين أصل إلى هنا تتوقف يداي
ويسأل أحدهم: قل لي
لماذا، كما الموجات على الشاطئ المتفرد.
تروح كلماتكَ وتجيء إلى جسدها؟
أهي الشكل الوحيد الذي تحبه؟
وأجيب: إن يديّ لا تكِلان منها
ولا تهدأ قبلاتي
فلماذا أسحب الكلمات
التي تعيد أثر لمستها الحبيبة
الكلمات التي تنغلق دونما جدوى
كالماء في الشبكة
سطح أنقى موجة حياة وحرارتها؟
وأنتِ، يا حبي،
إن جسدكِ ليس هو فحسب
الوردة التي تتطاول في الظلال
أو تحت نور القمر
ليس فحسب حركة أو حرقا،
عملا دمويا أو ورقة من نار.
ولكن بالنسبة لي
فأنتِ التي أحضرتِ إلى أرضي
الطين الذي يذكرني بطفولتي،
موجات الشوفان،
القشرة الدائرية للفاكهة الداكنة
التي انتزعتها من الغابة،
رائحة الخشب والتفاح
لون المياه المستكنة
حيث تساقط فاكهات خفيات
وأوراق عميقة
آه يا حبي
إن جسدكِ يتطاول
كالخط الصافي في الكأس البللورية،
من الأرض التي تعرفني
وحيث عثرت عليكِ مشاعري
استجبتِ بالنبضات
كأنما تتساقط بداخلك
الأمطار والحبات
آه، فليقولوا لي
كيف أستطيع أنا أن ألغيك من حياتي
وأن أمنع يدي من أن تمسكا بك
وأنزع النيران من كلماتي
أيتها العذبة
أريحي جسدكِ في تلك الخطوط
التي تدين لكِ بأكثر مما تعطيني لمساتكِ
عيشي في هذه الكلمات
ورددي فيها العذوبة والنيران
ارتعشي وسط حروفها
ونامي في اسمي
كما نمت من قبل في قلبي،
وهكذا غدا
ستحفظ كلماتي
أغوار شكلكِ
ومن سيسمعها يوما ما
سيتلقى هبةٌ من رياح القمح وشقائق النعمان
وسيقى هناك جسد الحب

.

لا يزال يتنفس على وجه الأرض
خيط القمح والمياه
البللور والنيران
الكلمة والليل
العمل والغضب
الظل والحنان
قمتِ أنتِ رويدا رويدا
بخياطتها في جيوبي المثقوبة
ولم تقومي فحسب بانتظاري يا حبيبتي
في المناطق الراجعة
حيث يتوحد الحب والاستشهاد
كأنهما ناقوسان من الجمر المتوهج،
بل وأيضاً
في أدق وأصغر الواجبات العذاب
إن زيت إيطاليا الذهبي
قد صاغ هالتكِ
فأصبحتِ قديسة المطبخ والخياطة
وفي غنجكِ الصغير
الذي يتمهل أمام المرآة
وبيديكِ ذات الأوراق
التي يحسدك عليها الياسمين
تغسلين الأواني وتغسلين ملابسي
وتضمدين جراحي
أي حبيبتي،
لقد وصلتِ إلى حياتي
جاهزة كشقائق النعمان
وكالمحارب الجسور:
إن البهاء الحريري
أعبره مع الجوع والعطش
اللذين جلبتهما إلى هذا العالم
من أجلكِ فحسب
ومن تحت الحرير
استبانت الفتاة الفولاذية
التي ستصارع إلى جواري
يا حبي، يا حبي،
ها هنا نلتقي
حرير وحديد
اقتربي من شفتيا.

.

ولأن الحب
يحارب لا في زراعاته المحترقة فحسب
بل وأيضاً في أفواه الرجال والنساء.
فسأنتهي بأن أقاتل
أولئك الذين يريدون أن يزرعوا
زهرتهم المقيتة
ما بين صدري وعبيركِ الفواح.
لن يستطيعوا أن يقولوا لكِ
أسوأ مما قلته أنا لكِ من قبل
يا حبيبتي.
لقد عشتُ في المروج قبل أن أعرفكِ
ولم أنتظر أن يأتي لي الحب
بل كنتُ في وسط الشجيرة
وهجمت على الوردة
ماذا بوسعهم أن يقولوا
أكثر من ذلك؟
لست طيبا أو سيئا
بل أنا مجرد إنسان،
وسيضيفون عند ذاك
ما يحدق بحياتي من أخطار
وأنتِ تعرفينها
وشاركتيني فيها بكل حماس.
حسنا،
إن تلك الأخطار هي أخطار الحب
الحب الكامل
تجاه الحياة
تجاه كل الحيوات
فإذا حلب ذلك الحب
الموت أو السم
فإني واثق أن عينيكِ الواسعتين
حين أغمرهما بقبلاتي
سنغلقان في فخر
في فخر مزدوج
يا حبيبتي
فخركِ وفخري
بيد أنهم سيسعون أولا إلى أذني
كي ينسفوا البرج
برج الحب العذب القاسي
الذي يربط بيننا
وسيقولون:
إن تلك التي تحب
ليست بالمرأة المناسبة لك
فلماذا تحبها؟
إننا نعتقد أن بوسعك
العثور على من هي أجمل منها
وأكثر جدية وأكثر عمقا
وأكثر أشياء أخرى
أنت تعرف ما نعني..
انظر كيف هي ضئيلة
ورأسها كيف هو
وانظر إلى ملابسها،
وهلم جراً وهلم جرا.
وأنا أقول ما يلي
إني أحبك كما أنت
بملابسك هذه
وهيئة شعرك
وطريقة ابتسامتك
خفيفة كالمياه
مياه النبع الصافي فوق الصخور
أحبك هكذا، يا حبيبتي.
أنا لا أطلب من الخبز أن يعلمني شيئاً
وإنما أطلب منه ألا ينقصني
في أي يوم من أيام حياتي
وأنا لا أعرف شيئاً عن الضوء
مم يأتي أو إلى أين يذهب
وإنما أريده فحسب أن ينير طريقي
وأنا لا أطلب تفسيراً من الليل
بل أنتظره كيما يلفني بردائه.
وهكذا أنتِ:
خبزاً وضوءاً وظلا.
لقد دخلت حياتي
بما حملتهِ معكِ
وكنت في انتظارك
مجبولة من الخبز والنور والظلال
وهكذا أنا في حاجة إليك
وهكذا أنا أحبك
أما أولئك الذين يودون
أن يسمعوا غدا ما لن أقوله لهم
فليقرأوه ها هنا
وليتقهقروا اليوم
لأن وقت تلك الحجج مازال مبكرا.
غدا
سوف نعطيهم فحسب
ورقة من أوراق شجرة حبنا
ورقة
ستسقط على الأرض
كأنما خلقتها شفتانا
كأنها قبلة تسقط
من ذرانا التي لا تقهر
كيما تبين
نيران حبنا الحقيقي
وعذوبته




*




من ديوان أشعار القبطان
 
أعلى