انتدبني الإتحاد العام الفلسطيني ذات مرّة لخوض حوار فكري مع البعثيين "العراقيين" في حلقة نقاشية، وذلك لثقتهم العالية بمواهبي الفكرية و الكتابية وبدون منافس في ذلك الحين!
كرجلٍ ذو نزعة دينية روحانيّة، لم يكن يعنيني حزب البعث في شيء إلا أنه خصمٌ من نوعٍ ما، وربما لأجل هذه النزعة المضمرة قبلت الدور!
وكان علي أن ابدأ من نقطة الصّفر، فلم يسبق لي أن اطلعت على أدبيّات البعث السياسية إلا لماماً، وعليه فقد جمعت ما استطعت الوصول إليه من مؤلفات ميشيل عفلق وشبلي العيسمي ومنيف الرزّاز وحتى صدّام حسين، والذي لم أكن أعتقد أنه أصدر كتباً أو مؤلفات تحمل اسمه شخصيّاً حتى وجدتها أمامي ممهورة باسمه!
ولأن الفسحة الزمنية ضيقة، فقد حملت كتبي واستقللت القطار إلى المدينة المجاورة حيث ستعقد الحلقة النقاشية!
كنت مُكبّاً على كتبي أُقلّب الصفحات وأدوّن الملاحظات، لا يقاطعني إلا الأسئلة الفضولية من السيدة التي تجلس إلى جانبي، دون أن أتكلف عناء الرد عليها، وفي لحظة يأس من أن أتفاعل معها قدّمت لي تفاحة، فلمحت بياض ذراعها فاختلست النظر، كانت جميلة وأنيقة، فكافأت جمالها بابتسامة، هي كل ما حظيَتْ به مني، إذ لم يتبقّ إلا دقائق على موعد الوصول!
تصدّرتُ المشهد في الحلقة وأعلنت برويّة وثقة أن الطرح البعثي القومي فيه التباسٌ كبير!
وتصدّى لي أحد الإخوة العراقيين سائلاً في سخرية: وأين هو هذا الإلتباس يا عزيزي؟ فاسترسلت شارحاً ومقتبساً وأنا ألوّح بالكتاب الذي اقتبست منه لأضفي مصداقية على ما أقول:
يقول الرئيس صدام حسين، أن الدين ليس معياراً للمواطنة، فالعربي غير المسلم أفضل من المسلم غير العربي! وأعقبت ذلك بلحظة صمت تعمدت إطالتها تصيداً للتعليقات، ولم يخب ظني إذ تصدى لي "الرفيق" ذاته قائلاً: وهل هنا مكمن المشكلة في عقيدة البعث ؟ عروبته؟! فاستأنفت مجيباً: لا يا سيدي، ليست هذه هي المشكلة بتاتاً!
- ولماذا تستشهد بها إذن؟
- لأصل إلى المشكلة الحقيقية!
ويرد الرفيق ساخراً:
- أتحفنا بها إذن فقد شوقتنا كثيراً!
- المشكلة هنا يا صديقي في من هو العربي الأفضل من العربي الآخر؟ المتدين أم غير المتدين؟ وبغض النظر عن دينه مسيحياً كان أم مسلماً! فهل المقصود بهذا الكلام هو تحييد الدين على إطلاقه؟ وذلك مستحيل عملياً لأن الناس بطبعها متدينة، أم أننا سنصل في النهاية إلى اضطهاد المتدين أو قمعه ومصادرة رأيه؟!
هنا قلب المشكلة يا عزيزي ! البعث فشل في معالجة المسألة الدينية نظرياً، فلجأ إلى مشادة معه على أرض الواقع قادت إلى كوارث سياسيّة!
وهنا ضج أعضاء الاتحاد الفلسطيني بالتصفيق فيما خيم الصمت على أعضاء الصف العراقي الجالسين في الجهة المقابلة!
بعد أن خفتت حدّة التصفيق، استأنفت حديثي متوجّهاً للصف الفلسطيني هذه المرة:
- ياسر عرفات بدوره أخطأ فيما يمس هذه الناحية بالذات، فقد استبدل الجهاد بالنضال استرضاء للمعسكر الشرقي الذي كان يراهن على دعمه، وبالتالي أفرغ المواجهة مع إسرائيل من البعد الجهادي الذي يستقطب طيفاً واسعاً من الجماهير، وأخطأ مرة اخرى باستبداله القومي بالوطني أو الفلسطيني، ففقد الرافد القومي الّذي هو أساسي وجوهري فيما يخص القضية الفلسطينية، لأن القوميين بمن فيهم البعثيين يعتبرونها القضية المركزية الأم! وهنا صفق البعثيون بحرارة، وشحبت وجوه جماعتي استنكاراً! وهنا لملمت أوراقي وانصرفت على عجل قبل أن يستيقظ الجميع من صدمتهم، ويقررون صلبي على اقرب عمود تلفون أو كهرباء!
في محطة القطار كنت مرتاحاً وكأنني تخفّفت من عبء ثقيل، فقد قلت كلّ ما أريد أن أقول، مما حاك في نفسي !
وجُلتُ بعيني باحثاً عن رفيقة القدوم لعلها من محاسن الصدف أن تكون قد جاءت في مهمة مؤقتة مثلي، قضتها ثُم قررت العودة! ولكني لم أعثر لها على أثر! وجلَسَتْ إلى جانبي سيدة عجوز، توليّتُ مهمّة ضيافتها، وشاركتها فيما خطر لي أن أتناوله ، تجاوباً مع مزاجي المرح، وتحرري من علائق سياسية، ربما كانت ستثقل مسيرتي المستقبليّة وتصادر حريّتي الشخصية التي أُثمّنها أكثر من أي شيء!
نزار حسين راشد
o
o
o
o
كرجلٍ ذو نزعة دينية روحانيّة، لم يكن يعنيني حزب البعث في شيء إلا أنه خصمٌ من نوعٍ ما، وربما لأجل هذه النزعة المضمرة قبلت الدور!
وكان علي أن ابدأ من نقطة الصّفر، فلم يسبق لي أن اطلعت على أدبيّات البعث السياسية إلا لماماً، وعليه فقد جمعت ما استطعت الوصول إليه من مؤلفات ميشيل عفلق وشبلي العيسمي ومنيف الرزّاز وحتى صدّام حسين، والذي لم أكن أعتقد أنه أصدر كتباً أو مؤلفات تحمل اسمه شخصيّاً حتى وجدتها أمامي ممهورة باسمه!
ولأن الفسحة الزمنية ضيقة، فقد حملت كتبي واستقللت القطار إلى المدينة المجاورة حيث ستعقد الحلقة النقاشية!
كنت مُكبّاً على كتبي أُقلّب الصفحات وأدوّن الملاحظات، لا يقاطعني إلا الأسئلة الفضولية من السيدة التي تجلس إلى جانبي، دون أن أتكلف عناء الرد عليها، وفي لحظة يأس من أن أتفاعل معها قدّمت لي تفاحة، فلمحت بياض ذراعها فاختلست النظر، كانت جميلة وأنيقة، فكافأت جمالها بابتسامة، هي كل ما حظيَتْ به مني، إذ لم يتبقّ إلا دقائق على موعد الوصول!
تصدّرتُ المشهد في الحلقة وأعلنت برويّة وثقة أن الطرح البعثي القومي فيه التباسٌ كبير!
وتصدّى لي أحد الإخوة العراقيين سائلاً في سخرية: وأين هو هذا الإلتباس يا عزيزي؟ فاسترسلت شارحاً ومقتبساً وأنا ألوّح بالكتاب الذي اقتبست منه لأضفي مصداقية على ما أقول:
يقول الرئيس صدام حسين، أن الدين ليس معياراً للمواطنة، فالعربي غير المسلم أفضل من المسلم غير العربي! وأعقبت ذلك بلحظة صمت تعمدت إطالتها تصيداً للتعليقات، ولم يخب ظني إذ تصدى لي "الرفيق" ذاته قائلاً: وهل هنا مكمن المشكلة في عقيدة البعث ؟ عروبته؟! فاستأنفت مجيباً: لا يا سيدي، ليست هذه هي المشكلة بتاتاً!
- ولماذا تستشهد بها إذن؟
- لأصل إلى المشكلة الحقيقية!
ويرد الرفيق ساخراً:
- أتحفنا بها إذن فقد شوقتنا كثيراً!
- المشكلة هنا يا صديقي في من هو العربي الأفضل من العربي الآخر؟ المتدين أم غير المتدين؟ وبغض النظر عن دينه مسيحياً كان أم مسلماً! فهل المقصود بهذا الكلام هو تحييد الدين على إطلاقه؟ وذلك مستحيل عملياً لأن الناس بطبعها متدينة، أم أننا سنصل في النهاية إلى اضطهاد المتدين أو قمعه ومصادرة رأيه؟!
هنا قلب المشكلة يا عزيزي ! البعث فشل في معالجة المسألة الدينية نظرياً، فلجأ إلى مشادة معه على أرض الواقع قادت إلى كوارث سياسيّة!
وهنا ضج أعضاء الاتحاد الفلسطيني بالتصفيق فيما خيم الصمت على أعضاء الصف العراقي الجالسين في الجهة المقابلة!
بعد أن خفتت حدّة التصفيق، استأنفت حديثي متوجّهاً للصف الفلسطيني هذه المرة:
- ياسر عرفات بدوره أخطأ فيما يمس هذه الناحية بالذات، فقد استبدل الجهاد بالنضال استرضاء للمعسكر الشرقي الذي كان يراهن على دعمه، وبالتالي أفرغ المواجهة مع إسرائيل من البعد الجهادي الذي يستقطب طيفاً واسعاً من الجماهير، وأخطأ مرة اخرى باستبداله القومي بالوطني أو الفلسطيني، ففقد الرافد القومي الّذي هو أساسي وجوهري فيما يخص القضية الفلسطينية، لأن القوميين بمن فيهم البعثيين يعتبرونها القضية المركزية الأم! وهنا صفق البعثيون بحرارة، وشحبت وجوه جماعتي استنكاراً! وهنا لملمت أوراقي وانصرفت على عجل قبل أن يستيقظ الجميع من صدمتهم، ويقررون صلبي على اقرب عمود تلفون أو كهرباء!
في محطة القطار كنت مرتاحاً وكأنني تخفّفت من عبء ثقيل، فقد قلت كلّ ما أريد أن أقول، مما حاك في نفسي !
وجُلتُ بعيني باحثاً عن رفيقة القدوم لعلها من محاسن الصدف أن تكون قد جاءت في مهمة مؤقتة مثلي، قضتها ثُم قررت العودة! ولكني لم أعثر لها على أثر! وجلَسَتْ إلى جانبي سيدة عجوز، توليّتُ مهمّة ضيافتها، وشاركتها فيما خطر لي أن أتناوله ، تجاوباً مع مزاجي المرح، وتحرري من علائق سياسية، ربما كانت ستثقل مسيرتي المستقبليّة وتصادر حريّتي الشخصية التي أُثمّنها أكثر من أي شيء!
نزار حسين راشد
o
o
o
o