المتنبي شعور ملتهب دفاق، ونفس طلعة لا تهنأ بالجمام. وكان هو في شعره يصدر هذا الشعور ويترجم عن هذه النفس: آلامها وآمالها. شجاه أن يثب ابن خالويه عليه في حضرة سيف الدولة وليه وصفيه والذي أرسل فيه غرر مدائحه وكرائم أشعاره. يثب عليه ابن خالويه في حضرته ويضرب وجهه بمفتاح كان بيده فيشجه، ويرى سيف الدولة ما حدث فلا يدافع عن أبي الطيب! إنها لكبيرة. . .
لينهد إلى مصر إن بها كافوراً، وقد سار إليها قبله أبو نؤاس في إمارة الخصيب فأعطاه حتى رضى.
وفد المتنبي على مصر وحده وتخلف عنها هواه حيث بقى في حلب لا يريم. إن أمير بني حمدان لم يمسسه بسوء ولكنه كبر عليه أن يمس بالسوء وهو حاضر فيسكت فيكون سكوته إقرار.
وكان الأستاذ أبو المسك كافور يحب العلماء والشعراء ويقربهم إليه كما جرت بذكره السير. ولعل نفسه الطموح كانت تهفو إلى شاعر يقصر عليه هواه، ويغني علاه، ويخلد مجده. ومن كالمتنبي صدق شاعرية وبعد صيت؟ أتراه نفس على سيف الدولة شاعره؟ أم أراد أن يقال عنه (عظيم القدر مقصود)؟ كما حكى المتنبي.
إذن لم يكن بدعا من كافور أن يكرم وفادة المتنبي. فما إن نزل أخلى له داراً وخلع عليه وحمل إليه آلافاً من الدراهم. . . يتألف قلبه ويعطفه عليه فهتف المتنبي به كالطير يلذ له التغريد وقد توقر له الماء والحب والشجر.
نحن نعرف المتنبي في مدائحه لسيف الدولة شاعراً مغلقاً جهير الذكر ولكن قد يكون الصوت واحداً وتختلف درجاته. إن المتنبي هنا شاعر آخر. إنه يمدح وكأن به من مدحه غضاضة أتحسب أنه منشرح النفس وهو يستهل أولى مدائحه في كافور بهذا المطلع:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
إنه عند علماء البديع بمطاعه هذا غير موفق. . . وكذلك عندي. . .
اصحب المتنبي في هذه القصيدة تعرف مهمته وتتبين مقصده إنه لم يقصد كافوراً مادحاً بقدر مسترفداً بل لعلك ترى أنه يهدف إلى مرمى أكبر من العطاء. أنصت إليه:
وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكا للعراقيين واليا
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا ... لسائلك الفرد الذي جاء عافياً
ألم أقل لك أنه شاعر طموح؟
وهذه النغمة لا تقف عند هذه القصيدة بل تطرد في كل قصائده التي نسميها (الكافوريات) وإليك الشاهد:
قالوا هجرت أليه الغيث قلت لهم ... إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته ... ولا يمن على آثار موهوب
=
وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
فارم بي ما أردت مني فإني ... أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
أصح عندك ما أقول؟
إن المتنبي هنا في مصر يمدح لينال. . . ينال مالا وينال جاها. إنه يرى نفسه من الملوك وإن رأته الدنيا شاعراً.
ونلاحظ في كافوريات المتنبي أنه حينما يمدح كافوراً فإنما هو مدح كالذم.
بنى كافور دارا بازاء الجامح الأعلى على البركة وطلب من أبي الطيب أن يذكرها فقال يهنئه بها:
مستقل لك الديار ولو كا ... ن نجوما آجر هذا البناء
إنما يفخر الحريم أبو المس ... ك بما يبتني من العلياء
أتظن أنه يستقل له الديار حقيقة؟ إني أحسبه يتهاتف عليه في سره حين طلب منه أن يذكر داراً وقد عوده سيف الدولة أن يسجل أفضالا وإلا فما معنى قوله في البيت الثاني:
إنما يفخر الحريم أبو المس ... ك بما يبتني من العلياء
ألست ترى معي أنه يعرض له أن الفخر إنما يكون بما يكسب حمدا أو يخلد مجداً؟
الفخر بالعلياء لا بالبناء. هذا هو رده على طلب كافور.
وقال يذكر قيام شبيب العقيلي على الأستاذ كافور وقتله بدمشق سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة:
عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
ألست تلمس النكته في الشطر الثاني من البيت الأول ما دمت تعرف أن كافوراً كان عبداً بشع الخلقة؟
أما البيت الثاني فإنه يفضح شعوره إزاء كافور. إنه ينعى على الأقدار حكمتها في أن تملك هذا وتتركه هو مثلا! فلا يجد مخرجاً من حيرته سوى أن يردد القولة الشعبية (له في كده حكم) أو بأسلوبه هو:
(ولله سر في علاك)
ونلحظ عند المتنبي لونا ثالثاً وهو أنه لا يفتأ يذكر كافوراً بسواد لونه وهو يمدحه!
ومن قول سام لو رآك لنسله ... فدى ابن أخي نسلي ونفسي ومالية
يريد أن كافوراً من نسل حام، يريد أنه عبد
وفي قصيدته التي يستقل له فيها الديار يقول:
تفضح الشمس كلما ذرت الشم ... س بشمس منيرة سوداء
إن الشمس لو كانت سوداء لما سميت شمسا ولكنه يريد أن يذكر لون كافور والسلام ليطمئن من كبريائه وإن تظاهر بمدحه ألي في ذكر اللون حط من نسبه؟
بل إن المتنبي صرح بذلك في قصيدته التي مطلعها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
في هذه القصيدة صرح بأن كافوراً لا نسب له ولكن عزاءه أن المكرمات تناهى إليه! يسمى ويذبح!
ويغنيك عما ينسب الناس أنه ... إليك تناهى المكرمات وتنسب
ولون آخر لا يخفى في كافوريته ذلك هو حنينه المتشوف إلى سيف الدولة وإذا علمت أن سيف الدولة وكافوراً كانا متنافسين أحسست وقع مدح المتنبي بما حمله من ذكر حنينه على نفس كافور:
قالوا هجرت أليه الغيث قلت لهم ... إلى غيوث يديه والشآبيب
قد تقول أنه يقصد بالغيث ريق الغمام ولكن صدقني أنه يريد سيف الدولة. إن لفظ (هجرت) لا تقال إلا عن شيء يكون بينك وبينه صلة عزيزة. . . أليس لفظ (الهجر) يقابل لفظ (الوصال) في منطق العاطفة؟
وقاد إليه كافور فرسا فقال يمدحه!
فراق من فارقت غير مذمم ... وأم ومن يممت خير ميمم
إن المتنبي فارق محمود ألا يتطاول الذم إليه. ألم أقص عليك أنه لم يهجره عن قلى؟ جزى الله ابن خالويه.
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفى وقوسي وأسهمي
وأحلم عن خلي وأعلم أنه ... متى أجزه حلماً على الجهل يندم
ها هي تي قصة في بيته. هو يعترف أن سيف الدولة لم يتعمده بإساءة فكيف يذمه وهو لو أراد لغل هواه كل سلاح في يده. ليجرب الحلم إذن عله يندم على ما فرط منه. هو يحلم عنه ويحلم بندحه. إن البيت الثاني هو بعينه ما نسميه في علم النفس (أحلام اليقظة).
أرأيت أن المتنبي لم يخلص في مدحه لكافور بل رنق حنعوه بشوائب ذكرتها لك. أو تعده مادحاً ذلك الذي يذكر العيب في ثنايا المدح وكان أولى به أن يخفيه في هذا المقام؟
ولكن العين لا تغض عن العيب إلا وهي راضية والمتنبي لم يكن راضياً عن كافور قط كما قال بنفسه بعد أن تحلل منه وأصبح في وسعه أن يهجوه. لقد نظر إلى شقوق في رجليه فقال هاجياً:
أريك الرضى لو أخفت النفس خافياً ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضياً
تظن ابتساماتي رجاء وغبطة ... وما أنا إلا ضاحك من رجائياً
وإذا أتينا إلى ذكر هجره لكافور فاعلم أنه أوسع كافوراً تعييراً بالسواد وضعه الأصل مما ليس عليه مزيد فلنقف اليوم عند هذا الحد على أن تكون لنا رجعة أخرى إلى أبي الطيب إن شاء الله.
للآنسة نعمت فؤاد
كلية الأداب. جامعة فؤاد الأول
مجلة الرسالة - العدد 781
بتاريخ: 21 - 06 - 1948
لينهد إلى مصر إن بها كافوراً، وقد سار إليها قبله أبو نؤاس في إمارة الخصيب فأعطاه حتى رضى.
وفد المتنبي على مصر وحده وتخلف عنها هواه حيث بقى في حلب لا يريم. إن أمير بني حمدان لم يمسسه بسوء ولكنه كبر عليه أن يمس بالسوء وهو حاضر فيسكت فيكون سكوته إقرار.
وكان الأستاذ أبو المسك كافور يحب العلماء والشعراء ويقربهم إليه كما جرت بذكره السير. ولعل نفسه الطموح كانت تهفو إلى شاعر يقصر عليه هواه، ويغني علاه، ويخلد مجده. ومن كالمتنبي صدق شاعرية وبعد صيت؟ أتراه نفس على سيف الدولة شاعره؟ أم أراد أن يقال عنه (عظيم القدر مقصود)؟ كما حكى المتنبي.
إذن لم يكن بدعا من كافور أن يكرم وفادة المتنبي. فما إن نزل أخلى له داراً وخلع عليه وحمل إليه آلافاً من الدراهم. . . يتألف قلبه ويعطفه عليه فهتف المتنبي به كالطير يلذ له التغريد وقد توقر له الماء والحب والشجر.
نحن نعرف المتنبي في مدائحه لسيف الدولة شاعراً مغلقاً جهير الذكر ولكن قد يكون الصوت واحداً وتختلف درجاته. إن المتنبي هنا شاعر آخر. إنه يمدح وكأن به من مدحه غضاضة أتحسب أنه منشرح النفس وهو يستهل أولى مدائحه في كافور بهذا المطلع:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا
إنه عند علماء البديع بمطاعه هذا غير موفق. . . وكذلك عندي. . .
اصحب المتنبي في هذه القصيدة تعرف مهمته وتتبين مقصده إنه لم يقصد كافوراً مادحاً بقدر مسترفداً بل لعلك ترى أنه يهدف إلى مرمى أكبر من العطاء. أنصت إليه:
وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكا للعراقيين واليا
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا ... لسائلك الفرد الذي جاء عافياً
ألم أقل لك أنه شاعر طموح؟
وهذه النغمة لا تقف عند هذه القصيدة بل تطرد في كل قصائده التي نسميها (الكافوريات) وإليك الشاهد:
قالوا هجرت أليه الغيث قلت لهم ... إلى غيوث يديه والشآبيب
إلى الذي تهب الدولات راحته ... ولا يمن على آثار موهوب
=
وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
فارم بي ما أردت مني فإني ... أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
أصح عندك ما أقول؟
إن المتنبي هنا في مصر يمدح لينال. . . ينال مالا وينال جاها. إنه يرى نفسه من الملوك وإن رأته الدنيا شاعراً.
ونلاحظ في كافوريات المتنبي أنه حينما يمدح كافوراً فإنما هو مدح كالذم.
بنى كافور دارا بازاء الجامح الأعلى على البركة وطلب من أبي الطيب أن يذكرها فقال يهنئه بها:
مستقل لك الديار ولو كا ... ن نجوما آجر هذا البناء
إنما يفخر الحريم أبو المس ... ك بما يبتني من العلياء
أتظن أنه يستقل له الديار حقيقة؟ إني أحسبه يتهاتف عليه في سره حين طلب منه أن يذكر داراً وقد عوده سيف الدولة أن يسجل أفضالا وإلا فما معنى قوله في البيت الثاني:
إنما يفخر الحريم أبو المس ... ك بما يبتني من العلياء
ألست ترى معي أنه يعرض له أن الفخر إنما يكون بما يكسب حمدا أو يخلد مجداً؟
الفخر بالعلياء لا بالبناء. هذا هو رده على طلب كافور.
وقال يذكر قيام شبيب العقيلي على الأستاذ كافور وقتله بدمشق سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة:
عدوك مذموم بكل لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان
ألست تلمس النكته في الشطر الثاني من البيت الأول ما دمت تعرف أن كافوراً كان عبداً بشع الخلقة؟
أما البيت الثاني فإنه يفضح شعوره إزاء كافور. إنه ينعى على الأقدار حكمتها في أن تملك هذا وتتركه هو مثلا! فلا يجد مخرجاً من حيرته سوى أن يردد القولة الشعبية (له في كده حكم) أو بأسلوبه هو:
(ولله سر في علاك)
ونلحظ عند المتنبي لونا ثالثاً وهو أنه لا يفتأ يذكر كافوراً بسواد لونه وهو يمدحه!
ومن قول سام لو رآك لنسله ... فدى ابن أخي نسلي ونفسي ومالية
يريد أن كافوراً من نسل حام، يريد أنه عبد
وفي قصيدته التي يستقل له فيها الديار يقول:
تفضح الشمس كلما ذرت الشم ... س بشمس منيرة سوداء
إن الشمس لو كانت سوداء لما سميت شمسا ولكنه يريد أن يذكر لون كافور والسلام ليطمئن من كبريائه وإن تظاهر بمدحه ألي في ذكر اللون حط من نسبه؟
بل إن المتنبي صرح بذلك في قصيدته التي مطلعها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
في هذه القصيدة صرح بأن كافوراً لا نسب له ولكن عزاءه أن المكرمات تناهى إليه! يسمى ويذبح!
ويغنيك عما ينسب الناس أنه ... إليك تناهى المكرمات وتنسب
ولون آخر لا يخفى في كافوريته ذلك هو حنينه المتشوف إلى سيف الدولة وإذا علمت أن سيف الدولة وكافوراً كانا متنافسين أحسست وقع مدح المتنبي بما حمله من ذكر حنينه على نفس كافور:
قالوا هجرت أليه الغيث قلت لهم ... إلى غيوث يديه والشآبيب
قد تقول أنه يقصد بالغيث ريق الغمام ولكن صدقني أنه يريد سيف الدولة. إن لفظ (هجرت) لا تقال إلا عن شيء يكون بينك وبينه صلة عزيزة. . . أليس لفظ (الهجر) يقابل لفظ (الوصال) في منطق العاطفة؟
وقاد إليه كافور فرسا فقال يمدحه!
فراق من فارقت غير مذمم ... وأم ومن يممت خير ميمم
إن المتنبي فارق محمود ألا يتطاول الذم إليه. ألم أقص عليك أنه لم يهجره عن قلى؟ جزى الله ابن خالويه.
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى ... هوى كاسر كفى وقوسي وأسهمي
وأحلم عن خلي وأعلم أنه ... متى أجزه حلماً على الجهل يندم
ها هي تي قصة في بيته. هو يعترف أن سيف الدولة لم يتعمده بإساءة فكيف يذمه وهو لو أراد لغل هواه كل سلاح في يده. ليجرب الحلم إذن عله يندم على ما فرط منه. هو يحلم عنه ويحلم بندحه. إن البيت الثاني هو بعينه ما نسميه في علم النفس (أحلام اليقظة).
أرأيت أن المتنبي لم يخلص في مدحه لكافور بل رنق حنعوه بشوائب ذكرتها لك. أو تعده مادحاً ذلك الذي يذكر العيب في ثنايا المدح وكان أولى به أن يخفيه في هذا المقام؟
ولكن العين لا تغض عن العيب إلا وهي راضية والمتنبي لم يكن راضياً عن كافور قط كما قال بنفسه بعد أن تحلل منه وأصبح في وسعه أن يهجوه. لقد نظر إلى شقوق في رجليه فقال هاجياً:
أريك الرضى لو أخفت النفس خافياً ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضياً
تظن ابتساماتي رجاء وغبطة ... وما أنا إلا ضاحك من رجائياً
وإذا أتينا إلى ذكر هجره لكافور فاعلم أنه أوسع كافوراً تعييراً بالسواد وضعه الأصل مما ليس عليه مزيد فلنقف اليوم عند هذا الحد على أن تكون لنا رجعة أخرى إلى أبي الطيب إن شاء الله.
للآنسة نعمت فؤاد
كلية الأداب. جامعة فؤاد الأول
مجلة الرسالة - العدد 781
بتاريخ: 21 - 06 - 1948