محمد محمود زيتون - الشاعر العاصي...

ولد أحمد العاصي - رحمه الله وغفر له - بفارسكور في صيف سنة 1903. وكان أبوه من كبار التجار فيها، وماتت أمه، ولم يتجاوز السادسة من عمره. وقد بدت على الغلام بشائر النبوغ، فعني به أبوه، حتى ألحقه بكلية الطب، وما زال يحصل دروسه حتى انتابته حالة عصبية، وهو في السنة الثالثة، فقضي بلبنان ثلاثة أشهر عاد بعدها خفيفاً من بعض ما جثم على نفسه.

ولما بدأ العام الدراسي عدل عن الاستمرار بكلية الطب، والتحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب، وقرأ (تأملات ديكارت) على الفيلسوف الفرنسي لالاند، وراقته الدراسات الفلسفية لهذا جد العاصي في أن يعوض معايبه بالانطواء على نفسه، مل حتى الحديث بل صار يحيا في حياة كأنه في مغيب ولا سيما خلود الروح والتفاؤل والتشاؤم، والموت والحياة، وفي أيام الدراسة وضع رواية (غادة لبنان) ثم نشر (ديوان العاصي) سنة 1926، ولما حصل على الليسانس سنة 1929 عين موظفاً بالجامعة المصرية (جامعة فؤاد الأول).

كان العاصي مثال الشخصية المتناقضة، فإذا ضحك أضحك حتى لتكاد الجمادات يضحكن معه، وغدا حزن ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، واسودت من حوله الحياة، فغلبت عليه نزعة النفور، وتمكن من نفسه الشعور بالنقص، ولا سيما أنه كان قميئاً خفيض الصوت لا يكاد يبين. يقول عن نفسه:

أبن عشرين عذبته الليالي=وأطاحت بعزمه المشبوب

لم يذق لذة الحياة ولكن ... ذاق أنواع قاصمات الخطوب

ساهم ساكن معنى مروع ... في شباب مقنع بمشيب

إن تحدثه قد يجيب بصمت ... أو بهمس أو شارة أو دبيب

ومداومة الاطلاع. وزادت ظروفه العائلية من حدة نفوره من أبيه الذي تزوج من غير أمه بعد موتها، وهجر أخويه واعتزلهما وأقام بالقاهرة.

وكان لشيرشون أثر قوى في تسعير جذوة نفسه: قرأ كتاب (كتاب وأخذ يقرأ في صمت عن الموت حتى لقد كان يضع خطاً بالقلم الأحمر تحت كل كلمة (الموت) في الكتاب وبعد أن غمرته هذه الدراسة السوداء كتب خطاباً على الصفحة الأولى من الكتاب قال فيه (إلى من يهمهم أمري: جبان من يخشى الموت، ومن لا يرحب بهذا الملك الكريم الذي هو لي كالرائحة الزكية. . . أحمد العاصي).

وتملكته فكرة الانتحار، فلم يجد عنها مصرفاً، حتى أنه كان يفكر ويمعن لا في العدول عن الانتحار ولكن في اختيار أيسر السبل إليه، وأخفها وطأة عليه. وقف على كوبري محمد علي ذات مساء ونظر إلى الأمواج، واستب أن يلتف بها، ويحتضن الموت، ولم يكد يهم بذلك حتى راجعته سيدة إفرنجية كانت تتمشى ساعتئذ خلفه، فعدل ولكنه آثر الموت عاجلاً أو آجلاً، فأوى إلى فراشه وبخع نفسه بمادة كاوية ظلت تحرق حجرة نومه من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة من اليوم التالي حيث اندلعت ألسنة الدخان من خلال النوافذ، ولم يكد المارة يقتحمون المنزل حتى رأوا هيكلاً بشرياً صار هشيماً

وهكذا آثر الموت الزؤام على الحياة الباسمة، ولقي ربه سنة 1930. أما شعره فكان مرآة هذه النفس الجامحة الجاحمة، وهو يمهد لديوان شعره بهذه العبارة الصريحة: (ألمت بي محنة من محن الدهر ألزمتني العزلة حيناً فشعرت بحاجة حادة لأن أشغل نفسي بقول الشعر فيما شغلني من شؤون الحياة من قبل. . .) وصدر له ديوانه أمير الشعراء أحمد شوقي بك بأبيات منها:

هذا شباب السحر يلمح ماؤه ... من جدول (العاصي) ومن ديوانه

ويقول منها:

ويكاد يلمسك السرور يراعه ... وترى يد الأحزان حول بيانه

يشكو الزمان لنا، ويالك يافعا ... ناءت بميعته هموم زمانه

ولتعلمن إذا السنون تتابعت ... إن التشكي كان قبل أوانه

وهذا الشاكي الذي فارق الحياة غير آسف عليها، ولم يبلغ السابعة والعشرين، عاش نهباً للألم الدفين، واليأس اللافح، وكانت أضالعه مرجلاً للصراع العاطفي العنيف، وأبواب ديوانه صورة من ذلك كله، فثمة باب الأدب، ويشمل ما قال من شعره في عهد الاطمئنان - كما يدعي - وما هو باطمئنان وباب النقمة، ويشتمل على ما قاله في عهد المحنة والتبرم بالحياة؛ ثم باب الغزل والفخر وفيه شعر المديح وتشريح الهم؛ ثم باب للمتفرقات من الشعر الذي قاله في أوقات متباينة، وختم ديوانه بمأساة هو بطلها وسماها (قصة الموت).

قرأ صاحبنا للفلاسفة القدامى منهم والمحدثين، فأوغل في الأعماق متدبراً متفكراً عله يثوب إلى نفسه التي افتقدها، ولكنه راح يتعجل (سر الحياة) فارتدعن حجابه الكثيف، لا يدري غير شيء واحد هو أننا:

نحن نسعى في فلاة، لا نرى ... غليها والكل يغري بالسراب

وأن الناس نوام فإذا ماتوا انتبهوا، وعلى الناس أن يعودوا من حيث جاءوا، وهكذا يدعوهم العاصي:

يا بني الأرض إن منها نشأتم ... فارجعوا حيث كنتمو في أمان

ويمضي الشاعر يفلسف الحياة وخداعها، وعيش الناس فيها، والمنى التي من دونهم المصاعب، وحقيقة الإنسان، وما أوتي من عقل يتباهى به الناس، وإن لم بكن فيه شفاء من جهالة، ثم يتهكم بهؤلاء الذين يتحدثون عن الآخرة:

يا صاحبي لقد تحدث بعضهم ... عن عيشة أخرى وعن أخبارها

لله درهموا، فهل قد جاءهم ... يا صاحبي البعض من زوارها

وينقلب بعد ذلك على الإنسان شيخ الجاحدين:

خير هذي الأرض يسعى نحوه ... وهو ما زال زعيم الناقمين

ويعاود التفكير في سر الحياة الذي لن يدركه الإنسان إلا أن يترك هذا العالم المسترذل:

نحن سر في الدهر، والدهر سر ... هو عنا مستر محجوب

نحن في العيش كلنا ككرات ... قذفتها - كما تشاء - الخطوب

لهذا صار عبداً للملذات، وبمحرابها سيضحي ويمسي، فلئن سألته كيف استعبدته اللذة أجاب:

ضقت بالهم فانتقمت لنفسي ... باللذة من همومي وبؤسي

وهكذا قهر الدهر، فانتهب اللذة، وانتقم لنفسه مما ترزح تحته من أرزاء، فوجد في النسيان ما يباعد بينه وبين مواقع الصراع.

غير أنه ينصح بالزهد فيها، وكسر شرة النفس، ويقول:

حسبكم ما سد جوعاً أو صدى ... أو فيكم عاجز عن ذا وذاء كل أطماع الفتى من عيشه ... ضلة أوقعه فيه هواه

وهو إذ يبذل هذه النصيحة يزجي بين يديها خبرته بالحياة:

لقد فعل الخير فصار بخساُ، وطلب العلم فهان في نظر الناس.

ويتأثر العاصي بأفلاطون في نظرية المثل حيث كانت النفس خيرة فهبطت إثر إلى عالم الرجس والفساد بعد إن (كانت الدنيا صفاء خالصاً).

وتمضي هذه العاصفة التي زعزعت من خواطر العاصي، وتغلغلت أصداؤها في قرارة حسه حتى إذا هدأت قليلاً، اطمأنت نفسه بالإيمان فقال:

آية الله بدت في خلقه ... في جمال نحن في الدنيا عبيده

وفي قصيدة أخرى عن الإيمان أيضاً يدعو إلى التضرع بالقوة، ويعيب على القائلين بأن الزمان رمى فلاناً (فماذا للزمان وللنزال) وجدير بهم أن يعترفوا بضعفهم وعجزهم من ملاقاة الهموم المتوالية. ولكن يخفف همنا هذا التوالي، وخير من لوم الدهر أنا نضرع إلى الله.

ما شاء الله! هذه لمحات الإيمان تنبثق من لحظة إلى أخرى على الشاعر المسكين، ولو أنها وجدت إلى جواره الصديق الطبيب لعاد إلى حسه المرهف على الأدب والحكمة بأسمي المثل، ولشفى أنفس الناس ونفسه مما يجد ويجدون.

وفي قصيدة (الأقدام) التي يمنحها من أعماق اللاشعور، يحث غيره على المجد والمعالي بينما يزجي نفسه إلى الموت على عجل، وكأني به يتخيل نفسه حين يقول:

(والمرء فوق فراش الموت منطرح)

ثم يقول راضياً عن الأيام، منتظراً الرحيل في الأبدية:

دعني أقضي بها عهدي وأرحل من ... دهر لدهر، وإن العمر أجيال

ويقول مرة أخرى في سر الحياة:

وإذا الموت أتى فاستقبلوا ... ركبه، وليهن فيكم من يراه

وهو يستوحش الناس، ويدعوا إلى اعتزالهم لما يتباينون فيه من الأحكام على الأشياء والأفعال، ويقول:

رب أمر خلته حمقاً وقد ... خاله الناس حكيماً ومصيباً رب فعل أنت تأتيه لكي ... تطرب الغير فتلقاه غضوباً

رب رأي كان عذباً ناضجاً ... عد من يأتيه خداعاً كذوباً

فلتخل الناس يحيون كما ... قد أرادوا ولتعش فيهم غريبا

ليست العزلة عنهم وحشة ... أنت بالعزلة قد تحيا طروبا

إن من أكثر من أصحابه ... لا يرى من الدنيا يوما رطيبا

إن سوءاً من أخ أو صاحب ... منهن ما بين الاثنين الحروبا

كان العاصي يستشعر في نفسه بغضا متبادلاً بينه وبين الناس وإن كان لاوجود له في عالم الواقع. فليس اختلاف الناس فيما بينهم في أحكام القيم إلا دليلاً على حيويتهم، وبغير ذلك لا يتميز خير من شر، ولا حق من باطل، ولا جميل من قبيح، والذكاء أو العقل في نظرة علماء النفس إنما هو (التكيف بالبيئة) وإذن تكون العزلة نتيجة لاضطراب النفس، وارتباك العقل، وعلامة على تخلف الفرد عن ركب الجماعة.

حياة كلها يأس وشقاء، وبؤس وهموم، وأنفاسه موزعة بين حسرة وزفرة ونقمة:

فإن تكن الليالي مثل هذا ... فإن الأمن عندي في اعتزالي

وصاحبنا - مع ذلك معذور، والمجتمع الذي حوله مسئول عما انتابه، ومأخوذ بجريرته التي ارتكبها، فلو أنه لقي في صحراء العيش واحة للصداقة تروح عن نفسه، لفض همومه، وسلك مع السالكين إلى المجد الذي طالما داعب طموحه، وهو الفيلسوف المفكر، والشاعر المرهف، ولكنه يقول:

ضاعت سعادة نفسي، وانبرى أملي ... ونال ما بي من جسمي فأضناني

إني ظمئت إلى خل ليؤنسني ... فلم أجد مؤنساً ما بين خلاني

فعدت للهم عل الهم يؤنسني ... إن كان في الهم أنس الواله العاني

فلم يستجب له أحد، وذهبت صرخاته مشلولة الأصداء:

قولوا لسارية الآلام في كبدي ... هل تقصرين، فإن الهم أبلاني

واحنوا علي إذا ما الهم أرقني ... وباركوني إذا ما الصبر وافاني

ولا تكونوا على نفسي إذا جزعت ... فإني مرجع نفسي لإيماني

لهذا كله حلت له العزلة بدار (لا يزور ولا يزار) أهيم بوحدتي، وبقرب نفسي ... فود الناس حل به البوار

وحسبي أنني غرد طروب ... بأفكاري، وما في ذاك عار

فلا عجب إذا نقم على الحياة، وعلى الناس، وعلى نفسه إذ يقول:

يوقد النقمة في قلب الكريم ... سوء ما يلقى من الدهر اللئيم

وإذا تحطمت النفس اعتل الجسم، فلا راحة، ولا انسجام، واختل التوازن بين القوى في كيان الفرد.

مجمع الآلام حسمي ياله ... من صبور وحمول وكظيم

بل يروي هوة فاصلة بينه وبين الناس، ينكرهم وينكرونه لما يحس في نفسه من نقص:

أخالني وأخال الناس ترمقني ... عجيب خلق يحير الناس مرآه

ولو تراني مأخوذاً ومستلباً ... لخلتني موكلاً بالغيب أرعاه

ويقيني أن شاعرنا غير صادق إذ يقول:

لكنني وخطوب الدهر تعصف بي ... ثبت على كل ما في الدهر ألقاه

ألقى الهموم وتلقاني وأتركها ... يوما وتتركنني: كل لمثواه

هذه مغالطة نفسانية، وتعويض داخلي، ليت له قوة التأثير في نفس شاعرنا، ولكنه صريعاً منطول ما أوهت عزائمه الهموم التي قعدت بهمته، فأخلد إلى الأرض. قال:

شعرت بالهم حتى لا أحس به ... وقد تفيد فتى في الهم سكرته

أتى الزمان بدائي ثم أعجزه ... دواء دائي، وضاقت عنه همته

يا قوم ليس تفيد المرء همته ... إن أقعدته بهذا الدهر لوعته

وكما ضاق صاحبنا بالخل الوفي، ضاق أيضاً بالعيش الهنيء، وهو أظمأ ما يكون إليه، ولكن أين هو: -

ولعيش هانئ بي ظمأ ... بالغ للنفس ما بعده ري

يا بني الدنيا ويا عشاقها ... ويكمو أين هو العيش الهنيء

ثم يعود إلى لوعته تساوره ويساورها، ويحاول أن يزحزحها عن كاهله فيكل عنها، فيغالط نفسه مرة أخرى، ويدعي الثبات أمام ويلات الزمان.

لا ينثني عنه الزمان ولا يني ... عن نيله، وهو الكمي الأمرد ويتحدث بعد هذا الصراع، وهو يجر أذيال الهزيمة:

وما أنا إلا بعض هم تجسمت ... معانيه حتى أصبحت جسداً يجري

يقولون أين العزم قلت مضت به ... هموم عدت يوماً على العزم والصبر

كأن صروف الدهر بيني وبينها ... وما أحد يدري قديم من الوتر

فتى في إهابي ضاق صحن فؤاده ... بجيش من الآلام في ضحوة العمر

ويأبى الأسى المضني فراق صريعه ... إلى أن يراهم أودعوه ثرى القبر

ذلك بأن الموت طبيبه الذي سيشفيه من داء العيش:

أنا في الدهر حائر كيف ألقي ... أي أنس بما به فأطيب

كيف أهنا بالعيش، والعيش عندي ... مرض، والممات عندي الطبيب

ولطالما بحث عن همه ليعالجه، فما يرى إلا سحائب من دخان الهم يضيق بها صدره. ومما يزيد في ضيقه أن الناس إذ يريدون أن يخففوا عنه زفرة أو محنة أو لاعة أو نقمة إنما يلفظون بكلمة (أنت واهم) فما تفتح مغلقاً، ولا تأسو جرحاً.

إني لأبحث عن همي فأخطئه ... لكن أشم فؤادي وهو يحترق

كأن صدري وما ضمت أضالعه ... حصن إليه جيوش الهم تستبق

قالوا وهمت، ونال الوهم بغيته ... مني فهل وهموا في القول أم صدقوا

وفي قصيدة أخرى يقول:

قالوا: اصطبر، قلت أن الصبر قد نفذا ... فما يف أخوهم إذا اتأدا

قالوا اعتزم، قلت ضاق العزم وانفردت ... بي البوائق حتى أوهت الجلدا

ما حيلة المرء إن مال الزمان به ... إلا رضى بأسى يفري له الكبدا

أرعى همومي، وترعاني ولا أحد ... يحنو علي، فألقى فيه معتمدا

ويتذكر العاصي ليالي أنسه، ويداعب ذكريات عزه، ويتمنى لو تسكت عنه الهموم ويهدأ قلبه المتمرد:

فإن كان في هذا غد طاب لي غد ... وإلا فصبري في غد متمرد

فقد سار بي شوطاً بعيداً عن المنى ... وما هو للسير الطويل معود

فيل غد لا وافيت إلا بنصرتي ... فإن حياتي في يمينك يا غد وهذا آخر الشوط الذي استسلم عنده الشاعر من شدة الإعياء. وباب الغزل الذي طرقه أحمد العاصي يفضي بنا إلى تيارين أحدهما قبل العاصفة العاطفية التي جمحت به، والآخر وهو يتخبط في دياجير تلك العاصفة. وعلى كل حال فإنه عشق لا لشيء إلا لأن له قلباً كسائر قلوب الناس، وكل ما بينه وبين غيره أنه أحد هؤلاء الذين فشلوا في الحب فكان هذا الفشل ضفثاً على إبالة. فهو يقول:

خبري يا أمة العشق: فتى ... زار يوماً ساحة العشق فضل

على أن باب الفخر يتم عن فترو من التجلد سبقت المحنة التي استعصت عليه:

لعمركمو ما في إلا معاند ... لدهري صليب الجانبين صؤول

ويمضي في هذه القصيدة معبراً عن حبه الخير وفعله المعروف:

أحب فعال الخير والصدق شيمتي ... وفي حكمتي قائد ودليل

وإن رام مني الدهر مالا أوده ... رددت جموح الدهر وهو ذلول

ولعل الأبيات التالية تنبئ عن مسلك الشاب الطموح الذي لا يلوي على شيء وهو بسبيل المعالي من الأمور:

وما السير للعلياء إلا لذاذة ... لنفس فتى ما حل عقدته الدهر

إذا ما ركبت الليل فالمجد مطلبي ... وسيري مد ليس يتبعه جزر

أهم فلا أبقى لدي النفس مطلباً ... واصبح والآمال في ساحتي كثر

فأما ملذات النفوس فإنني ... أرى أن سعي المرء في أثرها نكر

ويستطرد في هذه القصيدة مستنكراً أن تعوقه عن مطلبه السامي بنت كرمه (تضيق بها في الدهر أخلاقي الزهر) أو أن يهيم بغانية لأن:

لنا عزة من دونها كل مطلب ... وهمة نفس ضاق في أمرها الدهر

وليس بنا للناس إلا محبة ... وليس بساح القلب من أجلهم غمر

ونسى لهم حتى نقيم ضعيفهم ... وننهض من يهوي بعزمته الفقر

وهكذا كل الفضائل الاجتماعية من رد الظالم وإيواء الشريد وبغض اللئيم وحب الناس جميعاً، ونزعة الخير غالية على شاعرنا في فترة اطمئنان نفسه وهدوءه انفعالاته.

ودأبي فعل الخير حتى لو أنني ... سئلت لما أدري لمن أنا فاعل وما بي حب للحياة وإنما ... أعيش لتحيا في حماي الفضائل

فهو كهف للخيرات وحمى الفضائل. ويشهد معاصروه من زملائه بما كان له من آراء صائبة عند مناقشة أساتذته، وهو يسجل هذا فيقول:

أدفع القول فلا أبقى فتى ... سامعاً لي لم يصر من تبعي

وأرى الحق فلا أتركه ... ضائعاً ما بين قوم ضيع

تعرف الأقوام عني أنني ... أسمع الأقوام ما لم يسمع

وأغلب الظن أن لهذا البيت الأخير صلة بما وقع بينه وبين أستاذه الدكتور طه حسين بك يوم اعترض أحمد العاصي أثناء إحدى محاضرته، فلم يسمع الأستاذ واستمر يحاضر، فحسب العاصي أن الدكتور يحتقر هو يغضي عنه، فحز ذلك في نفسه وامتلأ غيظاً، فلم تكد تنتهي المحاضرة حتى هب العاصي محتجاً على الدكتور كيف يسأله فلا يجيب، فأخبره بأنه لم يسمعه ولو كان سمعه ما تردد في الجواب في الجواب والنقاش ولا سيما مع أحمد العاصي بما عرف عنه من قوة الحجة، وإجادة الجمال، ومع ذلك أصر العاصي على احتجاجه، والدكتور يخفف عن نفسه ويطيب خاطره على الرغم من خفوت صوت العاصي، ويقول:

أنافي العلم غلام لو ذعي ... وإذا ما قلت فالرأي معي

ومن ثنايا الديوان يخرج الشاعر المتمرد المنطوي على نفسه إلى عالم الناس جريئاً قوياً ثبت الجنان حقاً، فيعبر عن آمال مصر في جامعتها، ويحفز الهمم في حماسة الشباب، مفضياً عن محنة هو:

لا يصد المرء عن أغراضه ... محنة تزجي إليه أو سقم

ويؤذيه أن يرى ما بين بني قومه من شقاق، فيعتب عليهم في رفق:

تريدون بالشحناء نيل مرادكم ... وترجون الاستقلال بالأقوال

ويؤثر أن يختم ديوانه بقصة الموت، وهي تلك الساعة الرهيبة التي يستعجل فيها ملك الموت، مرحبا بة، ويستحثه على الصعود إلى العالم الباقي بروحه ليخلص من الأرجاس الدنيوية والهموم القائمة:

ساعة يؤنسني فيها الملك ... هامساً هيا لمن قد أرسلك قائلاً لا تخش سوءاً يا فتى ... هاهو المركب قد هيأت لك

سر حثيثاً لا تمانع إنما ... في غدر تثني على من أوصلك

واسع بالروح إلى المولى ولا ... تذكر الدنيا فليست منزلك

ثم يمضي: -

هاهي الحدباء قد جهزها ... لك من قبلك للموت سلك

فاشدد العزم وهيا لترى ... لذة كبرى وتحيا كملك

ثم يتخيل نفسه في وادي الموتى حيث يبعث منه برسالة إلى الأحياء فيقول:

كم أنا رافه هنا بحياتي ... وبما عندنا من اللذات

كل ما نشتهيه تحت يدينا ... ولنا ما نشاء من طيبات

هذا هو الشاعر العاصي الذي نفث في قيثارته أنفاسه، ووقع على أوتارها نبضات قلبه فجاءت ألحانه صادقة في التعبير عن وجدانه. لم يتكلف الشعر ولم يكن إلا كالسيل يندفع نحو غاية عنيفاً غاية العنف، ثم يمضي بعد ذلك كالجدول المنساب بين فحيح النيران في جوف الظلام.

نعم صدق العاصي في التعبير عن أحاسيسه ومشاعره، وبرع حقاً في اقتناص كل انفعال تردد بين جوانبه، فتصيد له الغنم المناسب، وقيده في شعره الحر الطليق، فواتاه اللفظ، وأسعفه اللحن، ودانت له القافية، فما نبا عن ذوق ولا كباقي خطاه. ولو كان للشاعر المرهف رفيق يفضي إليه بغمرات نفسه، لاستطاع أن يطرح من أثقاله، ويروح من همومه، ولكنه للأسف - كان كالضمآن في بيداء اللانهاية: حرم عطف الصديق، وحنو الشقيق. وأنس الرفيق، وجافاه الحبيب، وانطوت آماله وعكف على اللذات، وفلسف الأحزان كما أراد.

هذه الحياة كانت آفاق الشاعر العاصي وحده، لأنه اعتصرها بعيداً عن الناس واستدار حول نفسه في إطارها من الداخل. غير أنه لم يحفل بالطبيعة في كثير ولا قليل. نعم لقد عطل جميع منافذ إحساسه عن مجال الكون، وما له يرى ويسمع وهو في (كهف أفلاطون) ليس أمامه فيه إلا أشباح الفناء وقد ظنها حقائق تجسمت حتى أخذت تخايله في حياة كلها مظلم صامت. الطبيعة الحسناء، والقاهرة وضواحيها، والفجر والربيع والسماء والماء والجداول والضفاف، والزهور الحسان. . . لم يكن لهذه التهاويل ظلال في جوانب الشاعر المتمرد، فخلا منها شعره، وكان كدودة القز تغزل خيطها في محبس الظلام حتى يؤذن لروحها أن تهيم كالفراشة في مسبح الضياء.

ومهما يكن من شيء، فتلك شاعرية لها ميزتها التي تكفل لصاحبنا (شخصية) في الشعراء الخالدين، من أوضح عناصرها وأبرز معالمها، ما قاله أمير الشعراء فيه:

ولتعلمن إذا السنون تتابعت ... أن التشكي كان قبل أوانه

محمد محمود زيتون
13 - 03 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...