1 - الشعر الجاهلي الذي اتخذه الشعراء في مختلف العصور أصلاً يحتذون حذوه، وينهجون منهجه، ويبنون عليه ويقلدونه في مناحيه الفنية والأدبية تقليداً كبيراً، هذا الشعر هو الذي نريد أن نتحدث عن موقف النقاد منه آرائهم فيه، ومذاهبهم حياله، حديثاً يجمع من الإيجاز أطراف هذا الموضوع المتشعب الدقيق.
2 - وأول ما نذكره في هذا البحث آراء الجاهلين أنفسهم في الشعر الجاهلي ونقده، وهذه الآراء كثيرة متعددة، طائفة منها تتحدث عن منزلة بعض الشعراء الأدبية في الشعر، وطائفة أخرى فيها نقد لبعض الشعراء.
فأنت تعلم أن كل قبيلة في الجاهلية كانت ترفع منزلة شاعرها على الشعراء، وتذهب إلى أنه إمامهم وأولهم في دولة الشعر، فكان اليمنيون يذهبون إلى أن امرأ القيس هو إمام الشعراء، وكأن بنو أسد يذهبون إلى تقديم عبيد، وتغلب تقدم مهللا، وبكر تقدم المرقش الأكبر، وأباد ترفع من شأن أبى دؤاد وهكذا. وكان أهل الحجاز والبادية يقدمون زهيراً والنابغة، وأهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحداً، وأهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحداً، وكان العباس ابن عبد المطلب يقول على أمرؤ القيس وهو سابق الشعراء، ورأى لبيد أن أشعر الناس امرؤ القيس ثم طرفة ثم نفسه.
كما تعلم أن الجاهليين أنفسهم كانت لهم آراء كثيرة في نقد الشعراء. فكان النابغة تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ. فتأتيه الشعراء وتنشده أشعارها، أتاه الأعشى يوماً فأنشده، ثم أتاه حسان فأنشده، فقال: لولا أن أبا بصير - أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والأنس، فقال: حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك وجدك؛ فقبض النابغة على يده وقال: يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول:
فانك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ثم أنشدته الخنساء:
قذى بعين أم بالعين عوار ... أم أقفرت إذ خلت من أهلها ال فلما بلغت قولها:
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
قال: ما رأيت امرأة أشعر منك، قالت ولا رجلاً
وحكومة أم جندب الطائية بين أمرؤ القيس وعلقمة الفحل الشاعرين، وتفضيلها علقمة على زوجها امرئ القيس، مشهورة ولا داعي لذكرها، فلها حديث آخر إن شاء الله.
ومر امرؤ القيس بكعب أخويه الغضبان والقعقاع، فانشدوه فقال إني لأعجب كيف لا تمتلئ عليكم ناراً جودة شعركم، قسموا بني النار.
وروى المرزباني في كتابه (الموشح) إن الزبرقان وعمرو وبن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبل السعدي تحاكموا إلى ربيعة بن حذار الأسدي الشاعر في الشعر، أيهم أشعر، فقال للزبرقان: أما أنت فشعرك كلحم أسخن؛ لا هو أنضج فأكل، ولا ترك نيئا فينتفع به. وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر، نقص البصر. وما أنت يا مخبل فإن شعرك عن شعرهم وأرتفع عن شعرهم وارتفع كمزداة أحكم خروها فليس تقطر ولا تمطر.
كما روي أيضاً أن هؤلاء الشعراء اجتمعوا في موضع، فتناشدوا أشعارهم؛ فقال لهم عبدة! والله لو أن قوما طاروا من جودة الشعر لطرتم، فأما أن تخبروني عن أشعاركم وإما أن أخبركم؛ قالوا: أخبرنا، قال: فإني أبدأ بنفسي: أما شعري فمثل سقاء شديد وغيره من الأسقية أوسع منه، وأما أنت يا زبرقان فإنك مررت بجزور منحورة فأخذت من أطايبها وأخباثها
إلى غير ذلك من مواقف النقد والنقاد للشعر في العصر الجاهلي؛ والتي لا تخرج عن الاستحسان والاستهجان لشعر والشعراء.
3 - وجاء الإسلام فكان له ولرسوله الكريم موقف جليل من الشعر الجاهلي، أنكر بعضاً وعرف بعضاً؛ أنكر هذا الشعر الذي ينافي الأخلاق الكريمة والمثل العليا، من الغزل الفاحش، والمجون الخليع، والهجاء الكاذب، والمدح المغرق، والفخر الممعن في الغلو والمبالغة؛ وعرف هذا الشعر الذي يدعو إلى الفضائل والأخلاق والدين، ويحث على الأدب والطموح وأداء الواجب وحب الجماعة والتضحية في سبيل الأمة والإنسانية؛ فكان هذا الموقف الخالد للإسلام ونبيه العظيم توجيها جليلاً لرسالة الشعر، وتهذيباً نبيلاً للشعراء ليسموا بفنهم الرفيع إلى مجال الطهر والخير، ومجال الحق والعدل والحرية والنور، وكان نقداً عميقاً للشعر والشعراء والجاهليين، وإنكاراً لاتخاذ الشعر وسيلة للكسب وظهر أثر الإسلام والقرآن في تهذيب أسلوب الشعر وألفاظه، وفي البعد به عن الحوشية والغرابة وطبعه بطابع القوة والجلالة والروعة مع الحلاوة والبلاغة والسلاسة. كما ظهر أثر القرآن والحياة الجديدة في عقلية الشعراء وتفكيرهم ومعانيهم وخيالاتهم
4 - وفي عصر دولة بني أمية انتشرت العصبيات، وكثرت الخلافات السياسية والدينية، وتغير نهج حياة العرب وتفكيرهم، فعادوا إلى مذهب الجاهليين في الشعر، اتخذوه أداة للدفاع عن الرأي والعقيدة، ولساناً لإذاعة محامدهم ومفاخرهم، وشجعوا الرواة على رواية الشعر الجاهلي، والشباب على درسه وتعلمه والتأدب بأدبه، ووضعت في هذا العصر أصول النحو العربي، فأخذ العلماء ينقدون الشعر الجاهلي نقدا يتصل بالأعراب، (كان أبى إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان عليهم، وكان عيسى يقول: أساء النابغة في قوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع. ويقول موضعه: ناقعا).
5 - ومن أشهر رواة الشعر الجاهلي ونقاده في القرن الثاني الهجري. أبو عمر ابن علاء البصري م 154هـ، وحماد (الراوية الكوفي (75 - 156هـ)، وخلف (الأحمر البصري م 180هـ، ويونس البصري م 182هـ، والمفضل الضبي م 189هـ وهو أقدم من جميع المختار من شعر العرب في كتاب (المفضليات) وأول من فسر الشعر بيتاً بيتاً. ويقال أنه أول من جمع أشعار الجاهليين وإن كان الراجح إن حماد اسبقه في هذا الميدان. ومنهم ابن الكلى م 204، وأبو زبد الأنصاري صاحب كتاب الجمهرة م 215هـ، وأبو عبيدا البصري م 209هـ صاحب (النقائض) و (مجاز القرآن)، والأصمعي البصري م 216 هـ.
كان أبو عمر بن العلاء أشد الناس إكباراً للجاهليين وتعظيماً لشأنهم، جلس إليه الأصمعي عشر سنين فما سمعه يحتج ببيت إسلامي. ويروي عنه: لو أدرك الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً. وكان لا يعد الشعر إلا للجاهلين، وكان كما يقول ابن سلام في طبقات الشعراء: أشد الناس تسليماً لهم وكان المأمون على رغم ثقافته الواسعة يتعصب للأوائل من الشعراء مع ملك بني أمية.
وكان الأصمعي مع تحامله على المحدثين وشعرهم معتدلاً في عصبيته للشعر الجاهلي، كان يحب الجيد منه، وينقد الرديء، عاب امرأ القيس في قوله في وصف الفرس:
وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر
والخيفانة في الأصل هي الجرادة وتشبه بها الفرس في الخفة،
قال الأصمعي: شبه شعر الناصية بسعف النخلة، والشعر إذا غطى العين لم يكن الفرس كريماً، كما عاب غير امرئ القيس من الشعراء. وكان يقول: ختم الشعر بالرماح، وهو شاعر أموي مشهور.
6 - وفي القرن الثالث الهجري نجد النقاد في موقفهم من الشعر الجاهلي طائفتين:
فطائفة تعجب بالجاهليين وشعرهم إعجاباً شديداً، ولا ترى الشعر إلا لهم، ومن هؤلاء ابن الأعرابي م 231هـ، وكان يزري بأشعار المحدثين ويشيد بشعر القدماء. وكان يعيب شعر أبي نؤاس وأبي تمام، ويقول: ختم الشعر بابن هرمة. وقال في بشار، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير من الشعراء. ومنهم إسحاق الموصلي م 240هـ، وكان في كل أحواله ينصر الأوائل، وكان شديد العصبية لهم، وكان لا يعتد ببشار. ولم يكن موقفه قاصراً على الشعر وحده، بل كان كذلك في الغناء، كان يتعصب للغناء القديم، وينكر تغييره ويعظم الأقدام عليه. ومثل التعصب للقديم موجود في الآداب الأوربية، فقد كان هوارس الشاعر الروماني يرى أن شعراء اليونان هم النماذج الذي يجب أن تدرس ليلاً ونهاراً، فإن الشعر يجب أن ينظم كما كانوا ينظمونه. وأعتذر البقلاني عنهم بأنهم إنما كانوا يميلون إلى الذي يجمع الغريب والمعاني. وأعتذر ابن رشيق عنهم بحاجتهم إلى الشاهد والمثل وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون. ولكن الجرجاني في الوساطة يذكر أن ذلك أثر لتعصب علماء اللغة ورواتها للشعر القديم، وإنكارهم لفضل المحدثين وشعرهم. (49و50 وساطة ط بيروت)
وطائفة أخرى من النقاد حكموا الذوق الأدبي والطبع وحده في الشعر، وحكموا بالفضل لمن يستحقه. جاهلياً كان أو إسلامياً أو محدثاً، فلم يفضلوا الجاهليين لسبقهم في الزمن، ولم يغضوا من شأن المحدثين لتأخر عصرهم. ومن هؤلاء: الجاحظ م 255هـ وأبن قتيبة المتوفي 276هـ والمبرد م 285هـ وابن المعتز م 296هـ.
يقول ابن قتيبة في أول كتابه الشعر والشعراء: (ولا نظرت إلى المتقدم بعين الجلالة لتقدمه، ولا للمتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلا حقه، ووفرت عليه حظه؛ فإني رأيت من العلماء من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب عنده إلا أنه قيل في زمانه، ورأى قائله، ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوم دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده وجعل كل قديم منهم حديثاً في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل يعدون محدثين، وكان أبو عمر يقول: لقد نبغ هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته.
قال المبرد: ليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحد ثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطي كلاما يستحقه.
وأنكر ابن المعتز عصبية هؤلاء النقاد للشعر القديم وذمهم لشعر المحدثين، وقال أنها عيب قبيح، ومن فعل ذلك إنما غض من نفسه وجعل هذا ناشئاً عن جهل بنقد الشعر وتمييزه.
وكان الجاحظ هو السابق إلى إقامة نقد الشعر على أسس فنية خالصة، وحارب هذا التعصب الممقوت للقديم لقدمه، وآراؤه في ذلك كثيرة في (البيان والتبيين) و (الحيوان) وسواهما، ففي (الحيوان) ينكر الجاحظ على المتعصبين للقديم فعلهم فيقول: ولو كان لهم بصر لعرفوا موضع الجيد ممن كان وفي أي زمان.
(للكلام بقية)
محمد عبد المنعم خفاجة.
مجلة الرسالة - العدد 885
بتاريخ: 19 - 06 - 1950
2 - وأول ما نذكره في هذا البحث آراء الجاهلين أنفسهم في الشعر الجاهلي ونقده، وهذه الآراء كثيرة متعددة، طائفة منها تتحدث عن منزلة بعض الشعراء الأدبية في الشعر، وطائفة أخرى فيها نقد لبعض الشعراء.
فأنت تعلم أن كل قبيلة في الجاهلية كانت ترفع منزلة شاعرها على الشعراء، وتذهب إلى أنه إمامهم وأولهم في دولة الشعر، فكان اليمنيون يذهبون إلى أن امرأ القيس هو إمام الشعراء، وكأن بنو أسد يذهبون إلى تقديم عبيد، وتغلب تقدم مهللا، وبكر تقدم المرقش الأكبر، وأباد ترفع من شأن أبى دؤاد وهكذا. وكان أهل الحجاز والبادية يقدمون زهيراً والنابغة، وأهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحداً، وأهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحداً، وكان العباس ابن عبد المطلب يقول على أمرؤ القيس وهو سابق الشعراء، ورأى لبيد أن أشعر الناس امرؤ القيس ثم طرفة ثم نفسه.
كما تعلم أن الجاهليين أنفسهم كانت لهم آراء كثيرة في نقد الشعراء. فكان النابغة تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ. فتأتيه الشعراء وتنشده أشعارها، أتاه الأعشى يوماً فأنشده، ثم أتاه حسان فأنشده، فقال: لولا أن أبا بصير - أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والأنس، فقال: حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك وجدك؛ فقبض النابغة على يده وقال: يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول:
فانك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ثم أنشدته الخنساء:
قذى بعين أم بالعين عوار ... أم أقفرت إذ خلت من أهلها ال فلما بلغت قولها:
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
قال: ما رأيت امرأة أشعر منك، قالت ولا رجلاً
وحكومة أم جندب الطائية بين أمرؤ القيس وعلقمة الفحل الشاعرين، وتفضيلها علقمة على زوجها امرئ القيس، مشهورة ولا داعي لذكرها، فلها حديث آخر إن شاء الله.
ومر امرؤ القيس بكعب أخويه الغضبان والقعقاع، فانشدوه فقال إني لأعجب كيف لا تمتلئ عليكم ناراً جودة شعركم، قسموا بني النار.
وروى المرزباني في كتابه (الموشح) إن الزبرقان وعمرو وبن الأهتم وعبدة بن الطبيب والمخبل السعدي تحاكموا إلى ربيعة بن حذار الأسدي الشاعر في الشعر، أيهم أشعر، فقال للزبرقان: أما أنت فشعرك كلحم أسخن؛ لا هو أنضج فأكل، ولا ترك نيئا فينتفع به. وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر، نقص البصر. وما أنت يا مخبل فإن شعرك عن شعرهم وأرتفع عن شعرهم وارتفع كمزداة أحكم خروها فليس تقطر ولا تمطر.
كما روي أيضاً أن هؤلاء الشعراء اجتمعوا في موضع، فتناشدوا أشعارهم؛ فقال لهم عبدة! والله لو أن قوما طاروا من جودة الشعر لطرتم، فأما أن تخبروني عن أشعاركم وإما أن أخبركم؛ قالوا: أخبرنا، قال: فإني أبدأ بنفسي: أما شعري فمثل سقاء شديد وغيره من الأسقية أوسع منه، وأما أنت يا زبرقان فإنك مررت بجزور منحورة فأخذت من أطايبها وأخباثها
إلى غير ذلك من مواقف النقد والنقاد للشعر في العصر الجاهلي؛ والتي لا تخرج عن الاستحسان والاستهجان لشعر والشعراء.
3 - وجاء الإسلام فكان له ولرسوله الكريم موقف جليل من الشعر الجاهلي، أنكر بعضاً وعرف بعضاً؛ أنكر هذا الشعر الذي ينافي الأخلاق الكريمة والمثل العليا، من الغزل الفاحش، والمجون الخليع، والهجاء الكاذب، والمدح المغرق، والفخر الممعن في الغلو والمبالغة؛ وعرف هذا الشعر الذي يدعو إلى الفضائل والأخلاق والدين، ويحث على الأدب والطموح وأداء الواجب وحب الجماعة والتضحية في سبيل الأمة والإنسانية؛ فكان هذا الموقف الخالد للإسلام ونبيه العظيم توجيها جليلاً لرسالة الشعر، وتهذيباً نبيلاً للشعراء ليسموا بفنهم الرفيع إلى مجال الطهر والخير، ومجال الحق والعدل والحرية والنور، وكان نقداً عميقاً للشعر والشعراء والجاهليين، وإنكاراً لاتخاذ الشعر وسيلة للكسب وظهر أثر الإسلام والقرآن في تهذيب أسلوب الشعر وألفاظه، وفي البعد به عن الحوشية والغرابة وطبعه بطابع القوة والجلالة والروعة مع الحلاوة والبلاغة والسلاسة. كما ظهر أثر القرآن والحياة الجديدة في عقلية الشعراء وتفكيرهم ومعانيهم وخيالاتهم
4 - وفي عصر دولة بني أمية انتشرت العصبيات، وكثرت الخلافات السياسية والدينية، وتغير نهج حياة العرب وتفكيرهم، فعادوا إلى مذهب الجاهليين في الشعر، اتخذوه أداة للدفاع عن الرأي والعقيدة، ولساناً لإذاعة محامدهم ومفاخرهم، وشجعوا الرواة على رواية الشعر الجاهلي، والشباب على درسه وتعلمه والتأدب بأدبه، ووضعت في هذا العصر أصول النحو العربي، فأخذ العلماء ينقدون الشعر الجاهلي نقدا يتصل بالأعراب، (كان أبى إسحاق وعيسى بن عمر يطعنان عليهم، وكان عيسى يقول: أساء النابغة في قوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع. ويقول موضعه: ناقعا).
5 - ومن أشهر رواة الشعر الجاهلي ونقاده في القرن الثاني الهجري. أبو عمر ابن علاء البصري م 154هـ، وحماد (الراوية الكوفي (75 - 156هـ)، وخلف (الأحمر البصري م 180هـ، ويونس البصري م 182هـ، والمفضل الضبي م 189هـ وهو أقدم من جميع المختار من شعر العرب في كتاب (المفضليات) وأول من فسر الشعر بيتاً بيتاً. ويقال أنه أول من جمع أشعار الجاهليين وإن كان الراجح إن حماد اسبقه في هذا الميدان. ومنهم ابن الكلى م 204، وأبو زبد الأنصاري صاحب كتاب الجمهرة م 215هـ، وأبو عبيدا البصري م 209هـ صاحب (النقائض) و (مجاز القرآن)، والأصمعي البصري م 216 هـ.
كان أبو عمر بن العلاء أشد الناس إكباراً للجاهليين وتعظيماً لشأنهم، جلس إليه الأصمعي عشر سنين فما سمعه يحتج ببيت إسلامي. ويروي عنه: لو أدرك الأخطل يوماً واحداً من الجاهلية ما قدمت عليه أحداً. وكان لا يعد الشعر إلا للجاهلين، وكان كما يقول ابن سلام في طبقات الشعراء: أشد الناس تسليماً لهم وكان المأمون على رغم ثقافته الواسعة يتعصب للأوائل من الشعراء مع ملك بني أمية.
وكان الأصمعي مع تحامله على المحدثين وشعرهم معتدلاً في عصبيته للشعر الجاهلي، كان يحب الجيد منه، وينقد الرديء، عاب امرأ القيس في قوله في وصف الفرس:
وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر
والخيفانة في الأصل هي الجرادة وتشبه بها الفرس في الخفة،
قال الأصمعي: شبه شعر الناصية بسعف النخلة، والشعر إذا غطى العين لم يكن الفرس كريماً، كما عاب غير امرئ القيس من الشعراء. وكان يقول: ختم الشعر بالرماح، وهو شاعر أموي مشهور.
6 - وفي القرن الثالث الهجري نجد النقاد في موقفهم من الشعر الجاهلي طائفتين:
فطائفة تعجب بالجاهليين وشعرهم إعجاباً شديداً، ولا ترى الشعر إلا لهم، ومن هؤلاء ابن الأعرابي م 231هـ، وكان يزري بأشعار المحدثين ويشيد بشعر القدماء. وكان يعيب شعر أبي نؤاس وأبي تمام، ويقول: ختم الشعر بابن هرمة. وقال في بشار، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير من الشعراء. ومنهم إسحاق الموصلي م 240هـ، وكان في كل أحواله ينصر الأوائل، وكان شديد العصبية لهم، وكان لا يعتد ببشار. ولم يكن موقفه قاصراً على الشعر وحده، بل كان كذلك في الغناء، كان يتعصب للغناء القديم، وينكر تغييره ويعظم الأقدام عليه. ومثل التعصب للقديم موجود في الآداب الأوربية، فقد كان هوارس الشاعر الروماني يرى أن شعراء اليونان هم النماذج الذي يجب أن تدرس ليلاً ونهاراً، فإن الشعر يجب أن ينظم كما كانوا ينظمونه. وأعتذر البقلاني عنهم بأنهم إنما كانوا يميلون إلى الذي يجمع الغريب والمعاني. وأعتذر ابن رشيق عنهم بحاجتهم إلى الشاهد والمثل وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون. ولكن الجرجاني في الوساطة يذكر أن ذلك أثر لتعصب علماء اللغة ورواتها للشعر القديم، وإنكارهم لفضل المحدثين وشعرهم. (49و50 وساطة ط بيروت)
وطائفة أخرى من النقاد حكموا الذوق الأدبي والطبع وحده في الشعر، وحكموا بالفضل لمن يستحقه. جاهلياً كان أو إسلامياً أو محدثاً، فلم يفضلوا الجاهليين لسبقهم في الزمن، ولم يغضوا من شأن المحدثين لتأخر عصرهم. ومن هؤلاء: الجاحظ م 255هـ وأبن قتيبة المتوفي 276هـ والمبرد م 285هـ وابن المعتز م 296هـ.
يقول ابن قتيبة في أول كتابه الشعر والشعراء: (ولا نظرت إلى المتقدم بعين الجلالة لتقدمه، ولا للمتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلا حقه، ووفرت عليه حظه؛ فإني رأيت من العلماء من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه موضع متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب عنده إلا أنه قيل في زمانه، ورأى قائله، ولم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوم دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده وجعل كل قديم منهم حديثاً في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل يعدون محدثين، وكان أبو عمر يقول: لقد نبغ هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت بروايته.
قال المبرد: ليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحد ثان عهد يهتضم المصيب، ولكن يعطي كلاما يستحقه.
وأنكر ابن المعتز عصبية هؤلاء النقاد للشعر القديم وذمهم لشعر المحدثين، وقال أنها عيب قبيح، ومن فعل ذلك إنما غض من نفسه وجعل هذا ناشئاً عن جهل بنقد الشعر وتمييزه.
وكان الجاحظ هو السابق إلى إقامة نقد الشعر على أسس فنية خالصة، وحارب هذا التعصب الممقوت للقديم لقدمه، وآراؤه في ذلك كثيرة في (البيان والتبيين) و (الحيوان) وسواهما، ففي (الحيوان) ينكر الجاحظ على المتعصبين للقديم فعلهم فيقول: ولو كان لهم بصر لعرفوا موضع الجيد ممن كان وفي أي زمان.
(للكلام بقية)
محمد عبد المنعم خفاجة.
مجلة الرسالة - العدد 885
بتاريخ: 19 - 06 - 1950