معاوية محمد نور
- قاص وباحث وصحفي وناقد أدبي سوداني يعتبر من رواد القصة في السودان.
- ولد في عام 1907 في أم درمان بالسودان من عائلة ميسورة الحال والجاه، فقد كان أبوه من الأثرياء. وكان جده لأمه محمد عثمان حاج خالد أميراً من أمراء المهدية وخاله هو الدرديري محمد عثمان، من الرعيل الأول من المتعلمين في السودان وأول سوداني يتقلد منصب قاض بالمحكمة العليا ومن رواد الحركة الوطنية في السودان والذي اختير بعد استقلال السودان عضواً في مجلس السيادة. وقد تربى معاوية في كنف خاله هذا بعد وفات والده، وهو صغيرا في العاشرة من عمره .
تعليمه
- بدأ تعليمه في الخلوة حيث درس مباديء القراءة والكتابة وحفظ بعض آيات القرآن الكريم ثم انتقل إلى مدرسة أم درمان الأولية ومنها إلى المدرسة الوسطى وبعد اجتيازه امتحان الدخول بتفوق اختير للدراسة الثانوية في كلية غوردون (جامعة الخرطوم حاليا) ، ثم الدراسة الجامعية في الكلية نفسها حيث دخل كلية الطب عام 1927 ومع ذلك كانت ميوله الأدبية تطفو جلية على السطح فأخذ يكتب العديد المقالات والتراجم من الأدب الإنجليزي في الصحف والمجلات بالسودان ومن ضمنها جريدة الحضارة السودانية تحت اسم مستعار هو «مطالع». وبعد عامين من دراسة الطب سافر إلى مصر ، إلا أنه أعيد منها بناء على طلب من خاله باعتباره لا يزال صغيرا. وتحت الحاحه سمح له خاله الإلتحاق بكلية الآداب التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت.
واثناء إقامته ببيروت كان معاوية يراسل الصحف والمجلات المصرية مثل «مجلة المقتطف» و «الهلال» و «الرسالة» و «البلاغ الأسبوعي» و «جريدة مصر» وغيرها ويبعث إليها مقالاته الأدبية ودراساته النقدية والاجتماعية والفلسفية وبعض قصصه وبدا من خلال ما كتبه تأثره العميق بأميل زولا و برناردشو و تولستوي و دستويفسكي وهيمنغواي وتشيكوف و ميلتون وشكسبير و هيكل والعقاد.
انتقل معاوية إلى القاهرة بمصر ليعمل بالصحافة وعين محرراً بجريدة مصر ومشرفاً على صفحاتها الأدبية والتي تضمنت الكثير من مقالاته وأبحاثه وقصصه. وتعرف هناك على الأديب المصري الشهير عباس محمود العقاد
كان معاوية يطبق في كتاباته القواعد الغربية في النقد الأمر الذي أكسبه شهرة واسعة إلى أن ساهم في تأسيس لنقد الغربي في كل عمل أدبي تناوله، وكان غزيراً في إنتاجهالذي شمل مختلف ضروب القصة والشعر والمسرحيات. وقد تميز أسلوبه في النقد بالتجرد والموضوعية وعرف عنه تناوله أعمال كبار الأدباء بالجرأة نفسها التي تناول بها أعمال الناشئة من الكتاب. فانتقد أعمال كتاب أمثال سلامة موسى و إبراهيم المازني ووصفها بأن فيها تكلف وصناعة وعاب على سلامة موسى عدم الحزم والنهائية في كتاباته النفسية. وإلى جانب النقد كتب معاوية القصة الطويلة والسيرة ووترجم الكتب. وتميزت كل كتاباته بالواقعية، تحتل قصص معاوية ودراسته موقع الريادة والصدارة في الأدب السوداني ويرى القاص والناقد "مختار عجوبة" أن (معاوية هو أول من كتب قصة قصيرة مكتملة من الناحية الفنية)ومن أعماله في هذا المجال:
ابن عمه، وهي أول قصة نُشرت له وذلك في صحيفة السياسة الأسبوعية في مايو / أيار 1930م.
إيمان، ونشرت في السياسة الأسبوعية في 13 سبتمبر / أيلول 1930 وهي قصة احتوت على نبوءة مبكرة لمصيره الشخصي حيث انتهى معاوية نفسه إلى النهاية ذاتهاالتي إنتهى إليها بطل القصة بعد حوالي إحدى عشر عاما من كتابتها.
في القطار، التي نشرت في نوفمبر / تشرين الثاني 1930
المكان، ونشرت في جريدة مصر في نوفمبر / تشرين الثاني 1931
الموت والقصر. نُشرت بجريدة مصر في يناير / كانون الثاني 1932.
***
إيمان - قصة قصيرة
نعم أعرفه، أليس هو ذلك الشاب الكث الشعر، النحيل الجسم، الطويل الأنف الذي يعني بهندامه ويضع طربوشه قريباً من حاجبيه، وهو جالس دائماً في تلك الزاوية، ينظر بإمعان للأعبي الطاولة فاتحاً فاه طيلة الوقت يلتهم حديث المتكلمين والمتحدثين إلتهاماً من غير مضغ ؟.
-لقد مات ياسيدي بعد أن إعتراه مس من الجنون لم يطل أمده لأنه ترك الأكل إلا لماما، وصار هائماً على وجهه في الشوارع والطرقات العامة، لا يثنيه حر ولا برد من ذلك.
-وأي سبب أدى به الى الجنون فالموت ، فلقد شاهدته منذ زمن ليس بالبعيد يلعب الطاولة وبدأ مبتهجاً وهو على خير ما يكون إنسان.
لقد كان جلال أفندي عبد الكريم أيها الأخ، شاباً سمح الخلق طيب الخاطر، كله نعومة وإطمئنان وطيبة قلب، يستمع بشغف لأحاديث المتكلمين حوله في المكتب والترام والمنتديات العامة، ثم يأخذ بعض هذه الأراء التي تروق عنده، وهو أكثر ما يكون تأثراً إذا كان صاحب الحديث قوي الحجة، قوي الشخصية يتكلم بكل حزم وتأكيد، يأخذ هذه الأراء فيعيدها على صحبه وكأنما هي له والحديث من بنات أفكاره لشدة ما يتعصب لها ويذود عنها.
وأذكر أنه كان في وقت من الأوقات كثير التلفظ بهذه العبارة وقد سمعها من جلال الدين أفندي "إن الرأسماليين عندنا هم رأس كل بلية في هذا الضعف الإقتصادي، وهم الدود الذي ينخر في عظام هذه الأمة" ! كما أنني أذكر أنه قد ترك هذه الجملة في وقت من الأوقات ومسك أخرى سمعت أنه سمعها من نور الدين أفندي عن أغانينا القومية"إنني لا أنكر على أغانينا بعض الحلاوة المخنثة والميلودية الباكية الشاكية، ولكنها طنبورة هزيلة وأغان مملة لا تضرب على أوتار النفس الشاعرة، وإنما وترها واحد هزيل لا يحث على الجد ولا يدعو الى النشاط والحياة الهنيئة" .
وأنت تراه وتسمعه يقول هذا الكلام بكل كبرياء ذهني واقتناع وعظمة ! وجلس في يوم من الأيام مع جماعة من بينهم حسين أفندي حسني الذي كان يطلب العلم في القاهرة، فأراد صاحبنا أن يظهر علمه ولوذعيته ، فأدار الحديث لذلك الغرض خاصة حتى إذا ما جاء الحديث عن الأغاني السودانية قال قولته هذه في شيء من الإقتناع والفهم المصطنع، وراح يدخن سيجارته بعد أن أتم حديث وينظر في الفضاء بكل إدعاء في التفكير والتأمل كما يفعل "خير الله الماوردي" بالضبط. وأخيراً نطق حسين أفندي حسني وقال بعد أن تكلم عن عبقرية الأمم والأغاني القومية المختلفة: "وإن الذين يقلدون الأفرنج في كل شيء ويحاولون أن يلبسونا ثياباً لم تخط لأجسامنا ليشتطون ويهرفون بما لا يعرفون، فكيف يريدوننا على أن نستبدل شعورنا الشرقي البسيط بالشعور الغربي، والأغاني شعور وهي شعورنا .
زد على ذلك أن من يعلم حالة هذا الشعب وتاريخه يعرف تمام المعرفة لم كانت أغانينا على هذه الوتيرة الباكية . وأن "السايكلوجي" الإجتماعي ليقرر صحة ما أذهب إليه. وخير لنا أن نحاول تحسين أغانينا على هذا النسق من أن نفقد روحها وعنصرها فإن روحها لهو روحنا وعنصرها لهو عنصرنا، وعبثاً محاولة تغيير الروح والعنصر" ! فأعجبت هذه الجملة صاحبنا جلال أفندي وحفظها لساعتها بعد أن إقتنع بصحتها وترك قولته القديمة في الأغاني.
وهذه ولا شك تظهر له أكثر عمقاً وعلماً ولوذعية من الأولى. ولقد كان قوي الذاكرة، ويكفيه أن يسمع مثل هذه الجملة مرة واحدة فيلتهمها إلتهاماً ويحفظها عن ظهر قلب، ولو أنه في بعض الأحيان ينسى كلمة أو كلمتين فيتغير المعني المطلوب تماماً.
وصار منذ ذلك اليوم يردد هذه الجملة في المكتب والبيت والمنتدى ، وهكذا كان صاحبنا – رحمه الله - شديد التأثر يصدق كل ما يقال أمامه بحزم وصوت مرتفع. وكان في حفظه كعدسة "الفوتوغرافيا" يلتقط الأفكار لأول وهلة ويرددها كأنها من بنات أفكاره من غير أن يشعر بأقل غضاضة أو فقر ذهني .
ومع كل هذا فقد كانت الناس تحبه وتستظرفه لما فطر عليه من مراحة الطبع والدعابة والخفة. وهو إذا ذهب الى مكتبه وكلم بعض إخوانه في المكتب عن المسائل العامة فلم يأبهوا له، بادرهم بهذه الجملة التي سمعها من "الباشكاتب" على أفندي رحمه الله "إن حياة الموظف عندنا لهي حياة مملة سخيفة. وما أشبهكم بالالآت الميكانيكية تؤدي واجبها الآلي ثم يشيع فيها الصدأ فتبلى وتتحطم " كما أنه كان كثير التقليد لرؤسائه يقلدهم في نبرات أصواتهم وفي مشيتهم ويلتقط الكلمات الإنجليزية من رئيسة الإنجليزي. والويل في ذلك اليوم لراكبي الترام، فإنه يزعجهم بمثل هذه الكلمات بمناسبة وغير مناسبة . وأذكر أنه كان يستعمل هذه الكلمات وقد التقطها حديثاً “
Tremendous, extraordinary, absolutely
ولقد كان يرتاد بيوت الرقص الوطني بين حين وأخر فيأتي مسلوب العقل والوجدان معاً، ويقرر لك بكل حزم أن "فلانه" هذه أرقص بنت في السودان، وأن تلك البنت أجمل بنات العالم طراً ، ولا يمر أسبوع من هذا التاريخ إلا ويأتيك بأسماء أخرى هي أجمل البنات وأرقصهن ، وهو في كل ذلك محكوم "بالمودة" وما يقوله صحبه ورفقاؤه فهو قل أن يكون لنفسه رأياً حتى في الطعام والملبس يأكل ما يقول بعض أخوانه أنه أجود الأطعمة ويلبس ما يلبس زيد وعمر.
وحصل يوماً أن إجتمع بهاشم عرفات في المنتدى الذي يجلس فيه في عصر كل يوم هو وصحبه، وكان "هاشم عرفات" هذا شاباً كثير الإطلاع ، كثير الشك الفلسفي لا يؤمن بالأقاويل ولا يستطيب الجزم في شيء، وهنا إبتدأت صفحة جديدة من تاريخ بطلنا جلال أفندي عبد الكريم إذ كل ما أتي بجملة من جمله المحفوظة، سأله هاشم عن صحة ما يقول وعن أدلته وبراهينه، وينتهي بأن يشككله في قوله ويسخف له هذا الرأي ويفند ذلك . وصار كل ما قال رأياً سأله هاشم "هل أنت متأكد" حتى جعله يرتج في أجوبته ويشك كثيراً أو صار لا يقتنع بالقول الذي يقوله الصحاب ولكن لا بد أن يراه عملياً حتى يصدقه. وقبل أن يتفرقوا قال له هاشم "ياسي جلال أفندي خليك من فضلك ما تصدق كل حاجة، إن هذا العالم كله رياء وكذب وتدجيل" فتركت هذه الكلمات أثرها في ذهن جلال أفندي وهو يودع صحبه في تلك الليلة !
وحصل أن كان يوماً جالساً مع بعض الصحاب وفيهم من كان يدرس الكيمياء فقال هذا الكيمائي: "أتدرون أن الماء من الهواء" ؟
-لا ، لا أصدق
-ياعجباً: انه إمتزاج الهيدروجين بالأكسجين في نسب معلومة.
-كلام فارغ "برزت من جلال وتبعها منه أيضاً "هل أنت متأكد؟
كتأكدي من وجودك هنا
"واشترط الصحاب أن يذهبوا الى أقرب معمل في الخرطوم ليروا هذه العملية، ولكنه لسوء الحظ أو لحسنه، مهما حاول صحابنا الكيمائي في التحضير فقد فشلت كل مجهوداته، وأخيراً صاح به جلال أفندي: "ألم أقل لك كلام فارغ"
وأي كلام فارغ تعني؟ أن المواد لسوء الحظ ليست جيدة وهذا كلما في الأمر : وقد عملت أنا هذه العملية مئات المرات، وهي حقيقة ثابتة كوجودي ووجودك"
وأطلعه على عدة كتب فيها هذه الحقيقة ، فكان جواب جلال أفندي
أتظنني مغفلاً لهذه الدرجة ؟ إن هذا العالم كله رياء وكذب وتدجيل" وقفل راجعاً.
وجلس يوماً آخر مع بعض صحبه وكان بينهم جاد الله العربي، وهو فتى مرموق الجانب، معروف بسعة الإطلاع والفهم فقال لهم "هل تدرون أنه سوف يحصل كسوف جزئي للشمس في الغد" "هل أنت متأكد ؟" قالها صاحبنا الذي كان يؤمن قبل بكل شيء :
-أأنت عبيط. أقول لك أن في الغد سوف يحصل كسوف جزئي للشمس فتسألني هل أنت متأكد !
إن هذه الأشياء يقررها العلم ، والعلم صادق لا يداجي ولا يكذب، ويمكننا أن نعرف الدقيقة و الثانية التي سوف يحصل فيها الكسوف! ووافقة الجميع على هذا الكلام ونظروا شزراً الى جلال أفندي. وراح صاحبنا يعلن هذا الرأي وقد نسى شكه "إن في الغد سوف يحصل كسوف جزئي للشمس ! وظهرت الشمس غداً أشد ما تكون لمعاناً وضياء فلا كسوف ولا خسوف، وكلما تقدم النهار ولم تنكسف الشمس إزداد شك صاحبنا وقلقة وصار يقول لنفسة" أقول لهم هل أنتم متأكدون فيقولون يا للعبيط ، إينا الآن العبيط أنا أم هم ؟
وبعد هذه الحادثة رجع فقابل "هاشم عرفات" الرجل الذي جعله أول مرة يشك في حياته – وقص عليه قصة الكسوف المزعوم، وكيف أنه شك في حديثهم فما كان منهم إلا أن ضحكوا منه، فقال له هاشم أفندي: "أسمع ياأخي إن الأشياء لا تحصل حسب قوانين معلومة ولكنها تحصل كل يوم في حالات كثيرة متعددة، وأساس هذا العالم إنما هو "التغير والتحول" فعبثاً نحاول إستنتاج القوانين العامة التي تحكم الأشياء، وقد يظهر لنا في كثير من الأحيان أننا قد نجحنا في ضبط القوانين ومعرفة الأشياء، ولكن هذا وهم خادع . فالحياة لا يحدها قانون أو "سابقة وهي دائمة التحول والتجديد، وهي مستبدة وهي قاهرة، وربما تحصل بعض الأشياء عدة مرات، ولكن ليس معنى هذا أنها سوف تحصل دائماً. " فالتهم صاحبنا هذه العبارة وتأثر منه وأعجب به كثيراً ، وزادت نزعته الشكية من ذلك الحين كثيراً !
وكان صالح أفندي عثمان، المشهور بنكاته وألاعيبه في الأندية والمجتمعات في ليلة من الليالي يقوم ببعض الألعاب ، فجاء إلى مسألة كوب الماء إذا ما ملئت وأقفل فمها بورقة قوية أو خشبة مستديرة أو ما إليها ثم جعل سافلها عاليها لم يتدفق الماء للضغط الذي داخلها، فقاطعه جلال أفندي عبد الكريم وأنكر عليه حديثه وقال له دونك التجربة، فجربها صالح أفندي عثمان بوضعه "لكوب" الماء وهو مقلوب فوق رأسه فلم يصبه أذى، ولكن جلال أفندي لم يقتنع إذا لم يجرب العلمية بنفسه، فقام وملأ الكوب ماء ووضع الغطاء وأدارها فوق رأسه، ولكنها سالت فوق رأسه وابتل هندامه، وضحك الجميع ساخرين هازئين، فما كان منه إلا أن تناول طربوشه وقفل راجعاً الى بيته لا يلوي على شيء وهو حانق مغضب أكثر ما يكون شكاً وحنقاً على الحياة وما يقبله الناس كأنه حق لا يأتيه الباطل من خلفه أو أمامه.
ومن ذلك الحين إضطرب كيانه العصبي وصار يهيم على وجهه ويرد على كل من يسأله أو يكلمه بجملة "هل أنت متأكد" ؟ ولا يأكل ولا يشرب إلا نادراً فزاد جسمه نحولاً على نحول ، وأخيراً لزم فراشه لمدة أسبوع فارق بعدها هذا العالم. وقد كان يوم موته يوماً عاصفاً ماطراً، يكثر سحبه ويتجمع غمامه ويصبح الجو أدكن غابراً لمدة ساعة، ثم تشرق الشمس ويشع الضياء وفجاء تتجمع السحب مرة أخرى ويبرد الجو كأنما يريد أن يهطل المطر ثم لا يهطل . وقد بلغني أن آخر ما نطق به وهو على فراش الموت بعد أن سأله أهله أن يتشهد مرات ويقول "لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله " أن فتح عينه وقال لهم "هل أنتم متأكدون ؟ ثم أغمض عينه وراح في سبات عميق، وهكذا مات جلال أندي شاكاً في كل شيء بعد أن كان مؤمناً بكل شيء ؟
- قاص وباحث وصحفي وناقد أدبي سوداني يعتبر من رواد القصة في السودان.
- ولد في عام 1907 في أم درمان بالسودان من عائلة ميسورة الحال والجاه، فقد كان أبوه من الأثرياء. وكان جده لأمه محمد عثمان حاج خالد أميراً من أمراء المهدية وخاله هو الدرديري محمد عثمان، من الرعيل الأول من المتعلمين في السودان وأول سوداني يتقلد منصب قاض بالمحكمة العليا ومن رواد الحركة الوطنية في السودان والذي اختير بعد استقلال السودان عضواً في مجلس السيادة. وقد تربى معاوية في كنف خاله هذا بعد وفات والده، وهو صغيرا في العاشرة من عمره .
تعليمه
- بدأ تعليمه في الخلوة حيث درس مباديء القراءة والكتابة وحفظ بعض آيات القرآن الكريم ثم انتقل إلى مدرسة أم درمان الأولية ومنها إلى المدرسة الوسطى وبعد اجتيازه امتحان الدخول بتفوق اختير للدراسة الثانوية في كلية غوردون (جامعة الخرطوم حاليا) ، ثم الدراسة الجامعية في الكلية نفسها حيث دخل كلية الطب عام 1927 ومع ذلك كانت ميوله الأدبية تطفو جلية على السطح فأخذ يكتب العديد المقالات والتراجم من الأدب الإنجليزي في الصحف والمجلات بالسودان ومن ضمنها جريدة الحضارة السودانية تحت اسم مستعار هو «مطالع». وبعد عامين من دراسة الطب سافر إلى مصر ، إلا أنه أعيد منها بناء على طلب من خاله باعتباره لا يزال صغيرا. وتحت الحاحه سمح له خاله الإلتحاق بكلية الآداب التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت.
واثناء إقامته ببيروت كان معاوية يراسل الصحف والمجلات المصرية مثل «مجلة المقتطف» و «الهلال» و «الرسالة» و «البلاغ الأسبوعي» و «جريدة مصر» وغيرها ويبعث إليها مقالاته الأدبية ودراساته النقدية والاجتماعية والفلسفية وبعض قصصه وبدا من خلال ما كتبه تأثره العميق بأميل زولا و برناردشو و تولستوي و دستويفسكي وهيمنغواي وتشيكوف و ميلتون وشكسبير و هيكل والعقاد.
انتقل معاوية إلى القاهرة بمصر ليعمل بالصحافة وعين محرراً بجريدة مصر ومشرفاً على صفحاتها الأدبية والتي تضمنت الكثير من مقالاته وأبحاثه وقصصه. وتعرف هناك على الأديب المصري الشهير عباس محمود العقاد
كان معاوية يطبق في كتاباته القواعد الغربية في النقد الأمر الذي أكسبه شهرة واسعة إلى أن ساهم في تأسيس لنقد الغربي في كل عمل أدبي تناوله، وكان غزيراً في إنتاجهالذي شمل مختلف ضروب القصة والشعر والمسرحيات. وقد تميز أسلوبه في النقد بالتجرد والموضوعية وعرف عنه تناوله أعمال كبار الأدباء بالجرأة نفسها التي تناول بها أعمال الناشئة من الكتاب. فانتقد أعمال كتاب أمثال سلامة موسى و إبراهيم المازني ووصفها بأن فيها تكلف وصناعة وعاب على سلامة موسى عدم الحزم والنهائية في كتاباته النفسية. وإلى جانب النقد كتب معاوية القصة الطويلة والسيرة ووترجم الكتب. وتميزت كل كتاباته بالواقعية، تحتل قصص معاوية ودراسته موقع الريادة والصدارة في الأدب السوداني ويرى القاص والناقد "مختار عجوبة" أن (معاوية هو أول من كتب قصة قصيرة مكتملة من الناحية الفنية)ومن أعماله في هذا المجال:
ابن عمه، وهي أول قصة نُشرت له وذلك في صحيفة السياسة الأسبوعية في مايو / أيار 1930م.
إيمان، ونشرت في السياسة الأسبوعية في 13 سبتمبر / أيلول 1930 وهي قصة احتوت على نبوءة مبكرة لمصيره الشخصي حيث انتهى معاوية نفسه إلى النهاية ذاتهاالتي إنتهى إليها بطل القصة بعد حوالي إحدى عشر عاما من كتابتها.
في القطار، التي نشرت في نوفمبر / تشرين الثاني 1930
المكان، ونشرت في جريدة مصر في نوفمبر / تشرين الثاني 1931
الموت والقصر. نُشرت بجريدة مصر في يناير / كانون الثاني 1932.
***
إيمان - قصة قصيرة
نعم أعرفه، أليس هو ذلك الشاب الكث الشعر، النحيل الجسم، الطويل الأنف الذي يعني بهندامه ويضع طربوشه قريباً من حاجبيه، وهو جالس دائماً في تلك الزاوية، ينظر بإمعان للأعبي الطاولة فاتحاً فاه طيلة الوقت يلتهم حديث المتكلمين والمتحدثين إلتهاماً من غير مضغ ؟.
-لقد مات ياسيدي بعد أن إعتراه مس من الجنون لم يطل أمده لأنه ترك الأكل إلا لماما، وصار هائماً على وجهه في الشوارع والطرقات العامة، لا يثنيه حر ولا برد من ذلك.
-وأي سبب أدى به الى الجنون فالموت ، فلقد شاهدته منذ زمن ليس بالبعيد يلعب الطاولة وبدأ مبتهجاً وهو على خير ما يكون إنسان.
لقد كان جلال أفندي عبد الكريم أيها الأخ، شاباً سمح الخلق طيب الخاطر، كله نعومة وإطمئنان وطيبة قلب، يستمع بشغف لأحاديث المتكلمين حوله في المكتب والترام والمنتديات العامة، ثم يأخذ بعض هذه الأراء التي تروق عنده، وهو أكثر ما يكون تأثراً إذا كان صاحب الحديث قوي الحجة، قوي الشخصية يتكلم بكل حزم وتأكيد، يأخذ هذه الأراء فيعيدها على صحبه وكأنما هي له والحديث من بنات أفكاره لشدة ما يتعصب لها ويذود عنها.
وأذكر أنه كان في وقت من الأوقات كثير التلفظ بهذه العبارة وقد سمعها من جلال الدين أفندي "إن الرأسماليين عندنا هم رأس كل بلية في هذا الضعف الإقتصادي، وهم الدود الذي ينخر في عظام هذه الأمة" ! كما أنني أذكر أنه قد ترك هذه الجملة في وقت من الأوقات ومسك أخرى سمعت أنه سمعها من نور الدين أفندي عن أغانينا القومية"إنني لا أنكر على أغانينا بعض الحلاوة المخنثة والميلودية الباكية الشاكية، ولكنها طنبورة هزيلة وأغان مملة لا تضرب على أوتار النفس الشاعرة، وإنما وترها واحد هزيل لا يحث على الجد ولا يدعو الى النشاط والحياة الهنيئة" .
وأنت تراه وتسمعه يقول هذا الكلام بكل كبرياء ذهني واقتناع وعظمة ! وجلس في يوم من الأيام مع جماعة من بينهم حسين أفندي حسني الذي كان يطلب العلم في القاهرة، فأراد صاحبنا أن يظهر علمه ولوذعيته ، فأدار الحديث لذلك الغرض خاصة حتى إذا ما جاء الحديث عن الأغاني السودانية قال قولته هذه في شيء من الإقتناع والفهم المصطنع، وراح يدخن سيجارته بعد أن أتم حديث وينظر في الفضاء بكل إدعاء في التفكير والتأمل كما يفعل "خير الله الماوردي" بالضبط. وأخيراً نطق حسين أفندي حسني وقال بعد أن تكلم عن عبقرية الأمم والأغاني القومية المختلفة: "وإن الذين يقلدون الأفرنج في كل شيء ويحاولون أن يلبسونا ثياباً لم تخط لأجسامنا ليشتطون ويهرفون بما لا يعرفون، فكيف يريدوننا على أن نستبدل شعورنا الشرقي البسيط بالشعور الغربي، والأغاني شعور وهي شعورنا .
زد على ذلك أن من يعلم حالة هذا الشعب وتاريخه يعرف تمام المعرفة لم كانت أغانينا على هذه الوتيرة الباكية . وأن "السايكلوجي" الإجتماعي ليقرر صحة ما أذهب إليه. وخير لنا أن نحاول تحسين أغانينا على هذا النسق من أن نفقد روحها وعنصرها فإن روحها لهو روحنا وعنصرها لهو عنصرنا، وعبثاً محاولة تغيير الروح والعنصر" ! فأعجبت هذه الجملة صاحبنا جلال أفندي وحفظها لساعتها بعد أن إقتنع بصحتها وترك قولته القديمة في الأغاني.
وهذه ولا شك تظهر له أكثر عمقاً وعلماً ولوذعية من الأولى. ولقد كان قوي الذاكرة، ويكفيه أن يسمع مثل هذه الجملة مرة واحدة فيلتهمها إلتهاماً ويحفظها عن ظهر قلب، ولو أنه في بعض الأحيان ينسى كلمة أو كلمتين فيتغير المعني المطلوب تماماً.
وصار منذ ذلك اليوم يردد هذه الجملة في المكتب والبيت والمنتدى ، وهكذا كان صاحبنا – رحمه الله - شديد التأثر يصدق كل ما يقال أمامه بحزم وصوت مرتفع. وكان في حفظه كعدسة "الفوتوغرافيا" يلتقط الأفكار لأول وهلة ويرددها كأنها من بنات أفكاره من غير أن يشعر بأقل غضاضة أو فقر ذهني .
ومع كل هذا فقد كانت الناس تحبه وتستظرفه لما فطر عليه من مراحة الطبع والدعابة والخفة. وهو إذا ذهب الى مكتبه وكلم بعض إخوانه في المكتب عن المسائل العامة فلم يأبهوا له، بادرهم بهذه الجملة التي سمعها من "الباشكاتب" على أفندي رحمه الله "إن حياة الموظف عندنا لهي حياة مملة سخيفة. وما أشبهكم بالالآت الميكانيكية تؤدي واجبها الآلي ثم يشيع فيها الصدأ فتبلى وتتحطم " كما أنه كان كثير التقليد لرؤسائه يقلدهم في نبرات أصواتهم وفي مشيتهم ويلتقط الكلمات الإنجليزية من رئيسة الإنجليزي. والويل في ذلك اليوم لراكبي الترام، فإنه يزعجهم بمثل هذه الكلمات بمناسبة وغير مناسبة . وأذكر أنه كان يستعمل هذه الكلمات وقد التقطها حديثاً “
Tremendous, extraordinary, absolutely
ولقد كان يرتاد بيوت الرقص الوطني بين حين وأخر فيأتي مسلوب العقل والوجدان معاً، ويقرر لك بكل حزم أن "فلانه" هذه أرقص بنت في السودان، وأن تلك البنت أجمل بنات العالم طراً ، ولا يمر أسبوع من هذا التاريخ إلا ويأتيك بأسماء أخرى هي أجمل البنات وأرقصهن ، وهو في كل ذلك محكوم "بالمودة" وما يقوله صحبه ورفقاؤه فهو قل أن يكون لنفسه رأياً حتى في الطعام والملبس يأكل ما يقول بعض أخوانه أنه أجود الأطعمة ويلبس ما يلبس زيد وعمر.
وحصل يوماً أن إجتمع بهاشم عرفات في المنتدى الذي يجلس فيه في عصر كل يوم هو وصحبه، وكان "هاشم عرفات" هذا شاباً كثير الإطلاع ، كثير الشك الفلسفي لا يؤمن بالأقاويل ولا يستطيب الجزم في شيء، وهنا إبتدأت صفحة جديدة من تاريخ بطلنا جلال أفندي عبد الكريم إذ كل ما أتي بجملة من جمله المحفوظة، سأله هاشم عن صحة ما يقول وعن أدلته وبراهينه، وينتهي بأن يشككله في قوله ويسخف له هذا الرأي ويفند ذلك . وصار كل ما قال رأياً سأله هاشم "هل أنت متأكد" حتى جعله يرتج في أجوبته ويشك كثيراً أو صار لا يقتنع بالقول الذي يقوله الصحاب ولكن لا بد أن يراه عملياً حتى يصدقه. وقبل أن يتفرقوا قال له هاشم "ياسي جلال أفندي خليك من فضلك ما تصدق كل حاجة، إن هذا العالم كله رياء وكذب وتدجيل" فتركت هذه الكلمات أثرها في ذهن جلال أفندي وهو يودع صحبه في تلك الليلة !
وحصل أن كان يوماً جالساً مع بعض الصحاب وفيهم من كان يدرس الكيمياء فقال هذا الكيمائي: "أتدرون أن الماء من الهواء" ؟
-لا ، لا أصدق
-ياعجباً: انه إمتزاج الهيدروجين بالأكسجين في نسب معلومة.
-كلام فارغ "برزت من جلال وتبعها منه أيضاً "هل أنت متأكد؟
كتأكدي من وجودك هنا
"واشترط الصحاب أن يذهبوا الى أقرب معمل في الخرطوم ليروا هذه العملية، ولكنه لسوء الحظ أو لحسنه، مهما حاول صحابنا الكيمائي في التحضير فقد فشلت كل مجهوداته، وأخيراً صاح به جلال أفندي: "ألم أقل لك كلام فارغ"
وأي كلام فارغ تعني؟ أن المواد لسوء الحظ ليست جيدة وهذا كلما في الأمر : وقد عملت أنا هذه العملية مئات المرات، وهي حقيقة ثابتة كوجودي ووجودك"
وأطلعه على عدة كتب فيها هذه الحقيقة ، فكان جواب جلال أفندي
أتظنني مغفلاً لهذه الدرجة ؟ إن هذا العالم كله رياء وكذب وتدجيل" وقفل راجعاً.
وجلس يوماً آخر مع بعض صحبه وكان بينهم جاد الله العربي، وهو فتى مرموق الجانب، معروف بسعة الإطلاع والفهم فقال لهم "هل تدرون أنه سوف يحصل كسوف جزئي للشمس في الغد" "هل أنت متأكد ؟" قالها صاحبنا الذي كان يؤمن قبل بكل شيء :
-أأنت عبيط. أقول لك أن في الغد سوف يحصل كسوف جزئي للشمس فتسألني هل أنت متأكد !
إن هذه الأشياء يقررها العلم ، والعلم صادق لا يداجي ولا يكذب، ويمكننا أن نعرف الدقيقة و الثانية التي سوف يحصل فيها الكسوف! ووافقة الجميع على هذا الكلام ونظروا شزراً الى جلال أفندي. وراح صاحبنا يعلن هذا الرأي وقد نسى شكه "إن في الغد سوف يحصل كسوف جزئي للشمس ! وظهرت الشمس غداً أشد ما تكون لمعاناً وضياء فلا كسوف ولا خسوف، وكلما تقدم النهار ولم تنكسف الشمس إزداد شك صاحبنا وقلقة وصار يقول لنفسة" أقول لهم هل أنتم متأكدون فيقولون يا للعبيط ، إينا الآن العبيط أنا أم هم ؟
وبعد هذه الحادثة رجع فقابل "هاشم عرفات" الرجل الذي جعله أول مرة يشك في حياته – وقص عليه قصة الكسوف المزعوم، وكيف أنه شك في حديثهم فما كان منهم إلا أن ضحكوا منه، فقال له هاشم أفندي: "أسمع ياأخي إن الأشياء لا تحصل حسب قوانين معلومة ولكنها تحصل كل يوم في حالات كثيرة متعددة، وأساس هذا العالم إنما هو "التغير والتحول" فعبثاً نحاول إستنتاج القوانين العامة التي تحكم الأشياء، وقد يظهر لنا في كثير من الأحيان أننا قد نجحنا في ضبط القوانين ومعرفة الأشياء، ولكن هذا وهم خادع . فالحياة لا يحدها قانون أو "سابقة وهي دائمة التحول والتجديد، وهي مستبدة وهي قاهرة، وربما تحصل بعض الأشياء عدة مرات، ولكن ليس معنى هذا أنها سوف تحصل دائماً. " فالتهم صاحبنا هذه العبارة وتأثر منه وأعجب به كثيراً ، وزادت نزعته الشكية من ذلك الحين كثيراً !
وكان صالح أفندي عثمان، المشهور بنكاته وألاعيبه في الأندية والمجتمعات في ليلة من الليالي يقوم ببعض الألعاب ، فجاء إلى مسألة كوب الماء إذا ما ملئت وأقفل فمها بورقة قوية أو خشبة مستديرة أو ما إليها ثم جعل سافلها عاليها لم يتدفق الماء للضغط الذي داخلها، فقاطعه جلال أفندي عبد الكريم وأنكر عليه حديثه وقال له دونك التجربة، فجربها صالح أفندي عثمان بوضعه "لكوب" الماء وهو مقلوب فوق رأسه فلم يصبه أذى، ولكن جلال أفندي لم يقتنع إذا لم يجرب العلمية بنفسه، فقام وملأ الكوب ماء ووضع الغطاء وأدارها فوق رأسه، ولكنها سالت فوق رأسه وابتل هندامه، وضحك الجميع ساخرين هازئين، فما كان منه إلا أن تناول طربوشه وقفل راجعاً الى بيته لا يلوي على شيء وهو حانق مغضب أكثر ما يكون شكاً وحنقاً على الحياة وما يقبله الناس كأنه حق لا يأتيه الباطل من خلفه أو أمامه.
ومن ذلك الحين إضطرب كيانه العصبي وصار يهيم على وجهه ويرد على كل من يسأله أو يكلمه بجملة "هل أنت متأكد" ؟ ولا يأكل ولا يشرب إلا نادراً فزاد جسمه نحولاً على نحول ، وأخيراً لزم فراشه لمدة أسبوع فارق بعدها هذا العالم. وقد كان يوم موته يوماً عاصفاً ماطراً، يكثر سحبه ويتجمع غمامه ويصبح الجو أدكن غابراً لمدة ساعة، ثم تشرق الشمس ويشع الضياء وفجاء تتجمع السحب مرة أخرى ويبرد الجو كأنما يريد أن يهطل المطر ثم لا يهطل . وقد بلغني أن آخر ما نطق به وهو على فراش الموت بعد أن سأله أهله أن يتشهد مرات ويقول "لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله " أن فتح عينه وقال لهم "هل أنتم متأكدون ؟ ثم أغمض عينه وراح في سبات عميق، وهكذا مات جلال أندي شاكاً في كل شيء بعد أن كان مؤمناً بكل شيء ؟