4-
أول ما يسترعي النظر من خصائص التشبيه في القرآن أنه يستمد عناصره من الطبيعة، وذلك هو سر خلوده، فهو باق ما بقيت هذه الطبيعة، وسر عمومه للناس جميعاً، يؤثر فهم لأنهم يدركون عناصر، ويرونها قريبة منهم وبين أيديهم، فلا تجد في القرآن تشبهاً مصنوعاً يدرك جماله فرد دون آخر، ويتأثر به إنسان دون إنسان، فليس فيه هذه التشبيهات المحلية الضيقة مثل تشبيه أبن المعتز:
كأن آذريونها ... والشمس فيه كالية
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية
مما لا يستطيع أن يفهمه على وجه، ويعرف سر حسنه، إلا من كان يعيش في مثل حياة أبن المعتز، وله من أدوات الترف مثل أدواته.
تشبيهات القرآن تستمد عناصرها من الطبيعة. أنظر إليه يجد في السراب وهو ظاهرة طبيعية يراها الناس جميعاً، فيغرهم مرآها، ويمضون إلى السراب يظنونه ماء، فيسعون إليه، يريدون أن يطفئوا حرارة ظمئهم، ولكنهم لا يلبثون أن تملأ الخيبة قلوبهم، حينما يصلون إليه بعد جهد جهيد، فلا يجدون شيئاً مما كانوا يؤملون. أنه يجد في هذا السراب صورة قوية توضح أعمال الكفرة، تظن مجدية نافعة، وما هي بشيء، فيقول: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
ويجد في الحجارة تنبو على الجس ولا تلين، ويشعر عندها المرء بالنبو والجسوة، يجد فيها المثال الملموس لقسوة القلوب، وبعدها عن أن تلين لجلال الحق، وقوة منطق الصدق، فيقول: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو اشد قسوة) أولا نرى أن القسوة عندما تخطر بالذهن، يخطر إلى جوارها الحجارة الجاسية القاسية؟
ويجد في هذا الذي يعالج سكرات الموت، فتدور عينه حول عواده في نظرات شاردة تائهة، صورة تخطر بالذهن لدى رؤية هؤلاء الخائفين الفزعين من المضي إلى القتال وأخذهم بنصيب من أعباء الجهاد، فيقول: (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم: هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلاً، أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت).
ويحد في الزرع وقد نبت ضئيلا ضعيفاً ثم لا يلبث ساقه أن يقوى، بما ينبت حوله من البراعم، فيشتد بها ساعده، ويغلط، حتى يصبح بهجة الزارع وموضع إعجابه، يجد في ذلك صورة شديدة المجاورة لصورة أصحاب محمد، فقد بدءوا قلة ضعافاً ثم أخذوا في الكثرة والنماء، حتى اشتد ساعدهم، وقوى عضدهم، وصاروا قوة تملأ قلب محمد بهجة، وقلب الكفار حقدا وغيظاً، فقال: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم،. . . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) ويجد في أعجاز النخل المنقعر المقتلع عن مغرسه، وفي الهشيم الضعيف الذواي، صورة قريبة من صور هؤلاء الصرعى، قد أرسلت عليهم ريح صرصر تنزعهم عن أماكنهم فألقوا على الأرض مصرعين هنا وهناك، فيقول: (إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، تنزع الناس، كأنهم أعجاز نخل منقعر) ويقول: (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة، فكانوا كهشم المحتظر).
فأنت في هذا تراه يتخذ الطبيعة ميداناً يقتبس منها صور تشبيهاته، من نباتها وحيوانها وجمادها، فما اتخذ مشبها به من نبات الأرض العرجون، وأعجاز النخل، والعصف المأكول، والشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، والحبة تنبت سبع سنابل، وهشيم المحتضر، والزرع الذي أخرج شطأه، ومما اتخذ مشبها به من حيوانها الإنسان في أحوال مختلفة والعنكبوت والحمار، والكلب، والفراش، والجراد، والجمال، والأنعام. ومما اتخذ مشبها به من جمادها العهن المنفوش، والصيب، والجبال، والحجارة، والرماد، والياقوت، والمرجان، والخشب. ومن ذلك ترى أن القرآن لا يعني بنفاسة المشبه به، وإنما يعني العناية كلها باقتراب الصورتين في النفس، وشدة وضوحها وتأثيرها.
هذا ولا يعكر على ما ذكرناه من استمداد القرآن عناصر التشبيه من الطبيعة ما جاء فيه من تشبيه نور الله بمبصاح وصفه بأنه في زجاجة كأنها كوكب دري، لأن هذا المصباح قد تغير وتحول؛ فإن المراد تشبيه نور الله بالمصباح القوي، والمصباح باق ما بقي الإنسان في حاجة إلى نور يبدد به ظلام الليل.
ومن خصائص التشبيه القرآني، أنه ليس عنصراً إضافياً في الجملة، ولكنه جزء أساسي لا يتم المعنى بدونه، وإذا سقط من الجملة انهار المعنى من أساسه، فعمله في الجملة أنه يعطي الفكرة في صورة واضحة مؤثرة، فهو لا يمضي إلى التشبيه كأنما هو عمل مقصود لذاته، ولكن التشبيه يأتي ضرورة في الجملة، يتطلبه المعنى ليصبح واضحاً قويا، وتأمل قوله تعالي: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)، تجد فكرة عدم سماعهم الحق وأنهم لا ينطقون به، ولا ينظرون إلى الأدلة التي تهدي إليه، إنما نقلها إليك التشبيه في صورة قوية مؤثرة، كما تدرك شدة الفزع والرهبة التي ألمت بهؤلاء الذين دعوا إلى الجهاد، فلم يدفعهم إيمانهم إليه في رضا وتسليم، بل ملأ الخوف نفوسهم من أن يكون الموت مصيرهم، تدرك ذلك من قوله سبحانه (يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون). وتفهم اضطراب المرأة وقلقها، وعدم استقرارها على حال، حتى لتصبح حياتها مليئة بالتعب والعناء - من قوله سبحانه: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل، فتذروها كالمعلقة). وتفهم مدى حب المشركين لآلهتهم من قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله). وهكذا تجد للتشبيه مكانه في نقل الفكرة وتصويرها، وقل أن يأتي التشبيه في القرآن بعد أن تتضح الفكرة نوع وضوح كما في قوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) وإذا أنت تدبرت أسلوب الآية الكريمة وجدت هذا التعبير أقوى من أن يقال: وإذ صار الجبل كأنه ظلة لما في كلمة نتق من تصوير أن انتزع الجبل من الأرض تصويراً يوحي إلى النفس بالرهبة والفزع، ولما في كلمة فوقهم من زيادة هذا التصوير المفزع وتأكيده في النفس، وذلك كله يمهد للتشبيه خير تمهيد، حتى إذا جاء مكن للصورة في النفس، ووطد من أركانها. ومع ذلك ليس التشبيه في الآية عملاً إضافياً بل فيه إتمام المعنى وإكماله، فهو يوحي بالإحاطة بهم، وشمولهم، والقرب منهم قرب الظلة من المستظل بها، وفي ذلك ما يوحي بخوف سقوطه عليهم.
ومن خصائص التشبيه القرآني دقته، فهو يصف ويقيد حتى تصبح الصورة دقيقة واضحة أخاذة، وخذ مثلاً لذلك قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) فقد يتراءى أنه يكفي في التشبيه أن يقال: مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل، ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقاً والتحاماً حين يقرن بين هؤلاء وقد حملوا التوراة، فلم ينتفعوا بما فيها وبين الحمار يحمل أسفار العلم ولا يدري مما ضمته شيئاً، فتمام الصورتين يأتي من هذا القيد الذي جعل الصلة بينهما قوية وثيقة.
وقوله تعالى: (فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) فربما بدا أنه يكفي في تصوير إعراضهم بأنهم كالحمير، ولكنه في دقته لا يكتفي بذلك، فهو يريد أن يصور نفرتهم من الدعوة، وإسراعهم في إبعاد أنفسهم عنها، إسراعاً يمضون فيه على غير هدى، فوصف الحمر بأنها مستنفرة تحمل نفسها على الهرب وتحثها عليه يزيد في هربها وفرارها أسد هصور يجري خلفها، فهي تتفرق في كل مكان، وتجري غير مهتدية في جريها , أو لا ترى في صورة هذه الحمر وهي تجد في هربها لا تلوي على شيء تبغي الفرار من أسد يجري وراءها، ما ينقل إليك صورة هؤلاء القوم معرضين عن التذكرة فارين أمام الدعوة لا يلوون على شيء، سائرين على غير هدى، ثم ألا تبعث فيك هذه الصورة الهزء بهم والسخرية؟.
ومن ذلك وصفه الخشب بأنها مسندة في قوله تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة) فهي ليست خشباً قائمة في أشجارها لما قد يكون لها من جمال في ذلك الوضع، وليست موضوعة في جدار، لأنها حينئذ تؤدي عملاً، وتشعر بمدى فائدتها، وليست متخذاً منها أبواب ونوافذ لما فيها من الحسن والزخرف والجمال، ولكنها خشب مسندة قد خلت من الجمال، وتوحي بالغفلة والاستسلام والبلاهة.
ولم يكتف في تشبيه الجبال يوم القيامة بالعهن، بل وصفه بالمنفوش إذ قال: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش)، للدقة في تصوير هشاشة الجبال، كما لم يكتف في تشبيه الناس يخرجون يوم القيامة بأنهم كالجراد بل وصفه بالمنتشر، فقال: (يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر)، حتى يكون دقيقاً في تصوير هذه الجموع الحاشدة خارجة من أجداثها منتشرة في كل مكان تملأ الأفق، ولا يتم هذا التصوير إلا بهذا الوصف الكاشف.
ومن خصائص التشبيه القرآني المقدرة الفائقة في اختياره ألفاظه الدقيقة المصورة الموحية، تجد ذلك في كل تشبيه قرآني، وحسبي أن أشير هنا إلى بعض أمثلة هذا الاختيار.
نجد القرآن قد شبه بالجبال في موضعين فقال: (وهي تجري بهم في موج كالجبال)، وقال: (ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام) ولكنك تراه قد آثر كلمة الجبال عند الموج لما أنها توحي بالضخامة والجلال معاً، أما عند وصف السفن فقد آثر كلمة الأعلام جمع علم بمعنى جبل؛ وسر إيثارها هو أن الكلمة المشتركة بين عدة معان تتداعى هذه المعاني عند ذكر هذه الكلمة، ولما كان من معاني العلم، الراية التي تستخدم للزينة والتجميل، كان ذكر الأعلام محضراً إلى النفس هذا المعنى، إلى جانب إحضارها صورة الجبال، وكان إثارة هذا الخاطر ملحوظاً عند ذكر السفن الجارية فوق البحر، تزين سطحه، فكأنما أريد الإشارة إلى جلالها وجمالها معاً، وفي كلمة الأعلام وفاء بتأدية هذا المعنى أدق وفاء. وشبه القرآن الموج في موضعين، فقال: (وهي تجري بهم في موج كالجبال) وقال: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) وسر هذا التنويع أن الهدف في الآية يرمي إلى تصوير الموج عالياً ضخماً مما تستطيع كلمة الجبال أن توحي به إلى النفس، أما الآية الثانية فتصف قوماً يذكرون الله عند الشدة وينسونه لدى الرخاء، ويصف موقفاً من مواقفهم كانوا فيه خائفين مرتاعين، يركبون سفينة تتقاذفهم الأمواج، ألا ترى أن الموج يكون أشد إرهاباً وأقوى تخويفاً، إذا هو ارتفع حتى ظلل الرءوس، هنالك يملأ الخوف القلوب، وتذهل الرهبة النفوس، وتبلغ القلوب الحناجر، وفي تلك اللحظة يدعون الله مخلصين له الدين، فلما كان المقام مقام رهبة وخوف، كان وصف الموج بأنه كالظلل أدق في تصوير هذا المقام وأصدق. وعلى طريقة إيثار كلمة الأعلام على الجبال التي تحدثنا عنها آثر كلمة القصر على الشجر الضخم، لأن الاشتراك في هذه الكلمة بين هذا المعنى، ومعنى البيت الضخم يثير المعنيين في النفس معا فتزيد الفكرة عن ضخامة الشراء رسوخاً في النفس. وآثر القرآن كلمة (بنيان) في قوله سبحانه: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) لما تثيره في النفس من معنى الالتحام والاتصال والاجتماع القوي وغير ذلك من معان ترتبط بما ذكرناه، مما لا يثار في النفس عند كلمة حائط أو جدار مثلاً.
واختار القرآن كلمة (لباس)، في قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن)، لما توحي به تلك الكلمة من شدة الاحتياج كاحتياج المرء للباس، يكون مصدر راحة وعنوان زينة معاً.
ومن مميزات التشبيه القرآني أيضاً أن المشبه قد يكون واحداً ويشبه بأمرين أو أكثر، لمحا صلة تربط بين هذا الأمر وما يشبهه، تثبيتاً للفكرة في النفس، أو لمحا لها من عدة زوايا، ومن ذلك مثلاً تصوير حيرة المنافقين واضطراب أمرهم، فإن هذه الحيرة يشتد تصورها لدى النفس إذا هي استحضرت صورة هذا الساري قد أوقد ناراً تضئ طريقة فعرف أين يمشي ثم لم يلبث أن ذهب الضوء، وشمل المكان ظلام دامس، لا يدري السائر فيه أين يضع قدمه، ولا كيف يأخذ سبيله، فهو يتخبط ولا يمشي خطوة حتى يرتد خطوات. أو إذا استحضرت صورة هذا السائر تحت صيب من المطر قد صحبه ظلمات ورعد وبرق، أما الرعد فمتناه في الشدة إلى درجة أنه يود انقاءه بوضع أصابعه إذا استطاع في أذنه؛ وأما البرق فيكاد يخطف البصر، وأما الظلمات المتراكمة فتحول بين السائر وبين الاهتداء إلى السبيل. وتجد تعدد هذا التشبه في قوله سبحانه: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً. . . أو كصيب من السماء. . .). ومن النظر إلى الفكرة من عدة زوايا أنه حينا ينظر إلى أعمال الكافرين من ناحية أنها لا أثر لها ولا نتيجة فيرد إلى الذهن حينئذ هذا الرماد الدقيق لا يقوى على البقاء أمام ريح شديدة لا تهدأ لأنها في يوم عاصف، ألا ترى هذه الريح كفيلة بتبديد ذرات هذا الغبار شذر مذر، وأنها لا تبقي عليه ولا تذر، وكذلك أعمال الكافرين، لا تلبث أن تهب عليها ريح الكفر حتى تبددها ولا تبقي عليها، وللتعبير عن ذلك جاء قوله سبحانه: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد). وحيناً ينظر إليها من ناحية أنها تغر أصحابها فيظنونها نافعة لهم، مجدية عليهم، حتى إذا جاءوا يوم القيامة لم يجدوا شيئاً، ألا ترى في السراب هذا الأمل المطمع ذا النهاية المؤيسة ولأداء هذا المعنى قال تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا). وحينا ينظر إليها من ناحية ما يلم بصاحبها من اضطراب وفزع، عندما يجد آماله في أعماله قد انهارت. ألا تظلم الدنيا أمام عينيه ويتزلزل كيانه ويصبح كهذا الذي اكتنفه الظلام في بحر قد تلاطمت أمواجه، وأطبقت ظلمة السحاب على ظلمة الأمواج؟ ألا يشعر هذا الرجل بمصيره اليائس، وهلاكه المحتوم؟ ألا يصور لك ذلك صورة هؤلاء الكفار عندما يجيئون إلى أعمالهم، فلا يجدون لها ثواباً ولا نفعا، ولتصوير ذلك جاء قوله سبحانه: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج، من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
للكلام بقية
أحمد أحمد بدوي
04 - 12 - 1950
أول ما يسترعي النظر من خصائص التشبيه في القرآن أنه يستمد عناصره من الطبيعة، وذلك هو سر خلوده، فهو باق ما بقيت هذه الطبيعة، وسر عمومه للناس جميعاً، يؤثر فهم لأنهم يدركون عناصر، ويرونها قريبة منهم وبين أيديهم، فلا تجد في القرآن تشبهاً مصنوعاً يدرك جماله فرد دون آخر، ويتأثر به إنسان دون إنسان، فليس فيه هذه التشبيهات المحلية الضيقة مثل تشبيه أبن المعتز:
كأن آذريونها ... والشمس فيه كالية
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية
مما لا يستطيع أن يفهمه على وجه، ويعرف سر حسنه، إلا من كان يعيش في مثل حياة أبن المعتز، وله من أدوات الترف مثل أدواته.
تشبيهات القرآن تستمد عناصرها من الطبيعة. أنظر إليه يجد في السراب وهو ظاهرة طبيعية يراها الناس جميعاً، فيغرهم مرآها، ويمضون إلى السراب يظنونه ماء، فيسعون إليه، يريدون أن يطفئوا حرارة ظمئهم، ولكنهم لا يلبثون أن تملأ الخيبة قلوبهم، حينما يصلون إليه بعد جهد جهيد، فلا يجدون شيئاً مما كانوا يؤملون. أنه يجد في هذا السراب صورة قوية توضح أعمال الكفرة، تظن مجدية نافعة، وما هي بشيء، فيقول: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
ويجد في الحجارة تنبو على الجس ولا تلين، ويشعر عندها المرء بالنبو والجسوة، يجد فيها المثال الملموس لقسوة القلوب، وبعدها عن أن تلين لجلال الحق، وقوة منطق الصدق، فيقول: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو اشد قسوة) أولا نرى أن القسوة عندما تخطر بالذهن، يخطر إلى جوارها الحجارة الجاسية القاسية؟
ويجد في هذا الذي يعالج سكرات الموت، فتدور عينه حول عواده في نظرات شاردة تائهة، صورة تخطر بالذهن لدى رؤية هؤلاء الخائفين الفزعين من المضي إلى القتال وأخذهم بنصيب من أعباء الجهاد، فيقول: (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم: هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلاً، أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت).
ويحد في الزرع وقد نبت ضئيلا ضعيفاً ثم لا يلبث ساقه أن يقوى، بما ينبت حوله من البراعم، فيشتد بها ساعده، ويغلط، حتى يصبح بهجة الزارع وموضع إعجابه، يجد في ذلك صورة شديدة المجاورة لصورة أصحاب محمد، فقد بدءوا قلة ضعافاً ثم أخذوا في الكثرة والنماء، حتى اشتد ساعدهم، وقوى عضدهم، وصاروا قوة تملأ قلب محمد بهجة، وقلب الكفار حقدا وغيظاً، فقال: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم،. . . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) ويجد في أعجاز النخل المنقعر المقتلع عن مغرسه، وفي الهشيم الضعيف الذواي، صورة قريبة من صور هؤلاء الصرعى، قد أرسلت عليهم ريح صرصر تنزعهم عن أماكنهم فألقوا على الأرض مصرعين هنا وهناك، فيقول: (إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، تنزع الناس، كأنهم أعجاز نخل منقعر) ويقول: (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة، فكانوا كهشم المحتظر).
فأنت في هذا تراه يتخذ الطبيعة ميداناً يقتبس منها صور تشبيهاته، من نباتها وحيوانها وجمادها، فما اتخذ مشبها به من نبات الأرض العرجون، وأعجاز النخل، والعصف المأكول، والشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، والحبة تنبت سبع سنابل، وهشيم المحتضر، والزرع الذي أخرج شطأه، ومما اتخذ مشبها به من حيوانها الإنسان في أحوال مختلفة والعنكبوت والحمار، والكلب، والفراش، والجراد، والجمال، والأنعام. ومما اتخذ مشبها به من جمادها العهن المنفوش، والصيب، والجبال، والحجارة، والرماد، والياقوت، والمرجان، والخشب. ومن ذلك ترى أن القرآن لا يعني بنفاسة المشبه به، وإنما يعني العناية كلها باقتراب الصورتين في النفس، وشدة وضوحها وتأثيرها.
هذا ولا يعكر على ما ذكرناه من استمداد القرآن عناصر التشبيه من الطبيعة ما جاء فيه من تشبيه نور الله بمبصاح وصفه بأنه في زجاجة كأنها كوكب دري، لأن هذا المصباح قد تغير وتحول؛ فإن المراد تشبيه نور الله بالمصباح القوي، والمصباح باق ما بقي الإنسان في حاجة إلى نور يبدد به ظلام الليل.
ومن خصائص التشبيه القرآني، أنه ليس عنصراً إضافياً في الجملة، ولكنه جزء أساسي لا يتم المعنى بدونه، وإذا سقط من الجملة انهار المعنى من أساسه، فعمله في الجملة أنه يعطي الفكرة في صورة واضحة مؤثرة، فهو لا يمضي إلى التشبيه كأنما هو عمل مقصود لذاته، ولكن التشبيه يأتي ضرورة في الجملة، يتطلبه المعنى ليصبح واضحاً قويا، وتأمل قوله تعالي: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)، تجد فكرة عدم سماعهم الحق وأنهم لا ينطقون به، ولا ينظرون إلى الأدلة التي تهدي إليه، إنما نقلها إليك التشبيه في صورة قوية مؤثرة، كما تدرك شدة الفزع والرهبة التي ألمت بهؤلاء الذين دعوا إلى الجهاد، فلم يدفعهم إيمانهم إليه في رضا وتسليم، بل ملأ الخوف نفوسهم من أن يكون الموت مصيرهم، تدرك ذلك من قوله سبحانه (يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون). وتفهم اضطراب المرأة وقلقها، وعدم استقرارها على حال، حتى لتصبح حياتها مليئة بالتعب والعناء - من قوله سبحانه: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل، فتذروها كالمعلقة). وتفهم مدى حب المشركين لآلهتهم من قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله). وهكذا تجد للتشبيه مكانه في نقل الفكرة وتصويرها، وقل أن يأتي التشبيه في القرآن بعد أن تتضح الفكرة نوع وضوح كما في قوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) وإذا أنت تدبرت أسلوب الآية الكريمة وجدت هذا التعبير أقوى من أن يقال: وإذ صار الجبل كأنه ظلة لما في كلمة نتق من تصوير أن انتزع الجبل من الأرض تصويراً يوحي إلى النفس بالرهبة والفزع، ولما في كلمة فوقهم من زيادة هذا التصوير المفزع وتأكيده في النفس، وذلك كله يمهد للتشبيه خير تمهيد، حتى إذا جاء مكن للصورة في النفس، ووطد من أركانها. ومع ذلك ليس التشبيه في الآية عملاً إضافياً بل فيه إتمام المعنى وإكماله، فهو يوحي بالإحاطة بهم، وشمولهم، والقرب منهم قرب الظلة من المستظل بها، وفي ذلك ما يوحي بخوف سقوطه عليهم.
ومن خصائص التشبيه القرآني دقته، فهو يصف ويقيد حتى تصبح الصورة دقيقة واضحة أخاذة، وخذ مثلاً لذلك قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) فقد يتراءى أنه يكفي في التشبيه أن يقال: مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل، ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقاً والتحاماً حين يقرن بين هؤلاء وقد حملوا التوراة، فلم ينتفعوا بما فيها وبين الحمار يحمل أسفار العلم ولا يدري مما ضمته شيئاً، فتمام الصورتين يأتي من هذا القيد الذي جعل الصلة بينهما قوية وثيقة.
وقوله تعالى: (فما لهم عن التذكرة معرضين، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) فربما بدا أنه يكفي في تصوير إعراضهم بأنهم كالحمير، ولكنه في دقته لا يكتفي بذلك، فهو يريد أن يصور نفرتهم من الدعوة، وإسراعهم في إبعاد أنفسهم عنها، إسراعاً يمضون فيه على غير هدى، فوصف الحمر بأنها مستنفرة تحمل نفسها على الهرب وتحثها عليه يزيد في هربها وفرارها أسد هصور يجري خلفها، فهي تتفرق في كل مكان، وتجري غير مهتدية في جريها , أو لا ترى في صورة هذه الحمر وهي تجد في هربها لا تلوي على شيء تبغي الفرار من أسد يجري وراءها، ما ينقل إليك صورة هؤلاء القوم معرضين عن التذكرة فارين أمام الدعوة لا يلوون على شيء، سائرين على غير هدى، ثم ألا تبعث فيك هذه الصورة الهزء بهم والسخرية؟.
ومن ذلك وصفه الخشب بأنها مسندة في قوله تعالى: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة) فهي ليست خشباً قائمة في أشجارها لما قد يكون لها من جمال في ذلك الوضع، وليست موضوعة في جدار، لأنها حينئذ تؤدي عملاً، وتشعر بمدى فائدتها، وليست متخذاً منها أبواب ونوافذ لما فيها من الحسن والزخرف والجمال، ولكنها خشب مسندة قد خلت من الجمال، وتوحي بالغفلة والاستسلام والبلاهة.
ولم يكتف في تشبيه الجبال يوم القيامة بالعهن، بل وصفه بالمنفوش إذ قال: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش)، للدقة في تصوير هشاشة الجبال، كما لم يكتف في تشبيه الناس يخرجون يوم القيامة بأنهم كالجراد بل وصفه بالمنتشر، فقال: (يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر)، حتى يكون دقيقاً في تصوير هذه الجموع الحاشدة خارجة من أجداثها منتشرة في كل مكان تملأ الأفق، ولا يتم هذا التصوير إلا بهذا الوصف الكاشف.
ومن خصائص التشبيه القرآني المقدرة الفائقة في اختياره ألفاظه الدقيقة المصورة الموحية، تجد ذلك في كل تشبيه قرآني، وحسبي أن أشير هنا إلى بعض أمثلة هذا الاختيار.
نجد القرآن قد شبه بالجبال في موضعين فقال: (وهي تجري بهم في موج كالجبال)، وقال: (ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام) ولكنك تراه قد آثر كلمة الجبال عند الموج لما أنها توحي بالضخامة والجلال معاً، أما عند وصف السفن فقد آثر كلمة الأعلام جمع علم بمعنى جبل؛ وسر إيثارها هو أن الكلمة المشتركة بين عدة معان تتداعى هذه المعاني عند ذكر هذه الكلمة، ولما كان من معاني العلم، الراية التي تستخدم للزينة والتجميل، كان ذكر الأعلام محضراً إلى النفس هذا المعنى، إلى جانب إحضارها صورة الجبال، وكان إثارة هذا الخاطر ملحوظاً عند ذكر السفن الجارية فوق البحر، تزين سطحه، فكأنما أريد الإشارة إلى جلالها وجمالها معاً، وفي كلمة الأعلام وفاء بتأدية هذا المعنى أدق وفاء. وشبه القرآن الموج في موضعين، فقال: (وهي تجري بهم في موج كالجبال) وقال: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) وسر هذا التنويع أن الهدف في الآية يرمي إلى تصوير الموج عالياً ضخماً مما تستطيع كلمة الجبال أن توحي به إلى النفس، أما الآية الثانية فتصف قوماً يذكرون الله عند الشدة وينسونه لدى الرخاء، ويصف موقفاً من مواقفهم كانوا فيه خائفين مرتاعين، يركبون سفينة تتقاذفهم الأمواج، ألا ترى أن الموج يكون أشد إرهاباً وأقوى تخويفاً، إذا هو ارتفع حتى ظلل الرءوس، هنالك يملأ الخوف القلوب، وتذهل الرهبة النفوس، وتبلغ القلوب الحناجر، وفي تلك اللحظة يدعون الله مخلصين له الدين، فلما كان المقام مقام رهبة وخوف، كان وصف الموج بأنه كالظلل أدق في تصوير هذا المقام وأصدق. وعلى طريقة إيثار كلمة الأعلام على الجبال التي تحدثنا عنها آثر كلمة القصر على الشجر الضخم، لأن الاشتراك في هذه الكلمة بين هذا المعنى، ومعنى البيت الضخم يثير المعنيين في النفس معا فتزيد الفكرة عن ضخامة الشراء رسوخاً في النفس. وآثر القرآن كلمة (بنيان) في قوله سبحانه: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) لما تثيره في النفس من معنى الالتحام والاتصال والاجتماع القوي وغير ذلك من معان ترتبط بما ذكرناه، مما لا يثار في النفس عند كلمة حائط أو جدار مثلاً.
واختار القرآن كلمة (لباس)، في قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن)، لما توحي به تلك الكلمة من شدة الاحتياج كاحتياج المرء للباس، يكون مصدر راحة وعنوان زينة معاً.
ومن مميزات التشبيه القرآني أيضاً أن المشبه قد يكون واحداً ويشبه بأمرين أو أكثر، لمحا صلة تربط بين هذا الأمر وما يشبهه، تثبيتاً للفكرة في النفس، أو لمحا لها من عدة زوايا، ومن ذلك مثلاً تصوير حيرة المنافقين واضطراب أمرهم، فإن هذه الحيرة يشتد تصورها لدى النفس إذا هي استحضرت صورة هذا الساري قد أوقد ناراً تضئ طريقة فعرف أين يمشي ثم لم يلبث أن ذهب الضوء، وشمل المكان ظلام دامس، لا يدري السائر فيه أين يضع قدمه، ولا كيف يأخذ سبيله، فهو يتخبط ولا يمشي خطوة حتى يرتد خطوات. أو إذا استحضرت صورة هذا السائر تحت صيب من المطر قد صحبه ظلمات ورعد وبرق، أما الرعد فمتناه في الشدة إلى درجة أنه يود انقاءه بوضع أصابعه إذا استطاع في أذنه؛ وأما البرق فيكاد يخطف البصر، وأما الظلمات المتراكمة فتحول بين السائر وبين الاهتداء إلى السبيل. وتجد تعدد هذا التشبه في قوله سبحانه: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً. . . أو كصيب من السماء. . .). ومن النظر إلى الفكرة من عدة زوايا أنه حينا ينظر إلى أعمال الكافرين من ناحية أنها لا أثر لها ولا نتيجة فيرد إلى الذهن حينئذ هذا الرماد الدقيق لا يقوى على البقاء أمام ريح شديدة لا تهدأ لأنها في يوم عاصف، ألا ترى هذه الريح كفيلة بتبديد ذرات هذا الغبار شذر مذر، وأنها لا تبقي عليه ولا تذر، وكذلك أعمال الكافرين، لا تلبث أن تهب عليها ريح الكفر حتى تبددها ولا تبقي عليها، وللتعبير عن ذلك جاء قوله سبحانه: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد). وحيناً ينظر إليها من ناحية أنها تغر أصحابها فيظنونها نافعة لهم، مجدية عليهم، حتى إذا جاءوا يوم القيامة لم يجدوا شيئاً، ألا ترى في السراب هذا الأمل المطمع ذا النهاية المؤيسة ولأداء هذا المعنى قال تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا). وحينا ينظر إليها من ناحية ما يلم بصاحبها من اضطراب وفزع، عندما يجد آماله في أعماله قد انهارت. ألا تظلم الدنيا أمام عينيه ويتزلزل كيانه ويصبح كهذا الذي اكتنفه الظلام في بحر قد تلاطمت أمواجه، وأطبقت ظلمة السحاب على ظلمة الأمواج؟ ألا يشعر هذا الرجل بمصيره اليائس، وهلاكه المحتوم؟ ألا يصور لك ذلك صورة هؤلاء الكفار عندما يجيئون إلى أعمالهم، فلا يجدون لها ثواباً ولا نفعا، ولتصوير ذلك جاء قوله سبحانه: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج، من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
للكلام بقية
أحمد أحمد بدوي
04 - 12 - 1950