سارا معا يقصدان المقهى المعتاد لقضاء السهرة حيث يرتشفان أقداح الشاي الدافئة، ويتناقلان أحاديث الكادر المعادة، ويوزعان الوقت الممل الطويل بين تبادل النكات المرحة والتعليقات الساخرة، وبين لعبة النرد والشطرنج والبوكر!!
وكان الصمت يسير بينهما وهو ينقل خطواته الثقيلة فوق الأرض وكأنه يطأ بقدميه الأفكار التي تدور برأسيهما حتى لا تستحيل إلى كلمات. .! وأمام عمود من أعمدة النور وقف (حسن أفندي) وفوق مرتكز العمود المصنوع من (الأسمنت) وضع قدمه ليشد رباط الحذاء الذي أوشك أن ينفك. . .
وقبل أن يعتدل ليواصل السير مع زميله وقعت نظراته على شيخ متهدم يستند بظهره إلى الحائط وتنسدل فوق جسده المتقلص مزق من ثياب بالية أشبه بثياب الراقصات مع فارق بسيط هو أن الفن مزق ثياب الراقصات ليبرز صورة رائعة من صور الفتنة والجمال؛ وأن القدر مزق ثياب الشيخ ليبرز صورة مروعة من صور الفاقة والاحتياج!
وكان هذا الثوب أو كانت هذه المزق تسمح ليد الشيخ المعروقة النحيلة أن تبرز منها دون أن تحمل عبء نسيجها المهلهل تماما كما كانت تسمح لرياح الشتاء الباردة أن تدخل فيها لتكون لهذا الجسد الضارع المشفوف بدلا من الملابسة الداخلية!
ويبدو أن (حسن أفندي) قد تأثر تأثرا عميقا لمنظر هذا الشيخ فمد يده في حافظة نقوده وأخرج منها بعض القطع المعدنية وراح يتأملها. . إنه لم يجد بينها قرشا واحدا، كلها قطع من فئة العشرة قروش والخمسة قروش. . .!!
هل من الممكن أن يعطيه خمسة قروش دفعة واحدة؟ هذا في الواقع ممكن. . . ولكن شعوره لا يستسيغ ذلك التصرف. إنه لم يعتد التصدق على فقير بأكثر من قرش واحد. . . فكيف يدفع خمسة قروش دفعة واحدة؟ وتدخل عقله لينقذ الموقف. . . تدخل بخاطر جريء. . . كيف يعطي خمسة قروش لعاجز واحد وهناك عجزة آخرون في حاجة إلى مساعدة؟ أليس من الأوفق أن يعطي كل واحد قرشا بدل أن يعطي خمسة قروش لعاجز واحد! لا بأس إذن من أن ينتظر حتى يحصل على فكة!!
وهنا ارتفع صوت زميله (سعد أفندي) الذي كان يسايره قائلا - ماذا جرى يا أخي؟ أنت بتربط (عفش)؟ وعاد إليه (حسن أفندي) وهو يتمتم بعبارات غير واضحة. . . وكان إذ ذاك يشعر بأن شيئا ثقيلا ينزاح عن كتفيه
وسارا من جديد، وجعلا يرددان في هذه المرة أحاديث تافهة كان (حسن أفندي) يخلقها خلقا حتى لا يترك لخياله فرصة يستعيد فيها صور ذلك الشيخ الهرم. . . الصورة التي سرعان ما تلاشت في أضواء الطريق الساطعة مثلما تتلاشى الظلال في الظهيرة
وفي مكان لا يكاد يتغير من مقهى (السعادة) جلسا بعد أن انضم إليهما آخرون من مدرسي مدرسة النجاح الثانوية. . . ودار بينهم الحديث المعتاد. . . الحديث الذي يضج بالشكوى ويطفح بالألم. . . كلهم منسيون. . . وكلهم ينشد الدرجة الرابعة أو الخامسة. . . وكلهم يعاني ضيقا ماليا. وكان الحديث يتنقل بين الشفاه متثاقلا مترنحا أشبه براقصة مخمورة تنتقل بين الموائد وهي تهذي بنكات قديمة لا روح فيها ولا حياة!
ومضت لحظات كانت بعدها سحب الدخان المنبعثة من سجائرهم قد انعقدت فوقهم، وكان البخار المتصاعد من أقداح الشاي قد اختلط بتلك السحب فأشاع كل ذلك جوا من الانقباض بدا أثره وجوما على بعض الشفاه وتبلدا على بعض الوجوه وشرودا في بعض النظرات. . .
ويبدو أن (حسن أفندي) قد ضاق بهذا الجو العامر بالركود فهمس في أذن صديقه. . .
- أريد أن ألاعبك الشطرنج. . ولكن صديقه رد عليه في استخفاف
- ولكني أغلبك دائما. . فعقب (حسن أفندي) في تحد. .
- سأغلبك أنا هذه المرة. .
وابتدأ اللعب بحماس م جانب حسن أفندي وفتور من جانب صديقه. . وسرعان ما ضاق هو بفتور صاحبه فقال له
- ما هكذا يكون اللعب. . أقترح أن يكون هناك رهان حتى يكون للعب روح. . وهنا ضحك سعد أفندي قائلا. .
- يبدو انك غني جدا هذا المساء. .
وهنا أيضاً أخرج حسن أفندي قطعة من فئة الخمسة قروش وألقى بها على المنضدة قائلا. .
- هذه لك إن غلبتني. .
وكما يحلو للقط أن يعاكس الفأر قبل أن يقتله فقد حلا لسعد أفندي أن يسخر من صديقه قبل أن ينتصر عليه، فكان يتغاضى عن الخطط الحاسمة في اللعب ويعمد إلى التردد والحيرة حتى يبدو كمن اختلط عليه الأمر، حتى إذا اطمأن حسن أفندي إلى نفسه فاجأه بقتل قطعة من قطعه
ومضت الدقائق بعد ذلك تنعى القطع الغالية إلى حسن أفندي، فكان ذلك يثير الحماس في صدره ويثير في نفس الوقت مشاعر القلق والضيق في فؤاده. .
وكان لا بد لعقله أن يتدخل هنا أيضاً لينقذ أعصابه من قبضة التوتر والألم.
ماذا لو غلبه سعد أفندي؟ إنه حين ينتصر عليه وهو محتشد للعب أحسن بكثير مما لو انتصر هو وسعد أفندي غير مكترث! ثم ماذا تكون الخمسة قروش بجانب ذلك الحماس الذي كان يحسه أثناء اللعب؟ بجانب ذلك الحماس الذي أزاح عن صدره مشاعر الجمود والركود؟ حسبه إذن تلك اللحظات الزاخرة بالانفعالات بل بالحياة. .!
وانتهى الدور بانتصار سعد أفندي الذي أخذ القطعة الفضية بدوره ووضعها أمام زميله قائلا:
وهذه لك أيضاً! ولكن حسن أفندي أعادها إليه من جديد في إصرار وعزم وهتف قائلا:
- لا يا أخي. . لا يمكن، هذا حقك!
محمد أبو المعاطي أبو النجا
مجلة الرسالة/العدد 924
19 - 03 - 1951
وكان الصمت يسير بينهما وهو ينقل خطواته الثقيلة فوق الأرض وكأنه يطأ بقدميه الأفكار التي تدور برأسيهما حتى لا تستحيل إلى كلمات. .! وأمام عمود من أعمدة النور وقف (حسن أفندي) وفوق مرتكز العمود المصنوع من (الأسمنت) وضع قدمه ليشد رباط الحذاء الذي أوشك أن ينفك. . .
وقبل أن يعتدل ليواصل السير مع زميله وقعت نظراته على شيخ متهدم يستند بظهره إلى الحائط وتنسدل فوق جسده المتقلص مزق من ثياب بالية أشبه بثياب الراقصات مع فارق بسيط هو أن الفن مزق ثياب الراقصات ليبرز صورة رائعة من صور الفتنة والجمال؛ وأن القدر مزق ثياب الشيخ ليبرز صورة مروعة من صور الفاقة والاحتياج!
وكان هذا الثوب أو كانت هذه المزق تسمح ليد الشيخ المعروقة النحيلة أن تبرز منها دون أن تحمل عبء نسيجها المهلهل تماما كما كانت تسمح لرياح الشتاء الباردة أن تدخل فيها لتكون لهذا الجسد الضارع المشفوف بدلا من الملابسة الداخلية!
ويبدو أن (حسن أفندي) قد تأثر تأثرا عميقا لمنظر هذا الشيخ فمد يده في حافظة نقوده وأخرج منها بعض القطع المعدنية وراح يتأملها. . إنه لم يجد بينها قرشا واحدا، كلها قطع من فئة العشرة قروش والخمسة قروش. . .!!
هل من الممكن أن يعطيه خمسة قروش دفعة واحدة؟ هذا في الواقع ممكن. . . ولكن شعوره لا يستسيغ ذلك التصرف. إنه لم يعتد التصدق على فقير بأكثر من قرش واحد. . . فكيف يدفع خمسة قروش دفعة واحدة؟ وتدخل عقله لينقذ الموقف. . . تدخل بخاطر جريء. . . كيف يعطي خمسة قروش لعاجز واحد وهناك عجزة آخرون في حاجة إلى مساعدة؟ أليس من الأوفق أن يعطي كل واحد قرشا بدل أن يعطي خمسة قروش لعاجز واحد! لا بأس إذن من أن ينتظر حتى يحصل على فكة!!
وهنا ارتفع صوت زميله (سعد أفندي) الذي كان يسايره قائلا - ماذا جرى يا أخي؟ أنت بتربط (عفش)؟ وعاد إليه (حسن أفندي) وهو يتمتم بعبارات غير واضحة. . . وكان إذ ذاك يشعر بأن شيئا ثقيلا ينزاح عن كتفيه
وسارا من جديد، وجعلا يرددان في هذه المرة أحاديث تافهة كان (حسن أفندي) يخلقها خلقا حتى لا يترك لخياله فرصة يستعيد فيها صور ذلك الشيخ الهرم. . . الصورة التي سرعان ما تلاشت في أضواء الطريق الساطعة مثلما تتلاشى الظلال في الظهيرة
وفي مكان لا يكاد يتغير من مقهى (السعادة) جلسا بعد أن انضم إليهما آخرون من مدرسي مدرسة النجاح الثانوية. . . ودار بينهم الحديث المعتاد. . . الحديث الذي يضج بالشكوى ويطفح بالألم. . . كلهم منسيون. . . وكلهم ينشد الدرجة الرابعة أو الخامسة. . . وكلهم يعاني ضيقا ماليا. وكان الحديث يتنقل بين الشفاه متثاقلا مترنحا أشبه براقصة مخمورة تنتقل بين الموائد وهي تهذي بنكات قديمة لا روح فيها ولا حياة!
ومضت لحظات كانت بعدها سحب الدخان المنبعثة من سجائرهم قد انعقدت فوقهم، وكان البخار المتصاعد من أقداح الشاي قد اختلط بتلك السحب فأشاع كل ذلك جوا من الانقباض بدا أثره وجوما على بعض الشفاه وتبلدا على بعض الوجوه وشرودا في بعض النظرات. . .
ويبدو أن (حسن أفندي) قد ضاق بهذا الجو العامر بالركود فهمس في أذن صديقه. . .
- أريد أن ألاعبك الشطرنج. . ولكن صديقه رد عليه في استخفاف
- ولكني أغلبك دائما. . فعقب (حسن أفندي) في تحد. .
- سأغلبك أنا هذه المرة. .
وابتدأ اللعب بحماس م جانب حسن أفندي وفتور من جانب صديقه. . وسرعان ما ضاق هو بفتور صاحبه فقال له
- ما هكذا يكون اللعب. . أقترح أن يكون هناك رهان حتى يكون للعب روح. . وهنا ضحك سعد أفندي قائلا. .
- يبدو انك غني جدا هذا المساء. .
وهنا أيضاً أخرج حسن أفندي قطعة من فئة الخمسة قروش وألقى بها على المنضدة قائلا. .
- هذه لك إن غلبتني. .
وكما يحلو للقط أن يعاكس الفأر قبل أن يقتله فقد حلا لسعد أفندي أن يسخر من صديقه قبل أن ينتصر عليه، فكان يتغاضى عن الخطط الحاسمة في اللعب ويعمد إلى التردد والحيرة حتى يبدو كمن اختلط عليه الأمر، حتى إذا اطمأن حسن أفندي إلى نفسه فاجأه بقتل قطعة من قطعه
ومضت الدقائق بعد ذلك تنعى القطع الغالية إلى حسن أفندي، فكان ذلك يثير الحماس في صدره ويثير في نفس الوقت مشاعر القلق والضيق في فؤاده. .
وكان لا بد لعقله أن يتدخل هنا أيضاً لينقذ أعصابه من قبضة التوتر والألم.
ماذا لو غلبه سعد أفندي؟ إنه حين ينتصر عليه وهو محتشد للعب أحسن بكثير مما لو انتصر هو وسعد أفندي غير مكترث! ثم ماذا تكون الخمسة قروش بجانب ذلك الحماس الذي كان يحسه أثناء اللعب؟ بجانب ذلك الحماس الذي أزاح عن صدره مشاعر الجمود والركود؟ حسبه إذن تلك اللحظات الزاخرة بالانفعالات بل بالحياة. .!
وانتهى الدور بانتصار سعد أفندي الذي أخذ القطعة الفضية بدوره ووضعها أمام زميله قائلا:
وهذه لك أيضاً! ولكن حسن أفندي أعادها إليه من جديد في إصرار وعزم وهتف قائلا:
- لا يا أخي. . لا يمكن، هذا حقك!
محمد أبو المعاطي أبو النجا
مجلة الرسالة/العدد 924
19 - 03 - 1951