محمد رجب البيومي - بين الشعر والسياسة.. المنفلوطي الشاعر الجريء

حين انتقل المنفلوطي إلى رحمة ربه قوبل أدبه بعاصفة شديدة من النقد، واتجهت المعاول الحادة إلى تحطيم بنائه الراسخ في دولة الأدب، حتى ظن الكثيرون أن هذا الصرح الناهض سيخر منهدما في أمد قريب، دون أن يجد الدعائم الواقية من السقوط، وكنت تجد من يقولون عن مصطفى أنه أديب يعني بالديباجة الصافية، والأسلوب الرائق، دون أن يقدم للقارئ فكرة حية أو معنى جميلا. فإذا قلت لهؤلاء إن مقالات الكاتب الكبير لا تعدم الفكرة الحية، والرأي الصائب غير أنها كسيت ثوبا جميلا من سلاسة اللفظ وإشراق التركيب، وجدتهم يواجهونك بنقد آخر فيقولون: إن الكاتب العاطفي قد وقف بأسلوبه عند تصوير البؤس والحرمان، وما يدفعان إليه من كآبة موحشة، ودموع وزفرات، وكان عليه أن يصور من الحياة جانبها الباسم الوضئ، فيرسم لقارئه لوحات مرحة توشيها البهجة والطري والابتسام!! كأنما كان لزاما عليه أن يتنكر لعواطفه الإنسانية فيضحك ويغرد في مجتمع بائس فقير مريض. . وربما تحذلق ناقد ثالث فادعى أن أدب الكاتب تافه ساذج رغم ما يسطع فيه من إشراق، لأنه إذا ترجم إلى لغة أجنبية فقد رونق اللفظ، وبهجة التركيب، وظهر المعنى هزيلا تافها يتسم بالضعف والسطحية والإسفاف، ونحن نعلم أن كل أثر يترجم إلى غير لغته - ولو كان كتاب الله الكريم - يفقد لا محالة بعض ما يتسم به من الروعة والتأثير، فلماذا نحاسب المنفلوطي العظيم على أمر لا حيلة له فيه، إلا أن تكون ممن يتصيدون المثالب تصيدا مغرضاً ثم يلصقونها جزافا بالبررة الأبرياء.

إن أكبر دليل على قوة المنفلوطي وإبداعه، هو خلود أدبه، فقد مر ما يقرب من ثلاثين عاما على وفاته، وما زالت كتبه ورواياته تطبع وتكرر طبعاتها الواحد تلو الواحدة، ومازال الشباب يجدون في (نظراته) ما يغذي عواطفهم الجائعة، ويروى مشاعرهم الصادية، كما يلمسون في رواياته البديعة سحراً أخاه يستولي على النفوس، ولا أكاد أعرف أديبا لامعا ممن عاصر المنفلوطي ومن جاء بعده لم ينتفع بأدبه، حتى وصل إلى القمة على نبراس بيانه، بل إن التلاميذ في المدارس والمعاهد والكليات، يضلون السبيل إلى الأدب الرائق الجذاب، فتتعثر بهم الخطوات، وتصارعهم الركاكة والتفكك والإسفاف، فإذا اتجهوا إلى أدب المنفلوطي الخالد، قادهم بسحره الأخاذ إلى الروعة والقوة والصفاء.

لقد كنت أدرس بعض النصوص النثرية لأعلام الأدب المعاصر بإحدى المدارس الثانوية، فكنت أعرض نماذج متنوعة فرضت فرضا عليّ، وقد لاحظت أن الطلاب يهشون لأدب المنفلوطي، ويطلبون المزيد من إنتاجه، ويسارعون إلى حفظ دون أن يرقهم المدرس بالإلحاح قي ذلك، ولم أر من يشاركه هذه الحظوة لدى الطلاب غير الأستاذ الزيات والدكتور طه حسين، وهذا هو الحق الذي أعترف به دون مجاملة أو إطراء. وربما ظن بعض الناس أن المنفلوطي مختار معشوق لسهولة لفظه، وقرب معانيه من إفهام التلاميذ، كلا والله، فقد كنت أختار لغير من الأعلام قطعا يسيرة، قريبة المتناول، فتقابل بالإعراض والصدود. وكم من أديب عشق المنفلوطي يافعا، وما يزال حبه يتأكد ويعظم دون أن يهن على تعاقب السنين، واتساع المدارك والإفهام.

دعاني من نجد فإن سنينه ... لبعن بنا شيبا وشيبننا مردا

وقد لا يعرف كثير من الناس أن المنفلوطي الكاتب قد بدأ حياته الأدبية شاعرا ينظم القصائد المجودة، ويرسل المقطوعات الطريف، فقد ساعدته نشأته الأزهرية على تصفح دواوين الشعراء ورزقه الله ذوقا سليما، وأذنا موسيقية، فعكف على استظهار الروائع الخالدة في الشعر العربي حتى اجتمعت له ثورة أدبية ممتازة في سن مبكرة، وكان الشعر في نهاية القرن السالف يتجه وجه تقليدية باليه، كما كانت الصحف لا تحفل إلا بالمدائح الخديوية المبتدئة بالغزل الصناعي الثقيل، وتتجه براعة كل ناظم إلى تصيد المحسنات المتكلفة من طباق وتورية وجناس على وجه ينبئ الإسفاف والافتعال، وقد استطاع مصطفى الناشئ أن يحتفظ في شعره التقليدي برونق صاف، وقوة مكتسبة من البارودي زعيم المدرسة الشعرية الأصلية لعهده، ومن أوائل شعره.

أردنا سؤال الدار عمن تحملوا ... فلم ندر من فرط الأسى كيف نسأل
وهاج لنا الذكرى معاهد أصبحت ... تعيث صباً فيها وتعبث شمأل

كما كان الناشئ المتأدب يحاكي شعراء العصر العباسي محاكاة تدل على بصر بالأسلوب، واعتناء بتجويده وإبداعه، ومحافظة على النهج الاتباعي العتيق. وقد نظم في مديح الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده قصائد تنم عن إخلاص قوي، وتقدير عظيم، ثم سعى إليه فأسبغ عليه عطفه، واكتسب منه أدبا وعلما وخلقا، وقد أرشده الأستاذ إلى بعض الذخائر الثمينة من أمهات الكتب العربية فقرأها قراءة الدارس المتعمق، وزاد تعلقه بالشعر، فخاض بحوره ولهج بقوافيه، وزاد إنتاجه التقليدي قوة وصفاء حتى قارب البارودي في فحولة المطلع، ومتانة الأسر، وانسجام اللفظ، ووحدة الاتجاه، وإليك أحد مطالعه الرصينة في مديح الأستاذ الإمام:

سقاها وحياها ملث من القطر ... وإن أصبحت قفراء في منزل قفر
طواها البلى طي الشحيح رداءه ... وليس لما يطوي الجديدان من نشر
مسارح آساد ومثوى أراقم ... تجاور في قيعانها الغيد بالحجر
لقد فعلت أيدي السوافي بنؤيها ... وأحجارها ما يفعل الدهر بالحر
وقفت بها في وحشة الليل وقفة ... أثار شجاها كامن الوجد في صدري
فأنشأت أبكي والأسى يتبع الأسى ... إلى أن وجدت الصخر يبكي على الصخر

وكان الاحتلال الإنجليزي - إذ ذاك - حديث عهد بالبلاد، والمصريون في حسرة بالغة لما أصاب الثورة العرابية من فشل جره إليها الرشوة والخيانة وفساد الضمائر عند بعض الناس، والمنفلوطي كما نعلم سريع التأثر، رقيق الإحساس، قوي الشعور، فكان يفكر كثيرا في مصائب وطنه ورزاياه، ثم نظم قصيدة ثورية نشرها في كتاب خاص يندد فيها بالاحتلال وصنائعه من المصريين، كما عرض بالخديوي وحاشيته، ولم يذكر في نهايتها توقيعه الصريح، بل جعل الإمضاء رمزا غامضا لا يدل على إنسان!! وقد شاعت قصيدته فتناقلها الناس، وكان لها دوي بعيد، وبحث الطغاة عن القائل فلم يجدوه.

وواضح أن جمهرة المثقفين في مصر كانوا - ولا يزالون - يبغضون الأسرة الحاكمة بغضا لا مزيد عليه، فهم يعلمون ما جرع إسماعيل على البلاد من خراب هائل، نتيجة لديونه الفاحشة التي استنفدها في ملذاته وشهواته، وبناء قصوره وحدائقه، ومتعه وحريمه، واختلاس حاشيته، وجاء ولده توفيق فناهض حريات الشعب، وخان وطنه وعرشه، وقدمه لقمة سائغة للاحتلال، لينتقم من عرابي الزعيم البطل الناهض. ولئن تظاهر عباس بعده بالوطنية والصلاح في مستهل حياته، فقد كانت أطماعه تمتد إلى أموال الشعب وضياعه، فقد أراد أن يأخذ الآلاف من أفدنه الأوقاف المثمرة الخصبة، نظير صحراء مقفرة في أرضه الشاسعة لا تجود بشيء!! فوقف أمامه الأستاذ الإمام وقفة رهيبة، قلمت أظافره، وحطمت كبرياءه، وأنذرته بالفضيحة الطامة، وابتدأ العداء السافر بين الرجلين، فأوعز الخديوي بمهاجمة الإمام على صفحات الجرائد المأجورة، ودفع الأقلام الخائنة إلى ثلمه وانتقاصه، وكان المنفلوطي من شيعة الإمام وتلاميذه المقربين، فهاجت ثائرته على الباطل، ونشر في جريدة الصاعقة (4111897) التي كان يصدرها الصحفي الوطني الجريء المرحوم الأستاذ أحمد فؤاد قصيدة قاسية في هجائه، فأحدثت دويا تردد في المحافل لما تضمنته من تنديد بعباس وأجداده الظالمين الطغاة!

وحسبك أن تسمع منها هذه الأبيات، وقد قيلت بمناسبة عودة عباس من الآستانة إلى مصر:

قدوم ولكن لا أقول سعيد ... وعيش وإن طال المدى سيبيد
علام التهاني، هل هناك مآثر ... فنفرح، أو سعى لديك حميد
تمر بنا لا طرف نحوك ناظر ... ولا قلب من تلك القلوب ودود
تذكرنا رؤياك أيام أنزلت ... علينا خطوب من جدودك سود
رمتنا بكم مقدونيا فأصابنا ... مصوب سهم بالبلاء سديد
فلما توليتم طغيتم وهكذا ... إذا أصبح التركي وهو عميد
فكم سفكت منا دماء بريئة ... وكم ضمنت تلك الدماء لحود
وكم ضم بطن البحر أشلاء جمة ... تمزق أحشاء لها وكبود
وكم صار شمل للبلاد مشتتا ... وخرب قصر في البلاد مشيد
وسيق عظيم القوم منا مكبلا ... له تحت أثقال القيود وئيد
فما قام منكم بالعدالة طارف ... ولا سار منكم بالسداد تليد
كأني بقصر الملك أصبح بائدا ... من الظلم، والظلم المبين يبيد
ويندب في أطلاله اليوم ناعبا ... له عند ترداد الرثاء نشيد
أعباس ترجو أن تكون خليفة ... كما ود آباء ورام جدود
فيا ليت دنيانا تزول وليتنا ... نكون ببطن الأرض حين تسود

وهذه القصيدة وثيقة تاريخية تبين ما ارتكبه الطغاة مما أغفله تاريخنا المشوه الممسوخ، فقد سفكوا الدماء البريئة إشباعا لشهواتهم، وحفروا القبور للضحايا من الشهداء، وملئوا البحار بجثث القتلى تأسيا بطاغوتهم الأكبر عبد الحميد، وفتحوا السجون على مصاريعها لغير المذنبين من ذوي الغيرة والإباء، وتلك فضائح يندي لها الجبين!! وقد ارتاع أولو الأمر أكبر ارتياع لنشر هذا الهجاء الصريح، فصودر ما بقي لدى الباعة من أعداد الجريدة، وقدم إلى النيابة رئيس التحرير، والشاعر الغيور بتهمة العيب في الذات المصونة!! ثم حكم عليهما بالحبس مدة طويلة ذاق المنفلوطي فيها أهوالا لم يتعودها من قبل، وعومل معاملة غادرة لا تليق بوطني يصدر رأيه عن عقيدة وإيمان، فتكونت لديه - في محبسه - من الشعر عقدة نفسية، جعلته يعاف قرضه وتجويده، فبعد أن خرج من السجن توجهت همته إلى الكتابة النثرية، فحلق في أجوائها الفسيحة، وسال نثره المترقرق مسيل الفرات العذب، يروى النفوس الصادية، ويبد الجوانح الملتهبة، فهتفت باسمه الأصوات، ولهجت به أرواح الشبيبة، وأخذ القراء يترقبون مقالاته الإنسانية كما يترقب المدلج الحائر قبسا من ضياء.

أما القصيدة التي جرت عليه السجن والتشريد فقد ذاعت بين القراء ذيوعا عجيبا، ورغم مصادرة الجريدة فقد تداولها المتأدبون بالنسخ والتدوين، وبقي من لم يقف عليها متعطشا إلى قراءتها، متصيدا لها في مظانها بين مسودات الأدباء، وفي مطارح السمر، ومجالس الأندية، وقد احتال المرحوم الأستاذ سليم سركيس على إذاعتها بطريقة لبقة، فقد أوعز لبعض الأدباء أن يشطرها ويخمسها بما يغير اتجاهها، ثم طبع التشطير والتخميس في صحيفته، وبذلك أتاح لها أن ترى النور مرة ثانية دون أن تنالها الرقابة السياسية بمصادرة أو تحقيق، فقرأها من لم يكن وقف عليها قبل ذلك، وظلت عالقة بالأذهان إلى يومنا هذا، وأذكر أتي سمعتها قبل أعوام من شيخنا الراوية الأستاذ أحمد شفيع السيد الأستاذ بكلية اللغة العربية ثم قرأتها عقب الحركة الوطنية الأخيرة بصحيفة الأدب في جريدة الأخبار. . على أن المنفلوطي لم يترك الشعر مرة واحدة، بعد هذه القصيدة، فقد كان يدفعه إليه حنين جياش يغلبه على أمره، فينظم بعض المقطوعات الرقيقة والقصائد البارعة، كأشعاره في القلم وأسماء بنت أبي بكر وبول وفرجيني، ولكن طاقته الشعرية قد تحولت بلا شك إلى طاقته النثرية، فبدت كتابته سلسلة رقيقة، تتدفق فيها العذوبة وترن بها موسيقى الشعر وأنغامه، فتتفتح لها الأحاسيس، وتتوهج بها العاطفة، وتنفث في النفوس ما ينفثه الشعر من روعة فاتنة وتأثير وأعلامه، وكان يستطيع أن يصدر في تأريخه والتعريف به كتبا متنوعة كما فعل نظراؤه من الأدباء، ولكنه اقتصر على النثر الفني المبدع، ليفسح المجال لإنسانيته الحية، وشاعريته المتوثبة، فجاءت آثاره ترجمانا لما حوله من كآبة وشقاء، وأصبح المصور الأول لعبرات البائسين وهموم الأشقياء، وهل يبتعد الشعر عن هذا النطاق!! سواء كان مطلق الأعنة، أو مقيدا بالأوزان؟ سلام علي مصطفى في رحاب الخالدين من البلغاء!!

محمد رجب البيومي


بتاريخ: 20 - 10 - 1952

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...