(إلى المرأة التي ألهمتني كل حديث عن المرأة)
هل كان للمرأة في حياة المتنبي أثر من بعيد أو قريب، وهل كان لها في شعره توجيه خاص، وهل بدت على هذا الشعر صبغة لها مساس أو بعض مساس بها؟
لا بد لنا قبل التوغل في الجواب من أن نفرق في موضوعنا بين المرأة أماً وبينها زوجة أو حبيبة، إذ لكل أثره الخاص وناحيته التي لا تشبه ناحية الآخر. فماذا كان تأثير الأم على المتنبي؟ كل ما عرفناه عن أم المتنبي أنها كانت همدانية صحيحة النسب من صلحاء النساء الكوفيات ومهما أراد الدكتور طه حسين أن يحيط بمولد المتنبي من الشذوذ ومهما أردنا أن ندفع هذا الشذوذ فلا ريب أنه لم يكن لأم المتنبي أي أثر لا في حياته ولا في شعره، بل إن المتنبي الذي تغنى بجدته لم يشر إلى أمه إشارة ولم يولها ذكراً. والدكتور طه حسين محق حين يقف طويلاً أمام هذه الظاهرة فيتساءل عن السر فيها. ولكننا لا يمكن أن نذهب معه إلى النتيجة التي وصل إليها من أن ذلك إنما كان لأن مولد المتنبي كان شاذاً! ولماذا كان شذوذ المتنبي هو السر في ذلك، ولا يكون السر فيه هو أن المتنبي لم ينعم بتلك الأم ففقدها قبل أن يعرف المجتمع وينغمس في الحياة؟ أكبر الظن أن أم المتنبي قد فارقت الدنيا قبل أن يقدر لابنها التعرف عليها والتمتع بعطفها وحنانها فتركته لأمها، فكانت أمها له أماً، وكانت عاطفة البنوة ملتهبة فيه لجدته، لأنه لم يعرف غيرها أماً، وإذا لم يذكرون شوق أمه، ولماذا يعنى برثاء جدته ولا يعني برثاء أمه؟
ومهما كان مولد المتنبي شاذاً - على رأي الدكتور طه حسين - فإن هذا الشذوذ لن يحول دون شوق الوالدة إلى ولدها
ولن يحول بين رثاء المتنبي لأمه لو كانت هذه الأم حية عندما كان ابنها شاعر العرب، ومهما يكن من أمر فالذي لا ريب فيه هو أن أم المتنبي بعيدة عن كل أثر في حياته وشعره، وقد حلت محلها في هذا الأثر أمها فكان من تأثيرها في شعره تلك القصيدة الرثائية الخالدة التي قيل عنها: (أنه ورد عليه كتاب من جدته تشكو شوقها إليه وطول غيبته عنها فتوجه نحو العراق ولم يمكنه وصول الكوفة فانحدر إلى بغداد، وكانت جدته قد يئس فكتب إليها كتاباً يسألها المسير إليه فقبلت كتابه وحمت لوقتها سروراً به وغلب الفرح على قلبها فقتلها)
ونحن لا تهمنا العلة التي ماتت بها الجدة ولا فرق لدنيا إذا كانت هذه العلة هي الفرح أو الحزن أو أية علة أخرى ما دامت قد ماتت قبل أن يراها ابن ابنتها وبعد أن أوشك أن يراها، وقد كان المتنبي وهو الشاعر الحساس الملتهب الشعور المتأجج القلب كان حرياً به أن يخلد هذا الموقف الرائع بمثل ما خلوه به من الشعر الذي لا نزال نحس فيه أحزان المتنبي وآلامه، والذي لا يزال على تطاول العهد به مضرب المثل في الأسى العميق والشجن الدامي، ومن ذا الذي لا يهزه هذا القول:
أحن إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوى لمثواها التراب وما ضما
وإذا كان المتنبي ينادي بأنه نحن إلى الكأس التي شربت بها جدته فما كان ذلك لأن هذه الجدة قد ماتت وملكه عليها الحزن فحسب، بل كان ذلك لأن نفس المتنبي كانت في ذلك الحين قد امتلأت هموماً، ولأن الزمن كان قد جرعه أمر الغصص، ولأنه كان قد رأى بعينيه انهيار آماله في الحياة وأهل الحياة، ولأنه كان قد وصل إلى حال أصبح يحن معها إلى ورود كأس المنية، ثم فوجئ بموت القلب الذي كان يرى أنه وحده يخفق بحبه، وأنه وحده الذي يستروح إليه ويعتمد عليه فصاح من أعماق قلبه في ساعة يائسة (أحن إلى الكأس التي شربت بها)
وهاهو نفسه يزيد هذه الفكرة وضوحاً وجلاء فيقول:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما
فهو قد قاس من صروف الليالي ما جعله سيئ الظن بها وما جعله لا يترقب منها إلا الشر، فلما أتته هذه الداهية لم يفاجأ بها ولم تزده علماً بما يحمله له الزمن من خبايا المصائب والمحن. ثم هو ذا يمعن في الإيضاح والجلاء فيصور خيبة أمانيه وتلاشى أحلامه، فلا ولاية ولا سلطان ولا حشم ولا اتباع بل حظ عاثر ويأس قائل:
طلبت لها حظاً ففاتت وفاتني ... وقد رضيت بي لو رضيت بها قسماً
وهكذا بعد أن طوف في البلاد وراء (الحظ)، فاته هذا الحظ وفاتته كذلك هذه الجدة الرؤوم ونحن نلمس في عجز البيت خساً من الندم الخفي على تلك المغامرات والضرب في الفلوات وراء الحظ المنشود وتلمس روحاً من الأسف المكبوت على أن لا يكون قد قنع فلم يجازف ورضى فلم يندفع، وعلى أن لا يكون قد عاش إلى جانب تلك الجدة خلى البال من المطامح بدلا. من أن يعيش إلى جانب أولئك الذين لم يعرفوا حقه ولم يجيبوا سؤله، ولا أدل على هذا الندم والأسف من البيت الذي يليه:
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها ... وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما
ولا نريد أن نسترسل في النظر بهذه القصيدة، وإنما نكتفي بالقول إنها صورة حية لما كانت عليه نفس المتنبي من الحزن والكمد، وإنها مظهر واضح لما كان فيه من التبرم بالناس والحياة وأن وفاة جدته كانت مفجراً لعاطفته، فأرسل نفسه على سجيتها فبكى فيها بكاء مراً:
حرام على قلبي السرور فإنني ... أعد الذي ماتت به بعدها سما
وما انسدت الدنيا على لضيقها ... ولكن طرفا لا أراك به أعمى
فوا أسفا أن لا أكب مقبلا ... لرأسك والصدر الذي ملئا حزما
وتحدى الناس تحدياً صارخاً:
لئن لذ يوم الشامتين بيومها ... فقد ولدت مني لا نفهم رغما
تغرب لا مستعظما غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالفه حكما
يقولون لي ما أنت في كل بلدة ... وما تبتغي، ما أبتغي جل أن يسمى
كأن بنيهم عالمون بأنني ... جلوب إليه من معادنه اليتما
واستهتر بالدنيا وما فيها:
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي ... ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
هذا هو أثر المرأة الأم، أو على الأصح المرأة الجدة، في شعر المتنبي، فما هو أثر المرأة الزوجة والمرأة الحبيبة في حياته وشعره؟
إذا كان قد وجد بين المؤرخين من يذكر أم المتنبي فيقول إنها همدانية من صلحاء نساء الكوفة، فإنه لم يوجد بينهم من يذكر زوجته أو يتحدث عنها بشيء، فنحن لا نستطيع أن نعرف في أي زمن تزوج المتنبي، ولا في أي طور من أطور حياته، ولا في أي بلد من البلاد التي نزلها، بل إن الغموض ليكتنف هذه النقطة من تاريخه كل الاكتناف، وليس لدينا شيء واضح عنها، غير أنه كان له ولد سماه (محسداً)، أما من هي أم محسد، وكيف اتصل بها المتنبي، وأين اتصل، وكيف كانت حياته معها؟ فإنا لا نستطيع الإجابة على شيء من هذا. فهل عاشت معه في بلاط سيف الدولة؟ وهل انتقلت معه إلى مصر؟ وهل ذهبت إلى أرجان وشيراز؟ وهل امتدت بها الحياة بعده أم ماتت قبله؟ كل ذلك لا يجيبنا عنه التاريخ بشيء، ولكن أمراً واحداً يستوقف النظر، هو أن الذين ذكروا مقتل المتنبي ذكروا أن محسداً قتل معه، فنحن نعرف من ذلك أن محسداً كان يصحب أباه في عوده من فارس إلى العراق، ولكننا لا نعرف السن التي كان فيها محسد، كما إننا لا نعرف أين كانت أم محسد في ذلك الحين. على أننا نستطيع التأكد من أنها لم تكن تصبحه في تلك الرحلة القانية، لأنها لو كانت تصحبه وقتل زوجها وولدها لسمعنا عنها خبراً، ولروى أبو نصر الجبلي للخالدين عنها شيئاً؛ فيا ليت شعري هل كانت لا تزال على قيد الحياة تنتظر أوبة زوجها وولدها وتستعد لاستقبالهما بعد الغياب الطويل؟ هل كانت أم محسد في الكوفة تترقب عودة أبي محسد ومحسد فتبثهما لواعج الوجد والشوق وتفضي إليهما بما في الصدر من هوى وحنين؟ أم كانت في مكان آخر تستطلع أخبار الغائبين العزيزين متوقعة ما يحملانه لها من مجد ورفاه ومال؟ أجل هل كانت حية تنتظرهما أم كانت ميتة من عهد بعيد أو قريب فلم يفجعها موتهما الدامي؟
كل ذلك سر في ضمير التاريخ لم يكشف عنها لأحد. ولكننا نتساءل: هل يمكن أن تموت في حياة زوجها، ثم لا يرثيها بكلمة ولا يبكيها بقصيدة بعد أن رأينا شدة تفجعه على جدته وطول حرقته لموتها، ونحن يعنينا في مقالنا هذا أن نعرف مدى تأثيرها في حياة المتنبي وفي شعره، وبعد كل الذي مر ندرك أننا لا يمكن أن تجد لها أي أثر في حياته ولا في شعره
أما ما كان من تأثير الحبيبة في المتنبي فذلك ما سنجيب عليه في مقال تال.
(البناطية - بلاد الشام)
حسن الأمين
مجلة الرسالة - العدد 569
بتاريخ: 29 - 05 - 1944
هل كان للمرأة في حياة المتنبي أثر من بعيد أو قريب، وهل كان لها في شعره توجيه خاص، وهل بدت على هذا الشعر صبغة لها مساس أو بعض مساس بها؟
لا بد لنا قبل التوغل في الجواب من أن نفرق في موضوعنا بين المرأة أماً وبينها زوجة أو حبيبة، إذ لكل أثره الخاص وناحيته التي لا تشبه ناحية الآخر. فماذا كان تأثير الأم على المتنبي؟ كل ما عرفناه عن أم المتنبي أنها كانت همدانية صحيحة النسب من صلحاء النساء الكوفيات ومهما أراد الدكتور طه حسين أن يحيط بمولد المتنبي من الشذوذ ومهما أردنا أن ندفع هذا الشذوذ فلا ريب أنه لم يكن لأم المتنبي أي أثر لا في حياته ولا في شعره، بل إن المتنبي الذي تغنى بجدته لم يشر إلى أمه إشارة ولم يولها ذكراً. والدكتور طه حسين محق حين يقف طويلاً أمام هذه الظاهرة فيتساءل عن السر فيها. ولكننا لا يمكن أن نذهب معه إلى النتيجة التي وصل إليها من أن ذلك إنما كان لأن مولد المتنبي كان شاذاً! ولماذا كان شذوذ المتنبي هو السر في ذلك، ولا يكون السر فيه هو أن المتنبي لم ينعم بتلك الأم ففقدها قبل أن يعرف المجتمع وينغمس في الحياة؟ أكبر الظن أن أم المتنبي قد فارقت الدنيا قبل أن يقدر لابنها التعرف عليها والتمتع بعطفها وحنانها فتركته لأمها، فكانت أمها له أماً، وكانت عاطفة البنوة ملتهبة فيه لجدته، لأنه لم يعرف غيرها أماً، وإذا لم يذكرون شوق أمه، ولماذا يعنى برثاء جدته ولا يعني برثاء أمه؟
ومهما كان مولد المتنبي شاذاً - على رأي الدكتور طه حسين - فإن هذا الشذوذ لن يحول دون شوق الوالدة إلى ولدها
ولن يحول بين رثاء المتنبي لأمه لو كانت هذه الأم حية عندما كان ابنها شاعر العرب، ومهما يكن من أمر فالذي لا ريب فيه هو أن أم المتنبي بعيدة عن كل أثر في حياته وشعره، وقد حلت محلها في هذا الأثر أمها فكان من تأثيرها في شعره تلك القصيدة الرثائية الخالدة التي قيل عنها: (أنه ورد عليه كتاب من جدته تشكو شوقها إليه وطول غيبته عنها فتوجه نحو العراق ولم يمكنه وصول الكوفة فانحدر إلى بغداد، وكانت جدته قد يئس فكتب إليها كتاباً يسألها المسير إليه فقبلت كتابه وحمت لوقتها سروراً به وغلب الفرح على قلبها فقتلها)
ونحن لا تهمنا العلة التي ماتت بها الجدة ولا فرق لدنيا إذا كانت هذه العلة هي الفرح أو الحزن أو أية علة أخرى ما دامت قد ماتت قبل أن يراها ابن ابنتها وبعد أن أوشك أن يراها، وقد كان المتنبي وهو الشاعر الحساس الملتهب الشعور المتأجج القلب كان حرياً به أن يخلد هذا الموقف الرائع بمثل ما خلوه به من الشعر الذي لا نزال نحس فيه أحزان المتنبي وآلامه، والذي لا يزال على تطاول العهد به مضرب المثل في الأسى العميق والشجن الدامي، ومن ذا الذي لا يهزه هذا القول:
أحن إلى الكأس التي شربت بها ... وأهوى لمثواها التراب وما ضما
وإذا كان المتنبي ينادي بأنه نحن إلى الكأس التي شربت بها جدته فما كان ذلك لأن هذه الجدة قد ماتت وملكه عليها الحزن فحسب، بل كان ذلك لأن نفس المتنبي كانت في ذلك الحين قد امتلأت هموماً، ولأن الزمن كان قد جرعه أمر الغصص، ولأنه كان قد رأى بعينيه انهيار آماله في الحياة وأهل الحياة، ولأنه كان قد وصل إلى حال أصبح يحن معها إلى ورود كأس المنية، ثم فوجئ بموت القلب الذي كان يرى أنه وحده يخفق بحبه، وأنه وحده الذي يستروح إليه ويعتمد عليه فصاح من أعماق قلبه في ساعة يائسة (أحن إلى الكأس التي شربت بها)
وهاهو نفسه يزيد هذه الفكرة وضوحاً وجلاء فيقول:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما
فهو قد قاس من صروف الليالي ما جعله سيئ الظن بها وما جعله لا يترقب منها إلا الشر، فلما أتته هذه الداهية لم يفاجأ بها ولم تزده علماً بما يحمله له الزمن من خبايا المصائب والمحن. ثم هو ذا يمعن في الإيضاح والجلاء فيصور خيبة أمانيه وتلاشى أحلامه، فلا ولاية ولا سلطان ولا حشم ولا اتباع بل حظ عاثر ويأس قائل:
طلبت لها حظاً ففاتت وفاتني ... وقد رضيت بي لو رضيت بها قسماً
وهكذا بعد أن طوف في البلاد وراء (الحظ)، فاته هذا الحظ وفاتته كذلك هذه الجدة الرؤوم ونحن نلمس في عجز البيت خساً من الندم الخفي على تلك المغامرات والضرب في الفلوات وراء الحظ المنشود وتلمس روحاً من الأسف المكبوت على أن لا يكون قد قنع فلم يجازف ورضى فلم يندفع، وعلى أن لا يكون قد عاش إلى جانب تلك الجدة خلى البال من المطامح بدلا. من أن يعيش إلى جانب أولئك الذين لم يعرفوا حقه ولم يجيبوا سؤله، ولا أدل على هذا الندم والأسف من البيت الذي يليه:
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها ... وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما
ولا نريد أن نسترسل في النظر بهذه القصيدة، وإنما نكتفي بالقول إنها صورة حية لما كانت عليه نفس المتنبي من الحزن والكمد، وإنها مظهر واضح لما كان فيه من التبرم بالناس والحياة وأن وفاة جدته كانت مفجراً لعاطفته، فأرسل نفسه على سجيتها فبكى فيها بكاء مراً:
حرام على قلبي السرور فإنني ... أعد الذي ماتت به بعدها سما
وما انسدت الدنيا على لضيقها ... ولكن طرفا لا أراك به أعمى
فوا أسفا أن لا أكب مقبلا ... لرأسك والصدر الذي ملئا حزما
وتحدى الناس تحدياً صارخاً:
لئن لذ يوم الشامتين بيومها ... فقد ولدت مني لا نفهم رغما
تغرب لا مستعظما غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالفه حكما
يقولون لي ما أنت في كل بلدة ... وما تبتغي، ما أبتغي جل أن يسمى
كأن بنيهم عالمون بأنني ... جلوب إليه من معادنه اليتما
واستهتر بالدنيا وما فيها:
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي ... ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
هذا هو أثر المرأة الأم، أو على الأصح المرأة الجدة، في شعر المتنبي، فما هو أثر المرأة الزوجة والمرأة الحبيبة في حياته وشعره؟
إذا كان قد وجد بين المؤرخين من يذكر أم المتنبي فيقول إنها همدانية من صلحاء نساء الكوفة، فإنه لم يوجد بينهم من يذكر زوجته أو يتحدث عنها بشيء، فنحن لا نستطيع أن نعرف في أي زمن تزوج المتنبي، ولا في أي طور من أطور حياته، ولا في أي بلد من البلاد التي نزلها، بل إن الغموض ليكتنف هذه النقطة من تاريخه كل الاكتناف، وليس لدينا شيء واضح عنها، غير أنه كان له ولد سماه (محسداً)، أما من هي أم محسد، وكيف اتصل بها المتنبي، وأين اتصل، وكيف كانت حياته معها؟ فإنا لا نستطيع الإجابة على شيء من هذا. فهل عاشت معه في بلاط سيف الدولة؟ وهل انتقلت معه إلى مصر؟ وهل ذهبت إلى أرجان وشيراز؟ وهل امتدت بها الحياة بعده أم ماتت قبله؟ كل ذلك لا يجيبنا عنه التاريخ بشيء، ولكن أمراً واحداً يستوقف النظر، هو أن الذين ذكروا مقتل المتنبي ذكروا أن محسداً قتل معه، فنحن نعرف من ذلك أن محسداً كان يصحب أباه في عوده من فارس إلى العراق، ولكننا لا نعرف السن التي كان فيها محسد، كما إننا لا نعرف أين كانت أم محسد في ذلك الحين. على أننا نستطيع التأكد من أنها لم تكن تصبحه في تلك الرحلة القانية، لأنها لو كانت تصحبه وقتل زوجها وولدها لسمعنا عنها خبراً، ولروى أبو نصر الجبلي للخالدين عنها شيئاً؛ فيا ليت شعري هل كانت لا تزال على قيد الحياة تنتظر أوبة زوجها وولدها وتستعد لاستقبالهما بعد الغياب الطويل؟ هل كانت أم محسد في الكوفة تترقب عودة أبي محسد ومحسد فتبثهما لواعج الوجد والشوق وتفضي إليهما بما في الصدر من هوى وحنين؟ أم كانت في مكان آخر تستطلع أخبار الغائبين العزيزين متوقعة ما يحملانه لها من مجد ورفاه ومال؟ أجل هل كانت حية تنتظرهما أم كانت ميتة من عهد بعيد أو قريب فلم يفجعها موتهما الدامي؟
كل ذلك سر في ضمير التاريخ لم يكشف عنها لأحد. ولكننا نتساءل: هل يمكن أن تموت في حياة زوجها، ثم لا يرثيها بكلمة ولا يبكيها بقصيدة بعد أن رأينا شدة تفجعه على جدته وطول حرقته لموتها، ونحن يعنينا في مقالنا هذا أن نعرف مدى تأثيرها في حياة المتنبي وفي شعره، وبعد كل الذي مر ندرك أننا لا يمكن أن تجد لها أي أثر في حياته ولا في شعره
أما ما كان من تأثير الحبيبة في المتنبي فذلك ما سنجيب عليه في مقال تال.
(البناطية - بلاد الشام)
حسن الأمين
مجلة الرسالة - العدد 569
بتاريخ: 29 - 05 - 1944