لا مبالغة في القول بأن الاجتماع من أقدم الظواهر التي صاحبت العمران البشري، ولا غرو فإن الأمرين متلازمان بل أن التعبيرين من المترادفات. ولعل الأصح أن يقال إنه لا عمران بغير اجتماع وأن الحضارة نفسها إن هي إلا ثمرة اجتماع الإنسان إلى الإنسان.
ومن أقوال الحكماء قديماً: (الإنسان مدني بالطبع) وهي حكمة بالغة تصل إلى أعماق النفوس البشرية وتكشف عن طبيعة الإنسان الاجتماعية وتثبت أنه لا بد له من الاجتماع إلى أفراد جنسه وأنه لا يستغني عن ذلك الاجتماع ولا تستقيم حياته بدونه.
هذا وإن بين نشوء الاجتماع البشري وبين قيام الدول بالشكل الذي نعهده منذ أن سجل قيامها التاريخ مراحل طويلة يعنى ببحثها علماء السياسة وفقهاء القانون العام ويذهبون في أمرها مذاهب شتى ويفسرون - بالتالي - قيام الدولة تفسيرات متفاوتة شأنهم في كل موضوع ينفسح فيه مجال النظر ويطلق فيه العنان للرأي.
ولئن كان فلاسفة الإغريق قد تكلموا في السياسة فإن مسالة قيام الدولة لم تظهر بشكل جلي إلا في كتابات كتاب القرنين السابع عشر والثامن عشر الذين يمكن تبويب آرائهم في اتجاهين متميزين يختلف بينهما تفسير قيام الدولة وتحديد وظيفتها، ويتفق بين الآراء المندرجة تحت كل منها الأساس النظري وإن تفاوتت التفاصيل.
فالاتجاه الأول - ويمثله هوبز ولوك - يذهب إلى أن الاجتماع البشري قديم، أي أن الإنسان ما وجد إلا في جماعة، وأن تلك الجماعة في حالتها الطبيعية كان يسودها النزاع المستمر بين أفرادها حول الأغراض والمطامع الفردية التي لم يكن الإنسان يهتم بسواها، غير أن استمرار حالة النزاع الدائم هذه أدى إلى تنبيه أفراد الجماعة، فدفعهم حب البقاء إلى وجوب الاتحاد وأشعرهم بضرورة وجود السلطان فتفاهموا على الخروج من الحالة الطبيعية والخضوع لرئيس منهم وبذلك قامت الدولة.
أما الاتجاه الثاني - ورافع لوائه جان جاك روسو - فيذهب إلى أن الاجتماع حادث أي أن الإنسان كان في الأصل مبتوت الصلة بغيره من أفراد جنسه، وانه كان يحيا في تلك الحالة الطبيعية الأولى سعيداً موفوراً متمتعاً بحريته الكاملة حتى إذا كثر عدد الناس وتشابك مصالحهم وظهرت نوازع الشر فيهم رأى الإنسان أن ينضم إلى غيره وان يتنازل للجماعة عن جانب من حريته الأصيلة مقابل تمتعه بحماية الجماعة، وبذلك نشأت الدولة مستندة إلى إرادة المجموع أي إرادة الأمة التي فيها وحدها يتمثل السلطان.
ومهما يكن من شأن النجاح الذي لاقاه مذهب روسو في القرن الثامن عشر ومن تأثيره البالغ في الثورة الفرنسية وما تبعها من أحداث، فإن العلم الحديث لا يقر بهذا المذهب ويرى في (الهمجي النبيل) الذي خلقه روسو خيالاً لا دليل عليه بل لا حقيقة له. فالاجتماع البشري قديم قدم البشرية ذاتها؛ وقيام الدولة أمر من الصعب تتبعه وإثبات كيفية حصوله؛ وإنما الدولة نتيجة لتطور اجتماعي طويل، وهي بهذا الوصف حدث اجتماعي أو واقعة اجتماعية لا محل للبحث عن أساس قانوني لها، ولا داعي لتصور عقد اجتماعي تقوم عليه وتستند إليه.
وللعلامة ليون دوجي - كبير فقهاء القانون المعاصرين - نظرة طريفة في تكييف الدولة وتبرير قيامها تتفق والواقع الملموس. وتعتبر الكلمة الأخيرة في هذا الباب. فعنده أن الإنسان عاش في الماضي كما يعيش الآن، وكما لابد أن يعيش في المستقبل في حياة اجتماعية؛ فالفرد كان دائماً عضواً في جماعة إنسانية، غير أنه في نفس الوقت يشعر بكيانه الشخصي المستقل عن الجماعة وبميوله الخاصة وحاجاته التي يريد أن يقضيها، ولكنه يعلم أنه لا يستطيع تحقيق شيء من ذلك إلا إذا عاش في حياة مشتركة مع غيره.
إذن فالإنسان كان دائماً عضواً في جماعة كما كان دائماً يشعر بفرديته، إلا أنه كان ولا يزال يرتبط بالجماعة برباط وثيق مرجعه إلى ما أطلق عليه دوجي تعبير (التضامن الاجتماعي)
وهذا التضامن كان موجوداً في جميع مراحل تطور المجتمعات البشرية، فقد كان واضحاً في نطاق الأسرة ثم في ما بين أعضاء القبيلة، ثم بين المواطنين في المدينة الواحدة، وأخيراً بين أفراد الشعب في الدولة التي هي الشكل الحديث للجماعات المتحضرة.
وعند صاحب هذا المذهب أن أهم عوامل التضامن الاجتماعي عاملان: -
الأول أن للأفراد حاجات مشتركة لا يمكن تحقيقها إلا في الحياة المشتركة، وهذا ما يسمى بالتضامن بالتشابه والعامل الثاني - تفاوت قدرة الأفراد واختلاف كفاياتهم مما يستتبع بالضرورة تبادل الخدمات بينهم. وهذا ما يسمى بالتضامن بتقسيم العمل العاملان اللذان يتمثل فيهما التضامن الاجتماعي يؤديان إلى ترابط الجماعة واستمرار وجودها. وما الدولة سوى الصورة الواقعية التي يتجلى فيها التضامن الاجتماعي، ووظيفة الدولة إنما هي المحافظة على ذلك التضامن وتسهيل اتساعه وتطوره ومنع العوامل التي تصيبه بالضعف والوهن، وذلك عن طريق سن (قواعد للسلوك) وهي المعروفة باسم القوانين، والقوانين لا تكون مشروعة إلا إذا هدفت إلى حماية التضامن الاجتماعي وإلى كفالة عوامل نموه واطراده، فذلك التضامن هو أساس قيام الدولة وهو تبرير مالها على الأفراد من سلطان.
هذا التضامن الاجتماعي عند (دوجي) الفرنسي المعاصر فماذا عن ابن خلدون العربي القديم؟
مهلاً سيدي القارئ ولترجع معي إلى (مقدمته) الخالدة لتجد في الصفحة الخامسة والأربعين وما بعدها عرضاً بديعاً لنظرية التضامن الاجتماعي التي طلع بها العالم (دوجي) في القرن العشرين للميلاد فاعتبرت فتحاً في علم السياسة وابتكاراً في فقه القانون العام.
يقول ابن خلدون: (. . . الإنسان مدني بالطبع إذ لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران. وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه اقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب انه يأكله حباً من غير علاج فهو أيضاً يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه الأعمال من الزراعة والحصاد والدراس. . . ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير. ويستحيل أن توفي بذلك كله أو بعضه قدرة الواحد، فلابد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت لهو ولهم فيحصل بالتعاون على قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف)!
ونراه بعد ذلك يستطرد في شرحه فيقول: (وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأن الله سبحانه لما ركب الطبائع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان. . . وجعل للإنسان عوضاً من ذلك كله الفكر واليد، فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع. فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة، فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة ولا تفي قدرته أيضاً باستعمال الآلات المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة لها فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه، ما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء. . . ولا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسه. . . ويعاجله الهلاك مدى حياته ويبطل نوع البشر. وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقاءه وحفظ نوعه)!
في هذه العبارات الواضحة يعرض ابن خلدون كل ما في نظرية التضامن الاجتماعي الحديثة وإن لم يرد على قلمه لفظ (التضامن) فقد استعاض عنه بلفظ (التعاون) وقديماً قيل لا مشاحة في الاصطلاح.
لقد أشار ابن خلدون إلى قدم الاجتماع البشري وإلى أنه في الإنسان قديم أزلي، واستطرد من ذلك إلى تقرير وجود التضامن الاجتماعي وإلى شرح طبيعة ذلك الضامن بنوعيه اللذين تتكلم عنهما النظرية الحديثة وهما التضامن بالتشابه، والتضامن بتقسيم العمل.
ضرب ابن خلدون مثلاً للتضامن بالتشابه بليغاً في إيضاح المعنى المقصود إذ ذكر الدفاع وما يتطلبه من تعاون أبناء الجنس البشري، فهنا تجدنا أمام حاجة مشتركة بين جميع أفراد المجتمع هي الحاجة إلى الدفاع عن النفس إبقاء عليها وحفظاً لها، وهي حاجة لا يتيسر تحقيقها على وجهها إلا في الحياة المشتركة لما ذكره ابن خلدون من عجز الفرد الواحد من الناس أمام العدو المشترك فكان لا بد من اجتماع العدد الكبير من أفراد الجنس البشري حتى يمكن سد هذه الحاجة المشتركة بينهم، وهذا بعينه هو التضامن الاجتماعي بالتشابه الذي تكلم عنه (دوجي).
أما النوع الثاني من التضامن الاجتماعي وهو الناشئ من تقسيم العمل فقد ضرب له ابن خلدون مثلاً لا يقل وضوحاً في معناه ولا قوة في دلالته عن المثل الأول، فقد ذكر قوت يوم من الحنطة وما يقتضيه الحصول عليه من تعاون الزارع والطاحن والعاجن والخابز فضلاً عن تعاون من ينتجون لهؤلاء آلات صناعاتهم، فهنا نرى كفايات متفاوتة تستتبع تبادلاً للخدمات وتعاوناً بين أصحاب مختلف الحرف كل في اختصاصه، وهذا بعينه هو التضامن بتقسيم العمل الذي تبرزه النظرية الحديثة.
وأما عن قيام الدولة فيقول ابن خلدون: (إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم؛ وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية لدفع العدوان لأنها موجودة لجميعهم فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يضل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك.
وهكذا نرى أن ابن خلدون - وبينه وبين دوجي نحو ستمائة عام من الزمان - قد سبق إلى النظرية التي اعتبرت للفقيه الفرنسي نصراً وفتحاً وعرضها عرضاً واضحاً بيناً لا فرق بينه وبين الشكل الحديث للنظرية إلا في العبارات والمصطلحات.
وليس هذا إلا قطرة من بحر ابن خلدون الذي ينزح منه كل مطلع على آثاره الخالدة على الدهر، وخاصة مقدمته التي تعتبر بحق كنزاً حافلاً بجواهر الآراء في علوم السياسة والاجتماع. فلا مبالغة إذن فيما تصفها به دائرة المعارف الإسلامية إذ تقول أنها (ستظل دائماً أعظم مؤلفات ذلك العصر وأهمها من جهة العمق في التفكير والوضوح في عرض المعلومات والإصابة في الحكم، ويظهر أنه لم يفقها كتاب ما لأي مؤلف إسلامي.).
جمال مرسي بدر
الرسالة
بتاريخ: 09 - 02 - 1953
ومن أقوال الحكماء قديماً: (الإنسان مدني بالطبع) وهي حكمة بالغة تصل إلى أعماق النفوس البشرية وتكشف عن طبيعة الإنسان الاجتماعية وتثبت أنه لا بد له من الاجتماع إلى أفراد جنسه وأنه لا يستغني عن ذلك الاجتماع ولا تستقيم حياته بدونه.
هذا وإن بين نشوء الاجتماع البشري وبين قيام الدول بالشكل الذي نعهده منذ أن سجل قيامها التاريخ مراحل طويلة يعنى ببحثها علماء السياسة وفقهاء القانون العام ويذهبون في أمرها مذاهب شتى ويفسرون - بالتالي - قيام الدولة تفسيرات متفاوتة شأنهم في كل موضوع ينفسح فيه مجال النظر ويطلق فيه العنان للرأي.
ولئن كان فلاسفة الإغريق قد تكلموا في السياسة فإن مسالة قيام الدولة لم تظهر بشكل جلي إلا في كتابات كتاب القرنين السابع عشر والثامن عشر الذين يمكن تبويب آرائهم في اتجاهين متميزين يختلف بينهما تفسير قيام الدولة وتحديد وظيفتها، ويتفق بين الآراء المندرجة تحت كل منها الأساس النظري وإن تفاوتت التفاصيل.
فالاتجاه الأول - ويمثله هوبز ولوك - يذهب إلى أن الاجتماع البشري قديم، أي أن الإنسان ما وجد إلا في جماعة، وأن تلك الجماعة في حالتها الطبيعية كان يسودها النزاع المستمر بين أفرادها حول الأغراض والمطامع الفردية التي لم يكن الإنسان يهتم بسواها، غير أن استمرار حالة النزاع الدائم هذه أدى إلى تنبيه أفراد الجماعة، فدفعهم حب البقاء إلى وجوب الاتحاد وأشعرهم بضرورة وجود السلطان فتفاهموا على الخروج من الحالة الطبيعية والخضوع لرئيس منهم وبذلك قامت الدولة.
أما الاتجاه الثاني - ورافع لوائه جان جاك روسو - فيذهب إلى أن الاجتماع حادث أي أن الإنسان كان في الأصل مبتوت الصلة بغيره من أفراد جنسه، وانه كان يحيا في تلك الحالة الطبيعية الأولى سعيداً موفوراً متمتعاً بحريته الكاملة حتى إذا كثر عدد الناس وتشابك مصالحهم وظهرت نوازع الشر فيهم رأى الإنسان أن ينضم إلى غيره وان يتنازل للجماعة عن جانب من حريته الأصيلة مقابل تمتعه بحماية الجماعة، وبذلك نشأت الدولة مستندة إلى إرادة المجموع أي إرادة الأمة التي فيها وحدها يتمثل السلطان.
ومهما يكن من شأن النجاح الذي لاقاه مذهب روسو في القرن الثامن عشر ومن تأثيره البالغ في الثورة الفرنسية وما تبعها من أحداث، فإن العلم الحديث لا يقر بهذا المذهب ويرى في (الهمجي النبيل) الذي خلقه روسو خيالاً لا دليل عليه بل لا حقيقة له. فالاجتماع البشري قديم قدم البشرية ذاتها؛ وقيام الدولة أمر من الصعب تتبعه وإثبات كيفية حصوله؛ وإنما الدولة نتيجة لتطور اجتماعي طويل، وهي بهذا الوصف حدث اجتماعي أو واقعة اجتماعية لا محل للبحث عن أساس قانوني لها، ولا داعي لتصور عقد اجتماعي تقوم عليه وتستند إليه.
وللعلامة ليون دوجي - كبير فقهاء القانون المعاصرين - نظرة طريفة في تكييف الدولة وتبرير قيامها تتفق والواقع الملموس. وتعتبر الكلمة الأخيرة في هذا الباب. فعنده أن الإنسان عاش في الماضي كما يعيش الآن، وكما لابد أن يعيش في المستقبل في حياة اجتماعية؛ فالفرد كان دائماً عضواً في جماعة إنسانية، غير أنه في نفس الوقت يشعر بكيانه الشخصي المستقل عن الجماعة وبميوله الخاصة وحاجاته التي يريد أن يقضيها، ولكنه يعلم أنه لا يستطيع تحقيق شيء من ذلك إلا إذا عاش في حياة مشتركة مع غيره.
إذن فالإنسان كان دائماً عضواً في جماعة كما كان دائماً يشعر بفرديته، إلا أنه كان ولا يزال يرتبط بالجماعة برباط وثيق مرجعه إلى ما أطلق عليه دوجي تعبير (التضامن الاجتماعي)
وهذا التضامن كان موجوداً في جميع مراحل تطور المجتمعات البشرية، فقد كان واضحاً في نطاق الأسرة ثم في ما بين أعضاء القبيلة، ثم بين المواطنين في المدينة الواحدة، وأخيراً بين أفراد الشعب في الدولة التي هي الشكل الحديث للجماعات المتحضرة.
وعند صاحب هذا المذهب أن أهم عوامل التضامن الاجتماعي عاملان: -
الأول أن للأفراد حاجات مشتركة لا يمكن تحقيقها إلا في الحياة المشتركة، وهذا ما يسمى بالتضامن بالتشابه والعامل الثاني - تفاوت قدرة الأفراد واختلاف كفاياتهم مما يستتبع بالضرورة تبادل الخدمات بينهم. وهذا ما يسمى بالتضامن بتقسيم العمل العاملان اللذان يتمثل فيهما التضامن الاجتماعي يؤديان إلى ترابط الجماعة واستمرار وجودها. وما الدولة سوى الصورة الواقعية التي يتجلى فيها التضامن الاجتماعي، ووظيفة الدولة إنما هي المحافظة على ذلك التضامن وتسهيل اتساعه وتطوره ومنع العوامل التي تصيبه بالضعف والوهن، وذلك عن طريق سن (قواعد للسلوك) وهي المعروفة باسم القوانين، والقوانين لا تكون مشروعة إلا إذا هدفت إلى حماية التضامن الاجتماعي وإلى كفالة عوامل نموه واطراده، فذلك التضامن هو أساس قيام الدولة وهو تبرير مالها على الأفراد من سلطان.
هذا التضامن الاجتماعي عند (دوجي) الفرنسي المعاصر فماذا عن ابن خلدون العربي القديم؟
مهلاً سيدي القارئ ولترجع معي إلى (مقدمته) الخالدة لتجد في الصفحة الخامسة والأربعين وما بعدها عرضاً بديعاً لنظرية التضامن الاجتماعي التي طلع بها العالم (دوجي) في القرن العشرين للميلاد فاعتبرت فتحاً في علم السياسة وابتكاراً في فقه القانون العام.
يقول ابن خلدون: (. . . الإنسان مدني بالطبع إذ لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران. وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه اقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب انه يأكله حباً من غير علاج فهو أيضاً يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه الأعمال من الزراعة والحصاد والدراس. . . ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير. ويستحيل أن توفي بذلك كله أو بعضه قدرة الواحد، فلابد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت لهو ولهم فيحصل بالتعاون على قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف)!
ونراه بعد ذلك يستطرد في شرحه فيقول: (وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأن الله سبحانه لما ركب الطبائع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان. . . وجعل للإنسان عوضاً من ذلك كله الفكر واليد، فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر، والصنائع تحصل له الآلات التي تنوب عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع. فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة، فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة ولا تفي قدرته أيضاً باستعمال الآلات المعدة للمدافعة لكثرتها وكثرة الصنائع والمواعين المعدة لها فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه، ما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت ولا غذاء. . . ولا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسه. . . ويعاجله الهلاك مدى حياته ويبطل نوع البشر. وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقاءه وحفظ نوعه)!
في هذه العبارات الواضحة يعرض ابن خلدون كل ما في نظرية التضامن الاجتماعي الحديثة وإن لم يرد على قلمه لفظ (التضامن) فقد استعاض عنه بلفظ (التعاون) وقديماً قيل لا مشاحة في الاصطلاح.
لقد أشار ابن خلدون إلى قدم الاجتماع البشري وإلى أنه في الإنسان قديم أزلي، واستطرد من ذلك إلى تقرير وجود التضامن الاجتماعي وإلى شرح طبيعة ذلك الضامن بنوعيه اللذين تتكلم عنهما النظرية الحديثة وهما التضامن بالتشابه، والتضامن بتقسيم العمل.
ضرب ابن خلدون مثلاً للتضامن بالتشابه بليغاً في إيضاح المعنى المقصود إذ ذكر الدفاع وما يتطلبه من تعاون أبناء الجنس البشري، فهنا تجدنا أمام حاجة مشتركة بين جميع أفراد المجتمع هي الحاجة إلى الدفاع عن النفس إبقاء عليها وحفظاً لها، وهي حاجة لا يتيسر تحقيقها على وجهها إلا في الحياة المشتركة لما ذكره ابن خلدون من عجز الفرد الواحد من الناس أمام العدو المشترك فكان لا بد من اجتماع العدد الكبير من أفراد الجنس البشري حتى يمكن سد هذه الحاجة المشتركة بينهم، وهذا بعينه هو التضامن الاجتماعي بالتشابه الذي تكلم عنه (دوجي).
أما النوع الثاني من التضامن الاجتماعي وهو الناشئ من تقسيم العمل فقد ضرب له ابن خلدون مثلاً لا يقل وضوحاً في معناه ولا قوة في دلالته عن المثل الأول، فقد ذكر قوت يوم من الحنطة وما يقتضيه الحصول عليه من تعاون الزارع والطاحن والعاجن والخابز فضلاً عن تعاون من ينتجون لهؤلاء آلات صناعاتهم، فهنا نرى كفايات متفاوتة تستتبع تبادلاً للخدمات وتعاوناً بين أصحاب مختلف الحرف كل في اختصاصه، وهذا بعينه هو التضامن بتقسيم العمل الذي تبرزه النظرية الحديثة.
وأما عن قيام الدولة فيقول ابن خلدون: (إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم؛ وليست آلة السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية لدفع العدوان لأنها موجودة لجميعهم فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض ولا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يضل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك.
وهكذا نرى أن ابن خلدون - وبينه وبين دوجي نحو ستمائة عام من الزمان - قد سبق إلى النظرية التي اعتبرت للفقيه الفرنسي نصراً وفتحاً وعرضها عرضاً واضحاً بيناً لا فرق بينه وبين الشكل الحديث للنظرية إلا في العبارات والمصطلحات.
وليس هذا إلا قطرة من بحر ابن خلدون الذي ينزح منه كل مطلع على آثاره الخالدة على الدهر، وخاصة مقدمته التي تعتبر بحق كنزاً حافلاً بجواهر الآراء في علوم السياسة والاجتماع. فلا مبالغة إذن فيما تصفها به دائرة المعارف الإسلامية إذ تقول أنها (ستظل دائماً أعظم مؤلفات ذلك العصر وأهمها من جهة العمق في التفكير والوضوح في عرض المعلومات والإصابة في الحكم، ويظهر أنه لم يفقها كتاب ما لأي مؤلف إسلامي.).
جمال مرسي بدر
الرسالة
بتاريخ: 09 - 02 - 1953