محمد محي الدين عبد المجيد - أبو الطيب المتنبي

وبعد فلقد فكرت طويلاً فيما عسى أن يكون موضوع كلمتي التي أتشرف بإلقائها بين يديكم من مناحي المتنبي، وعرضت مسائل البحث على خاطري، فكنت كلما فكرت في أمر وجدت له ما يبرر التوجه إليه، ووجدت مع ذلك من الشبهات ما يذودني عنه ويقطعني عن الاسترسال فيه، ولكني استطعت في آخر الأمر أن أقنع نفسي بأنني وافد الأزهر إليكم، وبأن الأزهر هو المعهد الذي يقوم على حراسة الدين أصوله وفروعه وعلى حياطة العربية وآدابها، وبأن بحث من يمثل الأزهر يجب أن يكون متصلاً بما يؤديه الأزهر للعالم من أمانة وما يضطلع به من أعباء، فاستقام عندي بعد هذه المقدمات أن يدور بحثي حول (دين المتنبي وأخلاقه وتنبئه وموقفه من النحاة)؛ وما كدت أنتهي من ذلك الأمر وأخلص من التفكير بهذه النتيجة حتى عرض لي أمر آخر ألقيت له بالي كله، وذلك الأمر هو المقصود بهذا المهرجان: أهو تقريظ المتنبي والثناء عليه، إما بإطرائه وكيل المديح له إن حقاً وإن باطلاً، وإما بإثارة الجميل من أخباره وشعره والإعراض عما عسى أن يغض من شأنه، أم هو بحث المتنبي من جميع وجوهه لوجه الحق من غير تعنت ولا تحيز؟ ولم أزل أفكر وأقدر للأمر حتى أيقنت أن هذا الحفل الذي يجمع أقطاب الأدباء والعلماء من كل قطر لا يمكن أن يستوي عنده الأمران فإن فرق ما بينهما أوضح من أن يدل عليه. وأي إنسان يستطيع أن ينسى الفرق بين حفل يجتمع لتكريم رجل وبين حفل يجتمع فيه صفوة الأدباء لدراسة رجل من رجال الأدب كان له أشياع وأعداء، وكان أشياعه ينشرون ممادحه ويذيعون فضائله ويتأولون له، وكان أعداؤه يملئون الأرض عجيجاً حوله ويرمونه بكل نقائص الإنسانية وهم لا يتورعون عن الكذب فيما يحدثون به من أخبار. أليس من أول ما يلزم الباحثين أن يعرضوا مقالات أعدائه وشيعته جميعاً على موازين البحث الصحيحة ليخلصوا بنتيجة ترضي العقل وتسد حاجة التفكير غير مبالين أن تكون هذه النتيجة مما يتمدح به أو مما يعده الناس نقصاً؟ فإن أنا عرضت عليكم شيئاً من هذا فهذه معذرتي وهذا رأيي، ولعلي لا أكون قد أبعدت أو جانبت الصواب فيما ذهبت إليه.

دين المتنبي

أيها السادة! لقد مني أبو الطيب المتنبي بصنفين من الناس كان لكل واحد منهما من الأثر في حياته وفي أخباره التي نتوارثها إلى اليوم أقبح الأثر، ولولاهما لعاش الرجل عيشة هادئة، ولولاهما لكانت صحيفته في تاريخ الشعر والشعراء غير الصحيفة التي نقرؤها اليوم، ولولاهما لما وجد الباحث عنه هذا الغموض وهذا التناقض اللذين يعانيهما الآن. أما أحدهما فجماعة من ذوي المكانة بين الناس وأصحاب الجاه خافوه على أنفسهم ورهبوا أن تمتد مطامعه إلى مكانتهم وجاههم، أو طمعوا منه في أن يتملقهم ويرائيهم فيرد حضرتهم كما كان غيره يردها وكما كان هو يرد حضرة غيرهم من الملوك والأمراء فلم ينالوا ذاك منه، أو دفعت أبا الطيب نوازع نفسية فنال من أعراضهم فكانوا لأحد هذه الأسباب أولها كلها مجتمعة يحنقون عليه ويغضون من شأنه، وكانوا مع ذلك يؤلبون عليه الشعراء والعلماء لينالوا منه ويؤذوه في نفسه وفي شعره. وكان أبو الطيب يخشاهم ويرهب سلطانهم، بل لم يكن يخشاهم على نفسه فحسب، وإنما خشيهم على بعض أصدقائه ومن يشفق عليه، فقد حدث أبو إسحاق الصابئ قال: (راسلت أبا الطيب رحمه الله في أن يمدحني بقصيدتين وأعطيه خمسة آلاف درهم ووسطت بيني وبينه رجلاً من وجوه التجار، فقال: (قل له والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكر لك الوزير (يعني أبا محمد المهلبي) وتغير عليك لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال فأنا أجيبك إلى ما التمست وما أريد منك مالاً ولا عن شعري عوضاً)، فتنبهت على موضع الغلط، وعلمت أنه نصح فلم أعاوده اهـ). وأما الصنف الآخر فجماعة ممن كانوا يأملون أن تكون لهم المنزلة التي أدركها من الحظوة عند الملوك، وحرص كل واحد منهم أن يكون أبو الطيب من بطانته وتنافسهم في ذلك، فلما لم يبلغ هؤلاء المؤملون هذه الأمنية أكل الحقد عليه قلوبهم، واشتعلت جذوة الحسد بين جوانحهم، فتفننوا في القول عليه والدس له، ونشروا عنه من المقابح ما لم يكن يعلم من أمر أكثره شيئاً؛ ولم يكتفوا بأن يعملوا على إبعاده عن الملوك الذين كان التقرب إليهم منتهى آمالهم، بل حاولوا التفريق بينه وبين الجمهور، فجاءوه من ناحية الدين ثقة منهم أن للدين في نظر جمهرة الناس وعامتهم المنزلة الأولى، فإذا أتى الرجل من جهته فقد سقط وإن بقي له كل شيء.

رموه بأنه كان رقيق الدين تاركاً لأركان الإسلام، ورموه بأنه كان يستخف بالأنبياء ويستصغر شأنهم، ورموه بأنه ذهب في الفلسفة مذهباً بعيداً عما يعتقده المسلمون؛ وقد نسوا حين رموا أبا الطيب بذلك كله أن دين الإسلام شديد الصرامة في حكم هذه المسألة، وأنه لا يحل لمن يعتنقه أن يرمي أخاه بأمثال هذه التهم لإرضاء حفيظة نفسه حتى يكون بين يديه دليل لا يقبل التأويل.

ولسنا حين نتشكك في أخبار هؤلاء الناس أو ننكر استنتاجهم ندعي لأبي الطيب أنه كان رجلاً صالحاً ورعاً يقوم الليل ويصوم النهار ويطيل العبادة وقراءة القرآن، ولكنا نفعل ذلك لنقرر أن حياة أبي الطيب قد أحاطها أعداؤه بكثير من الغموض وأحاطوها مع هذا الغموض بكثير من الأكاذيب والمفتريات كان من شأنها أن تريك حياته سلسلة من المتناقضات.

حكي على بن حمزة البصري قال: (بلوت من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة: وتلك أنه ما كذب ولا زنى ولا لاط، وبلوت منه ثلاث خصال ذميمة: وتلك أنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن) وهذا خبر لم يذكر قائله معه وجهاً يقربه من الصدق. وهل يستطيع إنسان في الدنيا أن ينفي عن آخر فعل شيء حتى يزعم أنه لزمه طول حياته فلم يفارقه وأنه ما رآه يفعله قط؟ ثم إن أمر الصوم في حديث علي بن أبي حمزة أهون من أمر الصلاة وقراءة القرآن، فهو يستطيع أن يدعي مرة أخرى أنه رأى أبا الطيب كل عام في شهر رمضان في حلب ومصر والعراق وشيراز وسائر البلاد التي وطئنها قدماً أبي الطيب، وأنه رآه مع ذلك يأكل أو يشرب نهاراً، يستطيع أن يدعي هذا كله وحينئذ يتم له ما أراد من أنه بلا من أبي الطيب خلة ذميمة وهي أنه ما صام، ولكن أنى له أن يدعي ذلك. فأما أمر الصلاة وقراءة القرآن فنحن نسأله: أكان قد لزم أبا الطيب في مغداه ومراحه ومتيقظه ومنامه حتى يستطيع أن يزعم أنه ما صلى؟ وشيء آخر، ذلك أنه بلا منه خلة محمودة وهي أنه ما كذب، فهل سأله عن صلاته وقراءته القرآن فحدثه وصدقه الحديث أنه ما صلى ولا قرأ القرآن؟ والحق أن علي بن حمزة البصري رجل أراد أن يرمي أبا الطيب بما رمى به أمثاله أمثال أبي الطيب من قبل، وبما لا يزال أمثاله يرمون به أمثال أبي الطيب إلى اليوم. يريد بذلك أن يرضي خصوم أبي الطيب أو يشبع شهوة الانتقام منه، وأراد أن يعمي على الناس ويحملهم على تصديقه، فذكر في صدر حديثه أنه بلا منه ثلاث خلال محمودة، وهذه العبارة فيما نعلم من أمر الناس إحدى الدلائل على اختلاق الحديث. هذا وقد ذكر أبو العلاء في شأن صلاة أبي الطيب قال: (وحدثت أن أبا الطيب أيام كان اقطاعه بصف رؤى يصلي بموضع بمعرة النعمان يقال له كنيسة الأعراب، وأنه صلى العصر ركعتين، فيجوز أن يكون رأى أنه على سفر وأن القصر له جائز) فهل يمكن أن يكون خبر علي بن حمزة بعد ذلك موثوقاً به؟ فأما تأول المتنبي وأنه رأى أن القصر له جائز فأمر آخر ليس بحثه من شأننا الآن؛ وقراءة القرآن التي زعم علي بن حمزة أن أبا الطيب لم يفعلها أفي الناس من يعقل أن رجلاً نشأ على حفظ اللغة واستظهار غريبها، والتنقل في البوادي ليلقطها من أفواه الأعراب يجد القرآن بين يديه وهو كتاب لغة وأسلوب وفكر، فوق أنه كتاب هداية وخلق وآداب، ثم لا يقرأه ليتأسى به ويتقيل أساليبه ويتخذ من اطراد منطقه وإحكام الحجة فيه منهجاً لنفسه؟ ونحن نذكر لعلي بن حمزة أن أبا الطيب قد قرأ القرآن وفهمه، ونذكر له مما يشير إلى ذلك قوله من قصيدة يمدح بها كافوراً:

كأن كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب

وقوله من قصيدة يمدح فيها محمد بن زريق الطرسوسي:

لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى

فأما ما ذكروه من استخفافه بالأنبياء واستصغاره شأنهم وعدم مبالاته بأصول العقيدة، فقد رأينا فيما جمعناه من كلام أبي الطيب مما هو متصل بهذه المسألة أن بعض ما ذكروه أهون من أن يؤبه له كقوله:

ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود

وكقوله:

إنا في أمة تداركها الله ... غريب كصالح في ثمود

وأي شيء في أن يشبه نفسه وهو يقيم بين قوم يعتقد أنهم أعداؤه بالمسيح عليه السلام حين أقام بين اليهود؟ وأي شيء في أن يدل على أن بقاءه بين قوم لا تجانس بينه وبينهم غربة تشبه غربة صالح عليه السلام، إذ كان يعيش في وسط لا يرون رأيه؟ وبعض ما أخذوه عليه تجد له محملاً في الكلام لو أنت حملته عليه لم يكن به بأس، وذلك كقوله في قصيدة مدح بها الحسين ابن إسحاق التنوخي:

فما ترزق الأقدار من أنت حارم ... وما تحرم الأقدار من أنت رازق

فإنه يمكن أن يكون قد أراد أن الحسين بن إسحاق رجل موفق إلى السداد وإصابة المقادير فهي تجري دائماً موافقة لما اهتدى إليه ولا شيء في ذلك فيما نظن. وأما بقية ما أخذوه عليه فداخل في باب المبالغة التي تجري على ألسنة الشعراء وهي لم تخالط قلوبهم، وأبو الطيب كثير المبالغة في شعره، ونحن نأخذها عليه من الناحية الأدبية ولا نستدل بها على فساد عقيدته؛ فمن ذلك قوله في مدح محمد بن زريق:

لو كان للنيران ضوء جبينه ... عبدت فصار العالمون مجوسا

ومن ذلك قوله من قصيدة يقولها في صباه:

عمرك الله هل رأيت بدوراً ... طلعت في براقع وعقود
راميات بأسهم ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد

وقد اعتذر الناس عن قوله: (هن فيه أحلى من التوحيد) بوجوه: أحدها قاله ابن جني وملخصه إنكار هذه الرواية، والرواية عنده (هن فيه حلاوة التوحيد) وقد سرى إلى ابن جني داء النحاة في تحريف الشواهد وتغييرها على ما يوافقهم. والوجه الثاني: (تفسير التوحيد بأنه ثمر من ثمار العراق حلو المذاق، والوجه الثالث قاله العكبري وملخصه أنه ليس المراد تفضيل حلاوة الرشفات على حلاوة التوحيد، وإنما المراد تقريب حلاوتها من حلاوته لأن حلاوته ثابتة غير مكشوف فيها وحلاوتها غير معروفة، وذانك الوجهان من باب التمحلات البعيدة كما ترون، وليس لنا إلا أن نعترف بأن هذا غلو أفرط فيه أبو الطيب فتجاوز الحد. ومن ذلك قوله من قصيدة مدح بها أبا شجاع عضد الدولة

الناس كالعابدين آلهة ... وعبده كالموحد الله

وقوله من قصيدة مدح بها بدر بن عمار:

لو كان علمك بالإله مقسما ... في الناس ما بعث الإله رسولاً لو كان لفظك فيهم ما أنزل ال ... قرآن والتوراة والإنجيلا

وكل هذا من الغلو البعيد كما قدمنا، ونحن نعتب عليه أنه قد أسلس العنان لفكره حتى جال في هذا الميدان، فلا بدع أن يمتلئ من غباره وتصيبه إحدى قذائفه.

فأما ما اتهموه به من الذهاب في فلسفته مذهباً لا يقره الإسلام فأني أبادر بإنكار ذلك عليهم وأعرض عليكم شيئاً مما ذكروه لتتبينوا بأنفسكم أنهم لم يكونوا منصفين حين نسبوه إلى ما نسبوه إليه؛ زعموا أنه أنكر المعاد لقوله:

تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام

وأي دليل في هذا الكلام على إنكار المعاد؟ وأي شيء في أن تقول: (إن للموت معنى غير معنى النوم واليقظة؟ ومن ذا الذي يزعم أن معنى الموت هو معنى النوم واليقظة أو أن حال الإنسان فيه كحاله فيهما) وزعموا أنه يرى رأي السوفسطائية الذين ينكرون ثبوت حقائق الأشياء لقوله:

هون علي بصر ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم

ولو كان ذلك من مذهب السوفسطائية لما جاز لأحد أن يشبه شيئاً بضده إذا اشتركا في أمر من الأمور ونحن ما نزال نسمع الناس يقولون إن نوم فلان ويقظته سواء إذا كان لا يستفاد من يقظته أو كان لا يجد الراحة في نومه كما لا يجدها في يقظته. وما نزال نسمعهم يشبهون الموجود بالمعدوم والمنير بالمظلم. وهكذا يجري على الألسنة من غير أن يلتفت أحد إلى هذا الذي زعموه ونسبوه إلى القول بقدم العالم مستنجين ذلك من قوله في قصيدة رثى فيها أخت سيف الدولة:

تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب

وهذا استنتاج لا يقضي العجب منه، بل أنا أصارحكم - ولا ضير علي في ذلك - بأنني لم أعرف وجه هذا الاستنتاج، ولو استنتجوا من هذين البيتين أنه ينكر المعاد لكان لاستنتاجهم وجه. على أنه إذا صح أن يكفر رجل بهذا الكلام وجب أن نحكم على علماء المسلمين عامة بالكفر ونحكم بذلك بادئ الأمر على المشتغلين بعلم الكلام والرد على فرق الملاحدة، ذلك بأنهم يحكون لنا أقوال الكفار كما حكاها أبو الطيب في هذين البيتين، بل إن علماء المسلمين أولى بهذا الحكم منه لأنهم يذكرون مع ما يحكونه من الآراء شبهة أهل هذه الآراء، وقد يصورون شبهاتهم في صورة الأدلة؛ يجب عند خصوم أبي الطيب أن يكون علماء المسلمين كفاراً وإن لم يعتقدوا ما يحكونه من آراء وإن كان عندهم من الأدلة على بطلانها ما لا يدخل في حساب أحد، وفي الحق أن أعداء أبي الطيب لم يكونوا موفقين فيما رموه به، وأن أبا الطيب نفسه لم يسعفه التوفيق في كل ما جرى على لسانه.

(له بقية)

محمد محي الدين عبد المجيد

المدرس بكلية اللغة العربي

مجلة الرسالة - العدد 164

بتاريخ: 24 - 08 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...