القاهرة الجديدة... هي قصة المجتمع المصري الحديث، وما يضطرب في كيانه من عوامل، وما يصطدم في أعماقه من اتجاهات. قصة الصراع بين الروح والمادة، بين العقائد الدينية والخلقية والاجتماعية والعلمية، بين الفضيلة والرذيلة، بين الغنى والفقر، بين الحب والمال... في مضمار الحياة.
وهي تبدأ في نقطة الارتكاز في الجامعة، حيث تصطرع الأفكار الناشئة هناك بين طلابها - بفرض أن الجامعة ستكون هي (حقل التجارب والإكثار) للأفكار النظرية التي تسير الجيل.. ثم تدفع بشتى الأفكار والنظريات النابتة في هذا الحقل، إلى مضمار الحياة الواقعية، وغمار الحياة اليومية، وتصور صراع النظريات مع الواقع خطوة فخطوة، تصوره انفعالات نفسية في نفوس إنسانية، وحوادث ووقائع وتيارات في خضم الحياة.
وصفحة فصفحة نجدها في صميم الحياة المصرية اليومية. هذه الأفكار المجردة نعرفها، وهذه الوجوه شهدناها من قبل؛ وهذه الحوادث ليست غريبة علينا. نعم فيها شيء من القسوة السوداء في بعض المواقف، ولكنها في عمومها أليفة. تؤلمنا ولا ننكرها، وتؤذينا أحياناً، ولكننا نتقبلها!
هذا هو الصدق الفني. فنحن نعيش مع الرواية لحظة لحظة. نعيش مصريين، ونعيش آدميين، وفي المواقف القاسية، في مواقف الفضيحة، حيث تبدو الرذيلة كالحة شوهاء مريرة، نود لو ندير أعيننا عنها كي لا نراها، ولكننا نقبل عليها مضطرين ففي القبح جاذبية! إنها الدمامل والبثور في جسم مصر وفي جسم الإنسانية كذلك، وإذا انفعلنا لها مرة لأننا مصريون، انفعلنا لها أخرى، لأننا ناس وإنسانيون.
لقد اختار المؤلف من بين طلاب الجامعة أربعة ليمثلوا الأفكار والاتجاهات التي تتصارع في المجتمع الحديث...!
الأول: الإيمان بالدين والخلق والفضيلة عن طريقه، والالتجاء إليه طلباً للخلاص.
الثاني: الإيمان بالمجتمع والعدالة الاجتماعية، والصراع العملي لتحقيق الفضيلة الاجتماعية والشخصية من هذا الطريق.
الثالث: الإيمان بالذات، وعبادة المنفعة، وتسخير المبادئ والمثل والأفكار جميعاً لخدمة هذا الإله الجديد!
الرابع: المتفرج الذي يرقب هذا وذاك وذلك لمجرد التسجيل والنظر والمشاهدة..!
ونستطيع أن نلمح في ثنايا الرواية وفي خاتمتها ميل المؤلف لأن ينتصر للمبادئ على كل حال، وأن يحقر الإيمان بالذات والتدهور الخلقي والاجتماعي، والقذارة، والانحلال. ولكنه لم يلق خطبة منبرية واحدة في خلال ثمانين ومائة صفحة ولم يفتعل حادثة واحدة افتعالا.
لي بعض الملاحظات على سياقه بعض الحوادث وشكلها. فقد كانت فيها قسوة في مواجهة صاحب الإيمان الثالث بالتجارب التي يحك عليها إيمانه ومبادئه! قسوة لم تكن الرواية في حاجة إليها لتصل إلى أهدافها.. ولكنها في كل حال بعيدة عن التزوير والافتعال.
فمثلا هذا الشاب الذي أسماه (محجوب عبد الدايم)، ووصفه في هذه السطور:
كان صاحب فلسفة استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه، وفلسفة الحرية كما يفهمها هو، (طظ) أصدق شعار لها. هي التحرر من كل شيء، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعي عامة! وهو القائل لنفسه ساخراً: إن أسرتي لم تورثني شيئاً أسعد به، فلا يجوز أن أرث عنها ما أشقى به!، وكان يقول أيضاً: إن أصدق محاولة في الدنيا هي: الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق=طظ، وكان يفسر الفلسفات بمنطق ساخر يتسق مع هواه. فهو يعجب بقول ديكارت: (أنا أفكر فأنا موجود) ويتفق معه على أن النفس أساس الوجود! ثم يقول بعد ذلك إن نفسه أهم ما في الوجود! وسعادتها هي كل ما يعنيه؛ ويعجب كذلك بما يقوله الاجتماعيون من أن المجتمع هو خالق القيم الأخلاقية والدينية جميعاً. ولذلك يرى من الجهالة والحمق أن يقف مبدأ أو قيمة حجر عثرة في سبيل نفسه وسعادتها! وإذا كان العلم هو الذي هيأ له التحرر من الأوهام، فليس يعني هذا أن يؤمن به أو أن يهبه حياته، ولكن حسبه أن يستغله وأن يفيد منه، فلم تكن سخريته من رجال العلم دون سخريته من لرجال الدين، وإنما غايته في دنياه: اللذة والقوة بأيسر السبل والوسائل، ودون مراعاة لخلق أو دين أو فضيلة.
لقد استعار هذه الفلسفة بإرشاد هواه، ولكن تهيؤه لها نما معه منذ أمد بعيد. فهو مدين بنشأته للشارع والفطرة. كان والداه طيبين جاهلين، ولظروفهما الخاصة، أتم تكوينه في طرق بلدة القناطر، وكان لداته صبية شطاراً ينطلقون على فطرتهم بلا وازع ولا تهذيب، فسب وقذف وسرق، واعتدى واعتدي عليه، وتردى إلى الهاوية. ولما انتقل إلى جو جديد - المدرسة - أخذ يدرك أنه كان يحيا حياة قذرة، وعانت نفسه مرارة العار والخوف والقلق والتمرد. ثم وجد نفسه في بيئة جديدة، طالباً من طلاب العلم بالجامعة، ورأى حوله شباناً مهذبين يطمحون إلى الآمال البعيدة والمثل العالية، ولكنه عثر كذلك على نزعات غريبة، وآراء لم تدر له بخلد. عثر على موضة الإلحاد والتفسيرات التي يبشر بها علماء النفس والاجتماع للدين والأخلاق والظاهرات الاجتماعية الأخرى، وسر بها سروراً شيطانياً، وجمع من نخالتها فلسفة خاصة اطمأن بها قلبه الذي نهكه الشعور بالضعة.
لقد كان وغداً ساقطاً مضمحلاً؛ فصار في غمضة عين فيلسوفاً! المجتمع ساحر قديم. جعل من أشياء فضائل وجعل من أشياء رذائل، ولقد وقف على سره وبرع في سحره، وسيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل، وفرك يده سروراً، وذكر ماضيه أطيب الذكر، ورمق مستقبله بعين الاستبشار، وألقى عن عاتقه شعور الضعة. بيد أنه أدرك منذ اللحظة الأولى أن فلسفته فلسفة سرية. يجوز أن يدعو (مأمون رضوان) إلى الإسلام جهاراً، ويجوز أن يعلن (علي طه) اعتناقه لحرية الفكر والاشتراكية. أما فلسفته هو فينبغي أن تظل سرية - لا احتراماً للرأي العام، فإن من مبادئها احتقار كل شيء - ولكن لأنها لا تؤتى أكلها إلا إذا كفر الناس بها وآمن بها وحده! ألا ترى أنه إذا آمن الناس جميعاً بالرذيلة لم يتميز بينهم بما يتيح له التفوق عليهم؟ لذلك احتفظ بها لنفسه، ولم يعلن منها إلا ما هو في حكم الموضة كالإلحاد وحرية الفكر؛ إلا إذا ضاق صدره أو غلبه شعور الوحشة، فإنه ينفس عن قلبه بالمزاح والسخرية. فبدا للقوم ساخراً ماجناً، لا شيطاناً مجرماً، ومضى في سبيله شابا فقيرا بلا خلق، يرصد الفرص ويتوثب للانقضاض عليها بحرارة لا تعرف الحدود).
وهو تصوير معجب لشخصية هذا (النموذج) وقد صور زملاءه كذلك - كما صور كل شخصية جاءت في الرواية - ويعجبني فيه ذلك التعليل الصامت لاتجاهات "محجوب عبد الدايم" وزملائه. إنهم كلهم في جامعة واحدة، يدرسون نظريات واحدة، ويخضعون لمؤثرات واحدة، ولكن كلا منهم يختط طريقة في التفكير والحياة بحكم مزاجه ووراثاته ورواسب شعوره، ويخلق لنفسه فلسفة يعتمد فيها على نفس الأسباب والعلل التي يعتمد عليها الآخرون في تكوين فلسفة مغايرة! ويصدق سلوكهم فيما بعد هذه القواعد أيضاً.
حقيقة إن "محجوب عبد الدايم" لم يكن في سلام مع شعوره دائماً وهو يواجه التجارب. فالنظريات شيء - مهما يكن الاقتناع بها، ومهما تكن بواعثها - والتجارب العلمية شيء آخر. ولكنه سار إلى نهاية الشوط، ولم يقف إلا حين صدمته أنانية أخرى ففضحته، وحين إنفضحت الرذيلة في القصة لم يكن ذلك ليقظة في ضمير المجتمع فهو مجتمع مريض. وإنما كانت غلبة رذيلة على رذيلة!! ولكن - كما أشرت من قبل - آخذ على المؤلف قسوة لم تكن لها ضرورة في بعض التجارب التي تواجه هذا الشاب.
لقد خيرته الظروف بين أن يبقى بلا وظيفة. أو أن يكون في وظيفة مغرية (سكرتير وكيل وزارة ثم مدير مكتب حينما يصبح وزيراً) بثمن! هو في ذاته فادح. أن يتزوج بفتاة عبث بها الوكيل الوزير! وأدى الثمن - حسب فلسفته - وتسلم البضاعة. وكان هذا حسبه، وكان حسبه أن يقبل الوضع مموهاً من الخارج وهو يدرك حقيقته. ولكن المؤلف جعله يواجه الموقف سافراً بلا تمويه. أيقبل أن يكون زوجاً للفتاة التي هذا موقفها؟... ثم أيقبل أن يكون مقره (جرسونييرة) البك، وأن يواصل البك ما بدأ به، وفي يوم معين يعلمه محجوب، وعليه أن يغادر البيت فيه؟!... هذه قسوة لا مبرر لها ولا ضرورة. ومثلها أن تزف إليه (الفتاة) بلا احتفال. وكان من كمال السخرية أن يكون الاحتفال فخماً!
وشيء آخر آخذه على الرواية: لم جعل الفتى المؤمن المتدين لا تصطدم نظرياته بواقع الحياة؟ لقد اصطدم "علي طه" صاحب الإيمان بالمجتمع. اصطدم في قلبه وشعوره. فقد كانت هذه الفتاة التي زفت إلى زميله هي فتاة أحلامه وموضع إيمانه الاجتماعي. ولكنه احتمل الصدمة ومضى يؤمن بالمجتمع الكبير. واصطدم محجوب صدمات شتى وجف لها واضطرب، ولكنه احتملها في سبيل ذاته المقدسة! فلم لم يصطدم أبداً "مأمون رضوان"؟
هل يريد المؤلف أن يقول: إن إيمانه القوي بالله والدين والرجولة قد أعفاه من الاصطدام، كلا. إن المجتمع الفاسد المنحل الذي صوره في مصر - والذي هو مع الأسف واقع - لابد أن يصطدم به كل صاحب إيمان، سواء كان إيمانا بالمجتمع أو حتى إيماناً بالحياة!... ربما لاحظ أن التنسيق الفني يحتم عليه ألا يبرز على المسرح إلا شخصية واحدة رئيسية. ولكن لا. فالرواية القصصية من طبيعتها أن تسمح لأكثر من شخصية بالبروز، والتنسيق الفني يتحقق بتنويع درجات البروز. هذه نقطة من نقط الضعف في الرواية، كالنقطة الأولى كذلك.
وبعد فهناك صفحات رائعة قوية في تصوير المجتمع المصري وما فيه من انحلال يشمل الطبقات الأرستقراطية ودوائر الحكومة وآثام الفقر والثراء، وآفات المظاهر والرياء... الخ، ولكن يضيق عنها المقام، وأنا معجل عنها إلى مسألة أخرى لها أهميتها في وزن الرواية، وفي وزن كل عمل فني.
إن هذه الرواية على ما فيها من براعة في العرض، ومن قوة في التصوير - تصوير النماذج وتصوير المجتمع وتصوير المشاعر والانفعالات - هي أصغر من قيمتها الإنسانية - وتبعاً لهذا في قيمتها الفنية - من سابقتها (خان الخليلي).
رواية (خان الخليلي) أضيق في محيطها الداخلي ولكنها أوسع في محيطها الخارجي. أضيق في المجال الذي تعالجه وتضطرب فيه حوادثها. فهي قصة أسرة تفر من الموت بالقنابل، فيخترم الموت أجمل زهراتها بلا قنابل! وقصة قلب إنساني شاخ قبل الأوان فانطوى على نفسه ورضى بنصيبه، فإذا الأقدار تخايل له بقطرة ندية فيندى، ثم تجف هذه القطرة قبل أن تبلغ فاه. يرشفها منه أعز إنسان عليه: أخوه المستهتر السادر. وحينما يجد هذا المستهتر ويقومه الحب العميق، تخطفه الأقدار فيموت! ولو استأنت الأقدار لحظة هنا أو هناك، ولو تغير خيط واحد في ذلك المنوال الأبدي لتغير وجه الحياة.
أما رواية (القاهرة الجديدة) فتعالج جيلا وتصور مجتمعاً. ومجالها مع هذا أضيق من مجال (خان الخليلي!).
في (خان الخليلي) ننتهي من الرواية لنجد أنفسنا أمام رواية الحياة الكبرى: الإنسانية والأقدار، الضعف الإنساني والقوى الكونية، أشواق الناس وأهدافهم أمام الغيب المجهول. وفي (القاهرة الجديدة) نبدأ وننتهي، ونحن أمام جيل من الناس ومجتمع قابل للزوال، فلا تبقى إلا بعض الملامح الإنسانية الخالدة.. المجال هناك أوسع لأنه خالد بخلود الإنسان، والقيمة الإنسانية هناك أكبر، وهي جزء من القيمة الفنية له أثره في وزن الرواية، وراء المهارة الفنية في العرض والتنسيق والاختبار.
* من مجلة الرسالة عدد 704
30 ديسمبر 1946
وهي تبدأ في نقطة الارتكاز في الجامعة، حيث تصطرع الأفكار الناشئة هناك بين طلابها - بفرض أن الجامعة ستكون هي (حقل التجارب والإكثار) للأفكار النظرية التي تسير الجيل.. ثم تدفع بشتى الأفكار والنظريات النابتة في هذا الحقل، إلى مضمار الحياة الواقعية، وغمار الحياة اليومية، وتصور صراع النظريات مع الواقع خطوة فخطوة، تصوره انفعالات نفسية في نفوس إنسانية، وحوادث ووقائع وتيارات في خضم الحياة.
وصفحة فصفحة نجدها في صميم الحياة المصرية اليومية. هذه الأفكار المجردة نعرفها، وهذه الوجوه شهدناها من قبل؛ وهذه الحوادث ليست غريبة علينا. نعم فيها شيء من القسوة السوداء في بعض المواقف، ولكنها في عمومها أليفة. تؤلمنا ولا ننكرها، وتؤذينا أحياناً، ولكننا نتقبلها!
هذا هو الصدق الفني. فنحن نعيش مع الرواية لحظة لحظة. نعيش مصريين، ونعيش آدميين، وفي المواقف القاسية، في مواقف الفضيحة، حيث تبدو الرذيلة كالحة شوهاء مريرة، نود لو ندير أعيننا عنها كي لا نراها، ولكننا نقبل عليها مضطرين ففي القبح جاذبية! إنها الدمامل والبثور في جسم مصر وفي جسم الإنسانية كذلك، وإذا انفعلنا لها مرة لأننا مصريون، انفعلنا لها أخرى، لأننا ناس وإنسانيون.
لقد اختار المؤلف من بين طلاب الجامعة أربعة ليمثلوا الأفكار والاتجاهات التي تتصارع في المجتمع الحديث...!
الأول: الإيمان بالدين والخلق والفضيلة عن طريقه، والالتجاء إليه طلباً للخلاص.
الثاني: الإيمان بالمجتمع والعدالة الاجتماعية، والصراع العملي لتحقيق الفضيلة الاجتماعية والشخصية من هذا الطريق.
الثالث: الإيمان بالذات، وعبادة المنفعة، وتسخير المبادئ والمثل والأفكار جميعاً لخدمة هذا الإله الجديد!
الرابع: المتفرج الذي يرقب هذا وذاك وذلك لمجرد التسجيل والنظر والمشاهدة..!
ونستطيع أن نلمح في ثنايا الرواية وفي خاتمتها ميل المؤلف لأن ينتصر للمبادئ على كل حال، وأن يحقر الإيمان بالذات والتدهور الخلقي والاجتماعي، والقذارة، والانحلال. ولكنه لم يلق خطبة منبرية واحدة في خلال ثمانين ومائة صفحة ولم يفتعل حادثة واحدة افتعالا.
لي بعض الملاحظات على سياقه بعض الحوادث وشكلها. فقد كانت فيها قسوة في مواجهة صاحب الإيمان الثالث بالتجارب التي يحك عليها إيمانه ومبادئه! قسوة لم تكن الرواية في حاجة إليها لتصل إلى أهدافها.. ولكنها في كل حال بعيدة عن التزوير والافتعال.
فمثلا هذا الشاب الذي أسماه (محجوب عبد الدايم)، ووصفه في هذه السطور:
كان صاحب فلسفة استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه، وفلسفة الحرية كما يفهمها هو، (طظ) أصدق شعار لها. هي التحرر من كل شيء، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعي عامة! وهو القائل لنفسه ساخراً: إن أسرتي لم تورثني شيئاً أسعد به، فلا يجوز أن أرث عنها ما أشقى به!، وكان يقول أيضاً: إن أصدق محاولة في الدنيا هي: الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق=طظ، وكان يفسر الفلسفات بمنطق ساخر يتسق مع هواه. فهو يعجب بقول ديكارت: (أنا أفكر فأنا موجود) ويتفق معه على أن النفس أساس الوجود! ثم يقول بعد ذلك إن نفسه أهم ما في الوجود! وسعادتها هي كل ما يعنيه؛ ويعجب كذلك بما يقوله الاجتماعيون من أن المجتمع هو خالق القيم الأخلاقية والدينية جميعاً. ولذلك يرى من الجهالة والحمق أن يقف مبدأ أو قيمة حجر عثرة في سبيل نفسه وسعادتها! وإذا كان العلم هو الذي هيأ له التحرر من الأوهام، فليس يعني هذا أن يؤمن به أو أن يهبه حياته، ولكن حسبه أن يستغله وأن يفيد منه، فلم تكن سخريته من رجال العلم دون سخريته من لرجال الدين، وإنما غايته في دنياه: اللذة والقوة بأيسر السبل والوسائل، ودون مراعاة لخلق أو دين أو فضيلة.
لقد استعار هذه الفلسفة بإرشاد هواه، ولكن تهيؤه لها نما معه منذ أمد بعيد. فهو مدين بنشأته للشارع والفطرة. كان والداه طيبين جاهلين، ولظروفهما الخاصة، أتم تكوينه في طرق بلدة القناطر، وكان لداته صبية شطاراً ينطلقون على فطرتهم بلا وازع ولا تهذيب، فسب وقذف وسرق، واعتدى واعتدي عليه، وتردى إلى الهاوية. ولما انتقل إلى جو جديد - المدرسة - أخذ يدرك أنه كان يحيا حياة قذرة، وعانت نفسه مرارة العار والخوف والقلق والتمرد. ثم وجد نفسه في بيئة جديدة، طالباً من طلاب العلم بالجامعة، ورأى حوله شباناً مهذبين يطمحون إلى الآمال البعيدة والمثل العالية، ولكنه عثر كذلك على نزعات غريبة، وآراء لم تدر له بخلد. عثر على موضة الإلحاد والتفسيرات التي يبشر بها علماء النفس والاجتماع للدين والأخلاق والظاهرات الاجتماعية الأخرى، وسر بها سروراً شيطانياً، وجمع من نخالتها فلسفة خاصة اطمأن بها قلبه الذي نهكه الشعور بالضعة.
لقد كان وغداً ساقطاً مضمحلاً؛ فصار في غمضة عين فيلسوفاً! المجتمع ساحر قديم. جعل من أشياء فضائل وجعل من أشياء رذائل، ولقد وقف على سره وبرع في سحره، وسيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل، وفرك يده سروراً، وذكر ماضيه أطيب الذكر، ورمق مستقبله بعين الاستبشار، وألقى عن عاتقه شعور الضعة. بيد أنه أدرك منذ اللحظة الأولى أن فلسفته فلسفة سرية. يجوز أن يدعو (مأمون رضوان) إلى الإسلام جهاراً، ويجوز أن يعلن (علي طه) اعتناقه لحرية الفكر والاشتراكية. أما فلسفته هو فينبغي أن تظل سرية - لا احتراماً للرأي العام، فإن من مبادئها احتقار كل شيء - ولكن لأنها لا تؤتى أكلها إلا إذا كفر الناس بها وآمن بها وحده! ألا ترى أنه إذا آمن الناس جميعاً بالرذيلة لم يتميز بينهم بما يتيح له التفوق عليهم؟ لذلك احتفظ بها لنفسه، ولم يعلن منها إلا ما هو في حكم الموضة كالإلحاد وحرية الفكر؛ إلا إذا ضاق صدره أو غلبه شعور الوحشة، فإنه ينفس عن قلبه بالمزاح والسخرية. فبدا للقوم ساخراً ماجناً، لا شيطاناً مجرماً، ومضى في سبيله شابا فقيرا بلا خلق، يرصد الفرص ويتوثب للانقضاض عليها بحرارة لا تعرف الحدود).
وهو تصوير معجب لشخصية هذا (النموذج) وقد صور زملاءه كذلك - كما صور كل شخصية جاءت في الرواية - ويعجبني فيه ذلك التعليل الصامت لاتجاهات "محجوب عبد الدايم" وزملائه. إنهم كلهم في جامعة واحدة، يدرسون نظريات واحدة، ويخضعون لمؤثرات واحدة، ولكن كلا منهم يختط طريقة في التفكير والحياة بحكم مزاجه ووراثاته ورواسب شعوره، ويخلق لنفسه فلسفة يعتمد فيها على نفس الأسباب والعلل التي يعتمد عليها الآخرون في تكوين فلسفة مغايرة! ويصدق سلوكهم فيما بعد هذه القواعد أيضاً.
حقيقة إن "محجوب عبد الدايم" لم يكن في سلام مع شعوره دائماً وهو يواجه التجارب. فالنظريات شيء - مهما يكن الاقتناع بها، ومهما تكن بواعثها - والتجارب العلمية شيء آخر. ولكنه سار إلى نهاية الشوط، ولم يقف إلا حين صدمته أنانية أخرى ففضحته، وحين إنفضحت الرذيلة في القصة لم يكن ذلك ليقظة في ضمير المجتمع فهو مجتمع مريض. وإنما كانت غلبة رذيلة على رذيلة!! ولكن - كما أشرت من قبل - آخذ على المؤلف قسوة لم تكن لها ضرورة في بعض التجارب التي تواجه هذا الشاب.
لقد خيرته الظروف بين أن يبقى بلا وظيفة. أو أن يكون في وظيفة مغرية (سكرتير وكيل وزارة ثم مدير مكتب حينما يصبح وزيراً) بثمن! هو في ذاته فادح. أن يتزوج بفتاة عبث بها الوكيل الوزير! وأدى الثمن - حسب فلسفته - وتسلم البضاعة. وكان هذا حسبه، وكان حسبه أن يقبل الوضع مموهاً من الخارج وهو يدرك حقيقته. ولكن المؤلف جعله يواجه الموقف سافراً بلا تمويه. أيقبل أن يكون زوجاً للفتاة التي هذا موقفها؟... ثم أيقبل أن يكون مقره (جرسونييرة) البك، وأن يواصل البك ما بدأ به، وفي يوم معين يعلمه محجوب، وعليه أن يغادر البيت فيه؟!... هذه قسوة لا مبرر لها ولا ضرورة. ومثلها أن تزف إليه (الفتاة) بلا احتفال. وكان من كمال السخرية أن يكون الاحتفال فخماً!
وشيء آخر آخذه على الرواية: لم جعل الفتى المؤمن المتدين لا تصطدم نظرياته بواقع الحياة؟ لقد اصطدم "علي طه" صاحب الإيمان بالمجتمع. اصطدم في قلبه وشعوره. فقد كانت هذه الفتاة التي زفت إلى زميله هي فتاة أحلامه وموضع إيمانه الاجتماعي. ولكنه احتمل الصدمة ومضى يؤمن بالمجتمع الكبير. واصطدم محجوب صدمات شتى وجف لها واضطرب، ولكنه احتملها في سبيل ذاته المقدسة! فلم لم يصطدم أبداً "مأمون رضوان"؟
هل يريد المؤلف أن يقول: إن إيمانه القوي بالله والدين والرجولة قد أعفاه من الاصطدام، كلا. إن المجتمع الفاسد المنحل الذي صوره في مصر - والذي هو مع الأسف واقع - لابد أن يصطدم به كل صاحب إيمان، سواء كان إيمانا بالمجتمع أو حتى إيماناً بالحياة!... ربما لاحظ أن التنسيق الفني يحتم عليه ألا يبرز على المسرح إلا شخصية واحدة رئيسية. ولكن لا. فالرواية القصصية من طبيعتها أن تسمح لأكثر من شخصية بالبروز، والتنسيق الفني يتحقق بتنويع درجات البروز. هذه نقطة من نقط الضعف في الرواية، كالنقطة الأولى كذلك.
وبعد فهناك صفحات رائعة قوية في تصوير المجتمع المصري وما فيه من انحلال يشمل الطبقات الأرستقراطية ودوائر الحكومة وآثام الفقر والثراء، وآفات المظاهر والرياء... الخ، ولكن يضيق عنها المقام، وأنا معجل عنها إلى مسألة أخرى لها أهميتها في وزن الرواية، وفي وزن كل عمل فني.
إن هذه الرواية على ما فيها من براعة في العرض، ومن قوة في التصوير - تصوير النماذج وتصوير المجتمع وتصوير المشاعر والانفعالات - هي أصغر من قيمتها الإنسانية - وتبعاً لهذا في قيمتها الفنية - من سابقتها (خان الخليلي).
رواية (خان الخليلي) أضيق في محيطها الداخلي ولكنها أوسع في محيطها الخارجي. أضيق في المجال الذي تعالجه وتضطرب فيه حوادثها. فهي قصة أسرة تفر من الموت بالقنابل، فيخترم الموت أجمل زهراتها بلا قنابل! وقصة قلب إنساني شاخ قبل الأوان فانطوى على نفسه ورضى بنصيبه، فإذا الأقدار تخايل له بقطرة ندية فيندى، ثم تجف هذه القطرة قبل أن تبلغ فاه. يرشفها منه أعز إنسان عليه: أخوه المستهتر السادر. وحينما يجد هذا المستهتر ويقومه الحب العميق، تخطفه الأقدار فيموت! ولو استأنت الأقدار لحظة هنا أو هناك، ولو تغير خيط واحد في ذلك المنوال الأبدي لتغير وجه الحياة.
أما رواية (القاهرة الجديدة) فتعالج جيلا وتصور مجتمعاً. ومجالها مع هذا أضيق من مجال (خان الخليلي!).
في (خان الخليلي) ننتهي من الرواية لنجد أنفسنا أمام رواية الحياة الكبرى: الإنسانية والأقدار، الضعف الإنساني والقوى الكونية، أشواق الناس وأهدافهم أمام الغيب المجهول. وفي (القاهرة الجديدة) نبدأ وننتهي، ونحن أمام جيل من الناس ومجتمع قابل للزوال، فلا تبقى إلا بعض الملامح الإنسانية الخالدة.. المجال هناك أوسع لأنه خالد بخلود الإنسان، والقيمة الإنسانية هناك أكبر، وهي جزء من القيمة الفنية له أثره في وزن الرواية، وراء المهارة الفنية في العرض والتنسيق والاختبار.
* من مجلة الرسالة عدد 704
30 ديسمبر 1946