ليس جمال الرجل هو كل شيء في عين المرأة، بل هناك صفات أخرى فيه تستهويها وتستبيها، فالقوة قوة الروح، وقوة الجسم تأسرها وتروعاها، وللفظ العذب المشرق يحلو في سمعها ويسري في دمها غبطة، فتنتشي منه وتسكر.
ولعل الرجل الفنان هو أحب الرجال إلى المرأة وآثرهم عندها.
أن العلوم من صنع العقل وهي حظ مشترك بين الجميع، ولكن الفنون هبة من الله يمنحها بقدر.
ولكم رأينا من النساء المترفات من تهجر زوجها الطبيب أو العالم، وتعلق بموسيقار أو رسام أو شاعر.
إن نفس المرأة تفيض رقة لهزج القيثار وتلوين الريشة، وترنيمة الشاعر. . . هذه الروائع الخالدة التي أبدعتها السماء، فجاءت في صفاء جمال البدر ولآلاء النجوم، وباركتها يد الله وكأنها صيغت من القطر حين ينزله من الغمام.
هذا هو التاريخ اسمعه معي يحكى لنا ولع الغانيات ببشار ابن برد الشاعر.
لم يكن بشار وسيما تأخذه العين، بل كان كما وصفه الأصمعي ضخما عظيم الخلق والوجه مجدوراً طويلا جاحظ المقلتين قد تغشاهما لحم احمر، فكأن اقبح الناس عمى وأفظعهم منظرا، وكأن إذا أراد أن ينشد، صفق بيديه وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله، ثم ينشد فيأتي بالعجب!.
كان بشار بمجلسه الذي كان يسميه (الرقيق) وقد مد بساط الراح وحوله ندامى شرابه وعشاق شعره.
كانت ساعة أصيل تودع الشمس فيها الأرض، وتمنيها الأماني أن ترسل إليها البدر يرفدها بنوره حتى تطالعها هي في صباح الغد الجديد وراحت الشمس ولم تخلف وراءها في الأفق غير ألوان منها الأحمر والأصفر والأزرق كأنها تستعرض ألوان الزهر الذي تصنعه بحرارتها، وتمد له في الحياة. . .
ودارت الكئوس على الرفاق حمراء من لون الخمر كان الورد أراق فيها شرابه فتضرجت وارتفع الصخب حتى كاد يغطي رنين الأوتار، إذ وافى المجلس غانيات خمس كما يوافي الأمل دنيا موعود، فخشعت الأصوات وكأنها اطمأنت، وسكنت الضجة حتى وضح عزف المزاهر، واستوت القادمات مجلسهن حول بشار، ثم أندفع المغني يردد قول شاعرنا:
أيها الساقيان صبا شرابي ... واسقياني من ريق بيضاء رُود
إن دائي الظمأ وإن دوائي ... شربة من رضاب ثغر بَرُود
وأخذ الشادي يترفق باللحن تارة فتستنيم القلوب من النشوة، ويشتد به أخرى فتعصف بها الرغبة ويسمع لها وجيب.
هذا بشار في شغل بضيفاته يميل على هذه ويداعب تلك، ويهمس في إذن الأخرى، ويسر إليها حديثا لا يسمعه أحد، ولكنها تضحك فيفتضح المعنى وينكشف السر. وإذ تستجيب له الغانيات ويتهافتن عليه، تتمنع واحدة منهن وتزور عنه في كبرياء يمازجها دلال آسر. . . ويرتسم العجب على وجه بشار من أهوائها فيقبل على غلامه يسأله عنها فيعلم أنها (عبيدة).
كانت الفتاة كاملة الصغو للمغني تكاد تشرب النغم وكأنها لا تروى على كثرة العب وطول الرشيف، حتى إذا انتهى المغني أخذت عبيدة تعيد النغم بعده وتقلد تقليدا تاما راع الجمع وآثار دهشتهم وبشار في هذه المرة لا يتلاهى عن الغناء، بل ينصت ذاهلاً بحواسه كلها، حتى ليخيل إلى من يراه أن بصره ذهب في هذه اللحظة فقط استجابة لرغبته في أن يكون له عوضا عن البصر سمعان.
وتفرغ عبيدة من الغناء وتومئ إلى صاحباتها أن يتهيأن للخروج فيلبين دعوتها، وتخلف وراءها بشاراً غريقا في لجج النشوة، تائها عن نفسه وعن الوجود حتى إذا استفاق من غشيته ولم يجد الشادية، انطوى على نفسه، شارد اللب موزع القلب يعبث بعود ريحان في يده يخط به على الأرض تارة، يعبث بوريقاته تارة أخرى، ثم يسبح له خاطر فيضغط عل وريقات العود ويعتصرها في كفه، فتحتضر المسكينة ولا ذنب لها.
ويتقدم إليه هشام بن الأحنف راويته يسأله بمن يا ترى يهذي فيتمتم:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والإذن تعشق قبل العين أحيانا
ويكمل بشار القصيدة ويأمر راويته أن يكتبها ويسلمها لغلامه ليبلغها عبيدة التي هشت له، وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها، فيأكلن عنده ويشربن، وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها، ولا تطعمه في نفسها.
وظل الحبيبان يتزاوران تارة، ويتبادلان الرسائل أخرى، حتى شاع الخبر ورقى إلى أهلها ففزعوا إلى محتسب الجند بالبصرة واعلموا نبا بشار، فأخذ هذا يضيق عليه الخناق ويراقبه، فامتنع عن عبيدة، واسلم نفسه للجوى والسهاد... وهل غيرها عزاء للمحبين...؟
وأنه لذات يوم مع راويته هشام بن الأحنف يملي عليه شعر هواه، إذ أتته امرأة فقالت: يا أبا معاذ عبيدة تقرئك السلام، وتقول لك: قد اشتد شوقنا إليك، ولم نرك منذ أيام. فقال: عن غير مقلية والله كان ذاك. . ثم قال لراويته هشام: خذ هذه الرقعة واكتب فيها ما أقول ثم ادفعه للرسول:
عبدَ أني إليك بالأشواق ... لتلاقٍ وكيف لي بالتلاقي؟
أنا والله اشتهي سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشاق
وأهاب الحرسي محتسب الجن ... د يلف البريء بالفساق
أعلمت لماذا أرسلت إليه عبيدة؟ لم يكن الشوق وحده هو الذي دفعها بل أرادت أن تراه لتفضي إليه بالنبأ الخطير. . .
أن أهلها عملوا على أن يزوجوها برجل من عمان لتخرج عن البصرة ليخفت الحديث الذي سار بين الناس وتناقلته مجالسهم.
ويذهب القوم ليحتفلوا بزفاف عبيدة ويشهدوا رحيلها مع زوجها إلى عمان، ويبقى شخص واحد!.
نحن هنا (بالرقيق) أيضاً ولكن لا كئوس ولا أوتار ولا ندامى!.
إن شاعرنا اليوم كاسف البال ملتاع الفؤاد قد اجتمع عليه الوجد والبعد والأسى ثلاثتهم وخيم على البيت الصاخب الكابة والسكون. . . سكون عميق لم يشقه إلا صوت بشار يسأل هشاما أين الأحنف: وهل رضيت عبيدة بالخروج مع زوجها إلى عمان؟.
نعم رضيت، ولعلها على مقربة من عمان الآن! فينكب بشار عل نفسه، ويتمتم في صوت خفيض: هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت ... وأشفى لقلبي أن تهب جنوب
وما ذاك إلا أنها حين تنتهي ... تناهي وفيها من عبيدة طيب
للآنسة نعمت أحمد فؤاد
مجلة الرسالة - العدد 734
بتاريخ: 28 - 07 - 1947
ولعل الرجل الفنان هو أحب الرجال إلى المرأة وآثرهم عندها.
أن العلوم من صنع العقل وهي حظ مشترك بين الجميع، ولكن الفنون هبة من الله يمنحها بقدر.
ولكم رأينا من النساء المترفات من تهجر زوجها الطبيب أو العالم، وتعلق بموسيقار أو رسام أو شاعر.
إن نفس المرأة تفيض رقة لهزج القيثار وتلوين الريشة، وترنيمة الشاعر. . . هذه الروائع الخالدة التي أبدعتها السماء، فجاءت في صفاء جمال البدر ولآلاء النجوم، وباركتها يد الله وكأنها صيغت من القطر حين ينزله من الغمام.
هذا هو التاريخ اسمعه معي يحكى لنا ولع الغانيات ببشار ابن برد الشاعر.
لم يكن بشار وسيما تأخذه العين، بل كان كما وصفه الأصمعي ضخما عظيم الخلق والوجه مجدوراً طويلا جاحظ المقلتين قد تغشاهما لحم احمر، فكأن اقبح الناس عمى وأفظعهم منظرا، وكأن إذا أراد أن ينشد، صفق بيديه وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله، ثم ينشد فيأتي بالعجب!.
كان بشار بمجلسه الذي كان يسميه (الرقيق) وقد مد بساط الراح وحوله ندامى شرابه وعشاق شعره.
كانت ساعة أصيل تودع الشمس فيها الأرض، وتمنيها الأماني أن ترسل إليها البدر يرفدها بنوره حتى تطالعها هي في صباح الغد الجديد وراحت الشمس ولم تخلف وراءها في الأفق غير ألوان منها الأحمر والأصفر والأزرق كأنها تستعرض ألوان الزهر الذي تصنعه بحرارتها، وتمد له في الحياة. . .
ودارت الكئوس على الرفاق حمراء من لون الخمر كان الورد أراق فيها شرابه فتضرجت وارتفع الصخب حتى كاد يغطي رنين الأوتار، إذ وافى المجلس غانيات خمس كما يوافي الأمل دنيا موعود، فخشعت الأصوات وكأنها اطمأنت، وسكنت الضجة حتى وضح عزف المزاهر، واستوت القادمات مجلسهن حول بشار، ثم أندفع المغني يردد قول شاعرنا:
أيها الساقيان صبا شرابي ... واسقياني من ريق بيضاء رُود
إن دائي الظمأ وإن دوائي ... شربة من رضاب ثغر بَرُود
وأخذ الشادي يترفق باللحن تارة فتستنيم القلوب من النشوة، ويشتد به أخرى فتعصف بها الرغبة ويسمع لها وجيب.
هذا بشار في شغل بضيفاته يميل على هذه ويداعب تلك، ويهمس في إذن الأخرى، ويسر إليها حديثا لا يسمعه أحد، ولكنها تضحك فيفتضح المعنى وينكشف السر. وإذ تستجيب له الغانيات ويتهافتن عليه، تتمنع واحدة منهن وتزور عنه في كبرياء يمازجها دلال آسر. . . ويرتسم العجب على وجه بشار من أهوائها فيقبل على غلامه يسأله عنها فيعلم أنها (عبيدة).
كانت الفتاة كاملة الصغو للمغني تكاد تشرب النغم وكأنها لا تروى على كثرة العب وطول الرشيف، حتى إذا انتهى المغني أخذت عبيدة تعيد النغم بعده وتقلد تقليدا تاما راع الجمع وآثار دهشتهم وبشار في هذه المرة لا يتلاهى عن الغناء، بل ينصت ذاهلاً بحواسه كلها، حتى ليخيل إلى من يراه أن بصره ذهب في هذه اللحظة فقط استجابة لرغبته في أن يكون له عوضا عن البصر سمعان.
وتفرغ عبيدة من الغناء وتومئ إلى صاحباتها أن يتهيأن للخروج فيلبين دعوتها، وتخلف وراءها بشاراً غريقا في لجج النشوة، تائها عن نفسه وعن الوجود حتى إذا استفاق من غشيته ولم يجد الشادية، انطوى على نفسه، شارد اللب موزع القلب يعبث بعود ريحان في يده يخط به على الأرض تارة، يعبث بوريقاته تارة أخرى، ثم يسبح له خاطر فيضغط عل وريقات العود ويعتصرها في كفه، فتحتضر المسكينة ولا ذنب لها.
ويتقدم إليه هشام بن الأحنف راويته يسأله بمن يا ترى يهذي فيتمتم:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والإذن تعشق قبل العين أحيانا
ويكمل بشار القصيدة ويأمر راويته أن يكتبها ويسلمها لغلامه ليبلغها عبيدة التي هشت له، وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها، فيأكلن عنده ويشربن، وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها، ولا تطعمه في نفسها.
وظل الحبيبان يتزاوران تارة، ويتبادلان الرسائل أخرى، حتى شاع الخبر ورقى إلى أهلها ففزعوا إلى محتسب الجند بالبصرة واعلموا نبا بشار، فأخذ هذا يضيق عليه الخناق ويراقبه، فامتنع عن عبيدة، واسلم نفسه للجوى والسهاد... وهل غيرها عزاء للمحبين...؟
وأنه لذات يوم مع راويته هشام بن الأحنف يملي عليه شعر هواه، إذ أتته امرأة فقالت: يا أبا معاذ عبيدة تقرئك السلام، وتقول لك: قد اشتد شوقنا إليك، ولم نرك منذ أيام. فقال: عن غير مقلية والله كان ذاك. . ثم قال لراويته هشام: خذ هذه الرقعة واكتب فيها ما أقول ثم ادفعه للرسول:
عبدَ أني إليك بالأشواق ... لتلاقٍ وكيف لي بالتلاقي؟
أنا والله اشتهي سحر عيني ... ك وأخشى مصارع العشاق
وأهاب الحرسي محتسب الجن ... د يلف البريء بالفساق
أعلمت لماذا أرسلت إليه عبيدة؟ لم يكن الشوق وحده هو الذي دفعها بل أرادت أن تراه لتفضي إليه بالنبأ الخطير. . .
أن أهلها عملوا على أن يزوجوها برجل من عمان لتخرج عن البصرة ليخفت الحديث الذي سار بين الناس وتناقلته مجالسهم.
ويذهب القوم ليحتفلوا بزفاف عبيدة ويشهدوا رحيلها مع زوجها إلى عمان، ويبقى شخص واحد!.
نحن هنا (بالرقيق) أيضاً ولكن لا كئوس ولا أوتار ولا ندامى!.
إن شاعرنا اليوم كاسف البال ملتاع الفؤاد قد اجتمع عليه الوجد والبعد والأسى ثلاثتهم وخيم على البيت الصاخب الكابة والسكون. . . سكون عميق لم يشقه إلا صوت بشار يسأل هشاما أين الأحنف: وهل رضيت عبيدة بالخروج مع زوجها إلى عمان؟.
نعم رضيت، ولعلها على مقربة من عمان الآن! فينكب بشار عل نفسه، ويتمتم في صوت خفيض: هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت ... وأشفى لقلبي أن تهب جنوب
وما ذاك إلا أنها حين تنتهي ... تناهي وفيها من عبيدة طيب
للآنسة نعمت أحمد فؤاد
مجلة الرسالة - العدد 734
بتاريخ: 28 - 07 - 1947