أنور المعداوي - عناصر الشخصية الأدبية

أريد بهذا المقال أن أحدد عناصر الشخصية الأدبية، وأن أعدد ملامحها العامة، وأن أرسم خطوطها الرئيسية. . .

وإذا ما كان هناك دافع إلى هذا التحديد، فهو دافع وزن القيم بميزانها الصحيح الدقيق، ووضع الأمور في موضعها من صدق النظرة ونزاهة القصد وهدى التائهين إلى معالم الطريق.

عناصر الشخصية الأدبية في حاجة إلى تحديد، بل ما أحوجها إلى كثير من التحديد في هذا الجيل الذي نعيش فيه. . . إنه جيل تنقصه الأداة وتعوزه الأناة، ولا يستقيم له الحكم على حقائق الأشياء في الكثير الغالب من الأحيان، ذلك لأنه يأخذ زاده من الثقافة القاصرة، ويستمد علمه من القراءة العابرة، وينساق وراء الرأي ينادي به ويدعو إليه، بلا تمحيص ولا مراجعة!

أول عنصر من عناصر الشخصية الأدبية هو الكرامة العقلية. . . وفي ظل هذه الكرامة تحتشد بقية العناصر الأخرى مكتملة ناضجة، لتصنع الكاتب الحق وتخلق الأديب الكامل. الكرامة العقلية هي أن يحترم الكاتب عقله وعقول الناس، فلا يقدم إليهم إلا ما يؤمن به أيمانا يقوم على القدر المشترك بين فهم وفهم، وبين ذوق وذوق، وبين أفق وأفق، في مجال التفكيروالتعبير. . . والكرامة العقلية هي أن يحترم الكاتب قلمه فلا يتجر بفنه، ولا يهبط به إلى ما دون المستوى اللائق بحرمة الفكر الحر ومنزلة الفن الرفيع. . .

ومن الكرامة العقلية ينبع الضمير الأدبي، ولا وجود لهذا بغير تلك، لأنها الموجهة له والرقيب عليه. . وفي الضمير الأدبي يتمثل الركن الثاني من أركان الشخصية الأدبية، ومن التقاء الركنين يتم الاتحاد في الهدف والاتفاق في الغاية، وإن اتجه كل منهما بعد ذلك في طريق.

أنا لا أنكر أحدا كما أنكر الذين يلغون عقولهم غير عابثين بيقظة الرأي العام الفني ولا آبهين لسلطانه، إنهم أشبه بالنعامة حين تخفي رأسها في الرمال لتصبح بمأمن من عين الصياد اليقظ. ولا أرثى لأحد كما أرثي لأولئك المتجرين بالفن لقاء غرض من الأغراض.

إنهم يهونون على أنفسهم ويهونون على الناس!

أما أولئك العلماء بلا ضمير، فكأني برابليه كان يعنيهم حين قال: علم بال ضمير خراب للنفس!

إنك لن تجد في مجال الحكمة الخالدة وتقرير الواقع أصدق ولا أكمل ولا أدق من هذه العبارة. إن رابليه حين نطق بها كان يشرف على الإنسانية من قمة عالية هي قمة الضمير العلمي!

ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يستقل الكاتب عن غيره في طبيعة النظرة وأصالة الفكرة وطريقة التعبير. . .

ولا نعني بذلك ألا ينتفع الكاتب برأي لغيره يتسع به أفقه أو تقوم عليه دعامة من دائم دراسته. . . كلا، وإنما نعني به ألا يكون مقلدا بغير وعي، ومرددا بغير فهم، وبوقاً ينفخ فيهمن يشاء. . . ألا يكون بتعبير أدق كتلك النباتات الطفيلية التي لا تستطيع أن تصل إلى الضوء والهواء إلا إذا تسلقت الأغصان الشوامخ؟!

أنا لا أضيق بشيء كما أضيق بتلك النباتات الطفيلية، أولئك الذين يسطون على أفكار الغير، ويعيشون في رحاب الغير. . .

ولست أدري ما هي قيمة العمل الأدبي وما هي جدواه، إذا لم يستقل صاحبه بملكاته الخاصة ويتفرد بمواهبه الأصيلة؟!

ولست أدري ما هو موقف تلك الفئة الأخرى من أصحاب المقالات المترجمة والكتب المترجمة؟ أقول لست أدري ما هو موقفها من موازين لأدب والفن؟ إنك لا تكاد تقرأ للواحد منهم مقالا إلا وهو منقول من لغة إلى لغة، ولا كتابا إلا وهو منقول من اسم إلى اسم!!

ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يكون الكاتب واسع الاطلاع رحب الأفق نافذ البصيرة، وهذا كله لا يتهيأ لصاحبه إلا عن طريق واحد هو أن يقرأ ويقرأ ويقرأ. . وحسن أن يتخصص الكاتب في ناحية بعينها، يكب عليها ويفرغ لها ويقتلها بحثا وتحقيقا ودراسة، وأحسن منه أن يقتطع من وقته وجهده ما يتيح له النظر في ألوان أخرى من الثقافات والدراسات ليكون مثقفا بأوسع معاني الكلمة حين تنطبق على المثقفين. . .

أنا لا أفهم أن يقتصر بعض الأدباء على ميدان الأدب وحده دون أن ينظروا إلى صلة الأدب بغيره من ألوان العلم والفن، إن الأدب ليتصل اتصالا عميقا بالتصوير والموسيقى حين يلتقي معهما في مجال واحد هو مجال التعبير الفني عن قيم الجمال في الكون، ويتصل اتصالا عميقا بالتاريخ حين يبحث الدارسون عن أثر البيئات المادية والمعنوية في توجيه الإنتاج الأدبي، ويتصل اتصالا عميقا بعلم النفس حين ينظر النقاد إلى العمل الفني على ضوء المؤثرات النفسية والدوافع الوجدانية، ويتصل بغير هذا وذاك في ميدان الروابط والعلاقات.

ولا أفهم مرة أخرى أن يقتصر بعض الأدباء على الثقافة المحلية وحدها دون أن يتزودوا بغيرها عن طريق لفة من اللغات، ولا أفهم أن يقتصر غيرهم على الثقافة الأجنبية وحدها دون أن يكملوا شخصيتهم الأدبية بروافد من تراثهم الفكري ولأصيل!

هؤلاء وأولئك لا أملك القول بأنهم مثقفون، لأن ذلك (المثقف) الذي يعرف الكثير عن تاريخ الفكر الغربي ولا يعرف إلا القليل عن تاريخ الفكر العربي، ذلك المثقف في رأي البعض ليس مثقفاً في رأي. . . وقل مثل هذا إذا ما عكسنا القضية فنقلناها من وضع إلى وضع ومن حال إلى حال!

ومن عناصر الشخصية الأدبية أن يعرف الكاتب أين يضع مواهبه، فلا يدفع بها إلى ميدان لم تخلق له، وأين يركز ملكاته فلا يوجهها التوجيه العقيم الذي لا ينتج ولا يثمر، عندئذ يجدي التركيز حيث لا يجدي التشتيت، ويغنى الجهد الذي يبذل في مكانه عن الجهد الذي يبذل في غير مكانه. . . هذا الناثر الذي يعالج نظم الشعر فيخفق، وهذا الشاعر الذي يحاول كتابة القصة فلا يوفق، وهذا القاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يوفق، وهذا القاص الذي ينحرف بريشته إلى النقد الأدبي فلا يخرج بشيء. . . كل هؤلاء ينقصم هذا العنصر من عناصرالشخصية الأدبية عنصر الدراسة الخاصة لقيم المواهب والملكات!

وأعود فاقرر ما سبق أن قررته من أن الكرامة العقلية هي الركن الأول لذي يشرف على كل ما عداه من أركان الشخصية الأدبية. . . إن الكرامة العقلية من شأنها أن تخلق الضمير الأدبي، وأن تحول دون الاتجار بالفن، وأن تربى النزعة الاستقلالية، وأن تدفع إلى سعة الاطلاع، وأن تعين على أن يعرف الكاتب أين يضع ملكاته ومواهبه.

أنور المعداوي

مجلة الرسالة - العدد 789
بتاريخ: 16 - 08 - 1948

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...