(علي ود سكينة) أم (عمر الدوش)؟:
(سعاد) ببساطة تهوى (علي ود سكينة) أو الراوي في هذه الملحمة الشعرية، كما أن الأخير بارع في التعبير عن حبه لسعاد، ولنتركه يصف لنا مشهد لقائه بسعاد:
” وأنا يا سعاد
وكتين تصبي سحابة تنزلي زي دُعاش
بفّرش على روحي وأجيك
زولاً هِلِك تعبان وطاش
وأنا يا سعاد وكتين أشوفك ببقى زول
فرشولوا فَرَش الموت و.. عاش
قالت سعاد:
بطل كلام الجرسه.. أنجض يا ولد!
مزقتي روحي .. نِتَف .. نِتَف
مرقتي من جيب.. القميص ”
رغم أن (سعاد) استبد بالراوي ( علي ود سكينة).. إلا أن الشجاعة والإقدام لا تنقصه.. فها هو قد واجه (العمدة: جابر ود خف الفيل). حينما أعلن الاخير عن وصول ( المسؤول الكبير) ودعى أهل القرية ان يهبوا لاستقباله وأن ( يهيجوا الخلا بالكفوف .. وتقولوا عاش يحى البطل ). فماذا كانت ردة فعل بطلنا (علي ود سكينة)؟
” صَلّحت طاقيتي الحرير
واتنحنح الحشا .. بالكلام
ورميتو من حلقي الوصل
قت ليهو يا عمده .. اختشي
مسئول كبير في الدنيا غير الله انعدم
ما شفنا زول رضّع صُغار
ما شفنا زول نجّح بهم
ما شفنا زول لمّلّم .. رِمم
لا صحينا .. عاجبنا الصباح
لا نمنا .. غطانا العَشّم
والحِله من كل الجهات محروسة
بالخوف والوهم
ومضينا من زمنا قديم – يا عمدة – مرسوم انتحار ”
النعل .. والقدم .. كأداة تعبيرية:
الشيء الجميل في هذه الملحمة الشعرية ( ضل الضحى ) أن عمر الدوش.. جعل نعاله أداه للتعبير عن فرحه وغضبه .. فلما رأى ( سعاد ) فجأة في الطريق قال بلسان ( علي ود سكينة)
” وأنا جاي راجع منتهي .. لاقتني هي
قالت ( تعال (
كبرت كُراعي من الفرح
نص في الأرض .. نص في النعال
اتلخبط الشوق بالزعل
اتحاوروا الخوف والكلام ”
لكن عندما استفزه ( العمدة: جابر ود خف الفيل) .. وجعله يشتعل غيظاً نجد أن للنعل تعبير آخر .. يقول ( علي ود سكينة):
” وأنا جاي راجع اجهجهو
لاقاني هو
سايق العساكر والكلاب
رامي بين عيني وعينو
كلب وتكشيره وحراب
ضاقت نعالي من الزعل
من تحتها اتململ تراب ”
عن المسرح .. شعراً:
جدير بالذكر أن للدوش عدد من الأعمال المسرحية التي قدم بعضها عبر المسرح السوداني مثل مسرحية (عبد الغفار) والتي قدمت بخشبة المسرح القومي بامدرمان بعد وفاته. تحت اسم ( يا عبدو رووق ). ولقد كانت لفتة بارعة من القائمين على امر هذا العمل الخلاق، أن يجنحوا لعمل خلفية موسيقية قبل رفع ستار العرض الأول. وهي عبارة عن تسجيل بالعود لأغنية ( مرسى النجوم ) التي صاغها شعراً عمر الطيب الدوش وتغنى بها الاستاذ مصطفى سيد أحمد. وكان العرض الأول هو العرض الأجمل .. وهذا حديث آخر.
يمثل أمامي سؤالين: هل كان لعمر الدوش مواهب تمثيلية؟ هل شارك الدوش إبان دراسته بالمعهد في تجسيد بعض الشخصيات كنوع من الواجبات الدراسية أم كنزوع فطري للتمثيل؟ هي اسئلة اطمح في احصل على اجابة من زملائه المبدعين الذين زاملوه أو عاصروه بالمعهد.
تمثل أمامي دائماً هذه الاسئلة وأخرى غيرها كلما قرأت لعمر الدوش لشعوري بأن أديبنا عمر الدوش، لا يستخدم قلماً لصياغة افكارة الشعرية بل يكتب بكاميرا – إن جاز لي التعبير – ويبدو كمخرج واقف خلف الكواليس يرقب من بعيد آداء الممثلين لشخوصه الدرامية:
” الغيم سكب ضلو و.. مشى
والدنيا غيما سراب سراب
والحِلّه زي بدلنا …… بعيد
زَوّد بعادو … قرب سعاد
اتجمعت كل البيوت في راحتا
زي بت لعاب
مجنونة تصرخ في الزوال
ممزوجة في الدم واللعاب”
ولن أذهب بعيداً حينما أستدل بمقاطع من قصيده الرائعة ( وطن )
” حأكتب لي شجر مقطوع
مسادير
يمكن يتحرك
خطابات لي طفل مجدوع
يقوم
يجري
يقع
يبرك ”
يا الله .. وكأني بالطفل أمامي وقد تعثر في مشيته .. وعمر الدوش ( يباريهو) بعينيه ككاميرا المخرج ..
يقوم ..
يجري ..
يقع ..
وأخيراً يبرك ..
ومن قصيدته ( مرسى النجوم) التي تغنى بكلماتها الفنان مصطفى سيد أحمد:
” وباقات النجوم الجن
يعزن في المطر
فاتن عزاك
رجعن ”
وكأني بالنجوم .. نسوه (مبلّمات) – أي يخفين بثوبهن كامل وجوههن إلا العينين- . قد اتين لسرادق العزاء لتعزية المطر ولكنهن جئن بعد إنفضاض سامر القوم وبعد ) رفع فراش العزاء) فلم يسيروا ( في جنازة المطر) بل رجعن وأحزانهن.
مفردات دوشية:
كما أن لعمر الدوش مفرداته الخاصه وتشبيهات الأكثر خصوصية، مثله مثل نزار قباني. وإن لم يحظى بالشهرة التي حظي بها ذلك الجميل: نزار .. حاله كحال معظم أدبائنا وعلمائنا.. وهذا حديث آخر..
عمر الطيب الدوش يصف (الليل) بأنه (صبي)، ويجعل للظن .. (حضن)!!. ويصف الروح بأنها (حفيانة) أي تمشى الحفى.. والحزن كما نبات الجرجير هو حزن (باير) أي كاسد .. وفي قصيدة أخرى يكون الحزن (قديماً) .. وغيرها من التشبيهات غير المألوفة التي تحكي إجادة الشاعر وتمكنه من أدواته وشاهدي ها هنا بعض من ابيات قصيدته ( مشوار ) يقول
” سواح
دخلت معاك
في ليل صبي وظالم
وسرحت في أحضان ظني
لجميل واهم
إنو البصيبني معاك
لازم يكون راحم ”
وفي جزئية أخرى من نفس القصيدة نستمع له حين يقول:
” من أول المشوار
حسيت بأني معاك
حفيانة مني الروح
ولا مجنون ولا سالم
تقدم سكتك مره
تأخر سكتي مرات
وتظهر في القمر أشكال
لأحساس مرة .. جاني .. و … فات ”
اشتراكية الصداقة:
ربما يكون هذا العنوان غريباً بعد الشيء وقد يختلف معي فيه أصحاب الايديولجية الاشتراكية، ولكني اردت به مشاعية الصداقة عند عمر الدوش، حيث انه لم يكن متحيزاً لطبقته الوسطى، طبقة ( الأفندية) ولم يتماهى في طبقة البوليتاريا والكادحين كان بتعبير المتعزلة في منزلة بين المنزلتين، حيث ان عمر الدوش كان صديقاً لعدد من أدبائنا( الأفندية) : ( هاشم صديق )، ( علي المك )، ) علي عبد القيوم) و( صلاح أحمد إبراهيم ) على سبيل المثال.. وبذات القدر فهو صديق شخصي (للمكوجي) الذي يجاور بيته في (أمبده) بامدرمان، وله (ونسات طوال) وسمر جميل مع (بتاع الفول) الذي بيع الفول المصري ليعشي أهل الحي، و..و..الخ الخ. أي أن اديبنا عمر الدوش وبشيء من التعميم وبتعبير إعلامي مستهلك، كان صديقاً ( لكل شرائح المجتمع السوداني).
( سمح الغنا في خشم سيدو):
نستخدم في كثير من مناطق السودان هذا التعبير ( سمح الغنا في خشم سيدو) – أي ان الغناء يكون جميلاً من فم صاحبه المغني – كناية عن انه من الافضل ان تستمع للرواية الأصلية من صاحبها. فعمر الدوش رغم تزاحم الابداع فيه وتداخل أكاديميته مع فنه، إلا انه عاش بسيطاً متواضعاً أو (سواح) كما يقول في بعض قصائده، ينظر للدنيا بشيء من الترفع زاهداً فيها، ولاستشهد بحوار مع الاستاذة سعاد محمد الحسن عبر ( منتديات النيل الأزرق) لتحكي لنا عن عمر الدوش: (.. وتقول الأستاذه سعاد: عمر كتاب مفتوح للجميع،بسيط،واضح وساخر جداً للدرجة التي كانت تغضبني منه، سهل ممتنع يمكن لاي شخص أن يتعايش معه، لا يعيش في دور الأستاذ والشاعر) .
ولكن بالمقابل كانت له آراءه التي يعتد بها كثيراً، ولنستمع مرة أخرى لجزئية من حوار منتديات النيل الأزرق مع الاستاذة سعاد التي تحدث زواجها بعمر الدوش كان (… (زواج مخالف للعادات السودانية كان في شهر سبتمبر 1986 ) : أنا اول فتاة تتزوج بلا مهر ودون شبكة، الدوش دفع لأهلي خمسة عشر جنيهاً وقال لي(إنت اغلى من إني إشتريك)، خالاتي زعلو شديد وقالوا لي( الترابة في خشمك إنت ناقصة من البنات شنو (!، كنت مقتنعة بالفكرة ووقتها كنا نناهض المظاهر الفارغة في المجتمع السوداني لذلك قررنا أن نبدا بانفسنا، تم الزواج دون حفلة ولم أرتدي الزفاف، عند المساء إشترينا (جردل) فول وذهبنا الي بيت أخت عمر،الوحيدة التي حضرت عقد القرآن من أصدقائي هي سهير عثمان قوليب، في المساء تجمع أصدقاءنا في بيت أختو، حسب الرسول كمال الدين شال العود وغنى وأصحابي غنوا لي ، وانا ذاتي غنيت فاصل في العرس، وناس بيتنا ذاتهم إشتروا عشاهم من الدكان!) جدير بالذكر ان الاستاذة سهير عثمان قوليب، والاستاذة حسب الرسول كمال الدين.. هما من اميز مخرجي الإذاعة السودانية (هنا امدرمان).
خلطة الدوش السحرية ( تواضع + بساطة + سخرية ):
ولنقرأ مرة أخرى في حديث التواضع والبساطة والسخرية التي تفيض من عمر الطيب الدوش، حيث تورد موسوعة التوثيق الشامل مقال للشاعر محمد طه القدال. يؤانسنا الأخير بعذب حديثه (… عاد من (التشيك) وما (داح) بالقرى والدساكر يعلى من صيته الشخصي ولكنه كان متواضعاً وواضحاً مثل (فلق الصباح) وشجاعاً شجاعة أخذها من أهله وهو له ذوق (اتيكيت) ورقة جلبهما من السفر في الدنيا العريضة و له معرفة لقدر نفسه ودراية بأقدار الآخرين. شد ما كان يكره الإدعاء وخاصة ادعاء العاطلين من كل موهبة. كان يعجب بالقصة التالية يحكيها كلما جاءت السانحة. يحكي أن جلسة ضمت الشاعر الشيخ الرئيس محمد المهدي المجذوب والشاعر الكبير النور عثمان أبكر والشاعر الصديق محمد محمد خير وآخرين وقد دخل عليهم شاب يريد أن يستمعوا لما كتب واعتقد جازماً أنه الشعر. طفق الشاب يلقي قصيدته ولكن الشاعر النور قد فطن إلى اضمحلال الشعر عند الشاب والشيخ المجذوب قد طأطأ الرأس يستزيده حتى أتى على آخر القصيدة فصمت الجميع وفجأة بادره المجذوب (يا بني .. أنت نبي) ولما ذهب الشاب إلى حال سبيله سأل النورُ الشيخَ لماذا تسبغ علية النبوة وهو على ما هو عليه من ضعف في الوزن والصرف؟ فأجابه المجذوب بجملة واحدة: ( ما علمناه الشعر وما ينبغي له). وكان الدوش يعجب بالرصانة و(يتسلطن) وهو يلقي أبيات الحاردلو الكبير:
(يا خالق الوجود أنا قلبي كاتم سرّو
مالقيت دارك المعنى وعلية أبرّو
قصبة منصح الوادي المخضر درّو
قعدت قلبي تطوي وكل ساعة تفرّو)
” كان يصرخ هزجاً ويقفز طرباً ويتمدد على السرير وينتصب جالساً مرة أخرى وهو يجمع إليه يديه ويرسلهما يمثل حركة (الطي والفر) ثم يضرب موضع قلبه براحته ويصيح ضاحكاً: (العربي مجنون .. علي الطلاق العربي مجنون .. بت الكب .. يا القضارف). كان يستزيد من شعر (الدوبيت) ويطلب عيونه وكان يكتب قصيدته المعلقة (ضل الضحى) عبر الأيام والشهور والسنين ولقد سمعت أول ما سمعت من أبياتها عند بداية قدومي من قريتي إلى العاصمة في بداية السبعينات:
(وانا كنت راجع منتهي
لاقتني هي ..
كبرت “كراعي” من الفرح،
نص في الأرض ونص في النعالْ)
( مقال: عمر الدوش وضل الضحى.. نهاية الوجيب وبداية العمر)
لابد من الاشارة ها هنا إلى ان الشاعر محمد طه القدال، وصف الشاعر العظيم عوض الكريم ابو سن ( الحاردلو ) بالحاردلو الكبير ليميزه عن أحد احفاده الشاعر الدبلوماسي سيد أحمد الحردلو.
هل ظلم الدوش نفسه أم ظلمه الاعلام السوداني؟:
بما انني من جيل أواخر سبعينيات القرن الماضي فقد تعرفت على عمر الطيب الدوش من خلال اعماله في حقبة تسعينيات القرن الماضي وادهشني كثيراً حينما ابتعت ديوانه ( الساقية) من باعة الكتب بميدان البوستة بامدرمان، أن من يرسم هذه اللوحات الجميلة، لا يظهر عبر وسائل الإعلام المرئي ( التلفزيون) ليقرأ قصيدة أو يتحدث في برنامج حوار عن عمل مسرحي قادم سيرى النور قريباً. أذكر ان المرة الوحيدة التي شاهدت فيها له عملاً عبر التلفزيون كان مسرحية ( نحن نسير في جنازة المطر ) والتي عرضها التلفزيون القومي بامدرمان على شاكلة (مسرح الواحد) وظهر في ( التتر ) أن المسرحية من تأليف واخراج وتمثيل (ممثل مشهور) بفرقة الأصدقاء المسرحية.
أفضل عدم ذكر اسم الممثل لأسهاماته المقدرة في مجال المسرح السوداني بصورة خاصة ومع زملائه بالفرقة المتميزة ( فرقة الأصدقاء ) بصفة عامة، ولسبب آخر وهو انني استشهدت بهذا العمل ليس للنيل من هذا ( الممثل المشهور) وإنما لأدلل على فرضية اظنها تقترب كثيراً من الصحة، وهي أن هنالك تغييب إعلامي لعمر الدوش، ربما زهد الأديب في الأضواء وربما غُيب إعلامياً ،
الرحيل .. الهادئ:
يقول لوركا ( والعهدة على المترجم)
” أيها الجار .. يا جاري دعني
أموت بهدوء في فراش مريح
وعلى جسدي أغطية ناعمة
ألا ترى جرحي المفتوح من السرة حتى الرقبة”
نعم أرى ثلاثمائة وردة حمراء ..
توشح قميصك الأبيض”
في شهر اكتوبر 1998م تعرض أديبنا عمر الدوش لحادث سيرٍ ألزمه الفراش الأبيض لعده ايام بالمستشفى لتصعد روحه في هدوءٍ إلى السماء صخب إعلامي منافق، بعد أن وقع على دفتر الجمال بريشته الأنيقة.
على مشارف الختام:
وبعد .. هذا غيض من فيض .. حاولت فيه ان اتخذل الافكار التي ترآءت لي من وحي قراءتي المتكررة للديوانين .. وكما أصغينا لشاعر الدوبيت: عوض الكريم أبو سن ( الحاردلو) ، لما لا نتشارك الاستماع لعمر الطيب الدوش بدهشته الممتعة التي سأختم بها حديثي قبل أن اترحم على روح الشاعر القلقة.
لنقطف باقة ورد حمراء من بستان ( الحزن القديم) – والتي تغنى بها فنان إفريقيا الأول محمد وردي.. يقول عمر الدوش في بعض ابياتها:
” تجيني
معاك يجيني زمن
امتع نفسي بالدهشة
طبول بتدق
وساحات لي فرح نور
وجمل للحزن ممشى “
مزمل الباقر
الخرطوم بحري في 14مايو 2013م
* راوبط المقال:
1. مدونة البوابة
http://blogs.albawaba.com/oaldosh
2. شبكة منتديات النيل الأزرق السودانية
عمر الطيب الدوش وسعاد محمد الحسن - منتديات النيل الازرق السودانية
3. ( عمر الدوش وضل الضحى .. نهاية الوجيب بداية العمر) محمد طه القدال – موسوعة التوثيق الشامل
القدال يكتب عن الراحل عمر الطيب الدوش - موسوعة التوثيق الشامل
(سعاد) ببساطة تهوى (علي ود سكينة) أو الراوي في هذه الملحمة الشعرية، كما أن الأخير بارع في التعبير عن حبه لسعاد، ولنتركه يصف لنا مشهد لقائه بسعاد:
” وأنا يا سعاد
وكتين تصبي سحابة تنزلي زي دُعاش
بفّرش على روحي وأجيك
زولاً هِلِك تعبان وطاش
وأنا يا سعاد وكتين أشوفك ببقى زول
فرشولوا فَرَش الموت و.. عاش
قالت سعاد:
بطل كلام الجرسه.. أنجض يا ولد!
مزقتي روحي .. نِتَف .. نِتَف
مرقتي من جيب.. القميص ”
رغم أن (سعاد) استبد بالراوي ( علي ود سكينة).. إلا أن الشجاعة والإقدام لا تنقصه.. فها هو قد واجه (العمدة: جابر ود خف الفيل). حينما أعلن الاخير عن وصول ( المسؤول الكبير) ودعى أهل القرية ان يهبوا لاستقباله وأن ( يهيجوا الخلا بالكفوف .. وتقولوا عاش يحى البطل ). فماذا كانت ردة فعل بطلنا (علي ود سكينة)؟
” صَلّحت طاقيتي الحرير
واتنحنح الحشا .. بالكلام
ورميتو من حلقي الوصل
قت ليهو يا عمده .. اختشي
مسئول كبير في الدنيا غير الله انعدم
ما شفنا زول رضّع صُغار
ما شفنا زول نجّح بهم
ما شفنا زول لمّلّم .. رِمم
لا صحينا .. عاجبنا الصباح
لا نمنا .. غطانا العَشّم
والحِله من كل الجهات محروسة
بالخوف والوهم
ومضينا من زمنا قديم – يا عمدة – مرسوم انتحار ”
النعل .. والقدم .. كأداة تعبيرية:
الشيء الجميل في هذه الملحمة الشعرية ( ضل الضحى ) أن عمر الدوش.. جعل نعاله أداه للتعبير عن فرحه وغضبه .. فلما رأى ( سعاد ) فجأة في الطريق قال بلسان ( علي ود سكينة)
” وأنا جاي راجع منتهي .. لاقتني هي
قالت ( تعال (
كبرت كُراعي من الفرح
نص في الأرض .. نص في النعال
اتلخبط الشوق بالزعل
اتحاوروا الخوف والكلام ”
لكن عندما استفزه ( العمدة: جابر ود خف الفيل) .. وجعله يشتعل غيظاً نجد أن للنعل تعبير آخر .. يقول ( علي ود سكينة):
” وأنا جاي راجع اجهجهو
لاقاني هو
سايق العساكر والكلاب
رامي بين عيني وعينو
كلب وتكشيره وحراب
ضاقت نعالي من الزعل
من تحتها اتململ تراب ”
عن المسرح .. شعراً:
جدير بالذكر أن للدوش عدد من الأعمال المسرحية التي قدم بعضها عبر المسرح السوداني مثل مسرحية (عبد الغفار) والتي قدمت بخشبة المسرح القومي بامدرمان بعد وفاته. تحت اسم ( يا عبدو رووق ). ولقد كانت لفتة بارعة من القائمين على امر هذا العمل الخلاق، أن يجنحوا لعمل خلفية موسيقية قبل رفع ستار العرض الأول. وهي عبارة عن تسجيل بالعود لأغنية ( مرسى النجوم ) التي صاغها شعراً عمر الطيب الدوش وتغنى بها الاستاذ مصطفى سيد أحمد. وكان العرض الأول هو العرض الأجمل .. وهذا حديث آخر.
يمثل أمامي سؤالين: هل كان لعمر الدوش مواهب تمثيلية؟ هل شارك الدوش إبان دراسته بالمعهد في تجسيد بعض الشخصيات كنوع من الواجبات الدراسية أم كنزوع فطري للتمثيل؟ هي اسئلة اطمح في احصل على اجابة من زملائه المبدعين الذين زاملوه أو عاصروه بالمعهد.
تمثل أمامي دائماً هذه الاسئلة وأخرى غيرها كلما قرأت لعمر الدوش لشعوري بأن أديبنا عمر الدوش، لا يستخدم قلماً لصياغة افكارة الشعرية بل يكتب بكاميرا – إن جاز لي التعبير – ويبدو كمخرج واقف خلف الكواليس يرقب من بعيد آداء الممثلين لشخوصه الدرامية:
” الغيم سكب ضلو و.. مشى
والدنيا غيما سراب سراب
والحِلّه زي بدلنا …… بعيد
زَوّد بعادو … قرب سعاد
اتجمعت كل البيوت في راحتا
زي بت لعاب
مجنونة تصرخ في الزوال
ممزوجة في الدم واللعاب”
ولن أذهب بعيداً حينما أستدل بمقاطع من قصيده الرائعة ( وطن )
” حأكتب لي شجر مقطوع
مسادير
يمكن يتحرك
خطابات لي طفل مجدوع
يقوم
يجري
يقع
يبرك ”
يا الله .. وكأني بالطفل أمامي وقد تعثر في مشيته .. وعمر الدوش ( يباريهو) بعينيه ككاميرا المخرج ..
يقوم ..
يجري ..
يقع ..
وأخيراً يبرك ..
ومن قصيدته ( مرسى النجوم) التي تغنى بكلماتها الفنان مصطفى سيد أحمد:
” وباقات النجوم الجن
يعزن في المطر
فاتن عزاك
رجعن ”
وكأني بالنجوم .. نسوه (مبلّمات) – أي يخفين بثوبهن كامل وجوههن إلا العينين- . قد اتين لسرادق العزاء لتعزية المطر ولكنهن جئن بعد إنفضاض سامر القوم وبعد ) رفع فراش العزاء) فلم يسيروا ( في جنازة المطر) بل رجعن وأحزانهن.
مفردات دوشية:
كما أن لعمر الدوش مفرداته الخاصه وتشبيهات الأكثر خصوصية، مثله مثل نزار قباني. وإن لم يحظى بالشهرة التي حظي بها ذلك الجميل: نزار .. حاله كحال معظم أدبائنا وعلمائنا.. وهذا حديث آخر..
عمر الطيب الدوش يصف (الليل) بأنه (صبي)، ويجعل للظن .. (حضن)!!. ويصف الروح بأنها (حفيانة) أي تمشى الحفى.. والحزن كما نبات الجرجير هو حزن (باير) أي كاسد .. وفي قصيدة أخرى يكون الحزن (قديماً) .. وغيرها من التشبيهات غير المألوفة التي تحكي إجادة الشاعر وتمكنه من أدواته وشاهدي ها هنا بعض من ابيات قصيدته ( مشوار ) يقول
” سواح
دخلت معاك
في ليل صبي وظالم
وسرحت في أحضان ظني
لجميل واهم
إنو البصيبني معاك
لازم يكون راحم ”
وفي جزئية أخرى من نفس القصيدة نستمع له حين يقول:
” من أول المشوار
حسيت بأني معاك
حفيانة مني الروح
ولا مجنون ولا سالم
تقدم سكتك مره
تأخر سكتي مرات
وتظهر في القمر أشكال
لأحساس مرة .. جاني .. و … فات ”
اشتراكية الصداقة:
ربما يكون هذا العنوان غريباً بعد الشيء وقد يختلف معي فيه أصحاب الايديولجية الاشتراكية، ولكني اردت به مشاعية الصداقة عند عمر الدوش، حيث انه لم يكن متحيزاً لطبقته الوسطى، طبقة ( الأفندية) ولم يتماهى في طبقة البوليتاريا والكادحين كان بتعبير المتعزلة في منزلة بين المنزلتين، حيث ان عمر الدوش كان صديقاً لعدد من أدبائنا( الأفندية) : ( هاشم صديق )، ( علي المك )، ) علي عبد القيوم) و( صلاح أحمد إبراهيم ) على سبيل المثال.. وبذات القدر فهو صديق شخصي (للمكوجي) الذي يجاور بيته في (أمبده) بامدرمان، وله (ونسات طوال) وسمر جميل مع (بتاع الفول) الذي بيع الفول المصري ليعشي أهل الحي، و..و..الخ الخ. أي أن اديبنا عمر الدوش وبشيء من التعميم وبتعبير إعلامي مستهلك، كان صديقاً ( لكل شرائح المجتمع السوداني).
( سمح الغنا في خشم سيدو):
نستخدم في كثير من مناطق السودان هذا التعبير ( سمح الغنا في خشم سيدو) – أي ان الغناء يكون جميلاً من فم صاحبه المغني – كناية عن انه من الافضل ان تستمع للرواية الأصلية من صاحبها. فعمر الدوش رغم تزاحم الابداع فيه وتداخل أكاديميته مع فنه، إلا انه عاش بسيطاً متواضعاً أو (سواح) كما يقول في بعض قصائده، ينظر للدنيا بشيء من الترفع زاهداً فيها، ولاستشهد بحوار مع الاستاذة سعاد محمد الحسن عبر ( منتديات النيل الأزرق) لتحكي لنا عن عمر الدوش: (.. وتقول الأستاذه سعاد: عمر كتاب مفتوح للجميع،بسيط،واضح وساخر جداً للدرجة التي كانت تغضبني منه، سهل ممتنع يمكن لاي شخص أن يتعايش معه، لا يعيش في دور الأستاذ والشاعر) .
ولكن بالمقابل كانت له آراءه التي يعتد بها كثيراً، ولنستمع مرة أخرى لجزئية من حوار منتديات النيل الأزرق مع الاستاذة سعاد التي تحدث زواجها بعمر الدوش كان (… (زواج مخالف للعادات السودانية كان في شهر سبتمبر 1986 ) : أنا اول فتاة تتزوج بلا مهر ودون شبكة، الدوش دفع لأهلي خمسة عشر جنيهاً وقال لي(إنت اغلى من إني إشتريك)، خالاتي زعلو شديد وقالوا لي( الترابة في خشمك إنت ناقصة من البنات شنو (!، كنت مقتنعة بالفكرة ووقتها كنا نناهض المظاهر الفارغة في المجتمع السوداني لذلك قررنا أن نبدا بانفسنا، تم الزواج دون حفلة ولم أرتدي الزفاف، عند المساء إشترينا (جردل) فول وذهبنا الي بيت أخت عمر،الوحيدة التي حضرت عقد القرآن من أصدقائي هي سهير عثمان قوليب، في المساء تجمع أصدقاءنا في بيت أختو، حسب الرسول كمال الدين شال العود وغنى وأصحابي غنوا لي ، وانا ذاتي غنيت فاصل في العرس، وناس بيتنا ذاتهم إشتروا عشاهم من الدكان!) جدير بالذكر ان الاستاذة سهير عثمان قوليب، والاستاذة حسب الرسول كمال الدين.. هما من اميز مخرجي الإذاعة السودانية (هنا امدرمان).
خلطة الدوش السحرية ( تواضع + بساطة + سخرية ):
ولنقرأ مرة أخرى في حديث التواضع والبساطة والسخرية التي تفيض من عمر الطيب الدوش، حيث تورد موسوعة التوثيق الشامل مقال للشاعر محمد طه القدال. يؤانسنا الأخير بعذب حديثه (… عاد من (التشيك) وما (داح) بالقرى والدساكر يعلى من صيته الشخصي ولكنه كان متواضعاً وواضحاً مثل (فلق الصباح) وشجاعاً شجاعة أخذها من أهله وهو له ذوق (اتيكيت) ورقة جلبهما من السفر في الدنيا العريضة و له معرفة لقدر نفسه ودراية بأقدار الآخرين. شد ما كان يكره الإدعاء وخاصة ادعاء العاطلين من كل موهبة. كان يعجب بالقصة التالية يحكيها كلما جاءت السانحة. يحكي أن جلسة ضمت الشاعر الشيخ الرئيس محمد المهدي المجذوب والشاعر الكبير النور عثمان أبكر والشاعر الصديق محمد محمد خير وآخرين وقد دخل عليهم شاب يريد أن يستمعوا لما كتب واعتقد جازماً أنه الشعر. طفق الشاب يلقي قصيدته ولكن الشاعر النور قد فطن إلى اضمحلال الشعر عند الشاب والشيخ المجذوب قد طأطأ الرأس يستزيده حتى أتى على آخر القصيدة فصمت الجميع وفجأة بادره المجذوب (يا بني .. أنت نبي) ولما ذهب الشاب إلى حال سبيله سأل النورُ الشيخَ لماذا تسبغ علية النبوة وهو على ما هو عليه من ضعف في الوزن والصرف؟ فأجابه المجذوب بجملة واحدة: ( ما علمناه الشعر وما ينبغي له). وكان الدوش يعجب بالرصانة و(يتسلطن) وهو يلقي أبيات الحاردلو الكبير:
(يا خالق الوجود أنا قلبي كاتم سرّو
مالقيت دارك المعنى وعلية أبرّو
قصبة منصح الوادي المخضر درّو
قعدت قلبي تطوي وكل ساعة تفرّو)
” كان يصرخ هزجاً ويقفز طرباً ويتمدد على السرير وينتصب جالساً مرة أخرى وهو يجمع إليه يديه ويرسلهما يمثل حركة (الطي والفر) ثم يضرب موضع قلبه براحته ويصيح ضاحكاً: (العربي مجنون .. علي الطلاق العربي مجنون .. بت الكب .. يا القضارف). كان يستزيد من شعر (الدوبيت) ويطلب عيونه وكان يكتب قصيدته المعلقة (ضل الضحى) عبر الأيام والشهور والسنين ولقد سمعت أول ما سمعت من أبياتها عند بداية قدومي من قريتي إلى العاصمة في بداية السبعينات:
(وانا كنت راجع منتهي
لاقتني هي ..
كبرت “كراعي” من الفرح،
نص في الأرض ونص في النعالْ)
( مقال: عمر الدوش وضل الضحى.. نهاية الوجيب وبداية العمر)
لابد من الاشارة ها هنا إلى ان الشاعر محمد طه القدال، وصف الشاعر العظيم عوض الكريم ابو سن ( الحاردلو ) بالحاردلو الكبير ليميزه عن أحد احفاده الشاعر الدبلوماسي سيد أحمد الحردلو.
هل ظلم الدوش نفسه أم ظلمه الاعلام السوداني؟:
بما انني من جيل أواخر سبعينيات القرن الماضي فقد تعرفت على عمر الطيب الدوش من خلال اعماله في حقبة تسعينيات القرن الماضي وادهشني كثيراً حينما ابتعت ديوانه ( الساقية) من باعة الكتب بميدان البوستة بامدرمان، أن من يرسم هذه اللوحات الجميلة، لا يظهر عبر وسائل الإعلام المرئي ( التلفزيون) ليقرأ قصيدة أو يتحدث في برنامج حوار عن عمل مسرحي قادم سيرى النور قريباً. أذكر ان المرة الوحيدة التي شاهدت فيها له عملاً عبر التلفزيون كان مسرحية ( نحن نسير في جنازة المطر ) والتي عرضها التلفزيون القومي بامدرمان على شاكلة (مسرح الواحد) وظهر في ( التتر ) أن المسرحية من تأليف واخراج وتمثيل (ممثل مشهور) بفرقة الأصدقاء المسرحية.
أفضل عدم ذكر اسم الممثل لأسهاماته المقدرة في مجال المسرح السوداني بصورة خاصة ومع زملائه بالفرقة المتميزة ( فرقة الأصدقاء ) بصفة عامة، ولسبب آخر وهو انني استشهدت بهذا العمل ليس للنيل من هذا ( الممثل المشهور) وإنما لأدلل على فرضية اظنها تقترب كثيراً من الصحة، وهي أن هنالك تغييب إعلامي لعمر الدوش، ربما زهد الأديب في الأضواء وربما غُيب إعلامياً ،
الرحيل .. الهادئ:
يقول لوركا ( والعهدة على المترجم)
” أيها الجار .. يا جاري دعني
أموت بهدوء في فراش مريح
وعلى جسدي أغطية ناعمة
ألا ترى جرحي المفتوح من السرة حتى الرقبة”
نعم أرى ثلاثمائة وردة حمراء ..
توشح قميصك الأبيض”
في شهر اكتوبر 1998م تعرض أديبنا عمر الدوش لحادث سيرٍ ألزمه الفراش الأبيض لعده ايام بالمستشفى لتصعد روحه في هدوءٍ إلى السماء صخب إعلامي منافق، بعد أن وقع على دفتر الجمال بريشته الأنيقة.
على مشارف الختام:
وبعد .. هذا غيض من فيض .. حاولت فيه ان اتخذل الافكار التي ترآءت لي من وحي قراءتي المتكررة للديوانين .. وكما أصغينا لشاعر الدوبيت: عوض الكريم أبو سن ( الحاردلو) ، لما لا نتشارك الاستماع لعمر الطيب الدوش بدهشته الممتعة التي سأختم بها حديثي قبل أن اترحم على روح الشاعر القلقة.
لنقطف باقة ورد حمراء من بستان ( الحزن القديم) – والتي تغنى بها فنان إفريقيا الأول محمد وردي.. يقول عمر الدوش في بعض ابياتها:
” تجيني
معاك يجيني زمن
امتع نفسي بالدهشة
طبول بتدق
وساحات لي فرح نور
وجمل للحزن ممشى “
مزمل الباقر
الخرطوم بحري في 14مايو 2013م
* راوبط المقال:
1. مدونة البوابة
http://blogs.albawaba.com/oaldosh
2. شبكة منتديات النيل الأزرق السودانية
عمر الطيب الدوش وسعاد محمد الحسن - منتديات النيل الازرق السودانية
3. ( عمر الدوش وضل الضحى .. نهاية الوجيب بداية العمر) محمد طه القدال – موسوعة التوثيق الشامل
القدال يكتب عن الراحل عمر الطيب الدوش - موسوعة التوثيق الشامل