3-
رأينا أن شعر الإسكندرية لا يهز النفوس إلا عندما يعود فيتصل بالحياة، ولقد شهدنا ذلك الاتصال في المقطوعات الصغيرة وفي أغاني الريف والرعاة. وبإنعام النظر فيما سقنا من أمثلة يلاحظ القارئ بلا ريب أن ذلك الشعر وإن كان نقياً خالصاً فإنه لم يخل من واقعية، وذلك لا في الأسلوب فحسب، بل وفي نوع الإحساس والتفكير. ولقد استمعنا إلى تيوقريطس ينصت إلى الضفدعة الخضراء، ويتغنى ببمبيكا الباسمة الخفيفة الدم، وقد جن بها عادياً خلفها كما يعدو الذئب وراء النعجة والبجع خلف المحراث، وعنده أن جالاتيه، البيضاء كاللبن المخيض، لاذعة كعنقود العنب الخضر.
وهذه الواقعية لا علاقة لها بالمذهب الأدبي الذي ظهر خلال القرن التاسع عشر بذلك الاسم، فأدباء ذلك القرن وعلى رأسهم بازك وفلوبير وموباسان إنما كانوا يقصدون بالواقعية الكشف عن الجوانب الوضيعة في النفس البشرية، حتى لقد تطور مذهبهم فانتهى إلى الطبيعية التي نجدها عند زولا حيث لا ترى إلا الغرائز الشاذة والقوى العضوية ومخلفات الوراثة المثقلة تقود أبطال الروايات. واقعية شعراء الإسكندرية لا غوص فيها ولا تحليل ولا التماس للجوانب المظلمة في النفس، وإنما هي تصوير لواقع الحياة الساذجة، ولشعور النفس المفطر بأسلوب مباشر
وإذا كانت هذه الواقعية قد طالعتنا من ثنايا الأغاني، فإنه لم يكن بد من أن تنفرد بنوع بذاته من أنواع الأدب، وهذا النوع هو ما سميناه فصول المحاكاة
فصول المحاكاة
نشأ هذا الفن بصقلية كما نشأت أشعار الرعاة، وإن يكن أقدم منها تاريخاً، إذا يعتبره النقاد عنصراً من العناصر التي مهدت للكوميديا، وأكبر الظن أنه نشأ في القرن الخامس ق. م. على يد سُفُرون وزيناركوس، وإن يكن ما كتبناه قد ضاع. ولهذا لا نستطيع أن نجزم بطريقة بنائهما لتلك الفصول، وإن كان من الراجح أنها كانت على غرار ما وصلنا من اللاحقين لهما، وبخاصة هيرونداس (يسميه البعض هيروداس) الذي نشر له العالم الإنجليزي كنيون سنة 1891 سبعة فصول عن ورقة من أوراق البردي موجودة بالمتحف البريطاني. وكل فصل منها عبارة عن حوار بين شخصين أو ثلاثة أشخاص أحياناً من النساء وأحياناً من الرجال، وهو شديد الشبه بفصل من مسرحية، وإن كانت تلك الفصول لم تعد للتمثيل، بل كتبت للقراءة أو الإلقاء. ولقد كان هيرونداس هذا فيما يبدو معاصراً لتيوقريطس. وأشخاص الحوار من عامة الشعب أو من الطبقة الوسطى. فتجد معلم المدرسة وبائع الرقيق والقوادة والجزمجي الشهير. . . الخ. . . والشاعر يصورهم في حياتهم اليومية، وهو يلتمس لحواره أي سبب كان: لقاء في طريق، أو احتكاكا في زحام، أو مساومة على سلعة. وإذا بنا نشهد ساعة من حياتهم بهمومها الدارجة، ومسراتها المألوفة، وشهواتها الصغيرة، وثرثرتها الأبدية التي نعرفها جميعاً في أفراد الشعب، وما يتخلل حديثهم من أمثال وتحيات محفوظة، وشتائم موروثة ومصطلحات لا نفهم لها وضعاً ولا معنى. من أمثال: (بلا آفية) و (يا سيدي لما إنت)، وما إلى ذلك مما يستطيع أن يسمعه القارئ بكل ركن من أركان الحسينية أو البغالة، فنستمع طوراً بعد طور إلى القوادة ذات الناب الأزرق تنقل إلى فتاة مغريات عربيد كبير، أو بائع الرقيق يقص على المحكمة محنة ويطلب إليها العدل، أو أب يتحدث إلى معلم المدرسة عن ولده (الشيطان الرجيم) ويقص عليه (عفرتته) التي لا تنتهي؛ أو نرى بائع الأحذية الشهير يعرض على (مترو) أحذيته الجيدة ويطري البضاعة
فصول المحاكاة لوحات أخلاقية صغيرة، لوحات لا عمق فيها ولكنها تصوير صادق للحياة، وهي وإن خلت من عنصر الدراما إلا أنها مع ذلك تكوِّن غالباً وحدة لها بدؤها ونهايتها. وموضع الجمال فيها هو سذاجتها رما بها من دقة الملاحظة، ثم بقاؤها في مستوى الشعب، فلن تجد فيها أي تداخل من كاتبها. بإحساسه الخاص أو آراءه ومثله، فكأن الشاعر سلبي بحت يستمع إلى من حوله ويرصد ما يستمع، ومع ذلك كم فيها من دقة وصدق وحسن اختيار للتفاصيل الدالة، وقد تتابعت بها دعارة القول وعفة الحياء، وقاحة بائع الرقيق وسذاجة نساء الحارات، مكر بائع الأحذية وتصنع المستهترات.
في هذه الفصول مجموعة كاملة من المشاعر المتوسطة التي نجدها عند عامة الناس، والشاعر لا يحيد بها إلى التزمت ولا إلى التسامح المسرف، بل يلازم الصدق فهو لا يمتدحها ولا يهجوها بل يصورها كما هي غير متجنب ما فيها من قبح ولا مبالغ فيه. وهو لا يخشى العبارة المسفة ولكنه لا يبحث عنها، كما أنه لا يغدق العطف على ما يجب ولا يصب اللوم على ما يكره. وشخصياته وإن لم تخل من رذائل وقسوة إلا أن تصرفاتهم لا تصل قط إلى حد المآسي الدراميتيكية. وهم بهذا أيضاً يظلون في واقع الحياة. الحياة الحقيقية التي يندر بها الأبطال الخارقون كما يندر كبار المجرمين
ثم إن هذه الفصول وإن كانت تصور نواحي إنسانية عامة إلا أنها تضيف إلى ذلك حقائق تاريخية خاصة بشعب صقلية في ذلك الحين، ذلك الشعب الذي اشتهر منذ القدم بكثرة الحركة وخفة اللسان ومرونة الخلق والنزوع إلى الاستطلاع
ولقد كتب تيوقريطس نفسه كما ذكرنا في نهاية المقال السابق بعضاً من تلك الفصول، ولعل (نساء سيراقوزة) خير مثل يضرب لها. والحوار يجري بمدينة الإسكندرية في يوم من أيام عيد أدونيس وبطلاه امرأتان أتت بهما من سيراقوزة إلى الإسكندرية بعض المهام التجارية فذهبتا إلى العيد حيث لا تنقضي تعليقاتهما على ما يريان، فالحصان الرمادي الضخم يخفيهما وكل منهما تشكو من زوجها وإن كانتا في حقيقة الأمر أميل إلى الطيبة، وهما لا يغنيان ولكنهما يحبان الاستماع إلى الغناء، وبالفعل ينشد أحد المغنيين نشيداً جميلاً لأدونيس وبه ينتهي الفصل. وهانحن بعيدون عن رعاة الجبال وقد انتقلنا إلى المدن حيث تجري الحياة المتواضعة التي لا شعر فيها، ولكننا نجد في صدق التصوير وسذاجته ما يعوض عن الشعر، وإن كان تيوقريطس لم يتمالك من أن يختم فصله بنشيد فيه شذا الشعر الجميل
الشعر العلمي (الأكاديمي)
قلنا من قبل إن الكثير من شعر الإسكندرية كان شعراً مصنوعاً وضعه العلماء بعيداً عن الحياة، ولدينا من هذا النوع الشيء الكثير، فأراتوس يتحدث عن (ظواهر الطبيعة) في كتاب ضخم. وكاليما كوس يقص نسبب الآلهة بمغامراتهم وحوادثهم المعروفة في أسلوب تعليمي في (أناشيده) أو يوضح الأسباب والمسببات في (أصوله) بل ومنهم من أخذ في محاكاة هوميروس فحال أن يضع الملاحم. وأكبر هؤلاء المقلدين هو أبولونيوس الرودسي الذي ألف ملحمة كبيرة يقص فيها رحلة جازون ورفاقه بحثاً عن الجزة الذهبية، ذلك أن جازون هذا كان عمه قد اغتصب من أبيه العرش؛ وعندما حاول استرداده طلب إليه العم أن يأتيه أولاً بالجزة الذهبية، وكانت تلك الجزة ببلاد تراقيا النائية حيث يحرسها تنين ضخم فضلاً عما في تلك الرحلة البعيدة من مخاطر. ولقد استطاع جازون أن يأتي بالجزة، وذلك بفضل ميديه بنت ملك تراقيا التي أحبت البطل وجنبته بنصائحها وذكائها مواضع التهلكة بل وهربت معه. وهذه هي القصة المعروفة بقصة (الأرجونوت) أي بحارة (أرجو) وهو اسم السفينة التي أبحر عليها جازون ورفاقه
وأبولونيوس وإن يكن بلا ريب من الشعراء العلماء، شعراء الصنعة فإنه يعد برغم ذلك شاعراً كبيراً وبخاصة في بعض أجزاء ملحمته التي استرسل فيها مع إحساسه إلى حد ما. ولعل من خير ما كتب وصفه لغرام ميديه: (مدّ الليل ظلاله على الأرض، وفي البحر نام البحارة بسفنهم وهم يتأملون هيليكنيه ونجوم الأريون. وقد هفا المسافرون في الطريق إلى ساعة النوم، كما هفا الحراس على الأبواب. بل والأم الحديثة عهد بموت أبنائها قد لفها خدر نوم عميق. وعواء الكلاب لم يعد يسمع بالمدينة. لم يعد ثمة همس لصوت. لقد تملك الصمت ظلام الليل
ولكن ميديه لم يغزها عذب النوم، لقد أيقظتها آلاف من الهموم، هموم غرامها وكان قلبها يثب في صدرها بلا انقطاع، وكأنه شعاع يثب في غرفة وقد عكسته مياه تصب في قدر. فهو يهتز دائراً في سرعة فيقفر هنا وهناك. على هذا النحو كان يدور قلب الفتاة بصدرها
حدثت نفسها حيناً بأنها ستعطي المادة السحرية الثيران (التي كانت ستفترس جازون) لتهدئها، وحيناً بأنها لن تعطيها. فكرت في أن تموت، ثم في أن لا تموت، وأن لا تعطي المادة السحرية محتملة ألمها دون تفعل شيئاً. وأخيراً جلست وفكرت، ثم قالت: ما أشقاني! لقد تحوطتني المحن. أين المفر؟ بكل سبيل شكوك لنفسي! لا دواء لألمي الذي لا يمسك عن إحراقي. آه! ليت أرتميس (إلهة الصيد) استطاعت أن تقتلني بسهامها قبل أن أراه. كيف أستطيع أن أعد المواد السحرية خفية عن أهلي؟ ماذا أقول؟ أي حيلة أخترع لأداري معونتي؟ هل أحادثه سراً بعيداً عن رفاقه؟ يا للبؤس! إن موته ذاته لن يدع لي أملاً في الشفاء من آلامي. بعد موته سيحتضنني الألم. وداعاً عفافي! وداعاً ضياء حياتي! فلينج على يدي ولينأ من هنا دون جراح. لينأ إلى حيث يهوى فؤاده) ولست أدري ماذا يظن القارئ بهذه الفقرة التي هي بلا ريب من خير ما كتب وإن كنت عن نفسي أحس فيها الصنعة بادية والتكلف واضحاً، ولا أدل على ذلك من أن ننعم النظر في تشبيهه المعقد لقلب الفتاة بالشعاع الذي يثب في غرفة وفي الغرفة قدر وبالقدر يصب الماء، والماء يعكس الشعاع، والشعاع يتطاير شرره في كل ناحية وما إلى ذلك من تفيهق العلماء وصنعتهم المرذولة
ذلك عن فن الملاحم. ولقد سبق أيضاً أن قلنا إن شعراء ذلك العصر قد حاولوا كافة الفنون الأدبية، فهم لم يقفوا عند الملاحم يحاولون بعثها بعد أن كان زمن الفطرة والطبع السليم قد انقضى، بل كتبوا أيضاً التراجيديات. ومن غريب الأمر أنه أكبر شعراء التراجيديات في ذلك العصر وهو ليكوفون لم يرقه ما أحدثه أوربيدس في أسلوب التراجيديا من تطور نحو النثرية. فأراد (كأديب مرهف) أن يعود بها إلى اللغة الشعرية القديمة. فأخذ يحاكي أيسكيلوس وبنداروس، ولكن التكلف أفسد محاولته كما نتوقع، وكان في هذا فشل للتراجيديا لا يقل عن فشل الملاحم
وتخلص من كل ما سبق عن أدب عصر الإسكندرية إلى أن لم يجد إلا عند ما عاد إلى الحياة، لقد جاد في شعر ليونيداس لأنه لامس بؤس الحياة وخبر أسرارها، وجاد في شعر تيوقريطس لأنه هاجر إلى الريف حيث السذاجة الساحرة، وجاد في فصول المحاكاة، لأنه صور واقع الحياة، ولقد صدقت نغماته في شعر الغرام، لأن الحب شعور غلاب، وأما فيما عدا ذلك فقد جاء شعر علم وتكلف وكتب وصالونات
(انتهى)
محمد مندور
رأينا أن شعر الإسكندرية لا يهز النفوس إلا عندما يعود فيتصل بالحياة، ولقد شهدنا ذلك الاتصال في المقطوعات الصغيرة وفي أغاني الريف والرعاة. وبإنعام النظر فيما سقنا من أمثلة يلاحظ القارئ بلا ريب أن ذلك الشعر وإن كان نقياً خالصاً فإنه لم يخل من واقعية، وذلك لا في الأسلوب فحسب، بل وفي نوع الإحساس والتفكير. ولقد استمعنا إلى تيوقريطس ينصت إلى الضفدعة الخضراء، ويتغنى ببمبيكا الباسمة الخفيفة الدم، وقد جن بها عادياً خلفها كما يعدو الذئب وراء النعجة والبجع خلف المحراث، وعنده أن جالاتيه، البيضاء كاللبن المخيض، لاذعة كعنقود العنب الخضر.
وهذه الواقعية لا علاقة لها بالمذهب الأدبي الذي ظهر خلال القرن التاسع عشر بذلك الاسم، فأدباء ذلك القرن وعلى رأسهم بازك وفلوبير وموباسان إنما كانوا يقصدون بالواقعية الكشف عن الجوانب الوضيعة في النفس البشرية، حتى لقد تطور مذهبهم فانتهى إلى الطبيعية التي نجدها عند زولا حيث لا ترى إلا الغرائز الشاذة والقوى العضوية ومخلفات الوراثة المثقلة تقود أبطال الروايات. واقعية شعراء الإسكندرية لا غوص فيها ولا تحليل ولا التماس للجوانب المظلمة في النفس، وإنما هي تصوير لواقع الحياة الساذجة، ولشعور النفس المفطر بأسلوب مباشر
وإذا كانت هذه الواقعية قد طالعتنا من ثنايا الأغاني، فإنه لم يكن بد من أن تنفرد بنوع بذاته من أنواع الأدب، وهذا النوع هو ما سميناه فصول المحاكاة
فصول المحاكاة
نشأ هذا الفن بصقلية كما نشأت أشعار الرعاة، وإن يكن أقدم منها تاريخاً، إذا يعتبره النقاد عنصراً من العناصر التي مهدت للكوميديا، وأكبر الظن أنه نشأ في القرن الخامس ق. م. على يد سُفُرون وزيناركوس، وإن يكن ما كتبناه قد ضاع. ولهذا لا نستطيع أن نجزم بطريقة بنائهما لتلك الفصول، وإن كان من الراجح أنها كانت على غرار ما وصلنا من اللاحقين لهما، وبخاصة هيرونداس (يسميه البعض هيروداس) الذي نشر له العالم الإنجليزي كنيون سنة 1891 سبعة فصول عن ورقة من أوراق البردي موجودة بالمتحف البريطاني. وكل فصل منها عبارة عن حوار بين شخصين أو ثلاثة أشخاص أحياناً من النساء وأحياناً من الرجال، وهو شديد الشبه بفصل من مسرحية، وإن كانت تلك الفصول لم تعد للتمثيل، بل كتبت للقراءة أو الإلقاء. ولقد كان هيرونداس هذا فيما يبدو معاصراً لتيوقريطس. وأشخاص الحوار من عامة الشعب أو من الطبقة الوسطى. فتجد معلم المدرسة وبائع الرقيق والقوادة والجزمجي الشهير. . . الخ. . . والشاعر يصورهم في حياتهم اليومية، وهو يلتمس لحواره أي سبب كان: لقاء في طريق، أو احتكاكا في زحام، أو مساومة على سلعة. وإذا بنا نشهد ساعة من حياتهم بهمومها الدارجة، ومسراتها المألوفة، وشهواتها الصغيرة، وثرثرتها الأبدية التي نعرفها جميعاً في أفراد الشعب، وما يتخلل حديثهم من أمثال وتحيات محفوظة، وشتائم موروثة ومصطلحات لا نفهم لها وضعاً ولا معنى. من أمثال: (بلا آفية) و (يا سيدي لما إنت)، وما إلى ذلك مما يستطيع أن يسمعه القارئ بكل ركن من أركان الحسينية أو البغالة، فنستمع طوراً بعد طور إلى القوادة ذات الناب الأزرق تنقل إلى فتاة مغريات عربيد كبير، أو بائع الرقيق يقص على المحكمة محنة ويطلب إليها العدل، أو أب يتحدث إلى معلم المدرسة عن ولده (الشيطان الرجيم) ويقص عليه (عفرتته) التي لا تنتهي؛ أو نرى بائع الأحذية الشهير يعرض على (مترو) أحذيته الجيدة ويطري البضاعة
فصول المحاكاة لوحات أخلاقية صغيرة، لوحات لا عمق فيها ولكنها تصوير صادق للحياة، وهي وإن خلت من عنصر الدراما إلا أنها مع ذلك تكوِّن غالباً وحدة لها بدؤها ونهايتها. وموضع الجمال فيها هو سذاجتها رما بها من دقة الملاحظة، ثم بقاؤها في مستوى الشعب، فلن تجد فيها أي تداخل من كاتبها. بإحساسه الخاص أو آراءه ومثله، فكأن الشاعر سلبي بحت يستمع إلى من حوله ويرصد ما يستمع، ومع ذلك كم فيها من دقة وصدق وحسن اختيار للتفاصيل الدالة، وقد تتابعت بها دعارة القول وعفة الحياء، وقاحة بائع الرقيق وسذاجة نساء الحارات، مكر بائع الأحذية وتصنع المستهترات.
في هذه الفصول مجموعة كاملة من المشاعر المتوسطة التي نجدها عند عامة الناس، والشاعر لا يحيد بها إلى التزمت ولا إلى التسامح المسرف، بل يلازم الصدق فهو لا يمتدحها ولا يهجوها بل يصورها كما هي غير متجنب ما فيها من قبح ولا مبالغ فيه. وهو لا يخشى العبارة المسفة ولكنه لا يبحث عنها، كما أنه لا يغدق العطف على ما يجب ولا يصب اللوم على ما يكره. وشخصياته وإن لم تخل من رذائل وقسوة إلا أن تصرفاتهم لا تصل قط إلى حد المآسي الدراميتيكية. وهم بهذا أيضاً يظلون في واقع الحياة. الحياة الحقيقية التي يندر بها الأبطال الخارقون كما يندر كبار المجرمين
ثم إن هذه الفصول وإن كانت تصور نواحي إنسانية عامة إلا أنها تضيف إلى ذلك حقائق تاريخية خاصة بشعب صقلية في ذلك الحين، ذلك الشعب الذي اشتهر منذ القدم بكثرة الحركة وخفة اللسان ومرونة الخلق والنزوع إلى الاستطلاع
ولقد كتب تيوقريطس نفسه كما ذكرنا في نهاية المقال السابق بعضاً من تلك الفصول، ولعل (نساء سيراقوزة) خير مثل يضرب لها. والحوار يجري بمدينة الإسكندرية في يوم من أيام عيد أدونيس وبطلاه امرأتان أتت بهما من سيراقوزة إلى الإسكندرية بعض المهام التجارية فذهبتا إلى العيد حيث لا تنقضي تعليقاتهما على ما يريان، فالحصان الرمادي الضخم يخفيهما وكل منهما تشكو من زوجها وإن كانتا في حقيقة الأمر أميل إلى الطيبة، وهما لا يغنيان ولكنهما يحبان الاستماع إلى الغناء، وبالفعل ينشد أحد المغنيين نشيداً جميلاً لأدونيس وبه ينتهي الفصل. وهانحن بعيدون عن رعاة الجبال وقد انتقلنا إلى المدن حيث تجري الحياة المتواضعة التي لا شعر فيها، ولكننا نجد في صدق التصوير وسذاجته ما يعوض عن الشعر، وإن كان تيوقريطس لم يتمالك من أن يختم فصله بنشيد فيه شذا الشعر الجميل
الشعر العلمي (الأكاديمي)
قلنا من قبل إن الكثير من شعر الإسكندرية كان شعراً مصنوعاً وضعه العلماء بعيداً عن الحياة، ولدينا من هذا النوع الشيء الكثير، فأراتوس يتحدث عن (ظواهر الطبيعة) في كتاب ضخم. وكاليما كوس يقص نسبب الآلهة بمغامراتهم وحوادثهم المعروفة في أسلوب تعليمي في (أناشيده) أو يوضح الأسباب والمسببات في (أصوله) بل ومنهم من أخذ في محاكاة هوميروس فحال أن يضع الملاحم. وأكبر هؤلاء المقلدين هو أبولونيوس الرودسي الذي ألف ملحمة كبيرة يقص فيها رحلة جازون ورفاقه بحثاً عن الجزة الذهبية، ذلك أن جازون هذا كان عمه قد اغتصب من أبيه العرش؛ وعندما حاول استرداده طلب إليه العم أن يأتيه أولاً بالجزة الذهبية، وكانت تلك الجزة ببلاد تراقيا النائية حيث يحرسها تنين ضخم فضلاً عما في تلك الرحلة البعيدة من مخاطر. ولقد استطاع جازون أن يأتي بالجزة، وذلك بفضل ميديه بنت ملك تراقيا التي أحبت البطل وجنبته بنصائحها وذكائها مواضع التهلكة بل وهربت معه. وهذه هي القصة المعروفة بقصة (الأرجونوت) أي بحارة (أرجو) وهو اسم السفينة التي أبحر عليها جازون ورفاقه
وأبولونيوس وإن يكن بلا ريب من الشعراء العلماء، شعراء الصنعة فإنه يعد برغم ذلك شاعراً كبيراً وبخاصة في بعض أجزاء ملحمته التي استرسل فيها مع إحساسه إلى حد ما. ولعل من خير ما كتب وصفه لغرام ميديه: (مدّ الليل ظلاله على الأرض، وفي البحر نام البحارة بسفنهم وهم يتأملون هيليكنيه ونجوم الأريون. وقد هفا المسافرون في الطريق إلى ساعة النوم، كما هفا الحراس على الأبواب. بل والأم الحديثة عهد بموت أبنائها قد لفها خدر نوم عميق. وعواء الكلاب لم يعد يسمع بالمدينة. لم يعد ثمة همس لصوت. لقد تملك الصمت ظلام الليل
ولكن ميديه لم يغزها عذب النوم، لقد أيقظتها آلاف من الهموم، هموم غرامها وكان قلبها يثب في صدرها بلا انقطاع، وكأنه شعاع يثب في غرفة وقد عكسته مياه تصب في قدر. فهو يهتز دائراً في سرعة فيقفر هنا وهناك. على هذا النحو كان يدور قلب الفتاة بصدرها
حدثت نفسها حيناً بأنها ستعطي المادة السحرية الثيران (التي كانت ستفترس جازون) لتهدئها، وحيناً بأنها لن تعطيها. فكرت في أن تموت، ثم في أن لا تموت، وأن لا تعطي المادة السحرية محتملة ألمها دون تفعل شيئاً. وأخيراً جلست وفكرت، ثم قالت: ما أشقاني! لقد تحوطتني المحن. أين المفر؟ بكل سبيل شكوك لنفسي! لا دواء لألمي الذي لا يمسك عن إحراقي. آه! ليت أرتميس (إلهة الصيد) استطاعت أن تقتلني بسهامها قبل أن أراه. كيف أستطيع أن أعد المواد السحرية خفية عن أهلي؟ ماذا أقول؟ أي حيلة أخترع لأداري معونتي؟ هل أحادثه سراً بعيداً عن رفاقه؟ يا للبؤس! إن موته ذاته لن يدع لي أملاً في الشفاء من آلامي. بعد موته سيحتضنني الألم. وداعاً عفافي! وداعاً ضياء حياتي! فلينج على يدي ولينأ من هنا دون جراح. لينأ إلى حيث يهوى فؤاده) ولست أدري ماذا يظن القارئ بهذه الفقرة التي هي بلا ريب من خير ما كتب وإن كنت عن نفسي أحس فيها الصنعة بادية والتكلف واضحاً، ولا أدل على ذلك من أن ننعم النظر في تشبيهه المعقد لقلب الفتاة بالشعاع الذي يثب في غرفة وفي الغرفة قدر وبالقدر يصب الماء، والماء يعكس الشعاع، والشعاع يتطاير شرره في كل ناحية وما إلى ذلك من تفيهق العلماء وصنعتهم المرذولة
ذلك عن فن الملاحم. ولقد سبق أيضاً أن قلنا إن شعراء ذلك العصر قد حاولوا كافة الفنون الأدبية، فهم لم يقفوا عند الملاحم يحاولون بعثها بعد أن كان زمن الفطرة والطبع السليم قد انقضى، بل كتبوا أيضاً التراجيديات. ومن غريب الأمر أنه أكبر شعراء التراجيديات في ذلك العصر وهو ليكوفون لم يرقه ما أحدثه أوربيدس في أسلوب التراجيديا من تطور نحو النثرية. فأراد (كأديب مرهف) أن يعود بها إلى اللغة الشعرية القديمة. فأخذ يحاكي أيسكيلوس وبنداروس، ولكن التكلف أفسد محاولته كما نتوقع، وكان في هذا فشل للتراجيديا لا يقل عن فشل الملاحم
وتخلص من كل ما سبق عن أدب عصر الإسكندرية إلى أن لم يجد إلا عند ما عاد إلى الحياة، لقد جاد في شعر ليونيداس لأنه لامس بؤس الحياة وخبر أسرارها، وجاد في شعر تيوقريطس لأنه هاجر إلى الريف حيث السذاجة الساحرة، وجاد في فصول المحاكاة، لأنه صور واقع الحياة، ولقد صدقت نغماته في شعر الغرام، لأن الحب شعور غلاب، وأما فيما عدا ذلك فقد جاء شعر علم وتكلف وكتب وصالونات
(انتهى)
محمد مندور