محمود محمد شاكر - نبوّة المتنبي أيضا -1-

(أخي سعيد الأفغاني:)

وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد، فأني أشكر لأخي حُسن ظنِّه بي في بعض كلامه، ومسارعته في الرد على كلمتي التي نشرتها الرسالة (العدد 167). هذا على أنه ليس يجمُلُ بالأستاذ أن يحمّل نفسه تكاليف الرد على مثلي، فأن الذي بيننا من التخالُفِ في الطبيعة، والتباين في الجِبّلة ليقوم في هذا الأمر مقامَ الرد. وأيضاً، فليس مما يحسُنُ به أن يبسط عذره للقراء عن تأخر الرد بجولته في قرى (البقاع)، وأن قراءته للذي أتيت به من الكلام كانت بعد عشرة أيام من صدوره. وليعلم الأستاذ الجليل أني أحب أن يحملني على طبيعتي، وأن يتقبلني على علتي، وأن يعرفني رجلاً شيمته العجزُ ودأبهُ التخلُّف، فلا قبل له بمثل قدرة الأستاذ وقوته على مد الشوط؛ هذا على ما ركِّب في أصل خلقتي من الحدة والثورة وضيق الصدر. وليس أدلّ على ما بيننا من تباين الجبلة - من الذي استيقنه الأستاذ وأثبته فيَّ من التخلُّفِ والعجز، والذي رأيته فيه من القدرة والمسارعة، فهو لم يضق ذرعاً بكل الذي كتبناه، ولا تخلّف في رد كلامنا وإسقاطه بالحجة والبيان والبرهان، في أوجز لفظ، وأوزن فكر، وأدق فهم. . . ثم في أقل وقت. وأنا - على نقيضه، فأنا كما وصفني الأستاذ حين يقول. (أما أنا فما كنت أظنُّ!! أسطراً تذكر عرضاً في رد فكرة تثير (مثل هذا) الفاضل، فيحمل هماً بجد وقره وعنته اثنين وأربعين يوماً، ثم ينفثه في رده الذي تكرم به على مثل هذا الشكل)، ولا أدري لم لا يظنُّ الأستاذ ذلك؟ ألا فليعلم أخي سعيد أن اثنين وأربعين يوماً ليس كثير دهر على عاجزٍ وجل هيَّابٍ متخلِّف، وأن كلمته الصغيرة - التي أثارتني فحملت همها أجد وقره وعنته اثنين وأربعين يوماً - كانت مما يقتضيني عامين على الأقلِّ في تقليبها وفهمها ودراستها أواصل ليلهما بالنهار، ثم في الاستعداد للردّ، ثم في جمع شتات الذهن، ثم في نفض الذهول عن العقل والفكر، ثم في كتابة ما يُسوِّل لي قليل علمي وتحريره والنظر في صدوره وأعقابه.

وبعدُ أيضاً، فأن أخي سعيد قد رماني بقارصاتٍ، وهو الذي يقول عن كلمتي في الرسالة: (وصحف الرسالة أحوجُ إلى أن تملأ بالحقائق والبرهان منها إلى الدعوى والانتقاض؛ وأتمنى للأستاذ أن يهجُر هذا الأسلوب في الجدال، فما هو بمغنيه عن الحق شيئاً، كما لم يغن (طنينُ) الأستاذ صروف بالإشادة بمزايا الكتاب في مقدمته) أهـ، ولست أدري! فلعل صُحف الرسالة قد غنيت بأساليب البيان العبقري، والسخرية النابغة من مثل قوله عن كلمات فؤاد صروف (طنين الأستاذ صروف)، فالطنين في هذه العبارة كلمة بيانية مبتدعة فيها من الفن والموسيقى ما يتضاءل معه إبداع جلّة الكُتاّب والشعراء والموسيقيين. ومثلُ الذي يقول: (وأنا أعوذُ بالله من الغرور، والذهابِ بالنفس، ومن الجهل بمقدارها، والمكابرة في العلم، والعصبية للرأي والهوى؛ فما يزال الناس - ولله الحمد - يقيسون فضل المرء بخضوعه للحق، وإتقانه لعمله، لا بدعواه و (تبجُّحه)) إلى آخر هذا الكلام البليغ الذي لو أراده الجاحظ وجهد فيه، واحتفل له، لما تعلّق بذيلهِ، ولا جرى في غباره. وأنا أعوذ بالأخ أن يعودَ إلى مثل هذا القولِ، فإني أكره أن أجزي أخاً أي بالذي أعلمُ أنَّه يؤذيه ويرمضُه، فيذهله عن منازل الصّبر، ويستفزّهُ عن مواطن الحلم.

وليس أحب إلى نفسي من أن أهتديَ إلى الحق على علم وبصيرة، وأن أخضَعَ له على الرضى والغضب، وأن أعمل على افراره ما استطعت إلى ذلك سبيلا. فلا يتبعنّ - أخي الأستاذ سعيد - ظنّه أنا من أهل الغرور، والذهاب بالنفس، والجهل بمقدارها، والمكابرة في العلم، والجدال فيما لا جدوى منه ولا منفعة. وسأنتهي - إن شاء الله - مع الأخ إلى النهاية التي يرضاها غير باغ ولا ظالم. فأول ما أبدأ به بيان ما ورد في كلمته (الرسالة 170) من التهافُت في بعض القولِ، ثم أعقّبُ على ذلك بذكر نبوّة أبي الطيب، وتقرير القول في نفيها على وجه يبلغ بنا رضاه، ثم أجيبه عن كل ما سألنيه من شيء، فإن اعترض في خلال ذلك، نظرت في الذي يأتي به، فإن غلبنا على الحق أسلمنا وبذلنا له الطاعة، وإن رضي قولنا فهو عند قاعدته التي ذكرها (ألا يحفِلَ نقْداً أو رداً إلا إذا كان حقاً، وسبيله أن يأخذ نفسه به، ويشكر لصاحبه).

1 - قال الأستاذ سعيد حين ذكر خبر التنوخي ورأينا في رده: (سأل التنوخي أبا الطيب عن معنى (المتنبي) فأجابه: (إن هذا شيء كان في الحداثة) وظاهر أنه يعني التلقيب لا التنبؤ، فجوابه غير صريح، وهو كما قال الراوي جواب مغالط) اهـ. والأصل الذي اعتمد عليه الأستاذ فيما ينقل هو (طبقات الأدباء) لابن الأنباري، ونص الخبر: ثم (قال التنوخي: قال لي أبي، فأما أنا فسألته بالأهواز عن معنى المتنبي، لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أولاً، فجاوبني بجواب مغالط، وقال: إن هذا شيء كان في الحداثة، فاستحييت أن أستقصي عليه وأمسكت) وهذا نَصٌّ قد اختصره ابن الأنباري على عادته. وجاء الأستاذ سعيد فأراد أن يبين وجه المغالطة في الجواب، فزعم أن أبا الطيب يعني التلقيب لا التنبؤ في جوابه. وكان أولى بالأستاذ قبل أن يؤول الكلام على هذا الوجه أن يتدبر القول وينظر فيه على الصورة التي يؤوله بها، ثم يبين وجه المغالطة بياناً لا يسقطه العقل. . . يقول التنوخي إنه سأل أبا الطيب عن معنى (المتنبي) ليسمعَ منه هل تنبأ أولاً - أي هل كان اللقب لحادث نبوة كانت منه أم هو نَبْزٌ به ولُقِّب - فيجيبه أبو الطيب: (إن هذا التلقيب كان في الحداثة) فأي المغالطة في هذا الجواب! وفي المسألة وجهان: إما أن يكون التنوخي قد سأل أبا الطيب مصرحاً بالذي أراده فقال له: هل ادعيت فسميت المتنبي فيقول أبو الطيب (هذا شيء كان في الحداثة) فيكون المراد (النبوّة) ولا شك، وإما أن يكون قد سأله عن علة تلقيبه بالمتنبي، فيقول: (هذا شيء كان في الحداثة) فيكون جواب رجل لا يحب أن يمتد في الحديث فهو يقطعه على سائله، فهو يقول له: إن هذا اللقب وسببه كانا في الحداثة ولست براض عن سؤالك؛ فليس في هذا مغالطة. ثم إن امتناعه عن ذكر علة غير النبوة في سبب التسمية دليل على أن النبوة هي العلة في التلقيب، لأن اللفظ صريح في الدلالة على المعنى. وليس يغفُلُ أبو الطيب عن معنى هذا اللقب، ولا يظن أن الناس غافلون عنه، فيكون امتناعه عن ذكر العلة مما يوقعهم في حيرة من تأويل معناه. ثم ما الذي يضر أبا الطيب لو كان هذا التلقيب في الكبر ولم يكن في الحداثة؟ فحرصه على تخصيص ما أراد من المعنى بالحداثة ينفي إرادة (التلقيب) البتة. وأولى حين يكون التخصيص بالحداثة أن يراد بذلك النبوة، فإن قوة التدفع، وسمو الطموح، وإشراف النفس، وتهاويل الأمل، هي بالحداثة ألزم، وهي التي تورث نيران الشباب فتدفعه إلى المغامرة والتهدر والمخاطرة على غير هدى ولا بصيرة، حتى يركب بها صاحبها الحدَثُ الغرُ مركب من الحماقة، ويرد بها كل مورد من الغرور، فلا يرعوي عن أن يدعي مالا مطمَع له ولو كانَ النبوّة. وقول التنوخي بعد جواب أبي الطيب: (فاستحييت أن أستعصي عليه فأمسكت) دليل على أن الرجل اكتفى بإشارة أبي الطيب إلى حادث النبوة، وأمسك عن الذي كان يريده أولاً من التصريح في إثبات ما كان من أمره في ادعاء النبوة.

واختصار ابن الأنباري خبر التنوخي هو الذي دفع الأستاذ إلى هذا التأويل. وأصل خبر التنوخي أنه قال: حدثني أبي قال: أما أنا فإني سألته بالأهواز سنة أربع وخمسين وثلاثمائة - عند اجتيازه بها إلى فارس في حديث طويل جرى بيننا - عن معنى المتنبي، لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أم لا، فأجابني بجواب مغالط لي، وهو أن قال: هذا شيء كان في الحداثة أوجبته الصورة! فاستحييت أن أستقصي عليه وأمسكت) فالمغالطة في قوله (أوجبته الصورة) والصورة ههنا الصفة على اصطلاح أهل الكلام، وصفة الحداثة لا توجب ادعاء النبوّة، فهذا هو وجه المغالطة. فلما رأى التنوخي - وهو شابٌ لم يعدُ السابعة والعشرين من عمره، وأبو الطيب إذ ذاك شيخٌ قد نيَّف على الخمسين - ما أصاب هذا الشيخ من الحرج وضيق الصدر حتى لجأ إلى المغالطة في التعليل، وتبرير فعلته على السفسطة، استحيا أن يستقصي على هذا الشيخ فأمسك عن الذي يؤلمه ويغيظه ويضع من كبريائه ويحط من شيخوخته، ويلجئُه إلى ركوب الإحالة في المنطق، والفساد في التعليل.

2 - ويقول الأستاذ سعيد: (يورد الأستاذ على حديث أبي عليّ بن أبي حامد شبهة واحدة بعد أن يقرّ بأحكامه، ويقول عنه في ص 49: (فهو حديث محكم لا يأتيه التوهين إلا من قبل غرابته عما جرت عليه الأحكام في شأن من يدعون النبوة. . . الخ).

وقد أطال في بيان وجه الغرابة بما لا فائدة بنقله هنا. (سبحان الله يا سعيد!!) والذي في كلام أبي عليّ هو هذا: (فاستتابه وكتب عليه وثيقة وأشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاهُ ورجوعه إلى الإسلام)، وجليٌّ أنهم استتابوه من دعوى النبوّة فرجع بذلك إلى الإسلام، أما الوثيقة فهي ببطلان علويته، وبهذا تزول شبهة الأستاذ (!!) فأن من المألوف أن تكتب الوثائق في إثبات الأنساب ونفيها) اهـ.

وعجبٌ أمر الأستاذ سعيد في حرصه على تأويل الكلام بما لا وجه له ولا أصل؛ وهو في نقله هذا النص قد اعتمد على كتاب ابن الأنباري، وهو مولعٌ باختصار الأخبار (واختزالها) وهذا تمام خبر أبي علي بن أبي حامد:

(أخبرنا التنوخي، حدثني أبي، قال حدثني أبو عليّ بن أبي حامد، قال: سمعت خلقاً بحلب يحكون - وأبو الطيب بها إذ ذاك - أنه تنبأ ببادية السماوة ونواحيها، إلى أن خرج إليه لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيدية، فقاتله وأنفره وشرد من كان اجتمع إليه من كلب وكلاب وغيرهما من قبائل العرب. وحبسه في السجن حبساً طويلاً، فاعتَلّ وكاد أن يتلفَ حتى سُئِل في أمره فاستتابه. وكتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها ببطلان ما ادعاهُ، ورجوعه إلى الإسلام، وأنه تائبٌ منه، ولا يعاودُ مثلَهُ، وأطلقه). فأنت ترى أن لا ذكر للعلوية في هذا الخبر، ولا في غيره مما رُوِي عن أبي عليّ بن أبي حامد هذا، فكيف يتأتى لكَ أن تقحم العلوية فيه، وهو لم يذكرها فيه ولم ترد عنه في خبر غيره، ثم تعمد إلى الكلام فتؤوّلَ بعضهُ على النبوَّة وبعضهُ على العلوية فتجعل التوبة للأولى والوثيقة للآخرة؟ ورحم الله أبا عثمان الجاحظ، فلو أنه أدركَ عصرنا هذا لقال في ذلك أمثل مما قال في إبراهيم النظام، فنصُّ الخبر مبينٌ عن أن أمير حمص كتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها (1) بأن ما ادعاه باطلٌ - وهو النبوة - (2) وأنه رجع إلى الإسلام (3) وأنه تائبٌ منه (4) وأنه لا يعاودُ مثله. فهذه أربعةٌ في قَرَن كانت في هذه الوثيقة، فكيف تسوِّغ عربية الكلام للأستاذ سعيد تأويله وبيانه؟ فلو سلمنا للأستاذ سعيد بالذي ذهب إليه لكان سياقُ الكلام هكذا: (حتى سئل في أمره فاستتابه، وكتب عليه وثيقة أشهد عليه فيها ببطلان ادعائه العلوية، وأنه رجع إلى الإسلام، وأنه تائبٌ (منه)، وأنه لا يعاود مثله) فعلى أي الكلام عطفت جملة قوله (وأنه رجع إلى الإسلام) وإلى أي مذكور يرجع الضمير في قوله (وأنه تائب (منه))؟ وكيف ترد أوائل هذا الكلام على أواخره ليستقيم على عربيته؟!

إن أخي الأستاذ سعيداً ليأخذ من الكلام ما يشاء ويدع ما يشاء، وبذلك (تزول شبهة الأستاذ) أو كما قال.

3 - ثم يقول: (عرض الأستاذ لرواية الهاشمي التي فيها: (كان أبو الطيب لما خرج إلى كلب وأقام فيها ادعى النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي إلى أن أشهد عليه في الشام بالتوبة وأطلق) وهذه الرواية تعني أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين ترك ادعاء النبوة بقي على دعواه الأولى. ومنها ومن الرواية التي قبلها نفهم أنه لما أطلق ترك الدعويين معاً، فتاب من تنبئه، وكتب وثيقة ببطلان انتسابه للعلويين وليس في الأمر مشكلة ولا تناقض. . .) أهـ.

يقول الأستاذ سعيد إن هذا الخبر الذي رواه يعني (أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين ترك ادعاء النبوّةِ بقي على دعواه الأولى) والخبر يقول إنه (ادعىّ العلوية، ثم ادعىّ النبوّة، ثم عاد يدعي أنه علوي)، والعربية تقول إن هذا النص لا يمكن تأويله على الوجه الذي أراده الأستاذ فإن لها ألفاظاً، وإن لألفاظها معاني، وإن لمعانيها حدوداً؛ فإخراج المعنى عن حده إخراج للفظ عن معناه، وإخراج اللفظ عن معناه إخراج له عن العربية. يقول الخبر: (ثم عاد يدّعي أنه علويّ) فيقول الأستاذ مؤوّله، ومعنى ذلك (ثم بقي على دعوى العلوية)!! ثم يقول الأستاذ: (ومنها ومن الرواية التي قبلها نفهم (أولاً نفهم، فالأمر بعد هذا سواء) أنه لما أطلق ترك الدعويين معاً، فتاب من تنبئه؛ وكتب وثيقة ببطلان انتسابه للعلويين). ففي الخبر الذي قبل هذا أقحم الأستاذ العلوية ولا ذكر لها فيه وجعل الوثيقة المذكورة فيه يراد بها دعوى العلوية، وفي هذا الخبر الذي رواه ولا ذكر للوثيقة فيه أقحم الوثيقة التي يراد بها الإشهاد عليه فيها ببطلان انتسابه للعلوية التي ادعاها، وذكرها الخبر مرتين. فهذا أروعُ ما وقع لي من القدرة على الجمع بين الروايات (كما هو مستوفي يكتب مصطلح الحديث، وأنا أستحي أن أشرح هذا في مجلة (الرسالة). . . مما يدرسهُ الطلاب المبتدئون).

وهذا الخبر أيضاً اعتمد الأستاذ في نقله على (اختزال) أبي البركات (ابن الأنباري) في طبقات الأدباء. وسياقُ الرواية هكذا: (وقد كان المتنبي لما خرج إلى كلبٍ وأقامَ فيهم ادَّعى أنه علويٌّ حسنيٌّ، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علويٌّ، إلى أن أشهد عليه بالشام بالكذب في الدعويين، وحبس دهراً طويلاً وأشرف على القتل، ثم استتيب وأشهد عليه بالتوبة وأطلق). وقد كان هذا النصُّ أمثل من (مختزل) ابن الأنباريّ للذي يعتمده الأستاذ من التأويل، وهو أحفل له في استخراج مادة الجدل في التفسير والتوجيه. على أن هذا الخبر هو كما وصفناهُ في كتابنا ص 48 (عجيبٌ لا يفرغ من العجب من اختصاره وتداخله). فمن ذلك أنه صريحٌ بينٌ في الدلالة على أنه قد أشهد على أبي الطيب مرتين: (الأولى) إشهادٌ عليه بأنه قد كذب في (الدعويين) و (الآخرة) استتابةٌ وإشهادٌ عليه بالتوبة.

ففي المرة الأولى ذكر ابن شيبان الهاشمي (دعويين) أشهد أبو الطيب على نفسه بالكذب فيهما، فإن أراد (بالدعويين) دعوى العلوية ودعوى النبوّة جميعاً كان كلامُهُ كلُّهُ خَلطاَ متداخلاً، فأنه ليس يكفي فيمن ادعى النبوّة أن يشهد على نفسِه بالكذب، بل لا بُدّ مَعهُ من الاستتابة والرجوع إلى الإسلام والإفرار به، فإن لم يُعط ذلك قُتِل، فإن كان فُعِل معهُ ذلك وتاب وأقرّ فما قوله بعد ذلك (وحُبس دهراً طويلاً (سنتين) وأشرف على القتل (ثم) استتيب، وأشهد عليه بالتوبة وأطلق) ولم أعيدت استتابته؟ أيكون هذا كله لغواً باطلاً من القول!!

فإن أراد (بالدعويين) ادعاء العلوية في المرة الأولى والمرة الآخرة فالأمر في ذلك على خلاف المعقول. أيقدم الوالي الإشهاد بالكذب في دعوى العلوية، وهي لا تخرج من الإسلام، ولا يكفر بها مدعيها، ولا يقتل من أجلها إن أصر عليها، ويدع ادعاءه النبوة فلا يقتله أو يستتيبه إلا بعد أن يحبسه دهراً طويلاً حتى يشرف على القتل، فيومئذ يستتيبه ويشهد عليه بالتوبة!!

ولفساد هذا الخبر وجوهٌ أخرى، ولكنه على أي وجهيه أدرته، لا يسوغ للأستاذ أن يقول فيه (وهذه الرواية تعني أنه ما تخلى عن دعوى العلوية، وحين ترك النبوة بقي على ادعائه العلوية) إلا أن يلغي معاني الكلمات التي وردت فيه، أو يحيلها عن وجهها؛ فتكون ثم، وعاد، كلمات مغسولة من المعاني، ثم يزيد على ذلك أن يزيد في الكلام معاني ألفاظ لم تكن فيه كقوله (وحين ترك النبوة بقي على ادعائه العلوية) ولو أراد الأستاذ أن يتأول هذا الخبر على وجه مقارب خرج له إلا أن يقول فيه (إن أبا الطيب تخلى عن دعوى العلوية، وحين تركها بقي على ادعاء النبوة حتى استتيب فأطلق) وهذا محال.

وليعلم الأستاذ أني تركت له أبواباً من القول توطئ له أن ينفذ إلى الاعتراض، فليعترض قولي بما شاء. ولكني أسأله أن ينظر في اعتراضه أولاً ثم في الخبر بعد، ثم في كلامي آخراً، فلعله يجد في ذلك ما يمنعه من الاعتراض ويقنعه بالصواب. وأسأله أيضاً أن يتحرى في فهم الأخبار ما تقتضيه عربية الكلام حتى تستقيم له المعاني، وتتجه به الآراء إلى الحق والهدى إنشاء الله.

(للكلام بقية)

محمود محمد شاكر


مجلة الرسالة - العدد 171
بتاريخ: 12 - 10 - 1936


ً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...