الأب ماري أنستاس ماري الكرملي - لماذا لا أثق بأقوال النحاة ولا اللغويين

1 - تصدير

إني لا أثق (دائماً) بكل ما ينطق به النحاة ولا اللغويون ولو كانوا أدلاء أجلاء بل أعرضه على محك النقد والتحقيق، وتدقيق النظر فيه، فإن أظهر المحك صدق إبريزهم، وافقت عليه وقيدته عندي بكل فخر وإجلال، واعتبار وإكبار، وإلا نبذته نبذ النواة، أو نبذ آراء المشعوذين النحاة الهواة. وذلك لأن الإنسان محل النسيان، ولأن الجود قد يكبو، والسيف قد ينبو، وما العصمة والكمال، إلا لرب الجلال

ولهذا تراني لا أثق إلا بما ينقله السلف إلينا من أقوال المحققين الأقدمين، كما قلت مراراً لا تحصى. وأمثلة ما قد أخطأوا القول فيه أكثر من أن يعد، ولا تسعة مجلة موقوتة، لأن ما جمعته يقع في مجلد ضخم (لا تهضمه معدة مجلة) لثقله عليها، ولثقله أيضاً على معدة قرائها الكرام الأجلاء

وأنا أذكر هنا بعض الشيء، بمنزلة ما أذهب إليه من كلامي الذي عنونت به مقالي هذا

2 - ورود فعلى جمعاً لأكثر من لفظين

أنقل هنا ما جاء في تاج العروس في مادة (ظ ر ب) حرفاً بحرف، قال: (نقل شيخنا عن أبي حيان: ليس لنا جمع على فعلى، بالكسر، غير هذين اللفظين (ظِربى وحِجلى) ويقال: أن أبا الطيب المتنبي لقي أبا علي الفارسي، فقال له: كم لنا من الجموع على فعلى، بالكسر؟ فقال أبو الطيب بديهة: حجلى وظربى، لا ثالث لهما

فما زال أبو علي يبحث: هل يستدرك عليه ثالثة وكان رمداً فلم يمكن له ذلك، حتى قيل أنه مع كثرة المراجعة، ورمد عينيه، آل به الأمر إلى ضعف بصره. ويقال إنه عمى بسبب ذلك، والله أعلم

ثم قال: وهي من الغرائب الدالة على معرفة أبي الطيب وسعة اطلاعه. انتهى كلام الشار ح على الحجلى: اسم للجمع)

قلنا: الجمع لفظة تشمل الجمع بصيغه المختلفة، واسم الجمع وشبه الجمع: والظاهر الذين جاؤوا بعد أبي الطيب وأبي علي الفارسي لم يجدوا في كلام العرب جمعاً، ولا اسم جمع، ولا شبه جمع على فعلى، بكسر الأول. أفهذا صحيح؟

قال فخر اللغويين المتأخرين، وإمام أئمتهم، الشيخ محمد محمود الشنقيطي، في حاشية له على المخصص 8: 156 ما هذا نصه بحروفه:

(قلت: قول علي بن سيدة: الحجلى الخ خلاف الأصح؛ وقلده فيه من قلده. والأصح أن فعلى بالكسر من أبنية الجمع النادرة، ولم يسمع منها إلا لفظتان، وهما: الحجلى هذه والظربى جمع الظربان. ونظمها شيخ شيوخ مشايخنا المختار ابن بون في احمراره ذيل الألفية، حيث قال رحمه الله تعالى: فعلى بما أجمع ظربان حجل، وليس باسم الجمع في القول الأجل ومن الدليل على ذلك الحكاية المحفوظة المروية عن سيف الدولة.

روى عنه أنه سأل ليلة أصحاب سمره، وفيها المتنبي فقال لهم: كم من جمع لنا على فعلى؟ - فأجابه المتنبي في الحال بقوله: حجلي وظربى، وكان في مجلسه ذلك العلماء والأدباء والشعراء، وفيهم أبو علي الفارسيّ، فلم يزد واحد منهم لفظة تثلثهما.

(وبعد انتهاء المسامرة، ذهب أبو علي إلى بيته، وسهر يطالع كتب اللغة العربية، فلم يجد لهما ثالثة، فبسبب ذلك كان يتعجب من حفظ المتنبي لغة العرب، وتبحُّره فيها

(قلت: وجد الدماميني بعد قرون لفظة ثالثة وهي: معزى جمع معز، ونظمها أستاذنا وشيخنا عبد الوهاب جدود بقوله:

وثالث اللفظين لفظ يَعْزَى، إلى الدماميني وهو مِعْزَى انتهى وكتبه راويه حافظه محقّقه محمد محمود لطف الله تعالى به. آمين.) انتهى

أقول وأنا صاحب هذا المقال: ويزاد على الثلاثة المتقدم ذكرها ستة أخر وهي:

الأول: العرقي جمع عرقاة. قال في المخصص (15: 187): والعرقي جمع عرقاة. من قولهم: أستأصل الله عرقاتهم. عن الفارسيّ، ولم يحكها غيره.) اهـ. قلنا: وكفى بالفارسي حجة ثبتاً؛ مع أننا رأينا أنه طالع كتب اللغة فلم يعثر على مثال ثالث على فعلى، فيكون وجده بعد بحثه الأول عنه.

الثاني: قال الجوهري: العِمقي، بكسر العين، شجر بالحجاز وتهامة. كذا يرى في النسخة المطبوعة في بولاق. وفي أربع نسخ خطية قديمة عندنا، وإحداها منقولة عن نسخة المؤلف نفسه. وكلها تذكر هذه الكلمات: العمقى بالكسر شجر بالحجاز وتهامة، ولم نقل واحدة: (شجرة) فالعمقى إذا شبه جمع، أو جمع على تعبير النحاة واللغويين، فيكون واحدتها عمقاة.

الثالث: قال الفارسي: العفري جمع عفراة. وأنشد عن ابن دريد: إذا صعد الدهر إلى عفراته

(عن المخصّص 15: 187)

الرابع: جاء في لسان العرب في مادة (صحن): (الأزهري الصحِناة، بوزن فعلاة، إذا ذهبت عنها الهاء دخلها التنوين، وتجمع على الصِّحْنا (هكذا كتبت بألف قائمة) والذي في المخصص: الصِّحنى، بألف قاعدة وبطرح الهاء

الخامس: ذفرى وهي جمع ذفراة، وهي العظم الثاني خلف الأذن (المخصص 15: 189)

السادس: الشِّيْزي. قالوا: شجر تعمل منه الجفان، ولم يذكروا لها واحداً. ومنهم من قال: واحدها الشيز. والعلم عند الله.

3 - الخلاصة:

جاءت تسعة ألفاظ على (فِعلى) المكسورة الأول، وهي: الحجلى، والظربى، والمعزى، والعرقي، والعمقي، والعفري، والصحنى، والذفرى، والشيزي. ولعل هناك غيرها ونحن نجهلها. فنطلب من القراء أن يوافونا بها، ولهم منا الشكر سلفاً.

القسم الثاني - فُعَلَى

قال الشارح في رسم (أرب): (الأُرَبى) بفتح الراء والموحدة، مع ضم أوله، مقصوراً، هكذا ضبطه ابن مالك، وأبو حيَّان، وابن هشام: الداهية. أنشد الجواهري لابن أحمر:

فلما غشى ليلى وأيقنت أنها، ... هي الأربى جازت بأم حبوي

قلت: وهي كشعبى، وأرمى، ولا رابع لها.) انتهى.

قلنا: شعبى: إسم موضع.

ونزيد على ذلك أن لهن أخوات أخر منها:

وهي الرابعة: الأرنى، بهمزة فراء، فنون فألف. وهو حبّ بقل يطرح في اللبن، فيثخنه ويجبنه. ويقال للرجل: أنت كالأربى.

والخامسة: وهي أدمى، بهمزة ودال مهملة فلام فألف وهو موضع. وقيل: الأدمى، حجارة في الأرض بنى قشير.

والسادسة: جنفى وهي اسم موضع، بجيم فنون ففاء فألف

والسابعة: الجعبى وهي بجيم وعين مهملة فباء موحدة تحتية فألف، وجمعها الجعب والجعبات، وهي عظام النمل اللائي يعضضن، ولها أفواه واسعة.

والثامنة: تومي، بتاء مثناة فواو فميم فألف. قال المجد في قاموسه: وتومي كأربي. موضع في الجزيرة وذكره ياقوت بصورة توما بالتحريك: موضع بالجزيرة. عن نصر. اهـ فيجوز لك أن تختار إحدى اللغتين، لأن كلا من المجد وياقوت حجة ثبت.

والتاسعة: بشرى، وهي على ما في ياقوت كبشرى لكني سمعتها من شيخي الجليل السيد الألوسي كأربي، وترى مضبوطة في القاموس.

والعاشرة، تلّ بوني بباء مضمومة فواو مفتوحة فنون مفتوحة فألف. وسمعتها من شيخي الألوسي كأربي. أما الشارح فقد قال: تل بوني كشورى قرية بالكوفة. هكذا في النسخ، والصواب فيه بُوَنَّا، بضم الباء وفتح الواو وتشديد النون، كما ضبطه نصر رحمه الله تعالى، وهي ناحية بسواد العراق قريب الكوفة) اهـ. وفي ياقوت: (تل بونّا بفتحتين وتشديد النون، من قرى الكوفة. قال مالك بن أسماء الفزاري:

حبذا ليلتي بتل بَوَنَّا ... حيث نُسقَىِ شرابنا ونُغنَّى

ومررنا بنسوةٍ عطراتٍ ... وسماع وَقَرّقف فنزلنا

حيثما دارت الزجاجة درنا ... يحسب الجاهلون أنَّا جُنِنَّا

حدثنا ابن كناسة أن عمر لما لقى مالكاً، استنشده شيئاً من شعره، فأنشده. فقال له عمر: ما أحسن شعرك لولا أسمع قرى تذكرها فيه فقال: مثل ماذا؟. قال: مثل قولك:

أَشهِدتِني أم كنت غائبة ... في ليلتي بحديثهِ القسِبِ

ومثل قولك:

حبذا ليلتي بتلّ بَوَنَّا ... حيث نُسقى شرابنا ونُغنَّي

فقال مالك: هي قرى البلد الذي أنا فيه، وهي مثل ما تذكره أنت في شعرك من أرض بلادك. قال: مثل ماذا؟ فقال: مثل قولك هذا: ما على الرَّبْع بالبُلِيَّيْن لو ... بَيّن رجع السلام أو لو أجابا

فأمسك ابن أبي ربيعة) اهـ

فهذه أربع روايات مختلفة: رواية الألوسي، وهي رواية صحيحة. والألوسي من أبناء هذه الديار، وصاحب الدار أدرى بما فيها. ورواية القاموس ولا بد من أنه سمعها من أحد شيوخه، أو أصابها في كتب من تقدمه، أو ربما كانت الرواية الشائعة في عصره. ورواية نصر وهو حجة في ذكر أسماء المدن والبلدان والمواضع. ورواية ياقوت، وياقوت معروف بصدق النقل لأسماء المواضع والأمكنة

أما نحن فلا نكذب أحداً من هؤلاء النقلة، لأنهم كلهم رواة ثقات، وحجج أثبات. فالأخذ برواياتهم من أحسن الوسائل للاحتفاظ بما نقلوه إلينا، والاعتماد عليهم

الخلاصة

لنا من الألفاظ الواردة على فُعَلى، بضم ففتحتين، فألف مقصورة عشرة ألفاظ على أقل تقدير - لا ثلاثة كما قالوا - أو كما قال صاحب تاج العروس، ولعل هناك ضعف هذا العدد ونحن نجهله، ويذكره لنا غيرنا من المتتبعين لدقائق العربية

القسم الثالث - تفاعيل

قال السيد مرتضى عبادة (ب ش ر): (التباشير وليس له نظير إلا ثلاثة أحرف. تعاشيب الأرض، وتعاجيب الدهر، وتفاطير النبات والشباب)

قلنا: وهناك خامس وهو التناشير بتاء مثناة فوقية، فنون، فألف، فشين مثلثة: فياء مثناة تحتية، فراء وهي كتابة لغلمان الكتاب بلا واحد (القاموس)

وسادس وهو النفاطير، بنون موحدة، فوقية، ففاء فألف فطاء فياء مثناة تحتية، فراء

قال اللحياني: يقال في الأرض نفاطير من عشب، أي نبذ متفرقة لا واحد لها

وسابع، وهو تصريف الدهر، بتاء مثناة فوقية فصاد، فألف، فراء فياء مثناة تحتية، ففاء

وثامن وهو تخاليف الأمور، بتاء مثناة فوقية، وخاء، وألف، ولام وياء مثناة تحتية، وفي الآخر فاء

وتاسع وهو التباريح. فال في التاج في (ب ر ح): (به تباريح الشوق، أي توهجه.

والتباريح: الشدائد. وقيل: هي كلف المعيشة في مشقة. قال شيخنا: وهو من الجموع التي لا مفرد لها. وقيل: تبريح. واستعمله المحدثون، وليس بثبت) انتهى

وعاشر هو التباكير. قال الشارج في (بشر): (التباشير) ألوان النخيل أول ما يرطب، وهو التباكير) انتهى. أي بتاء مثناة فوقية، وباء موحدة تحتية، فألف، فكاف، فباء مثناة تحتية، فراء في الآخر

وحادي عشر وهو التعانيق، بتاء مثناة فوقية، يليها عين مهملة، فألف، فنون مكسورة فياء مثناة تحتية وفي الآخر قاف وهو موضع في شق العالية. قال زهير:

صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... واقفر من سلمى التعانيق والثقل

(عن ياقوت في 854: 1 من طبعة أوربية)

وثاني عشر وهو بالتاء المثناة واللام فالألف فالفاء فالياء المثناة التحتية وفي الآخر الفاء

قال في تاج العروس في رسم (لفف). يقال: هذا تلافيف من عشب أي نبات ملتف لا واحد له)

الخلاصة

هذه اثنا عشر حرفاً على وزن تفاعيل لا واحد لها. وقد قالوا لأنها أربعة لا أكثر. ونحن لا ندعي بأننا ذكرنا كل ما ورد في اللغة، بل بعض ما حضرنا حين كتابة هذه الكلمة وهناك ما يضاعف هذا العدد موارد كثيرة.

(للمقال بقية)

الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية


مجلة الرسالة - العدد 503
بتاريخ: 22 - 02 - 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...