أحاول أن أتحفظ في الثناء على هذه القصة، فتغلبني حماسة قاهر لها، وفرح جارف بها!. . . هذا هو الحق، أطالع به القارئ من أول سطر، لأستعين بكشفه على رد جماح هذه الحماسة، والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه!!
ولهذه الحماسة قصة لا بأس من إشراك القارئ فيها:
لقد ظللت سنوات وسنوات أقرأ ذلك التاريخ الميت الذي نتعلمه في المدارس عن مصر في جميع عصورها، والذي لا يعلمنا مرة واحدة أن مصر هذه هي الوطن الحي الذي يعاطفنا ونعاطفه، ويحيا في نفوسنا وأخلادنا بحوادثه وأشخاصه
وظللت أستمع إلى تلك الأناشيد الوطنية الجوفاء، التي لا تثير في نفوسنا إلا حماسة سطحية كاذبة، لأنها لا تنبع من صلة حقيقية بين مصر وبيننا؛ وإن هي إلا عبارات صاخبة؛ تخفي ما فيها من تزوير بالصخب والضجيج
ولم أجد - إلا مرة واحدة - كتاباً عن مصر القديمة يبعثها حية في نفوسنا، شاخصة في أذهاننا. ذلك هو كتاب المرحوم (عبد القادر حمزة): (على هامش التاريخ المصري القديم) ففرحت به مثلما أفرح اليوم بقصة كفاح طيبة، ودعوت وزارة المعارف إلى أن تجعله في يد كل تلميذ وطالب، بدل هذه الكتب الميتة التي في أيديهم. ولكن تغيير الكتب في وزارة المعارف أمر عسير، لأن مصنفيها هم مقرروها في أغلب الأحايين
وكنت أرى الطابع القومي واضحا - بجانب الطابع الإنساني - في آداب كل أمة، ولاسيما في الشعر والقصة - بينما أرى الطابع المصري باهتاً متوارياً في أعمالنا الفنية، مع بلوغها درجة عالية تسلك بعضها بين أرقى الآداب العالمية
وكنت أعزو هذا اللون الباهت، إلى أن مصر القديمة لا تعيش في نفوسنا، ولا تحيا في تصوراتنا. إلى أننا منقطعون عن هذا الماضي العظيم لا نعرفه إلا ألفاظا جوفاء، ولا نتمث صورا ووشائج حية. إلى أننا نفقد من تاريخنا المجيد حقبة لا تقل عن خمسة آلاف سنة: من الفن والروح والعواطف والانفعالات. إلى أن بيننا وبين الآثار المصرية، والفنون المصرية، والحياة المصرية، والأحداث المصرية، هوة عميقة من الزمن واللغة، ومن الإهمال والنسيان.
وطالبت بأن تنقل إلى اللغة العربية كل قطعة أدبية كشف عنها في مصر العريقة، وإلى أن ترسم باللغة العربية صور الحياة المصرية بكل ما فيها من ظلال، وإلى أن تعقد بين الشيء وبين الآثار المصرية صلة وثيقة في كل أدوار نشأتهم؛ وإلى أن تنفث الحياة في تلك الآثار والتماثيل والتواريخ، بما يصاغ حولها من القصص والأساطير والملاحم والبيانات.
دعوت إلى أن تصبح حياة أحمس وتحتمس ورمسيس ونفرتيتي وأمثالهم في منال كل تلميذ صغير وكل طالب كبير، بل أن تعود أساطير حية للأطفال في المهود، بدل الشاطر حسن وجودر، وحسن البصري، والورد في الأكمام
قلت: إذا كانت مصر القديمة قد احتجبت عنا، لأننا أصبحنا نتحدث اليوم بلغة غير لغتها، فلننقلها هي إلى لغتنا الحديثة، لنضم إلى ثروتنا الفنية المحدودة بألف وخمسمائة عام (فترة الأدب العربي الذي ندرسه) ثروة أعظم منها وأعرق وأخصب في فترة أخرى طويلة تربو على الخمسة آلاف من الأعوام. فإنه من السفه أن نفرط في هذه الأعمار الطوال!
وكنت أعلم أن القصة والملحمة، هما خير الوسائل إلى تحقيق هذه الصلة التي نشدتها طويلا، وكتبت عنها طويلا. فكلتاهما تردان الحياة إلى ذلك الماضي، وتبعثانه في الضمائر من خلال الألفاظ، وتوقظان الوراثات الكامنة في دمائنا من هذا العهد المجيد، وتصلاننا بحياة أجدادنا على أرض هذا الوادي العريق. فتصبح روافد لنفوس كل جيل، حوافز لمشاعر كل فرد
ولا يعود الغابرون في مسارب الزمن جثثاً هامدة مسجاة في الأكفان مطمورة في الرمال. إنما يعودون ذواتاً حية، وشخوصاً قائمة، يشاركوننا هذه الحياة الحاضرة ويدبرون معنا أمرها، ويزودوننا بتجاربهم ونصائحهم، ويفيضون علينا مشاعرهم وعواطفهم - فيحس الفرد منا أنه فرع حديث لشجرة عريقة عميقة الجذور في الزمن شهدت فجر التاريخ، ووعت حديث الأجيال، وصمدت لأقسى عوامل الفناء.
قلت هذا كله في عشرات المقالات، واليوم أتلفت فأجد بين يدي القصة والملحمة، كلتاهما في عمل فني واحد. في (كفاح طيبة). فهي قصة بنسقها وحوادثها، وهي ملحمة - وإن لم تكن شعراً ولا أسطورة! - بما تفيضه من وجدانات ومشاعر، لا يفيضها في الشعر إلا الملحمة!
هي قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد (أحمس) العظيم. قصة الوطنية المصرية في حقيقتها بلا تزيد ولا ادعاء، وبلا برقشة أو تصنع. قصة النفس المصرية الصميمة في كل خطرة وكل حركة وكل انفعال.
أغار الرعاة (الهكسوس) على مصر من الشمال الشرقي وغلبوا عليها بسبب اختراع (العجلات الحربية) التي لم تكن مصر قد أخذت بها في جيشها، وحكموا مصر السفلى ومصر الوسطى. أما مصر العليا وعاصمتها طيبة، فقد ظل حكامها من الأسرة الفرعونية المصرية، يدارون الرعاة ويقدمون إليهم الهدايا احتفاظاً باستقلالهم الداخلي إلى أن يستطيعوا الاستعداد السري لطرد الغزاة.
ثم تبدأ القصة عند (سيكننرع) حاكم طيبة ووريث العرش الشرعي. فلقد لبث يهيئ الجيوش سراً، ويستكثر من العجلات الحربية حتى بلغ جيشه عشرين ألفاً وعجلاته مائتين؛ ووضع على رأسه التاج، ولم يكن يعد نفسه حاكم طيبة بل ملك الجنوب
ويجيئه رسول (أبو فيس) ملك الرعاة الذي يلقب نفسه (فرعون مصر) ويضع على رأسه التاج المزدوج؛ يجيئه ليتحداه فيطلب إليه خلع التاج، فما هو إلا حاكم، وبناء معبد لست إله الشر بجوار معبد أمون في طيبة، وقتل أفراس النهر المقدسة بها. فيأبى الملك أن يدوس الدين والشرف ليقنع بالسلامة. وأنه ليعلم مدى قوة خصمه ويعلم إنه لم يستكمل بعد استعداده. ولكنه يرفض يؤيده الجميع: أمه توتشيري (الأم المقدسة) التي ترعى الجميع، وتشرف بروحها العظيم على كل عدة الجهاد؛ وابنه، وقائده، ورئيس كهنة أمون، ومستشاره أجمعين.
وتقع الحرب، ويقتل الملك البطل، وتستباح طيبة للعدو العنيف؛ فتصعد الأسرة المالكة في النيل إلى (بلاد النوبة) بتدبير قائد الملك القتيل، لتعد العدة هناك للعودة حينما يشاء الإله!
وبعد عشرة أعوام في الاستعداد وبناء العجلات الحربية، يهبط (أحمس) حفيد الملك (سيكننراع)، وابن الملك (كاموس) إلى أرض مصر في زي التجار، يقدم لحكامها الرعاع الذهب ليحصل على الرجال. الرجال الذين ذاقوا الذل والويل، ولكن نفوسهم ما تزال تغلي بالانتقام من الغزاة، وتفيض بالولاء للأسرة المالكة المشردة
وتتم الحيلة، وتفتح له الحدود فيحصل على الرجال، ويتألف الجيش العتيد، ويهبط أرض الوادي، ويهزم الغزاة، ويطاردهم إلى آخر شبر من الأرض المصرية في هوارتس، وتسترد طيبة عرشها وعرش مصر السفلى، وتعود البلاد حرة من جديد. على يد أحمس بعد استشهاد والده، كما استشهد من قبل جده العظيم. . .
ولكن!
نعم. ولكن. لقد كسب مصر وخسر قلبه! وإنه لكسب ضخم، وإنها لخسارة فادحة
لقد أحب ابنة ملك الرعاة. أحبها منذ الرحلة الأولى، يوم قدم مصر في زي التجار. أحبها وأحبته واختارت يومها عقدا من مجوهراته التي يحملها، وأنقذت حياته حين هم به قائد حربي من الهكسوس كان يريد الاعتداء على حرمة سيدة مصرية - هي أرملة قائد جده - فحماها من الأذى، لأن حميته لم تطلق أن تنتهك حرمة مصرية أمامه، وقد كاد ذلك يفسد عليه خطته العظيمة. . .
أحبها وأحبته، وأخفى كلاهما حبه، ولكنه ظهر في بعض التلميحات. فتعقدت القصة منذ ذلك اليوم. لقد كان أحمس يتهيأ للمهمة الكبرى التي ألقاها الوطن على كاهله، ليطرد الرعاة الغزاة، وينكل بهم كما نكلوا بالمصريين. وهو يحب ابنة عدوه الأكبر، لأن القلب الإنساني يتسع للحب والبغض مجتمعين. وفي كل خطوة يصطدم هذا الحب بهذا البغض، فيدوس قلبه الجريح، ليؤدي واجبه المقدس. وإن كان يضعف بين الحين والحين!
ووقعت الأميرة في الأسر. أسرها (الفلاحون) الذين اتخذ ملك الرعاة من نسائهم وأطفالهم درعاً لحصون طيبة، يتقي بهم سهام قومهم المهاجمين. وفي لحظة رهيبة بعد أن ضحى المصريون بنسائهم وأطفالهم، وأردوهم بسهامهم ليدخلوا طيبة. في لحظة بلغ الألم الإنساني ذروته، جاءوا للملك بهذه الأميرة أسيرة، ونساؤهم وأطفالهم ممزقون بسهامهم على الأسوار. وكان احتفاظهم بها وعدم تمزيقها إربا فوق طاقة الآدميين!
وكان موقفاً من المواقف الكثيرة التي عاناها الملك الشاب بين قلبه وواجبه. لقد استطاع أن يدوس قلبه في سبيل الغرض الأكبر - تحرير الوطن - أما حين يكون الأمر أمر انتقام جزئي فهنا يغلب الحب، فيحفظ حياة الأميرة!
وفي اللحظة الأخيرة - وقد تمت هزيمة الرعاة - يحاول الملك الشاب أن يستأثر بالأسيرة الآسرة. ولكن وا أسفاه: إن أباها يقومها بثلاثين ألفا من الرهائن المصريين. وإن الملك ليحبها، ولكن ثلاثين ألف رأس ثمن كبير. وأنها لتحبه، ولكنها تعلم أن أباها الصحراوي لن يجيبه إلى يدها، وهو عدوه المبين. لقد ذهبت ليبقى الفرعون الظافر يذكرها في يأس وحنين. ويحس إنه خسر المعركة وهو أعظم المنتصرين
ذلك هيكل القصة. ولكن القصص ليست هيكلها العام. فأين العمل الفني فيها؟
إن العمل الفني هو الذي لا يمكن تلخيصه. وقيمته في هذه القصة لا تقل عن قيمتها القومية. وهذا هو المهم. فقد يحاول الكاتب إثارة العواطف القومية وينجح، ولكنه ينسى السمات الفنية، فيحرم عمله الطابع الذي يسلكه في سجل الفنون
إن كل شخصية من الشخصيات في هذه القصة لهي شخصية إنسانية وشخصية مصرية في آن. وإن كل موقف من مواقفها لهو الموقف الطبيعي الذي ينتظر من الآدميين المصريين. وإن السياق الفني لهو السياق الذي يلحظ الدقة الفنية بجانب الهدف القومي، بلا مغالطة ولا ضجة ولا بريق.
لم يحاول المؤلف أن يقلل من شجاعة الرعاة، ولا مميزاتهم النفسية. ولم يحاول كذلك أن يستر مواطن الضعف المصرية
وهي مواطن ضعف إنسانية - لم يجعل أبطال مصر أشخاصا أسطوريين، ولم يجعل المصريين شعباً من الملائكة ولا من الشياطيين، ولكن بعد تهيئة وتمهيد
لهذا كله تسير الحياة سيرة طبيعية في القصة، وتنبعث المشاهد شاخصة. لشد ما شعرت بالحقد الملتهب على الرعاة وحكامهم وقضاتهم، وهم يجلدون المصريين ويحقرونهم ويدعونهم استهزاء الفلاحين (ويبدو أن هذا اللقب هو الذي يتشدق به دائما أولئك الأجانب المغتصبون في جميع العصور، من الرعاة إلى الرومان إلى العرب إلى الترك إلى الأوربيين. وإن كان هؤلاء الفلاحون أشرف وأعرق من الجميع)، لشد ما شعرت بالقلق واللهفة على مصير الجيش المصري في عدده القليل أمام أعدائه المتفوقين. لشد ما خفق قلبي وأحمس المتخفي في زي التجار، يلقى الملك، ويصارع القائد، وينتفض للعزة الجريحة، ويمسك نفسه في جهد شديد. لشد ما عطفت عليه وهو يقع في صراع أشد وأعنف من كل صراع حربي، ويجاهد نفسه بين قلبه وواجبه، فيؤدي الواجب على حساب قلبه الجريح
ولم يكن الشعور القومي وحده هو الذي يصل نبضاتي بنبضات أبطال القصة. بل كان الطابع الإنساني الذي يطبعها، والتنسيق الفني الذي يشيع فيها، هما كذلك من بواعث إحساسي بصحة ما يجري في القصة، وكأنه يجري في الواقع المشهود، بكل ما في الواقع من عقد فنية، وعقد نفسية، ينسقها المؤلف في مواضعها بريشة متمكنة، ويد ثابتة، تبدو عليها المرانة، والثقة بمواقع التصوير والتلوين
ولا أحب أن يفهم أحد من هذا أن مؤلف (كفاح طيبة) قد بلغ القمة الفنية. فهذا شيء آخر لم يتهيأ بعد. إنما أنا أنظر إلى المسألة من ناحية خاصة. ناحية تحقيق هدف قومي جدير بعشرات القصص والملاحم. فإذا استطاع فنان أن يحقق هذا الهدف، دون المساس بالطابع الإنساني والطابع الفني، وبلا تزوير في المواقف والعواطف، أو تزوير في وقائع التاريخ، فذلك توفيق يشاد به بكل تأكيد. وفي هذه الحدود أحب أن يعني هذا المقال
وبهذه المناسبة أشير إلى بعض الأخطاء اليسيرة مثل قول الملك (سكيننرع): (لم تكن العجلات من آلات الحرب لدى الرعاة. فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها؟) فالثابت تاريخيا أن (عجلات الحرب) كانت سلاح الرعاة الجديد الذي هاجموا به مصر، فتغلبوا به على شجاعة المصريين، حتى أخذه المصريون عنهم فانتصروا به وبذوهم فيه
ومثل أن يقول عن اسم (أحمس) إنه مشتق من الحماسة. فأحمس اسم مصري قديم لا علاقة له بمعناه في اللغة العربية، ولعله وجد قبل أن يكون لهذه اللغة وجود معروف!
ومثل أن يقول أحمس: (انه آت من بلاد النوبة) فهذا اسم حديث كذلك. وقد كانت في ذلك الحين تسمى بلاد (بُنت) أي الذهب. . .
ومثل أن يقدر مدة حكم الرعاة بمائتي عام. والراجح أنها تصل إلى حوالي خمسمائة عام
وبعض هنات كهذه وتلك. ولكن ماذا؟ إن الفنان ليستطيع أن يخطئ مائة مرة مثل هذا الخطأ، دون أن يؤثر ذلك في عمله الفني الأصيل قصة (كفاح طيبة) هي قصة الوطنية المصرية، وقصة النفس المصرية، تنبع من صميم قلب مصري، يدرك بالفطرة حقيقة عواطف المصريين - ونحن لا نطمع أن يحس (المتمصرون) حقيقة هذا العواطف، وهم عنها محجوبون
ولقد قرأتها وأنا أقف بين الحين والحين لأقول: نعم هؤلاء هم المصريون. إنني أعرفهم هكذا بكل تأكيد! هؤلاء هم قد يخضعون للضغط السياسي والنهب الاقتصادي، ولكنهم يجنون حين يعتدي عليهم معتد في الأسرة أو الدين. هؤلاء هم يخمدون حتى ليظن بهم الموت، ثم يثورون فيتجاوزون في ثورتهم الحدود، ويجيئون بالمعجزات التي لم تكن تتخيل منهم قبل حين. هؤلاء هم يتفكهون في أقسى ساعات الشدة ويتندرون. هؤلاء هم تفيض نفوسهم بحب الأرض وحب الأهل، فلا يرتحلون عنهما إلا لأمر عظيم، فإذا عادوا إليهما عادوا مشوقين جد مشوقين هؤلاء هم أبدا في انتظار الزعيم، فإذا ما ظهر الزعيم ساروا وراءه إلى الموت راغبين
هؤلاء هم المصريون الخالدون، هؤلاء هم ثقة وعن يقين
لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وكل فتاة؛ ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان؛ ولأقمت لصاحبها - الذي لا أعرفه - حفلة من حفلات التكريم التي لا عداد لها في مصر، للمستحقين وغير المستحقين!
سيد قطب
مجلة الرسالة - العدد 587
بتاريخ: 02 - 10 - 1944
ولهذه الحماسة قصة لا بأس من إشراك القارئ فيها:
لقد ظللت سنوات وسنوات أقرأ ذلك التاريخ الميت الذي نتعلمه في المدارس عن مصر في جميع عصورها، والذي لا يعلمنا مرة واحدة أن مصر هذه هي الوطن الحي الذي يعاطفنا ونعاطفه، ويحيا في نفوسنا وأخلادنا بحوادثه وأشخاصه
وظللت أستمع إلى تلك الأناشيد الوطنية الجوفاء، التي لا تثير في نفوسنا إلا حماسة سطحية كاذبة، لأنها لا تنبع من صلة حقيقية بين مصر وبيننا؛ وإن هي إلا عبارات صاخبة؛ تخفي ما فيها من تزوير بالصخب والضجيج
ولم أجد - إلا مرة واحدة - كتاباً عن مصر القديمة يبعثها حية في نفوسنا، شاخصة في أذهاننا. ذلك هو كتاب المرحوم (عبد القادر حمزة): (على هامش التاريخ المصري القديم) ففرحت به مثلما أفرح اليوم بقصة كفاح طيبة، ودعوت وزارة المعارف إلى أن تجعله في يد كل تلميذ وطالب، بدل هذه الكتب الميتة التي في أيديهم. ولكن تغيير الكتب في وزارة المعارف أمر عسير، لأن مصنفيها هم مقرروها في أغلب الأحايين
وكنت أرى الطابع القومي واضحا - بجانب الطابع الإنساني - في آداب كل أمة، ولاسيما في الشعر والقصة - بينما أرى الطابع المصري باهتاً متوارياً في أعمالنا الفنية، مع بلوغها درجة عالية تسلك بعضها بين أرقى الآداب العالمية
وكنت أعزو هذا اللون الباهت، إلى أن مصر القديمة لا تعيش في نفوسنا، ولا تحيا في تصوراتنا. إلى أننا منقطعون عن هذا الماضي العظيم لا نعرفه إلا ألفاظا جوفاء، ولا نتمث صورا ووشائج حية. إلى أننا نفقد من تاريخنا المجيد حقبة لا تقل عن خمسة آلاف سنة: من الفن والروح والعواطف والانفعالات. إلى أن بيننا وبين الآثار المصرية، والفنون المصرية، والحياة المصرية، والأحداث المصرية، هوة عميقة من الزمن واللغة، ومن الإهمال والنسيان.
وطالبت بأن تنقل إلى اللغة العربية كل قطعة أدبية كشف عنها في مصر العريقة، وإلى أن ترسم باللغة العربية صور الحياة المصرية بكل ما فيها من ظلال، وإلى أن تعقد بين الشيء وبين الآثار المصرية صلة وثيقة في كل أدوار نشأتهم؛ وإلى أن تنفث الحياة في تلك الآثار والتماثيل والتواريخ، بما يصاغ حولها من القصص والأساطير والملاحم والبيانات.
دعوت إلى أن تصبح حياة أحمس وتحتمس ورمسيس ونفرتيتي وأمثالهم في منال كل تلميذ صغير وكل طالب كبير، بل أن تعود أساطير حية للأطفال في المهود، بدل الشاطر حسن وجودر، وحسن البصري، والورد في الأكمام
قلت: إذا كانت مصر القديمة قد احتجبت عنا، لأننا أصبحنا نتحدث اليوم بلغة غير لغتها، فلننقلها هي إلى لغتنا الحديثة، لنضم إلى ثروتنا الفنية المحدودة بألف وخمسمائة عام (فترة الأدب العربي الذي ندرسه) ثروة أعظم منها وأعرق وأخصب في فترة أخرى طويلة تربو على الخمسة آلاف من الأعوام. فإنه من السفه أن نفرط في هذه الأعمار الطوال!
وكنت أعلم أن القصة والملحمة، هما خير الوسائل إلى تحقيق هذه الصلة التي نشدتها طويلا، وكتبت عنها طويلا. فكلتاهما تردان الحياة إلى ذلك الماضي، وتبعثانه في الضمائر من خلال الألفاظ، وتوقظان الوراثات الكامنة في دمائنا من هذا العهد المجيد، وتصلاننا بحياة أجدادنا على أرض هذا الوادي العريق. فتصبح روافد لنفوس كل جيل، حوافز لمشاعر كل فرد
ولا يعود الغابرون في مسارب الزمن جثثاً هامدة مسجاة في الأكفان مطمورة في الرمال. إنما يعودون ذواتاً حية، وشخوصاً قائمة، يشاركوننا هذه الحياة الحاضرة ويدبرون معنا أمرها، ويزودوننا بتجاربهم ونصائحهم، ويفيضون علينا مشاعرهم وعواطفهم - فيحس الفرد منا أنه فرع حديث لشجرة عريقة عميقة الجذور في الزمن شهدت فجر التاريخ، ووعت حديث الأجيال، وصمدت لأقسى عوامل الفناء.
قلت هذا كله في عشرات المقالات، واليوم أتلفت فأجد بين يدي القصة والملحمة، كلتاهما في عمل فني واحد. في (كفاح طيبة). فهي قصة بنسقها وحوادثها، وهي ملحمة - وإن لم تكن شعراً ولا أسطورة! - بما تفيضه من وجدانات ومشاعر، لا يفيضها في الشعر إلا الملحمة!
هي قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد (أحمس) العظيم. قصة الوطنية المصرية في حقيقتها بلا تزيد ولا ادعاء، وبلا برقشة أو تصنع. قصة النفس المصرية الصميمة في كل خطرة وكل حركة وكل انفعال.
أغار الرعاة (الهكسوس) على مصر من الشمال الشرقي وغلبوا عليها بسبب اختراع (العجلات الحربية) التي لم تكن مصر قد أخذت بها في جيشها، وحكموا مصر السفلى ومصر الوسطى. أما مصر العليا وعاصمتها طيبة، فقد ظل حكامها من الأسرة الفرعونية المصرية، يدارون الرعاة ويقدمون إليهم الهدايا احتفاظاً باستقلالهم الداخلي إلى أن يستطيعوا الاستعداد السري لطرد الغزاة.
ثم تبدأ القصة عند (سيكننرع) حاكم طيبة ووريث العرش الشرعي. فلقد لبث يهيئ الجيوش سراً، ويستكثر من العجلات الحربية حتى بلغ جيشه عشرين ألفاً وعجلاته مائتين؛ ووضع على رأسه التاج، ولم يكن يعد نفسه حاكم طيبة بل ملك الجنوب
ويجيئه رسول (أبو فيس) ملك الرعاة الذي يلقب نفسه (فرعون مصر) ويضع على رأسه التاج المزدوج؛ يجيئه ليتحداه فيطلب إليه خلع التاج، فما هو إلا حاكم، وبناء معبد لست إله الشر بجوار معبد أمون في طيبة، وقتل أفراس النهر المقدسة بها. فيأبى الملك أن يدوس الدين والشرف ليقنع بالسلامة. وأنه ليعلم مدى قوة خصمه ويعلم إنه لم يستكمل بعد استعداده. ولكنه يرفض يؤيده الجميع: أمه توتشيري (الأم المقدسة) التي ترعى الجميع، وتشرف بروحها العظيم على كل عدة الجهاد؛ وابنه، وقائده، ورئيس كهنة أمون، ومستشاره أجمعين.
وتقع الحرب، ويقتل الملك البطل، وتستباح طيبة للعدو العنيف؛ فتصعد الأسرة المالكة في النيل إلى (بلاد النوبة) بتدبير قائد الملك القتيل، لتعد العدة هناك للعودة حينما يشاء الإله!
وبعد عشرة أعوام في الاستعداد وبناء العجلات الحربية، يهبط (أحمس) حفيد الملك (سيكننراع)، وابن الملك (كاموس) إلى أرض مصر في زي التجار، يقدم لحكامها الرعاع الذهب ليحصل على الرجال. الرجال الذين ذاقوا الذل والويل، ولكن نفوسهم ما تزال تغلي بالانتقام من الغزاة، وتفيض بالولاء للأسرة المالكة المشردة
وتتم الحيلة، وتفتح له الحدود فيحصل على الرجال، ويتألف الجيش العتيد، ويهبط أرض الوادي، ويهزم الغزاة، ويطاردهم إلى آخر شبر من الأرض المصرية في هوارتس، وتسترد طيبة عرشها وعرش مصر السفلى، وتعود البلاد حرة من جديد. على يد أحمس بعد استشهاد والده، كما استشهد من قبل جده العظيم. . .
ولكن!
نعم. ولكن. لقد كسب مصر وخسر قلبه! وإنه لكسب ضخم، وإنها لخسارة فادحة
لقد أحب ابنة ملك الرعاة. أحبها منذ الرحلة الأولى، يوم قدم مصر في زي التجار. أحبها وأحبته واختارت يومها عقدا من مجوهراته التي يحملها، وأنقذت حياته حين هم به قائد حربي من الهكسوس كان يريد الاعتداء على حرمة سيدة مصرية - هي أرملة قائد جده - فحماها من الأذى، لأن حميته لم تطلق أن تنتهك حرمة مصرية أمامه، وقد كاد ذلك يفسد عليه خطته العظيمة. . .
أحبها وأحبته، وأخفى كلاهما حبه، ولكنه ظهر في بعض التلميحات. فتعقدت القصة منذ ذلك اليوم. لقد كان أحمس يتهيأ للمهمة الكبرى التي ألقاها الوطن على كاهله، ليطرد الرعاة الغزاة، وينكل بهم كما نكلوا بالمصريين. وهو يحب ابنة عدوه الأكبر، لأن القلب الإنساني يتسع للحب والبغض مجتمعين. وفي كل خطوة يصطدم هذا الحب بهذا البغض، فيدوس قلبه الجريح، ليؤدي واجبه المقدس. وإن كان يضعف بين الحين والحين!
ووقعت الأميرة في الأسر. أسرها (الفلاحون) الذين اتخذ ملك الرعاة من نسائهم وأطفالهم درعاً لحصون طيبة، يتقي بهم سهام قومهم المهاجمين. وفي لحظة رهيبة بعد أن ضحى المصريون بنسائهم وأطفالهم، وأردوهم بسهامهم ليدخلوا طيبة. في لحظة بلغ الألم الإنساني ذروته، جاءوا للملك بهذه الأميرة أسيرة، ونساؤهم وأطفالهم ممزقون بسهامهم على الأسوار. وكان احتفاظهم بها وعدم تمزيقها إربا فوق طاقة الآدميين!
وكان موقفاً من المواقف الكثيرة التي عاناها الملك الشاب بين قلبه وواجبه. لقد استطاع أن يدوس قلبه في سبيل الغرض الأكبر - تحرير الوطن - أما حين يكون الأمر أمر انتقام جزئي فهنا يغلب الحب، فيحفظ حياة الأميرة!
وفي اللحظة الأخيرة - وقد تمت هزيمة الرعاة - يحاول الملك الشاب أن يستأثر بالأسيرة الآسرة. ولكن وا أسفاه: إن أباها يقومها بثلاثين ألفا من الرهائن المصريين. وإن الملك ليحبها، ولكن ثلاثين ألف رأس ثمن كبير. وأنها لتحبه، ولكنها تعلم أن أباها الصحراوي لن يجيبه إلى يدها، وهو عدوه المبين. لقد ذهبت ليبقى الفرعون الظافر يذكرها في يأس وحنين. ويحس إنه خسر المعركة وهو أعظم المنتصرين
ذلك هيكل القصة. ولكن القصص ليست هيكلها العام. فأين العمل الفني فيها؟
إن العمل الفني هو الذي لا يمكن تلخيصه. وقيمته في هذه القصة لا تقل عن قيمتها القومية. وهذا هو المهم. فقد يحاول الكاتب إثارة العواطف القومية وينجح، ولكنه ينسى السمات الفنية، فيحرم عمله الطابع الذي يسلكه في سجل الفنون
إن كل شخصية من الشخصيات في هذه القصة لهي شخصية إنسانية وشخصية مصرية في آن. وإن كل موقف من مواقفها لهو الموقف الطبيعي الذي ينتظر من الآدميين المصريين. وإن السياق الفني لهو السياق الذي يلحظ الدقة الفنية بجانب الهدف القومي، بلا مغالطة ولا ضجة ولا بريق.
لم يحاول المؤلف أن يقلل من شجاعة الرعاة، ولا مميزاتهم النفسية. ولم يحاول كذلك أن يستر مواطن الضعف المصرية
وهي مواطن ضعف إنسانية - لم يجعل أبطال مصر أشخاصا أسطوريين، ولم يجعل المصريين شعباً من الملائكة ولا من الشياطيين، ولكن بعد تهيئة وتمهيد
لهذا كله تسير الحياة سيرة طبيعية في القصة، وتنبعث المشاهد شاخصة. لشد ما شعرت بالحقد الملتهب على الرعاة وحكامهم وقضاتهم، وهم يجلدون المصريين ويحقرونهم ويدعونهم استهزاء الفلاحين (ويبدو أن هذا اللقب هو الذي يتشدق به دائما أولئك الأجانب المغتصبون في جميع العصور، من الرعاة إلى الرومان إلى العرب إلى الترك إلى الأوربيين. وإن كان هؤلاء الفلاحون أشرف وأعرق من الجميع)، لشد ما شعرت بالقلق واللهفة على مصير الجيش المصري في عدده القليل أمام أعدائه المتفوقين. لشد ما خفق قلبي وأحمس المتخفي في زي التجار، يلقى الملك، ويصارع القائد، وينتفض للعزة الجريحة، ويمسك نفسه في جهد شديد. لشد ما عطفت عليه وهو يقع في صراع أشد وأعنف من كل صراع حربي، ويجاهد نفسه بين قلبه وواجبه، فيؤدي الواجب على حساب قلبه الجريح
ولم يكن الشعور القومي وحده هو الذي يصل نبضاتي بنبضات أبطال القصة. بل كان الطابع الإنساني الذي يطبعها، والتنسيق الفني الذي يشيع فيها، هما كذلك من بواعث إحساسي بصحة ما يجري في القصة، وكأنه يجري في الواقع المشهود، بكل ما في الواقع من عقد فنية، وعقد نفسية، ينسقها المؤلف في مواضعها بريشة متمكنة، ويد ثابتة، تبدو عليها المرانة، والثقة بمواقع التصوير والتلوين
ولا أحب أن يفهم أحد من هذا أن مؤلف (كفاح طيبة) قد بلغ القمة الفنية. فهذا شيء آخر لم يتهيأ بعد. إنما أنا أنظر إلى المسألة من ناحية خاصة. ناحية تحقيق هدف قومي جدير بعشرات القصص والملاحم. فإذا استطاع فنان أن يحقق هذا الهدف، دون المساس بالطابع الإنساني والطابع الفني، وبلا تزوير في المواقف والعواطف، أو تزوير في وقائع التاريخ، فذلك توفيق يشاد به بكل تأكيد. وفي هذه الحدود أحب أن يعني هذا المقال
وبهذه المناسبة أشير إلى بعض الأخطاء اليسيرة مثل قول الملك (سكيننرع): (لم تكن العجلات من آلات الحرب لدى الرعاة. فكيف يكون لجيشهم أضعاف ما لجيشنا منها؟) فالثابت تاريخيا أن (عجلات الحرب) كانت سلاح الرعاة الجديد الذي هاجموا به مصر، فتغلبوا به على شجاعة المصريين، حتى أخذه المصريون عنهم فانتصروا به وبذوهم فيه
ومثل أن يقول عن اسم (أحمس) إنه مشتق من الحماسة. فأحمس اسم مصري قديم لا علاقة له بمعناه في اللغة العربية، ولعله وجد قبل أن يكون لهذه اللغة وجود معروف!
ومثل أن يقول أحمس: (انه آت من بلاد النوبة) فهذا اسم حديث كذلك. وقد كانت في ذلك الحين تسمى بلاد (بُنت) أي الذهب. . .
ومثل أن يقدر مدة حكم الرعاة بمائتي عام. والراجح أنها تصل إلى حوالي خمسمائة عام
وبعض هنات كهذه وتلك. ولكن ماذا؟ إن الفنان ليستطيع أن يخطئ مائة مرة مثل هذا الخطأ، دون أن يؤثر ذلك في عمله الفني الأصيل قصة (كفاح طيبة) هي قصة الوطنية المصرية، وقصة النفس المصرية، تنبع من صميم قلب مصري، يدرك بالفطرة حقيقة عواطف المصريين - ونحن لا نطمع أن يحس (المتمصرون) حقيقة هذا العواطف، وهم عنها محجوبون
ولقد قرأتها وأنا أقف بين الحين والحين لأقول: نعم هؤلاء هم المصريون. إنني أعرفهم هكذا بكل تأكيد! هؤلاء هم قد يخضعون للضغط السياسي والنهب الاقتصادي، ولكنهم يجنون حين يعتدي عليهم معتد في الأسرة أو الدين. هؤلاء هم يخمدون حتى ليظن بهم الموت، ثم يثورون فيتجاوزون في ثورتهم الحدود، ويجيئون بالمعجزات التي لم تكن تتخيل منهم قبل حين. هؤلاء هم يتفكهون في أقسى ساعات الشدة ويتندرون. هؤلاء هم تفيض نفوسهم بحب الأرض وحب الأهل، فلا يرتحلون عنهما إلا لأمر عظيم، فإذا عادوا إليهما عادوا مشوقين جد مشوقين هؤلاء هم أبدا في انتظار الزعيم، فإذا ما ظهر الزعيم ساروا وراءه إلى الموت راغبين
هؤلاء هم المصريون الخالدون، هؤلاء هم ثقة وعن يقين
لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وكل فتاة؛ ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان؛ ولأقمت لصاحبها - الذي لا أعرفه - حفلة من حفلات التكريم التي لا عداد لها في مصر، للمستحقين وغير المستحقين!
سيد قطب
مجلة الرسالة - العدد 587
بتاريخ: 02 - 10 - 1944