نعمان ماهر الكنعاني - الوقائع الحربية في الشعر العربي..

من بين أبواب الشعر العربي العديدة باب هام جدير بالحديث أيما جدارة ذلك هو باب شعر الوقائع الحربية. وإني لا أزعم أن هذا اللون من الشعر لم تصبه عناية الباحثين فقد بحثه كثير من رجال الدراسات الأدبية وتاريخ الأدب، وأشاروا إلى مواطن الإجادة والإبداع فيه ودلوا على قيمته الأدبية والفنية، إلا أني لم أقع على من خصه بهذا الوصف أو بحثه بحثاً عسكريا أدبيا في آن فإن جل باحثي هذا الشعر كانوا يضعونه تارة في باب الحماسة وأخرى في باب الفخر وأحيانا يزجون به في موضوع المديح وقليل منهم يضمه إلى الوصف، وقد مررت أثناء مطالعاتي لدواوين القدامى بقصائد احتوت على الكثير من أقسام المعارك التي نظمت تلك القصائد بها، أي أنها احتوت على أكثر صفات المعركة كالتحشد والاستطلاع والتقدم والتصادم واستثمار الفوز إلى غير هذه المصطلحات الحديثة. وكانت تصور تلك المعارك تصويرا بارعا يخيل لمن يقرؤها أنه يشاهد عرضاً مصورا لهاتيك الوقائع على تفاوت في السرد والتصوير فمن الشعراء من جعل منظومته لوصف المعركة فقط، ومنهم من مزجها بالمديح أو ذكرها على سبيل الفخر أو أشار إليها في معرض الحماسة.

من هؤلاء الشعراء أبو فراس الحمداني وأبو الطيب المتنبي وأبو تمام وابن هانيء الأندلسي وآخرون غيرهم سجلوا في شعرهم كثيراً من المعارك التي اشتركوا فيها أو شهدوها أو سمعوا بأنبائها. ولكن الذي أجاد وبرع إجادة ظاهرة هو الحارث بن سعيد أبو فراس الحمداني لأن هذا الشاعر اجتمعت له إمارة السيف والقلم اجتماعاً ندر أن يتم لغيره.

فاستمع إليه يحدثك عن حرب له مع الروم واقرأ صفحات هذا المعركة في هذه الرائية صفحة صفحة تعلم صحة ما ذهبنا إليه.

قال يصف تقدم جيشه في بلاد العدو:

وجبن بلاد الروم ستين ليلة ... تغادر ملك الروم فيمن تغادر

ولكن ماذا كان موقف سكان البلاد التي سارت فيها خيول الحمداني ستين ليلة:

تخر لنا ملك القبائل عنوة ... وترمي لنا بالأهل تلك المصاد

ثم استمر على قراءة القصيدة لتعلم اقتراب جيشه من جيش العدو أعني لتعلم التقدم نحو الهدف:

ولما وردنا (لدرب) والروم فوقه ... وقدر (قسطنطين) أن ليس صادر
ضربنا بها عرض (الفرات) كأنما ... تسيرنا تحت السروج الحرائر
إلى أن وردنا (الرقتين) نسوقها ... وقد نكلت أعقابها والمقاصر

فهنا اصطدم جيش الحمداني بجيش قسطنطين وهرب الأخير واستمر الأول على الزحف:

ومال بها ذات اليمين (بمرعش) ... مجاهيد يتلو الصادر المتصادر
فلما رآى جيش (الدمستق) زاحمت ... عزائمها واستنهضتها البصائر

لقد اصطدم هذا الجيش بقوات جديدة للعدو هي جيش الدمستق فاستمع إليه يصف هذا الصدام الجديد:

وما زلن يحملن النفوس على الوجى ... إلى أن خضبن بالدماء الأشاعر
وولى على الرسم (الدمستق) هاربا ... وفي وجهه عذر من السيف عاذر
فدى نفسه بابن عليه كنفسه ... وفي الشدة الصماء تفنى الذخائر

لقد تحملت خيول الحمداني عبء المعركة ثقيلا إلى أن خضبت أشاعرها بالدماء حيث تم له النصر واندحر جيش الروم وفر قائده الدمستق بعد أن ترك ابنه أسيراً لدى أبي فراس.

هذه أبيات صورت معركة من معارك العرب تصويراً يكاد لا يختلف كثيراً ووصف المعارك الحديثة بالكتابة.

وهذا ابن هاني الأندلسي له باع طويل في تسجيل المعارك في شعره، فأقرأ قصيدته الدالية التي يصف فيها نصراً شهده لجيش جعفر بن علي بن غلبون واستيلاءه على قلعة كتامة قال:

أقمنا فمن فرساننا خطباؤنا ... ومنبرنا من بيض ما تطبع الهند
ولو لم يقم فيها لحمدك خاطب ... علينا وفينا قام يخطبنا الحمد
على حين لم يرفع بها لخليفة ... منار ولم يشدد بها عروة عقد
وكانت شجاً للملك ستين حجة ... وما طيب وصل لم يكن قبله صد
بها النار نار الكفر شب ضرامها ... ولو حجبت في الزند لاحترق الزند وعادت بها حرب الأزراق لاقحا ... وإن لم يكن فيها المهلب والأزد
ولما اكفهر الأمر أعجلت أمرها ... فألقت وليد الكفر وهي له مهد
أخذت على الأرواح كل ثنية ... وأعقبت جنداً واطئا ذيله جند

لقد تحشد جيش ابن غلبون لغزو هذا الحصن الممتنع العاصي الذي لم يطع الخلافة الأندلسية ستين عاما حتى كان شجا في حلق الدولة وتقدم إليه ورماه بالنار فصمدت واكفهر الأمر على الفاتح فأعجل الضربة حتى سقط بين يديه وأحاطه بعسكره بعد أن سد على المدافعين الطرق والمسالك ودهمهم بجنده فتساقطوا جثثا وأشلاء.

ثم هذا أبو الطيب المتنبي يسجل وقعة للأمير الخالد سيف الدولة الحمداني بقصيدة رائعة شهيرة هي تلك التي يقول في مطلعها على قدر أهل العزم تأتي العزائم.

وكان سيف الدولة قد غزا قلعة الحدث وصحب معه الشاعر:

خميس مشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة ... فما تفهم الحداث إلا التراجم
فلله وقت ذوب الغش ناره ... فلم يبق إلا صارم أو ضبارم

أما وقد علمت هذا الجيش ومقداره وتحشده فاعلم حاله قبل الصدام: -

تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا ... وفر من الأبطال من لا يصادم

وهنا تخلص الجيش الحمداني من الضعفاء وسيدخل المعركة قريبا وبعد فاستمع إلى الشاعر يصور لك تعبئة القائد وأسلوب دخوله المعركة:

ضممت جناحيهم على القلب ضمة ... تموت الخوافي تحتها والقوادم
بضرب أتى الهامات والنصر غائب ... وصار إلى اللبات والنصر قادم

وينخذل العدو بعد هذه الضربة ويستثمر الفوز ابن حمدان فيقول الشاعر:

نثرتهمُ فوق (الأحيدب) كله ... كما نثرت فوق العروس الدراهم
تدوس بك الخيل الوكور على الذرى ... وقد كثرت حول الوكور المطاعم

ثم يعلن لك المتنبي خسائر العدو في هذه المعركة ويذكر هرب قائدهم ومقتل ابنه وصهره وابن صهره حيث يقول:

أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم ... قفاه على الإقدام للوجه لائم
وقد فجعته بابنه وابن صهره ... وبالصهر حملات الأمير الغواشم
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبى ... بما شغلتها هامهم والمعاصم

ففيما تقدم من رائعة المتنبي هذه قرأنا صفحات المعركة كما اصطلح عليها الفن العسكري الحديث من تحشد إلى دخول المعركة إلى استثمار الفوز.

هذه أمثلة من أمثلة شعر الملاحم العربية تدل على غنى الأدب العربي عامة والشعر منه خاصة في هذه الناحية من نواحي تدوين الوقائع بالمنظوم، وعسى أن تكون لنا عودة إلى هذا الموضوع فنأتي بأمثلة أخرى لنقرأ فيها أخبار وقائع أخرى.

نعمان ماهر الكنعاني
الرئيس في الجيش العراقي

مجلة الرسالة - العدد 720

بتاريخ: 21 - 04 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...