جميل صليبا - صفات النساء النفسية بين سذاجة الطفولة وعبقرية الفكر

كثيراً ما بحث الأدباء في النساء وصفاتهن وما يحمد ويذم من أخلاقهن، فوصفوا المرأة الصالحة والزوجة الموافقة، كما أفاضوا في ذكر صفة المرأة السوء وشرها. فاحسن النساء عندهم من كانت شريفة في قومها، كاملة في عقلها، فصيحة اللسان صادقة محبة لزوجها، حافظة لسرها؛ وشرهن من كان كلامها وعيداً وصوتها شديداً، تدفن الحسنات وتفشي السيئات، صخوب غضوب ضيقة الباء. إلا أن هذه الصفات التي ذكروها لم تبن على استقراء علمي ولا تحليل نفسي. فما هي صفات النساء وما هي أنواعهن عند العلماء؟

بينما كنت ذات مرة القي درساً في علم النفس على تلاميذ لم يتجاوزوا الثامنة عشر من سنهم قال لي أحدهم بعد أن ذكرت صفات الحوادث النفسية: هل تنطبق هذه الصفات على المرأة، أم في الأرواح تذكير وتأنيث؟ إن هذا السؤال - بالرغم من سذاجته - يتضمن شبه فلسفية عميقة. فهل تشعر المرأة كما يشعر الرجل؟ وهل تفكر كما يفكر أو تريد كما يريد؟ وهل تختلف مشاعرها عن مشاعر الرجل كما يختلف جسمها عن جسمه؟

قال بعضهم: إن الفرق بين المرأة والرجل في الحس والفكر والإرادة عظيم جداً، وإن المرأة كانت في الجماعات الابتدائية للرجل لا فرق بينهما وبين العبد، حتى لقد ذكر أن أحد المجامع المقدسة في القرون الوسطى تناقش في هذا السؤال: هل للمرأة نفس أم ينفرد الرجل وحده بهذه الصفة الإلهية؟ وقد ساقهم إلى هذه المناقشة ما جاء في التوراة عن خلق المرأة من ضلع من أضلاع الرجل، وقول آدم: هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي، وعدم قوله إنها ذات نفس شبيه بنفسه.

وزعم آخرون أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في الحس والعقل والإرادة، وأن الفرق بين الرجال أنفسهم اكثر من الفرق بينهم وبين النساء. فمما قاله أفلاطون: لا فرق بين الرجال والنساء. يجب أن يكون عدد النساء في جيش الجمهورية مساوياً لعدد الرجال. ويجب عليهن أن يتعلمن استعمال السلاح وركوب الخيل. وينبغي لهن أن ينزعن ثيابهن لممارسة الرياضة البدنية وألا يخجلن من ذلك كله لأن احسن ثوب يصون المرأة هو ثوب الفضيلة.

ومما قاله كوندورسه: يجب أن يكون التعليم واحداً بالنسبة إلى الجنسين لأن المرأة مساوية للرجل. ومما قالته مدام (نكردوسوسور): إن البنات لا يختلفن عن الصبيان أبداً قبل العاشرة من السن

فالباحث عن حقيقة المرأة أما أن يكون مثل بوسوية الهازئ بزينة النساء وزهوهن فيقول لهن: لا تنسين يا سيداتي إنكن خلقتن من ضلع زائد من أضلاع أدم؛ وأما أن يكوم مثل أفلاطون الخيالي فيتصور مدينة فاضلة قائمة على سواعد الرجال والنساء معاً. وهذه المباحث الأولية لا تكشف الغطاء عن حقيقة المرأة، بل هي على مثال ما ذكره سائر الأدباء أقوال خطابية لا توضح الأمر بل تزيده ظلاماً، حتى لقد قال (ريدرو) في ذلك: (إذا كتبت عن المرأة فاغمس ريشتك في قوس قزح ثم رش على أوراقك غبار أجنحة الفراشة، لان المرأة هو موجود الهي)

فلنرجع إلى علم النفس ولنسأل ما هي حقيقة المرأة ولندرس أحوالها النفسية على ضوء العلم الحديث.

إن تحليل صفات النساء يكشف لنا عن أنواع مختلفة، ويمكننا إرجاع هذه الأنواع إلى أربعة:

1 - المرأة الطفل
2 - المرأة الحساسة
3 - المرأة الحساسة الذكية
4 - المرأة المفكرة

ولنبحث في كل من هذه الأنواع على حدة:

1 - المرأة الطفل: إن هذا النوع من النساء مشتت الفكر والقلب معاً؛ فلا هو منظم الحكم، ولا هو ثابت الحس، بل يتبدل من صورة إلى أخرى بحسب الأهواء والعواطف. وقد وصفه (ديكنس) في روايته دوريت الصغيرة وبين العلماء أن له نوعين: المرضي والطبيعي. فالمرضي يعرف بشدة قبوله للتلقين، والطبيعي يشتمل على النساء الخفيفات العقل الكثيرات الزهو اللواتي يتنقلن كالطير من فنن إلى آخر؛ أو يشتمل على النساء الواسعات الخيال الكثيرات القلق والعظيمات الأمل؛ فإذا تكلمن مزجن الحقيقة بالخيال أسرعن في التعبير عن أفكارهن أو تقدمت الألفاظ عندهن على الفكر. وقد يملن إلى الاطلاع ويرغبن في الكشف عن خوافي الأمور، إلا أن ميلهن هذا بعيد جداً عن محبةالعلم، فهن يرغبن في المعرفة لا للمعرفة نفسها بل لحاجة في نفوسهن تدفعهن إلى الحديث. وإذا رغبن في شيء مجرداً عن المنفعة المباشرة رضين بالقليل منه واكتفين باليسير. قلت لطفل مرة: إذا أعطيتك ثلاث برتقالات وأخذت منها واحدة فكم يبقى معك منها؟ فقال على الفور: كيف تقول لي انك أعطيتني ثلاث برتقالات وأنت حتى الآن لم تعطني شيئاً؟ فالمرأة الطفل لا تختلف عن هذا الطفل في طلب العلم. إنها تفضل المحسوس على المجرد، والقريب النفع على البعيد القصد. فهي إذا مثل هذا الطفل الذي لا يعرف الحساب إلا إذا تذوق حلاوة البرتقالة

2 - المرأة الحساسة: يختلف هذا النوع عن الأول بشدة العاطفة وعمق الشعور وتغلب القلب على العقل. إن المرأة الحساسة لا تقيس الأشياء إلا بمقياس العاطفة ولا تزنها إلا بميزان الهوى. فكل ما وافق هوى من نفسها صحيح، وكل ما أعرضت عنه فاسد. لقد جاء في بعض روايات (جورج ساند) شيء من صفات هذه المرأة. إنها تنسى هواها القديم عند وقوعها في الهوى الجديد، ولا تهتم بوقوعها في التناقض وانتقالها من ضد إلى آخر. نعم إن الرجل نفسه خاضع لمنطق العواطف ولكنه يحاول في كل حال من أحواله أن يبرر عواطفه ويجعل هواه معقولاً. مثال ذلك: أن (ألسست) يقول عن نفسه انه لا يحب سيليمين إلا ليرجع إليها الفضيلة المفقودة، فهو إذا يجد لهواه سبباً معقولا. أما المرأة فلا تهتم بهذه الوسواس ولا تميل إلى سفسطة التشكك، بل تعلن الأمر كما هو؛ فإذا كرهت رجلاً كان قلبها وحده مبرراً لها في كرهها، وإذا أحبت شخصاً لن تبحث عن الأسباب الباعثة على تعلقها به، بل تصغي إلى نداء قلبها من غير أن تجد حاجة لتحكيم العقل. إن هذا النوع من النساء شبيه بالنوع الأول في خوفه من التجريد، وعدم ميله إلى الحق. إن فكرة العدالة مفقودة عند هذين النوعين، والنساء على الأغلب لا يملن إلى العدالة المجردة، بل يفضلن عليها عدالة القلب. من ذا الذي يستطيع أن يقنع الوالدة أن ابنها لا يستحق النجاح في الفحص؟ العدالة ضيقة النطاق، وقلب المرأة أوسع من أن يتقيد بهذه الحدود الضيقة. قد تكون العواطف للعقل نوراً وللإرادة قوة، وقد يبعث الهوى على التضحية الخالصة فيذهب إلى ما وراء العدالة ويكشف الحجاب عن ذخائر القلب فينشرها ويذيعها ولكنه كثيراً ما يشوش أحكام العقل فيملأها ظلاماً.

3 - المرأة الحساسة الذكية: وقد تكون العاطفة مصحوبة بقوة من الذكاء خفية لا تخلو من الدقة وحدس الحياة، فتربط المرأة عواطفها بأفكارها وتريد أن تتغلب بها على مشاكل الحياة. إن هذا النوع من النساء قوي الملاحظة والانتباه والذاكرة، واسع الخيال شديد الحس، إلا أن قوة الحكم عنده مشوبة بدخان العاطفة وسائق الغريزة. لذلك تجده قوي الشعور بالمنفعة كثير الميل إلى العمل. كالزوجة التي تشعر بالرابط الاجتماعي وتقدره حق قدره وتبدل بعواطفها العفوية بالفكرة الاجتماعية أو الخلقية أو الدينية؛ وكالوالدة التي تدرك نظام الحياة فتتصور مثلا أعلى له ثم تهيئ أولادها للفوز في هذا النظام الجديد؛ فهي تشعر بمشاكل الحياة وتريد أن تتغلب عليها بقوة الذكاء والإرادة. فكم شاب لم يتطلع إلى المعالي إلا بتأثير والدته! وكم رجل لم يقدم على المغامرات السياسية أو المالية إلا بدافع من زوجته! وكثيراً ما تكون المرأة هي القوة المحركة والدماغ المفكر والعقل المدبر، ويكون الرجل هو الإله المتحركة والواسطة المبلغة.

4 - المرأة المفكرة: إن هذا النوع الأخير اقرب إلى الاهتمام بالمباحث العلمية من الأنواع السابقة فهو محب للاطلاع ميال إلى المعرفة؛ إلا أنه كثيراً ما يضطرب أمام إشراق الفكر ويعجز جسمه اللطيف عن تحمل أعباء البحث. والسبب في ذلك أن النساء عشن حقباً طويلة تحت وصاية الرجال بعيدات عن الحرية والحياة، فلا غرو إذا ترددن في البحث وشعرن بالقلق في فضاء الفكر. وبالرغم من ذلك فان البنات اكثر اتباعاً للنظام من الصبيان. وقلما تجد فتاة تفضل الكسل عن الاجتهاد، بل إن اكثر البنات يصغين إلى أساتذتهن ويكتبن الامالي، ويحفظن دروسهن؛ إلا أنهن لا يزلن حتى الآن اقل جرأة فكرية من الصبيان، لأنهن يعتمدن على الذاكرة اكثر مما يعتمدن على قوة الحكم. وقد تبين لعلماء العصر أن استعداد المرأة للرياضيات قوي جداً وأن في وسعها أن تتعود التفكير المجرد، إلا أنها لا تزال قليلة الثقة بنفسها فلا تبحث إلا في الأشياء العملية النافعة أو في الأمور المحددة. ومع أن مدام بير كوري قد توصلت في العلوم التجريبية إلى درجة عالية فأن تلميذات فرع العلوم في الجامعات اقل ثقة بنفوسهن من التلاميذ، لان التجريب العلمي يحتاج إلى جرأة وتنظيم، وهذان الأمران لا يزالان حتى الآن بعيدين المرأة.

ومما يؤيد هذا أيضاً أن النساء اللواتي اشتهرن بالفلسفة (كهيباتيا) وغيرها لم يبدعن مذاهب جديدة بل اتبعن المذاهب القديمة وحللنها وهذبنها. فالمرأة اقرب إلى الاتباع منها إلى الإبداع. وهي لا تقبل الحقائق المؤقتة، بل تريد أن يكون كل شيء نهائيا فتسبغ على الحقائق العلمية حلة دينية وتقلب النسبي إلى مطلق. إن تلاميذ الفلسفة يفضلون الكليات الفلسفية على الجزئيات، فيضخمون الفكر البسيطة ويعممونها حتى تشمل الكون كله. أما تلميذات الفلسفة فيملن إلى الجزئيات ويرغبن في التحليل دون التركيب: فعقل المرأة عقل تحليلي، أما عقل الرجل فعقل تركيبي. نعم إن المرأة واسعة الخيال ومن صفات الخيال الواسع أن ينشئ ويبدع، إلا أن خيال المرأة يصلح لتبديل صور الأشياء وتغيير حقائقها لا لإنتاج الفرضيات المنظمة وإصلاح الواقع بها.

تلك هي أنواع النساء من الوجهة النفسية. فالمرأة الحساسة تصلح للشعر والموسيقى والتصوير والتمثيل، والمرأة الحساسة الذكية تصلح للحياة العملية من تجارة وإدارة، والمرأة المفكرة تصلح للعلم والفلسفة. وقد تمتزج هذه الصفات فتجتمع في امرأة واحدة فيكون منها نوع معتدل صالح للقيام بجميع الأعمال.

وقد أخذت صفات المرأة تتبدل في الهيئة الاجتماعية الحديثة لأنها قد شاركت الرجل في جميع الأعمال من تجارة وصناعة وإدارة واقتصاد وسياسة، فساقها التطور إلى استبدال كثير من صفاتها القديمة بصفات جديدة، فاستبدلت بالحياء الجرأة وبالخشية الاقدام، وبالسكون الحركة، وبالسذاجة الحيلة، وبالعبودية الحرية، وبالعاطفة العقل. واعتقد أن هذه الصفات الجديدة لا تفسد جمال المرأة بل تزيد سحرها قوة، لان العلم لا يجفف القلب بل يبدد ظلمات الغريزة، وينير طرائق العقل، ويكشف عن جمال الأشياء ويولد في المرأة صفات نفسية مشابهة لصفات الرجل في تفكيره وانفعاله وفعله؛ ويقلب حياة المرأة الاتباعية إلى حياة مفعمة بالحرية والإبداع. وما ادري لعل التطور يكشف لنا في المستقبل عن نوع جديد اكمل من هذه الأنواع الأربعة تتحد فيه العاطفة بالفكر والإرادة بالعقل. إن الأحلام ليست اقل تأثيراً في التطور من اشتباك الأسباب الحقيقية واختلافها.

جميل صليبا رئيس التعليم الثانوي بدمشق


مجلة الرسالة - العدد 248
بتاريخ: 04 - 04 - 1938

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...