محمد مندور - قادة الفكر..

منذ القدم والمستنيرين من الناس يقتتلون حول قادة الفكر، فمنهم من يدعوهم إلى الكفاح مع مواطنيهم عندما يدعو داعي الوطن، ومنهم من يود لو نأى بهم عن كل ضجة فانية ليتوفروا على خلق الأفكار الباقية، وصياغة المشاعر التي تتغذى بها الأجيال في كل زمان ومكان. وتلك قضية تستحق النظر فما لا شك فيه أن الكاتب - وبخاصة إذا كان انفعالي الطبع - لا يملك في بعض الأحيان أن يدفع إحساسه بالمسؤولية، فكلما رأى فساداً من حوله أو أحس ظلماً يقع على الناس أو جراحاً تصيب وطنه ثارت نفسه، وكأن سكوته تأمين على ما يرى أن لم يكن مشاركة فيه. ولقد يتساءل الناس من حوله عن سر حماسته لهذه الفكرة أو تلك دون أن يحظوا برد يقنع العاديين منهم لأن الرد الوحيد هو طبيعة الكاتب وحرارة قلبه

وموضع التدبر هو أن نتساءل عما يستطيع الكاتب عندئذ أن يكتب دون أن يصيب كتابته الفناء، وليس أشق على نفس الكاتب من أن يحس بأن جهده سيتبدد أنفاساً، وإن كل ما يخط لن يخلف أثرا لأنه وليد ملابسات يومية لن تلبث أن تتغير فتفقد كتاباته قيمتها. ولكن هذا قول ليس صحيحاً على إطلاقه، فإلى اليوم لا زلت أقرأ خطب ديموستين الزعيم الإغريقي الخالد يوم كان يكافح فيليب المقدوني ويدعو مواطنيه إلى مكافحته دون أن يثنيه عن ذلك حتى اليقين بأنه ومواطنيه سائرون إلى الهزيمة مؤمناً بأن الجهاد غاية نبيلة في ذاتها، وأنه من الخير أن تموت وسلاحك بيدك عن أن تنفق في فرق الجبان. ولا زلت أقرأ لروبسبير وهو يناهض ما صاحب الثورة الفرنسية الكبيرة من انحلال في الخلق وتقلب في العقائد وتيقظ في الشهوات واستحصاد للضغائن العمياء. ويدعو إلى أن يكون الطموح عملا على استحقاق المجد وتقدير الشعب، أقول أنني لا زلت أقرأ للخطيب الإغريقي أو الخطيب الفرنسي فلا أستطيع أن أقول مع القائلين أن الكتابات أو الأفكار التي تولدها ظروف خاصة سيصيبها الفناء. فكل كتابة تستطيع أن نخلد بما تحمله من عناصر إنسانية ثابتة، والإنسان هو الإنسان في كافة عصوره. وسيظل ابد السنين يهتز لمعاني الكرم النفسي

هذه إذن قضية الحق فيها واضح. ولكن ثمة قضية أُخرى أشق منها علاجا وهي: أيهم أجدى على قادة الفكر: أن يتوفروا على فهم الإنسان وشق الحجب عن أسراره النفسية أم ينصرفوا إلى توجيهه وقيادته. وهنا قد يبدو التعارض واضحاً، ولكنه في الحق تعارض سطحي. وكبار الكتاب يجمعون دائماً بين الأمرين دون أن يقصدوا إلى أيهما. ففهمك للإنسان وتبصيرك إياه بحقائقه الغامضة فيه خير توجيه له. وأنه لمن الحمق أن يظن أشباه الأميين أن باستطاعتهم أن يخلقوا أمة أو يوجهوا رأياً توجيهاً ثابتا بالألفاظ الخطابية الرنانة أو بالجمل المرصعة الجوفاء، فهذه حماقات موقوتة التأثير وأما الأثر الباقي فهو ما تستمده من حقائق النفس لترده أليها، ولكم من مرة يكون من واجبك إذا أردت أن ترفع قلباً أو تحث عزماً أن تسلم له بادئ الأمر بحقه في أن يبتئس أو يتوانى عزمه، ولكم من مرة يكون في هذا التسليم ذاته أكبر ناهض بالنفوس، وأما المكابرة وأما التنكر لحقائق النفس البشرية ومحاولة أخذها بالضجيج فذلك تفكير عقيم.

وإذن فمشكلة الفهم أو التوجيه هي الأُخرىمحلولة في أعماقها. ولعل في تحديد العلاقة بين رجال الفكر وبين رجال السياسة ثم بين رجال الفكر وبين بيئاتهم مشكلات اشق من السابقتين

بعض رجال السياسة ليسوا من قادة الفكر ومنهم من لا يكاد. يقرأ كتاباً، وتلك لا ريب آفة شديدة الأثر على الحياة العامة، وقديماً رأى أفلاطون أن يقود الفلاسفة المدينة. وقادة الفكر بدورهم ليسوا جميعاً ممن يطيقون مجابهة الجماهير وخوض المعارك السياسية، ومن هنا تنشأ طائفة من السياسيين لا علاقة لها بالفكر وطائفة من المفكرين لا صلة لها بالسياسة، ومن عجيب الأمر أن ترى في التاريخ مفكرين سياسيين جاء تفكيرهم تقريرياً بحتاً بحيث لم يدعوا إلى عمل ولا نادوا بتغيير، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك كارل ماركس الذي يتخذه الاشتراكيون اليوم زعيماً لهم، فقد كان الرجل مؤرخاً عالماً لا سياسياً عاملاً، وهو لم يناد بتحقيق مذهب وإنما درس الماضي وتنبأ بأن تصيب العالم في يوم من الأيام أزمة اقتصادية تقضي طبيعتها إلا يكون لها حل غير الاشتراكية، ومع ذلك كم من السياسيين استطاعوا أن يتخذوا من مبادئه التقريرية دعوة إلى الثورة ومبادئ للعمل الإيجابي. ولقد يتفق أحياناً أن يقول مفكر بنظرية من النظريات في بلد ما، ثم لا تطبق إلا في بلد آخر، ولعل أوضح مثل لذلك مونتسكيو الفرنسي ونظريته في فصل السلطات، ففرنسا لم تطبق هذه النظرية على نحو دقيق وإنما طبقتها أمريكا. والأمر في العلاقة بين رجال الفكر ورجال السياسة عندئذ شديد الشبه بالعلاقة بين رجال العلم ورجال الصناعة. فالعلماء يكشفون عن قوانين المادة التي تمكن من تسخيرها للإنسان ويصوغون قوانينهم معادلات جبرية، ويأتي رجال الصناعة فيستغلون تلك القوانين والمعادلات في الإنتاج الاقتصادي والإثراء به. ولكن الوضع بين العلماء والصناع قد يكون مقبولا على نحو ما هو الآن، بينما هو بين المفكرين والسياسيين محفوف بأشد المخاطر على سلامة الأمم واستقامة الحكم فيها. ولقد تعقدت أمور الحياة العامة في العصر الحديث بحيث لم يعد كافياً لقيادة الأمم أن تكون وطنياً مخلصاً أو ذا وجاهة اجتماعية، بل لابد لك من ثقافة عامة شاملة حتى تعالج الأمور على نحو سديد مستنير

وعندما يصبح السياسيون من قادة الفكر ستتحدد العلاقة بينهم وبين بيئاتهم. فللرجل المفكر في وسطه مهمتان: أولاهما أن يبصر قومه بحالتهم الحقيقية، حتى يعوا ما هم فيه من شقاء وتخلف، وذوو النظر مجمعون على أن البؤس ذاته لا يحرك الشعوب، وإنما يحركها أن تفطن إلى ما هي فيه من بؤس. ولعل في حالة الفلاح المصري أوضح دليل على ما نقول، ومهمته الثانية هي أن يسبق الأمم إلى آمالها الغامضة، ومن هنا ترى أغلبية الكتاب المفكرين من الداعين إلى الأفكار المتقدمة، فهم رسل الرجاء وبألسنتهم تشكو النفوس آمالها وتتطلع إلى سعادة أتم. وهذا هو السر في أنهم يعيشون دائماً في كفاح مع بيئاتهم وكثير منهم لا يستجاب لندائه إلا بعد موته بسنين؛ فعندئذ يقر لهم بالفضل وتقام لهم النصب وتنزل آراؤهم من القلوب منزلة الإيمان

د. محمد مندور

مجلة الرسالة - العدد 594
بتاريخ: 20 - 11 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...