كانت علاقتي بأبي تشهد شدا وجذبا بين الفينة والأخرى؛ فبالرغم من الحذب الذي كان يشملني به، فقد كانت بيننا أزمة أفكار. كان له عالمه الخاص، الذي يتأثر بظروف عمله واحتكاكه باللصوص والقتلة والمجرمين؛ فهو دائما يقع في شرك التداخل بين عمله وبين حياته الخاصة.. فتراه يمارس لعبة الإسقاطات على كل أفراد أسرته، مستحضرا الهاجس الأمني بقوة في تعامله معنا.
خلال دراستي الجامعية، كانت نصيحته الأزلية لي: "إياك والإضربات! ابتعد عن اتحاد الطلاب.. لا شأن لك بالسياسة والأحزاب! اسمع يا ولدي، "الوقتْ صعيبة".. هناك تعليمات لتقديم كل المشاغبين للمحاكمة. كن رجلا! لا تنس أن والدك رجل أمن محترم".
كنت أحترم رأيه، وأشفق عليه؛ فهو يعاني ازدواجية في علاقته مع أسرته وتعامله معهم. كان هاجس الخوف حاضرا لديه بقوة، أيضا، بحكم عمله في الشرطة القضائية واصطداماته المتكررة مع أفراد العصابات وتجار الممنوعات. وانعكس هذا الهاجس سلبا على حياته الشخصية؛ فهو يحاول أن يوفر الحماية لأسرته، وفي الوقت نفسه يؤدي واجبه المهني على أحسن وجه.
ولعل الشيء الذي كنت أقدّره فيه أكثر وأثمّنه هو نقاء سريرته وتجنبه الرشوة والمرتشين؛ ما جعل وضعه الاجتماعي يظلّ متواضعا، عكس بعض زملائه ممن فضّلوا بيع ضمائرهم.. بالرغم من نصائح والدي الثمينة، فقد كنتُ خلال سنوات الدراسة الجامعية أشارك في كل أنشطة اتحاد الطلاب ولا تفوتني تظاهرة أو وقفة احتجاجية دون أن أسهم فيها بفاعلية، غيرَ آبه بالتضييق والقمع الممنهجَين اللذين كانا يسودان، سواء داخل الحرم الجامعي أو خارجه.. وطبعا، فقد نلتُ نصيبي من هراوات الأمن وعشتُ حمى الصراعات بين مختلف التيارات السياسية ودافعتُ عن قناعاتي دون خوف أو وجل. كانت تلك أسرارا خاصة بي؛ حرصتُ كل الحرص على إخفائها عن والدي، المهووس باستتباب الأمن والعاشق لتنفيذ "التعليمات".
عندما أنهيتُ دراستي، اقترح عليّ ولوج سلك الشرطة؛ لكنني رفضتُ بقوة. قلتُ له: "أنا لا أجد نفسي في هذه المهنة، لديّ قناعاتي التي تدفعني إلى البحث عن مهنة تتوافق مع مبادئي الخاصة!".. وكان من الطبيعي أن يقع التنافر ويكبر الخلاف، بالرغم من ذلك الهوس الوجداني المتبادل بيننا.
إحساسٌ غريبٌ أن تحبّ بجنون إنسانا يخالفك الرأي، وتحرص على أن تُسعده وتمنحه الفرح دون حدود.
كان والدي رجلا شريفا يمارس عمله بتفانٍ، ويحرص على ألا يزعجنا بالمشاكل التي تعترضه؛ وأقلها ضغط العمل ورعونة بعض المسؤولين. كنا نحس به وندعمه، وكانت والدتي دائما تقول: "والدكم طينة نادرة في هذا الزمن، يحبكم بجنون. لذا، حرص على أن تأكلوا الحلال الطيّب. لهذا، لم يخضغ لإغراءات المهنة وتجنّب الشبهات؛ السّي العْربي لا نظير له يا أولادي!"..
بعد سنة من العطالة، كنت أحسّ بوالدي يتألم لحالي في صمت ويدعمني، ماديا ومعنويا، ويحاول دائما تجنب إحراجي.
لم يعد يثير معي موضوع ولوج سلك الشرطة؛ أما أنا فكنتُ أحاول التكيف مع واقعي وممارسة حياتي بهدوء وانتظار ما ستحمله الأيام القابلة من جديد.. وكان ظهور سامية الفجائي بطعم المنجاة ولذة الكمثرى؛ ظهور جعلني أحس بأنّ لي قلبا ينبض ومشاعرَ تتحرك.
الحب يأتي دون استئذان، ويغير أمورا كثيرة في حياة الانسان. الحب قيمة إنسانية رفيعة ترتبط أبعادها بمدى رغبتنا نحن البشر في لمّ شتات أنفسنا وتجاوز محننا الكثيرة والتغلب على ظلم الطبيعة وجور الحياة. الحب.. ما أجملها من لفظة يرتاح إليها القلب ويأنس بها الفؤاد! فيها سكينة ودفء، وخلف فضائها اللغوي والمضموني مَشاتلُ خصبة من زهر الفرح وورد النعيم. وأنت، حين تدرك ذلك تحس بأنك قريب من الحقيقة، حقيقة الحياة والوجود؛ تحسّ بأنك تتخلص من أدران نفسك وذمامة واقعك. الحب.. يا لفاعلية هذه الكلمة وسحرها! في نطقها إيقاع راقص وسمفونية عذبة. فطوبى لمن يعتنق مذهب الحب، ويتشبع بروح ناموسه، والخدلان لأعدائه ممن ينكرون وجوده ويؤمنون بكل رديف للغلواء والحقد والشر..
هكذا، أحسست وهكذا فكرت؛ لكنْ هل لسامية الرأي نفسُه؟ كان أخي سليمان قد اختار ولوج سوق الشغل مبكرا، بعد حصوله على شهادة الباكلوريا. التحق بالعمل في إحدى الوكالات البنكية، بتدخل من أحد معارف والدي. كان سليمان إنسانا مرحا، يعيش حياته بعفوية كبيرة. وكان مهووسا بممارسة رياضة فنون الحرب، وقد استطاع تحقيق ألقاب على الصعيدين المحلي والوطني؛ كنا نلقبه بـ"المحارب"! كانت علاقتي به حميمية إلى درجة لا تصدق، فقد عشنا طفولتنا معا وكنا نمارس شغبنا الجميل في الشارع والبيت ونحفظ أسرار بعضنا البعض.. عندما حدّثته في موضوع سامية، ابتسم وقال: "أتمنى أن تكون من نصيبك!".
خلال دراستي الجامعية، كانت نصيحته الأزلية لي: "إياك والإضربات! ابتعد عن اتحاد الطلاب.. لا شأن لك بالسياسة والأحزاب! اسمع يا ولدي، "الوقتْ صعيبة".. هناك تعليمات لتقديم كل المشاغبين للمحاكمة. كن رجلا! لا تنس أن والدك رجل أمن محترم".
كنت أحترم رأيه، وأشفق عليه؛ فهو يعاني ازدواجية في علاقته مع أسرته وتعامله معهم. كان هاجس الخوف حاضرا لديه بقوة، أيضا، بحكم عمله في الشرطة القضائية واصطداماته المتكررة مع أفراد العصابات وتجار الممنوعات. وانعكس هذا الهاجس سلبا على حياته الشخصية؛ فهو يحاول أن يوفر الحماية لأسرته، وفي الوقت نفسه يؤدي واجبه المهني على أحسن وجه.
ولعل الشيء الذي كنت أقدّره فيه أكثر وأثمّنه هو نقاء سريرته وتجنبه الرشوة والمرتشين؛ ما جعل وضعه الاجتماعي يظلّ متواضعا، عكس بعض زملائه ممن فضّلوا بيع ضمائرهم.. بالرغم من نصائح والدي الثمينة، فقد كنتُ خلال سنوات الدراسة الجامعية أشارك في كل أنشطة اتحاد الطلاب ولا تفوتني تظاهرة أو وقفة احتجاجية دون أن أسهم فيها بفاعلية، غيرَ آبه بالتضييق والقمع الممنهجَين اللذين كانا يسودان، سواء داخل الحرم الجامعي أو خارجه.. وطبعا، فقد نلتُ نصيبي من هراوات الأمن وعشتُ حمى الصراعات بين مختلف التيارات السياسية ودافعتُ عن قناعاتي دون خوف أو وجل. كانت تلك أسرارا خاصة بي؛ حرصتُ كل الحرص على إخفائها عن والدي، المهووس باستتباب الأمن والعاشق لتنفيذ "التعليمات".
عندما أنهيتُ دراستي، اقترح عليّ ولوج سلك الشرطة؛ لكنني رفضتُ بقوة. قلتُ له: "أنا لا أجد نفسي في هذه المهنة، لديّ قناعاتي التي تدفعني إلى البحث عن مهنة تتوافق مع مبادئي الخاصة!".. وكان من الطبيعي أن يقع التنافر ويكبر الخلاف، بالرغم من ذلك الهوس الوجداني المتبادل بيننا.
إحساسٌ غريبٌ أن تحبّ بجنون إنسانا يخالفك الرأي، وتحرص على أن تُسعده وتمنحه الفرح دون حدود.
كان والدي رجلا شريفا يمارس عمله بتفانٍ، ويحرص على ألا يزعجنا بالمشاكل التي تعترضه؛ وأقلها ضغط العمل ورعونة بعض المسؤولين. كنا نحس به وندعمه، وكانت والدتي دائما تقول: "والدكم طينة نادرة في هذا الزمن، يحبكم بجنون. لذا، حرص على أن تأكلوا الحلال الطيّب. لهذا، لم يخضغ لإغراءات المهنة وتجنّب الشبهات؛ السّي العْربي لا نظير له يا أولادي!"..
بعد سنة من العطالة، كنت أحسّ بوالدي يتألم لحالي في صمت ويدعمني، ماديا ومعنويا، ويحاول دائما تجنب إحراجي.
لم يعد يثير معي موضوع ولوج سلك الشرطة؛ أما أنا فكنتُ أحاول التكيف مع واقعي وممارسة حياتي بهدوء وانتظار ما ستحمله الأيام القابلة من جديد.. وكان ظهور سامية الفجائي بطعم المنجاة ولذة الكمثرى؛ ظهور جعلني أحس بأنّ لي قلبا ينبض ومشاعرَ تتحرك.
الحب يأتي دون استئذان، ويغير أمورا كثيرة في حياة الانسان. الحب قيمة إنسانية رفيعة ترتبط أبعادها بمدى رغبتنا نحن البشر في لمّ شتات أنفسنا وتجاوز محننا الكثيرة والتغلب على ظلم الطبيعة وجور الحياة. الحب.. ما أجملها من لفظة يرتاح إليها القلب ويأنس بها الفؤاد! فيها سكينة ودفء، وخلف فضائها اللغوي والمضموني مَشاتلُ خصبة من زهر الفرح وورد النعيم. وأنت، حين تدرك ذلك تحس بأنك قريب من الحقيقة، حقيقة الحياة والوجود؛ تحسّ بأنك تتخلص من أدران نفسك وذمامة واقعك. الحب.. يا لفاعلية هذه الكلمة وسحرها! في نطقها إيقاع راقص وسمفونية عذبة. فطوبى لمن يعتنق مذهب الحب، ويتشبع بروح ناموسه، والخدلان لأعدائه ممن ينكرون وجوده ويؤمنون بكل رديف للغلواء والحقد والشر..
هكذا، أحسست وهكذا فكرت؛ لكنْ هل لسامية الرأي نفسُه؟ كان أخي سليمان قد اختار ولوج سوق الشغل مبكرا، بعد حصوله على شهادة الباكلوريا. التحق بالعمل في إحدى الوكالات البنكية، بتدخل من أحد معارف والدي. كان سليمان إنسانا مرحا، يعيش حياته بعفوية كبيرة. وكان مهووسا بممارسة رياضة فنون الحرب، وقد استطاع تحقيق ألقاب على الصعيدين المحلي والوطني؛ كنا نلقبه بـ"المحارب"! كانت علاقتي به حميمية إلى درجة لا تصدق، فقد عشنا طفولتنا معا وكنا نمارس شغبنا الجميل في الشارع والبيت ونحفظ أسرار بعضنا البعض.. عندما حدّثته في موضوع سامية، ابتسم وقال: "أتمنى أن تكون من نصيبك!".