العربي الرودالي - قراءة في مجموعة ''وطن وسجائر.. بالتقسيط''، للقاص المغربي أحمد السقال.. دراسة نقدية

- بتألق التجريب في "باكورات الأعمال"، ومنه خاصة هذه المجموعة، كإنجاز أولي للكاتب، تكون "التجربة" قد تكاملت وقامت بذاتها من أول وهلة... ويبدو هنا أن العنوان الرئيس في هذا العمل الإبداعي هو تشاركي بين المجموعة ككل ونص ضمنها يمثلها، فيعتبر هذا الأخير نصا قطبيا بين نصوص الجوار المفترض أن تكون تابعة وتساهم في المساعدة على تركيب المضمون الكلي.. إنه مفهوم القطبية بشكل ميكرونصي، حيث التوحد مع العنوان الكبير "وطن وسجائر.. بالتقسيط".. وهذا جهد لا يصدر إلا من قاص متمكن، غير مبتدئ، قبل وبعد أن يبدع.
-إن عتبة العنوان هنا كمنظور شامل، هي جمع لكلمتين يحسم فيهما بعد نقطتين بدلالة الإثارة، على أنهما بيعا أو يباعان "مقسطين" في حد ذاتهما.. وأول ما يلح عليه في هذا النص القطبي هو التساؤل عماهية العلاقة بين قيم المضمون كمحتوى والمكونات المؤطرة له، أي العنوان والسياق الأسلوبي واللغة المضطلعة بدورها... فهل هناك من علاقة عضوية؟
-فبالنسبة للمنظور العام لدى الكاتب، نجده يتبنى البحث الجذري في الإبداع الأجناسي دون تحديد.. فهو قاص مقيم في سرده الذاتي، يوظف "الماورائيات" السيميائية، بإرسال الإشارات المجازية المتضاعفة تواليا، بشكل "إيحاء الإيحاء"، سواء ضاقت العبارة أو اتسعت، بين هذه الرموز الثلاثة [الوطن- والسجائر- والتقسيط.].. فهناك تطابق وهناك تشظي... ومساحة الفوارق شاسعة تؤطرها اللغة، لكن التقارب يضمحل بفعل المجازات والانزياحات المتتالية كما سبق الذكر.. فالتجريب لدى الكاتب تمرد أسلوبي، يتعمم نسبيا بكيفية تركيبية بين كل تقنيات السرد اللغوي أولا والتأويلي استطرادا... فهو تمرد على نمط الحكي التراجيدي الأرسطي في حبكته كما هو على السرد المنمط، وذلك بواسطة تعابير التكسير كما هو التقسيط... فالأسلوب لدى الكاتب يكسر الرتابة التي تجمد التلقي باستسهال.. ففي نص "نشاز طفولة" مثلا، ص.23، وليس ذلك سوى جزء من طفولته مكملة للنص القطبي كما هي كل النصوص، يقول في تعارض سلس بين المدخل والقفلة: [مفلح طارق في دراسته... والمرتبة الأولى صار اسمها طارق//...لكنه في هذه المرة لا يكون في المرتبة الأولى، لأنه لا يتوقف عن الجري...]، فما السبب؟ وخاصة أن للقفلة دلالتها.. كما أن التجريب هنا أيضا، له سياق تثويري للموضوع.. فلنرحل إذن إلى النص القطبي نستنطقه في جل مراحله، على ص.39-40، حيث نقرأ منذ المستهل:[ أمي هي التي طلبت الطلاق منه + النشيد واحد والحجارة أعداد + لا أخفيكم، كنت من فرط طفولتي وفتور علاقتي به، كنت أنا أيضا أنضم إلى الكوكبة وأصيح بأعلى صوتي مرددا نفس النشيد مع أصحابي في الدرب + والآن يعتقد زبنائي أنني بلغت الثامنة عشرة من عمري، ولذلك أفكر في جواز سفر، وقبله في اسم عائلي مزيف أحمله على الوثائق لأركب البحر بحثا عن أبي + لم أكن أعرف له إسما غير"بورقعة" ]..ولا زالت تيمات أخرى تصب كلها في هدف واحد، هو "انعدام الشرعية الشخصية".. إنه التقسيط الذي يفتت الشخص كما تفتت السجائر، فتكون النتيجة تشظ يلحق بالوطن الغافي الذي يلبس عدمية مقسطة قائمة أيضا في جل النصوص المجاورة... وذاك ما تؤكده "القفلة" التالية كمثال، في نهاية المطاف بكل سخاء من المتواليات المجددة للحياة، لكن بانقلاب لا يعلن عن نفسه، تبدد الأمل بيأس يتحرك في وهمه... تقول القفلة في مقطعها الأخير من نفس الأقصوصة القطبية: [علب سجائر "ونستون" و"مارلبورو" بين يدي تنبهني ألا وقت لغفوة .. حيا إذن على الحياة.].. فهل من يقظة؟ يجيب النص التالي على ص.43 بما يلي تحت عنوان "واقع": [.. ولأنني لازلت أحفظ العبارة جيدا، كانت الطيور ترفض الوقوع أمامي، وكانت الأشياء، كل الأشياء، تتراقص خائبة أمامي.. إنها تعرفني كما يعرفني الإحباط، تحاول استلال ما تبقى من العبارة، والمرآة شاهدي الوحيد على وجهي المخدوش ظهر الجلد: "لا ترض بأقل مما تستق"].. ولهذه الغاية تكون آخر صورة قلبت المعنى الذي فهم رأسا عن عقب بآخر عبارة بين المزدوجات في النص القطبي سابقا، كما يلي: ["ونستون".."مارلبورو"... ].. وتلك هي وجهة عبارة ".. حيا إذن على الحياة".. فالعبارة تجعلنا نعتقد بكونها انفراجا... لكن النص يوقظنا من غفوته، فيستمر صياحه... "ونستون مارلبورو".. "ونستون مارلبورو"... إلى أن ندرك واقعا مافتئ مسترسلا دون توقف...
- إن النص بأسلوبه ومضمونه الزاخمين، يتأرجح بين تجاذبات عدة تبدو غير متجانسة في تيماتها ظاهريا لكن السرد يترابط إيحائيا ومجازيا، فيقلب التصورات بفجائية مع خاتمته.. وهكذا لا يسلم النص نفسه بسهولة، إلا عندما يحرك هذا النص إلحاحه لإعادة القراءة في تواصل بين كل النصوص، وكأن السرد يقسط أحداثا روائية.. ولهذا فتيمات النص كوحدات، تتقاطع في مواقعها وأيضا مع باقي النصوص المجاورة.. فهناك نماذج غير حصرية، نجد من خلالها تشظيا في كل شيء: (الأسرة - الأطفال - الذات الفردية - الوطن - الناس - الهجرة - العلاقات...).. كلها توحي بالتقسيط كالسجائر المعروضة للبيع... وهكذا نحس أن اللغة تخالف المنطوق المباشر، بانتقال إيحاءات متوالية من بعضها إلى بعض: (فمن الاستخفاف بالأب إلى سقوط القيم إلى إذلال الوطن إلى التهجير إلى الإحباط...).. وذلك كالمطابقة بين الأب المنبوذ والوطن المقسط.. وبالموازاة هناك دائما أسلوب معبر عن هذه التمزيقات... كما أن السرد نفسه يستأنف سياقه، في جل النصوص، دون بداية، حتى أنه يوحي بالاسترسال المسبق لأسباب مآسي خفية، إذ يكون الاستهلال غالبا إما عبر نقط سابقة كمدخل، أو دون مقدمات أو عبر سؤال، وكلها تنذر بمآسي طاحنة محبطة تتمرغ فيها القيم.. يقول النص على ص.9، بعنوان "شعيب"، وقد يكون تصغيرا لــ "شعب": [هل توصل شعيب بآخر أقساط موته، وقد مات بالتقسيط لستين عاما أو يزيد؟.. إلى أن يقول: هذا الصباح ظلت عربة شعيب يتيمة جوار الكرسي، تأخر الحارس الليلي عن موعد مغادرته الصباحي، لكن شعيبا لم يحضر.. إلى أن يقول: إن مات شعيب، فهناك شعيب جديد سوف يسطو على العربة والمكان، الموت بالتقسيط منتوج محلي رائج..] وهكذا إلى آخر النص .. إنه الوطن الغافي لا يعرض إلا العدمية، فيقربنا منها حتى نتعارف.. إنه خط يكرس عبر جل نصوص المجموعة، بتجل قوي ومعمم، المناخ الموبوء الذي يتخبط فيه الوطن والإنسان... ومن ذلك، إضافة إلى ما سبق، نصوص أخرى منسوجة بترميز عميق، وهي: (نتوء- سبحاني من إله - زمن من.. هنا - خواء - حديث عن المسؤولية - حالة عادية.. جدا - تيهان - ليلة - خواء...).. هناك إذن تعابير مثلما مر فيما سبق، تعتمد الانزياح الزئبقي المستفز للإدراك المنمط، فتشغله عبر تركيبات تحث على استنباط المعنى المقصود من إيحاءاتها وليس من لفظها، الشيء الذي يحول السردي إلى شاعري.. ومن ذلك ما يلي مثلا:[ الآن يعتقد زبنائي أنني بلغت الثامنة عشرة من عمري، ولذلك أفكر في جواز سفر، وقبله في إسم عائلي مزيف أحمله على الوثائق لأركب البحر بحثا عن أبي، وأعيد الاسم العائلي المهجر، أعيد الهوية..]..
- إن في هذه البنائية التي توفق الكاتب في إبداعها، بين الشكل والمضمون في المجموعة برمتها، يتبين أن هناك حمولة لتكسير تابوهات تختفي خلف حالة مجتمع ظاهره مبسط وباطنه مقسط، حيث يصور لنا الكاتب هذا الواقع كهيولة متلاطمة، كل يتدافع ويتداخل، لنصل إلى وعي إبداعي يتحرك داخل أسلوبه، معبرا عن حالات غائرة وفائرة في تفاعلها، قصد اختراق المسكوت عنه... وهذا مثال عن ذلك، فيقول في النص القطبي أيضا: [واليوم حين أضغط على زر الذاكرة، تأتيني الأصوات والصور غير واضحة، عربدة أبي وعهر أمي وبؤس إخوة لا أشاركهم صلب الأب، أسأل نفسي من أنا؟ ولا أجد جوابا أعتد به حين يسألني الناس...].. إلى أن يقول:[أمي أراها أحيانا وبطنها منتفخة، فلا أسأل عن الأب، وحين أراها "خفيفة" لا أسأل عن المولود، وحين لا أراها أسأل نفسي مم تقتات وبم تعيل إخوتي الصغار؟].. هو إذن أسلوب فائر، وراء أدوات السرد... والكاتب هنا، في هذا النص، قام بتأدب إبداعي لتقويم أسلوب التعرية التي تنتهج في الكتابة الإيروتيكية عموما ، خلف حجاب مهذب... رغم أنه"سقوط" بأبلغ معانيه الفاضحة... عهر، وتعدد رجال، وخلط نسل، وزوج لا همة له... من هنا فإن الذات لدى الكاتب استطاعت أن تدمج الأسلوب مع المضمون في الذات المهمشة، لتنتقم من ذاتها بجلد ذاتها.
-هي إذن مجموعة قصصية انتصبت لتنتقم من الأزمنة الثلاثة المتناسلة من بعضها والمسترسلة في حقرها دون توقف، في كنف وطن لن يستقيم رهانه إلا بالتغير.

العربي الرودالي


* (قدمت هذه القراءة النقدية في ندوة أشرفت عليها جمعية شروق المكناسية بـ "اللقاء العربي الثامن للقصة" سنة2012)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...