كان لجزيرة العرب في شعرها الجاهلي أدب من هذا النوع الذي نسميه كلاسيكياً، وذلك منذ القرن السادس المسيحي، في عصر لم تكن كبريات لغاتنا العصرية قد تجلت فيه بعد خصائصها. وإنما أعني بالأدب الكلاسيكي مجموعة من الآثار الأدبية تبدو لك معبرة عن قصد سام بعينه، وعن موقف خاص من مشكلة الحياة ومصير الإنسان، وعن ضرب من الشعور والفهم في لغة أحاطت بها كل العناية لوضع صناعة دقيقة راقية تامة الشروط. وكان أصحاب تلك القصائد القديمة ينطقون أحياناً بالحكم؛ لكنهم قليلاً ما كانوا يفكرون التفكير المنطقي أو يستنتجون. بل تميل نفوسهم إلى الفوران مع شرارات متتابعة من الصور الخيالية والأمثال، ومن صيحات الحب أو الغضب التي أمتزج فيها اللطف بالقساوة وأقترن العطف بالعنف، وإنما يجري تنسيق الألفاظ فيها طبق نظرية خاصة للجمال الفني يعتبر الإيجاز من أهم قواعدها. وأسمى غايات الشاعر أن يكون لكل بيت من أبياته من التفوق في أيجاز العبارة ومتانتها ما يجعل قوله تسير به الركبان فيصبح كالمثل عند قومه والناطقين بلغته، ومع ذلك فلم تكن تلك القصائد الشبيهة في قوة طابعها بضرب النقود خالية من بعض الغموض؛ إذ لكل لغة سرها الخاص بها. بفضله لا يخلو شعرها من هذه الميزة والطابع الخاص. . .
أما في العربية، فللعبارة من المتانة ما لا يبقى معه شيء يحجب مصدرها عن الناطق بها أو المستمع إليها، وبذلك كان اللفظ في اللغة العربية يذكرك بالأرومة التي اشتق منها. ولعل هذا الشعور العميق بالمصدر يفوق شعورك باللفظ عينه.
فالعبارة العربية إذن كالمزهر، إذا نقرت أحد أوتاره رنت لديك كل الأوتار، وخفقت وهي تبعث في نفسك زيادة عما لها من صدى خاص، وخفقت وهي تبعث في نفسك زيادة عما لها من صدى خاص، جميع الأصداء الخفية لكل ما ينتسب إليها من مفردات أو يلتحق بها، ثم تحرك في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور. وإذا نحن نظرنا إلى العربية من حيث الصناعة أدركنا في غير عناء أن سبك فيه للشعر ومادته كنوز زاخرة لا تحصى وموارد، فلقد كان نشوء هذه اللغة وتطورها مبنياً في أعظم قسط من مفرداتها على التداول بين المقاطيع المقصورة والمقاطيع الممدودة.
وإذن يجوز لنا القول بأن اللغة العربية ذات تقاطيع شعرية في ذاتها، فلا غرابة إذن أن يكون واضع علم النحو هو الذي ضبط تلك المقاطيع. أما الأوزان والتفاعيل الشعرية، فإنها مؤلفة من مجموعة متأثرة بالصيغ الصرفية. وإن لهذا الاستعداد الشعري العظيم آثاره القوية في توجيه الآداب العربية، فالرأي الغالب عند جميع الناطقين بالضاد في سائر العصور أن الأدب شعر قبل كل شيء. لذلك كان مؤرخو الآداب العربية ونقادها يقتصرون من آثارها على فن الشعر أو يكادون، فلئن كان قدامه قد أطلق على أحد كتبه أسم (نقد النثر)، فهو على ذلك لم يعالج في ثلاثة أرباعه غير الشعر. وهل الجاحظ قد روى معظم كلامه الذي أستشهد به في كتاب (البيان والتبيين) إلا عن الشعراء أو عن إخوانهم الخطباء؟ وإذا كان بديع الزمان قد تردد في الإذعان لما للجاحظ من فضل في الميدان الأدبي، فما ذلك كما قال، إلا لان الجاحظ وإن كان ناثراً بارعاً لم يكن إلا شويعراً، وإذن فمن الواضح أن الذي لم تكن له الأسبقية في صناعة الشعر ليس على حسب نظرية بديع الزمان لرجل الأدب حقاً. وعلى ذلك فقد أحرز النثر في القرون الثلاثة الأولى من الإسلام مكانه اللائق به، ووافق ظهوره - مثل ما هو الشأن عند سائر الأمم - ما حصل من تقدم في التفكير وطرائق البحث في المواضيع العلمية.
وفي الواقع كان أهل صناعة التفكير المنطقي الإستنتاجي والفقهاء والمشرعون على اختلاف مذاهبهم، هم الذين سبقوا غيرهم من الكتاب بتطور النثر على أيديهم. ويحكى أن (بلزاك) كان يحمل نفسه على مطالعة كتاب (القانون المدني)، فيراه على أسلوب لا يجاري في الوضوح والاقتصاد والدقة. ولا أضنني مخطئاً إن قلت: إن عدداً لا يستهان به من رجال الشرع الإسلامي وأئمة الدين كانوا في عدد كبار الكتاب. ألا نجد مثالا من ذلك عند الجاحظ، وهو أكبر كتاب القرن الثالث الهجري بلا منازع؟
فليس من شك أن الجاحظ كان قبل كل شيء من رجالات الفقه الإسلامي، فلقد أنصرف فيما لا يقل عن نصف تآليفه إلى البحوث الدينية. وهل ينكر أحد أن كتاب (الحيوان)، وهو أكبر تصانيف الجاحظ، خاضع في جملته لشئون توحيدية، إذ كان مصنفه يريد أن يستخلص من درس الطبيعة وبالخصوص من النظر في شؤون الحيوان ما يقوم حجة ناهضة لتأييد مذهب الاعتزال.
ومهما يكن من الأمر، فلا مندوحة من الاعتراف بأنه قد تكون في الثالث للهجرة نثر عربي يتصف بغزارة المادة وتنوع الأسلوب، صالح للرواية وللجدال النظري معاً، قادر على تتبع الفكرة والالتصاق بها في كل منعرجاتها، وعلى أداء جميع دقائق المعنى. ولم تمض مائة سنة حتى زال هذا اللون من النثر العربي المتصف بانتقاء اللفظ واختياره وبانسجام عدد النغمات، وقام مقامه النثر السجع.
وفي الحقيقة لم يكن هذا النوع من النثر المسجوع زائراً جديداً في اللغة العربية، بل كان عندها أسلوباً قديماً مألوفاً يرجع عهدها به إلى العصر الذي كان النثر فيه خطابياً أو شفاهياً على أقل تقدير إذ كان موجهاً في الحقيقة إلى السمع لا إلى النظر.
ويظهر أن هذا اللون من النثر المسجع قد قطع ثلاثة القرون الأولى من الإسلام يحيا حياة فاترة محدودة النطاق، فلم يكن يستعمله ألا نفر قليل من الدعاة، ولا تجد له من وراء ذلك أثراً الا السجعة أو السجعتين يضيفها مشاهير الكتاب إلى جملهم المرسلة.
فإذا ما حل القرن الرابع للهجرة أصبح هذا اللون من النثر هو الغالب وطغى على غيره وعم. وإذا به مستعمل في مواضيع من الأدب وأبواب لم يكن قد طرقها من قبل، بل هو يمتد إلى ما وراء المواضيع ويقتحم إلى ما أبعد من الأبواب فيصبح متصرفاً في كامل الآداب النثرية أياً كان لونها ومهما كان غرضها سواء أكانت من آداب الخيال والقريحة، أم من آداب التراسل، أو من كتب الأخلاق، أو من آداب الدواوين، أو في المواضيع التاريخية. . .
ولعل السبب في هذا التغلب القاهر راجع إلى ما كان مشهوراً في سائر الأوساط الأدبية من تفوق الشعر على النثر. وكان نثر ابن قتيبة، وقد ظهر منبسطاً منسجم المفردات مرسلا ينظر إليه عند المولعين بفن الشعر كما ينظر إلى فتاة الأسطورة الفرنسية (سالدريون)، فقد كانت تفوق أخواتها وأترابها جمالا وذكاء نفس؛ إلا أن بساطة أخلاقها وتواضعها كانا يظهرانها في مظهر الفقر والخصاصة فكانت لذلك منبوذة. وقد بدا للمغرمين بالشعر أن هذا النثر المنبسط المرسل في حاجة إلى زينة وحلي، وهكذا جعلوه نثراً مسجعاً ومع ذلك، فأنه يجمل بنا ألا نشدد الحكم على النثر المسجوع فهو الذي أمد العربية بعدد من جواهرها الأدبية، وهو الذي أكسبها آثاراً فيها من جودة الصناعة ودقة النقش ما يجعلها مثالا تطبيقياً لقاعدة الفن المطلق الخالص، أو ما يعرف عندهم بالفن للفن. . . ولا يمكن مع ذلك نكران العراقيل الخطيرة التي انجرت من هذا النثر للعبارة الصحيحة الكاملة الموفية بحق المعنى بالقياس للنثر وجوهره. ولا يمكن أن نغفل عما كان لهذا النثر من سيئ الأثر على الأسلوب، فقد جر له الفقر وحمل الكتاب على الاقتصار من أساليب الكتابة على الجمل القصيرة من شتات السجع، فأفضى بعدد منهم إلى التضحية بالمعاني واللب في سبيل العناية بالشكل والأسلوب.
ولكن هذا النوع من النثر قد انقضى اليوم عصره وزال سلطانه. فلقد عادت الحرية المطلقة إلى النثر بفضل نهضة الآداب العربية التي بدأت منذ ثلاثة أرباع قرن تقريباً
وفي هذا الباب ذكر بعضهم مراراً عديدة ما للتأثيرات الأجنبية من فضل على هذه النهضة سواء من حيث الأسلوب وفن التعبير، أو من حيث تجديد اللون الأدبي في ذاته، واختيار المواضيع، وهي عوامل لا يمكن نكرانها، ولكنها لم تكن لتؤثر لو لم تصادف رغبة دفينة في الانبعاث، وشوقاً إلى إحياء تراث عظيم قد وقف سيره: تراث القرنين الثاني والثالث من الهجرة. ذلك أن البشر والشعوب لا يقبلون من التأثيرات والعوامل في باب العبقرية إلا ما كان ملائماً للخلاصة الخالصة من عقليتهم مسايراً لما لها من حركة وتوثب. وباختصار لا يقتبس الناس من غيرهم ولا الشعوب من بعضها إلا ما كان حياً في قرارة أنفسهم متوثباً للوجود.
وهاهو ذا اليوم النثر العربي قد تهذبت حواشيه واتضحت آياته وتم تجديده على أيدي الجبلين الأخيرين من الكتب، وبفضل ما بذله هؤلاء من جهود متواصلة، وما صبروا عليه من جد وعمل، فأصبح هذا النثر أهلا لأن يكون أداة تعبير لحضارة عصرية. وبلغ هذا المستوى من الرقي الذي به يتم تأليف الآثار الفنية الخالدة. وإنما نعني بالآثار الفنية الخالدة آثاراً لها من قوة السبك ومن الامتلاء بالحقائق البشرية ما لا تنال منه الترجمة إلى اللغات الأجنبية أو تذهب به؛ (فدون كيشوت) لمؤلفه (سرفانتاس) وكتاب (الحرب والسلم) لـ (تولستوي) وكتاب (كيم) لـ (رويارد كبلنغ) كلها كتب قد حافظت في نصوصها الفرنسية على أوفر قسط من جمالها وروعتها
وإني أؤمل بكل قوة أن يأتي اليوم الذي يوجد فيه تصنيف لمؤلف عربي من المعاصرين ينقل إلى اللغات الأوربية فيقيم لأبناء الغرب الدليل على أن أبناء عدنان وقحطان قادرون مرة أخرى على تنمية كنز الفكر البشري
(عن نشرة الدراسات العربية بالجزائر ترجمة الثريا)
وليم مارسيه
رئيس المعهد العالي للدراسات التونسية
مجلة الرسالة - العدد 641
بتاريخ: 15 - 10 - 1945
أما في العربية، فللعبارة من المتانة ما لا يبقى معه شيء يحجب مصدرها عن الناطق بها أو المستمع إليها، وبذلك كان اللفظ في اللغة العربية يذكرك بالأرومة التي اشتق منها. ولعل هذا الشعور العميق بالمصدر يفوق شعورك باللفظ عينه.
فالعبارة العربية إذن كالمزهر، إذا نقرت أحد أوتاره رنت لديك كل الأوتار، وخفقت وهي تبعث في نفسك زيادة عما لها من صدى خاص، وخفقت وهي تبعث في نفسك زيادة عما لها من صدى خاص، جميع الأصداء الخفية لكل ما ينتسب إليها من مفردات أو يلتحق بها، ثم تحرك في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور. وإذا نحن نظرنا إلى العربية من حيث الصناعة أدركنا في غير عناء أن سبك فيه للشعر ومادته كنوز زاخرة لا تحصى وموارد، فلقد كان نشوء هذه اللغة وتطورها مبنياً في أعظم قسط من مفرداتها على التداول بين المقاطيع المقصورة والمقاطيع الممدودة.
وإذن يجوز لنا القول بأن اللغة العربية ذات تقاطيع شعرية في ذاتها، فلا غرابة إذن أن يكون واضع علم النحو هو الذي ضبط تلك المقاطيع. أما الأوزان والتفاعيل الشعرية، فإنها مؤلفة من مجموعة متأثرة بالصيغ الصرفية. وإن لهذا الاستعداد الشعري العظيم آثاره القوية في توجيه الآداب العربية، فالرأي الغالب عند جميع الناطقين بالضاد في سائر العصور أن الأدب شعر قبل كل شيء. لذلك كان مؤرخو الآداب العربية ونقادها يقتصرون من آثارها على فن الشعر أو يكادون، فلئن كان قدامه قد أطلق على أحد كتبه أسم (نقد النثر)، فهو على ذلك لم يعالج في ثلاثة أرباعه غير الشعر. وهل الجاحظ قد روى معظم كلامه الذي أستشهد به في كتاب (البيان والتبيين) إلا عن الشعراء أو عن إخوانهم الخطباء؟ وإذا كان بديع الزمان قد تردد في الإذعان لما للجاحظ من فضل في الميدان الأدبي، فما ذلك كما قال، إلا لان الجاحظ وإن كان ناثراً بارعاً لم يكن إلا شويعراً، وإذن فمن الواضح أن الذي لم تكن له الأسبقية في صناعة الشعر ليس على حسب نظرية بديع الزمان لرجل الأدب حقاً. وعلى ذلك فقد أحرز النثر في القرون الثلاثة الأولى من الإسلام مكانه اللائق به، ووافق ظهوره - مثل ما هو الشأن عند سائر الأمم - ما حصل من تقدم في التفكير وطرائق البحث في المواضيع العلمية.
وفي الواقع كان أهل صناعة التفكير المنطقي الإستنتاجي والفقهاء والمشرعون على اختلاف مذاهبهم، هم الذين سبقوا غيرهم من الكتاب بتطور النثر على أيديهم. ويحكى أن (بلزاك) كان يحمل نفسه على مطالعة كتاب (القانون المدني)، فيراه على أسلوب لا يجاري في الوضوح والاقتصاد والدقة. ولا أضنني مخطئاً إن قلت: إن عدداً لا يستهان به من رجال الشرع الإسلامي وأئمة الدين كانوا في عدد كبار الكتاب. ألا نجد مثالا من ذلك عند الجاحظ، وهو أكبر كتاب القرن الثالث الهجري بلا منازع؟
فليس من شك أن الجاحظ كان قبل كل شيء من رجالات الفقه الإسلامي، فلقد أنصرف فيما لا يقل عن نصف تآليفه إلى البحوث الدينية. وهل ينكر أحد أن كتاب (الحيوان)، وهو أكبر تصانيف الجاحظ، خاضع في جملته لشئون توحيدية، إذ كان مصنفه يريد أن يستخلص من درس الطبيعة وبالخصوص من النظر في شؤون الحيوان ما يقوم حجة ناهضة لتأييد مذهب الاعتزال.
ومهما يكن من الأمر، فلا مندوحة من الاعتراف بأنه قد تكون في الثالث للهجرة نثر عربي يتصف بغزارة المادة وتنوع الأسلوب، صالح للرواية وللجدال النظري معاً، قادر على تتبع الفكرة والالتصاق بها في كل منعرجاتها، وعلى أداء جميع دقائق المعنى. ولم تمض مائة سنة حتى زال هذا اللون من النثر العربي المتصف بانتقاء اللفظ واختياره وبانسجام عدد النغمات، وقام مقامه النثر السجع.
وفي الحقيقة لم يكن هذا النوع من النثر المسجوع زائراً جديداً في اللغة العربية، بل كان عندها أسلوباً قديماً مألوفاً يرجع عهدها به إلى العصر الذي كان النثر فيه خطابياً أو شفاهياً على أقل تقدير إذ كان موجهاً في الحقيقة إلى السمع لا إلى النظر.
ويظهر أن هذا اللون من النثر المسجع قد قطع ثلاثة القرون الأولى من الإسلام يحيا حياة فاترة محدودة النطاق، فلم يكن يستعمله ألا نفر قليل من الدعاة، ولا تجد له من وراء ذلك أثراً الا السجعة أو السجعتين يضيفها مشاهير الكتاب إلى جملهم المرسلة.
فإذا ما حل القرن الرابع للهجرة أصبح هذا اللون من النثر هو الغالب وطغى على غيره وعم. وإذا به مستعمل في مواضيع من الأدب وأبواب لم يكن قد طرقها من قبل، بل هو يمتد إلى ما وراء المواضيع ويقتحم إلى ما أبعد من الأبواب فيصبح متصرفاً في كامل الآداب النثرية أياً كان لونها ومهما كان غرضها سواء أكانت من آداب الخيال والقريحة، أم من آداب التراسل، أو من كتب الأخلاق، أو من آداب الدواوين، أو في المواضيع التاريخية. . .
ولعل السبب في هذا التغلب القاهر راجع إلى ما كان مشهوراً في سائر الأوساط الأدبية من تفوق الشعر على النثر. وكان نثر ابن قتيبة، وقد ظهر منبسطاً منسجم المفردات مرسلا ينظر إليه عند المولعين بفن الشعر كما ينظر إلى فتاة الأسطورة الفرنسية (سالدريون)، فقد كانت تفوق أخواتها وأترابها جمالا وذكاء نفس؛ إلا أن بساطة أخلاقها وتواضعها كانا يظهرانها في مظهر الفقر والخصاصة فكانت لذلك منبوذة. وقد بدا للمغرمين بالشعر أن هذا النثر المنبسط المرسل في حاجة إلى زينة وحلي، وهكذا جعلوه نثراً مسجعاً ومع ذلك، فأنه يجمل بنا ألا نشدد الحكم على النثر المسجوع فهو الذي أمد العربية بعدد من جواهرها الأدبية، وهو الذي أكسبها آثاراً فيها من جودة الصناعة ودقة النقش ما يجعلها مثالا تطبيقياً لقاعدة الفن المطلق الخالص، أو ما يعرف عندهم بالفن للفن. . . ولا يمكن مع ذلك نكران العراقيل الخطيرة التي انجرت من هذا النثر للعبارة الصحيحة الكاملة الموفية بحق المعنى بالقياس للنثر وجوهره. ولا يمكن أن نغفل عما كان لهذا النثر من سيئ الأثر على الأسلوب، فقد جر له الفقر وحمل الكتاب على الاقتصار من أساليب الكتابة على الجمل القصيرة من شتات السجع، فأفضى بعدد منهم إلى التضحية بالمعاني واللب في سبيل العناية بالشكل والأسلوب.
ولكن هذا النوع من النثر قد انقضى اليوم عصره وزال سلطانه. فلقد عادت الحرية المطلقة إلى النثر بفضل نهضة الآداب العربية التي بدأت منذ ثلاثة أرباع قرن تقريباً
وفي هذا الباب ذكر بعضهم مراراً عديدة ما للتأثيرات الأجنبية من فضل على هذه النهضة سواء من حيث الأسلوب وفن التعبير، أو من حيث تجديد اللون الأدبي في ذاته، واختيار المواضيع، وهي عوامل لا يمكن نكرانها، ولكنها لم تكن لتؤثر لو لم تصادف رغبة دفينة في الانبعاث، وشوقاً إلى إحياء تراث عظيم قد وقف سيره: تراث القرنين الثاني والثالث من الهجرة. ذلك أن البشر والشعوب لا يقبلون من التأثيرات والعوامل في باب العبقرية إلا ما كان ملائماً للخلاصة الخالصة من عقليتهم مسايراً لما لها من حركة وتوثب. وباختصار لا يقتبس الناس من غيرهم ولا الشعوب من بعضها إلا ما كان حياً في قرارة أنفسهم متوثباً للوجود.
وهاهو ذا اليوم النثر العربي قد تهذبت حواشيه واتضحت آياته وتم تجديده على أيدي الجبلين الأخيرين من الكتب، وبفضل ما بذله هؤلاء من جهود متواصلة، وما صبروا عليه من جد وعمل، فأصبح هذا النثر أهلا لأن يكون أداة تعبير لحضارة عصرية. وبلغ هذا المستوى من الرقي الذي به يتم تأليف الآثار الفنية الخالدة. وإنما نعني بالآثار الفنية الخالدة آثاراً لها من قوة السبك ومن الامتلاء بالحقائق البشرية ما لا تنال منه الترجمة إلى اللغات الأجنبية أو تذهب به؛ (فدون كيشوت) لمؤلفه (سرفانتاس) وكتاب (الحرب والسلم) لـ (تولستوي) وكتاب (كيم) لـ (رويارد كبلنغ) كلها كتب قد حافظت في نصوصها الفرنسية على أوفر قسط من جمالها وروعتها
وإني أؤمل بكل قوة أن يأتي اليوم الذي يوجد فيه تصنيف لمؤلف عربي من المعاصرين ينقل إلى اللغات الأوربية فيقيم لأبناء الغرب الدليل على أن أبناء عدنان وقحطان قادرون مرة أخرى على تنمية كنز الفكر البشري
(عن نشرة الدراسات العربية بالجزائر ترجمة الثريا)
وليم مارسيه
رئيس المعهد العالي للدراسات التونسية
مجلة الرسالة - العدد 641
بتاريخ: 15 - 10 - 1945