الشعوبية والمجوسية
- المجوسية وأطوارها بالإجمال - زرادشت وماني ومزدك - انتشار المذاهب قبل الإسلام وبعده إلى عهد المهدي.
بينا فيما تقدم بعض أسباب الشعوبية التي كانت تدفع الفرس إلى كره العرب والسعي إلى أطراح حكمهم ودينهم، وأشرنا إلى بعض مظاهر هذه الشعوبية ومنها كثرة انتفاضات الفرس على العرب طلباً للاستقلال ببلادهم ودينهم ونظمهم مما يدعونا إلى أن نسمي الحروب التي جرت بين الفريقين من جراء هذه الانتفاضات حروباً استقلالية، لأن الاستقلال هو الهدف الذي كان يرمي إليه الفرس من جراء هذه الانتفاضات، وأشرنا إلى بعض ما كان من سعي الفرس بطريق غير طريق القوة المباشر لكيد العرب وهدم سلطانهم السياسي والديني، ومن ذلك محافظتهم على كل ما هو فارسي يصلح للفخر على العرب به عند المفاخرة. ولم يكن همنا في ذلك كله أن نفصل الكلام في الشعوبية وأسبابها ونتائجها جميعا بل الكشف عن العلاقة بين الشعوبية وبعض مظاهرها حتى لا تكن الزندقة التي نعتقد أنها أحد هذه المظاهر بدعة غريبة عن الشيوعية، ولم نقل ما قلناه آنفاً من الكلام في مظاهرها إلا لبيان أن الزندقة ليست المظهر الوحيد لها بل هي أحد مظاهرها، فكما حاول الفرس كيد العرب بكل الوسائل التي أشرنا إليها، والتي حال ضيق المقام عن الإشارة المفصلة إليها قبل - كذلك حافظوا على ديانتهم القديمة (المجوسية) ولهذه المحافظة أسباب: منها أنها أرض لنفوسهم من المحافظة على كثير من مفاخر فارس القديمة التي فاخروا بها العرب، وأرضى لعقولهم لأن ديانتهم أقرب إليها من الإسلام، فإن المجوسية قد نبتت في البيئة التي نبتوا فيها فهي منهم ولمهم، أما الإسلام فإنه بالرغم من أنه دين عام جاء للعرب والفرس وغيرهم - لم تستطيع عقولهم أن تألفه كما ألفت المجوسية. ومن هذه الأسباب أن المجوسية كانت صلة قوية من الصلات التي تقفهم كتلة واحدة أمام السيل العربي المتدفق على بلادهم والذي قضى على استقلالهم ومملكتهم ونظمهم، وجاء بدين يحاول هدم عقائدهم. ومنها أن المجوسية سلاح خفي فالمحافظة عليها محافظة على سلاح أفتك بالإسلام والعرب وسلطانهم من كثير من الأسلحة التي جربوها فنجحوا حيناً وفشلوا أحياناً، ولم يكن خافياً على دهاتهم ورؤسائهم أثر هذه الديانة من حيث هي صلة قوية بين الفرس ولا من حيث هي سلاح. ولم يكن من الممكن أن تمحي هذه العقيدة من قلوب معتنقيها وعقولهم وهي منهم بمجرد إكراههم على تركها، بل لم يكن ذلك ممكناً حتى لمن دخلوا في الإسلام مخلصين له لآن النفس البشرية بحكم تكوينها تأبى أن يمحى منها عقيدة محواً تاماً لتحل محلها أخرى حلولا تاماً كما هي عليه في صورتها الأولى، بل المجرب والمشاهد والمستطاع أن تتقارب العقيدتان وتتداخلا على حساب كل منهما حتى تنسجما في النفس البشرية بعض الانسجام وهذا مع الإخلاص وعلى أفضل حل مستطاع. والأكثر ألا تتغير من العقيدة القديمة إلا العناوين فتبقى كما هي، ولا يدخل في النفس من العقيدة الجديدة شيء بالرغم من التمسك بعناوينها في الظاهر. وإذن فكيف بمن دخلوا في الإسلام خوفاً أو طمعاً بل كيف بمن استطاعوا أن يؤدوا الجزية للفاتحين مع البقاء على دينهم؟ ذلك لأن المجوس حين فتح فارس اعتبروا كأنهم أهل كتاب، وإن لم يكونوا من الكتابيين: اليهود أصحاب التوراة والنصارى أصحاب الإنجيل - وهؤلاء الكتابيون هم الذين نص القرآن على أخذ الجزية منهم إذا أرادوا البقاء على دينهم، ومع ذلك فقد سن القواد الذين فتحوا بلادهم سنة أهل الكتاب بهم حسب رأى الخليفة لأن كتابهم الذي سنذكره بعد قليل - وإن يكن غير منزل من السماء كما رأى المسلمون - يشبه الكتب السماوية، ومن أجل ذلك فرضت الجزية على من شاء البقاء على مجوسيته واستطاع دفعها أو أعفى منها لسبب من أسباب الإعفاء. فكانت هذه المعاملة من أسباب بقاء المجوسية يضاف إلى عوامل بقائها التي أشرنا إليها من قبل. وقد بقيت مذاهب المجوسية التي سنتكلم فيها بعد قليل قائمة بعد الفتح الإسلامي لفارس زمناً طويلا، فكانت بيوت النيران التي يعظمها المجوس تتقد فيها النيران ولها خدمها وسدنتها في فارس تحت حكم العربي الإسلامي، وحسبنا مثلا خالد بن برمك وهو من أكبر دعاة الدولة العباسية وزعمائها والمشاركين في قيامها وقد استوزره الخليفة العباسي السفاح (132 - 136هـ) بعد قتل أبي سلمة حفص الخلال أول وزير في الإسلام كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وكان خالد هذا كما قال الخضري بك (من مجوس بلغ وكان يخدم النوبهار، وهو معبد للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران فكان برمك وبنوه سدنة له) (محاضراته في الدولة العباسية ص 111). وكان ذلك في أوائل القرن الثاني الهجري بل ظلت بيوت النيران قائمة في غير بلاد الفرس عند موت خالد بن برمك سنة 163هـ في خلافة المهدي الذي نتكلم في الزندقة على عهده، فقد كان على خليج القسطنطينية من بلاد الدولة الرومانية الشرقية يومئذ بيت نار كان قد بناه سابور الجنود بن أردشير حين نزل على الخليج وحاصر القسطنطينية في إحدى حروبه مع الروم، وقد اشترط عليهم بقاءه فبقى إلى خلافة المهدي (158 - 169هـ) الذي نتحدث بموضوع الزندقة في عهده. بل ما زالت عبادة النيران في الهند حتى القرن الثامن الهجري وكان عبادها يسمون (الإكنواطرية)، بل ما تزال في بمباي بالهند طائفة من المجوس يتمسكون بمجوسيتهم ونيرانهم حتى اليوم ويسمون (الفرسيين). بل لقد تأدى بنا البحت إلى مكان لا مناص لنا فيه من السؤال عن المجوسية وعما إذا كان لها من أثر في تعاليم الزنادقة الذين ظهروا في عهد المهدي. ليس من همنا هنا أن نتبسط في شرح المجوسية بل سنجعل القول فيها إجمالا، وسنقتصر في هذا الإجمال على التعاليم التي يمكن أن يكون لها بموضوعنا صلة. وأبادر فأنبه إلى أننا عاجزون عن فهم مدلول المجوسية بغير فهم أطوارها وفهم الرجال الذين تطورت على أيديهم، وإلا فإن معنى المجوسية يظل محوطا بكثير من الغموض والاضطراب، فالحق أن المجوسية إنما هي أطوارها، وهناك تعاليم مشتركة بين كل هذه الأطوار، ولكن هناك أيضاً تعاليم تختص بها بعض الأطوار دون بعض، فإذا أطلقنا المجوسية على التعاليم المشتركة دون غيرها أخرجنا عنها ما هو منها، وإذا أطلقناها على كل التعاليم عامة وخاصة أدخلنا فيها ما ليس منها أو وجدناها أمامنا مضطربة متناقضة في جملتها وتفصيلاتها. كما أبادر فأنبه إلى أني غير مستريح إلى اعتبار المجوسية على اختلاف أطوارها ديانة من الديانات، لا لأنها غير سماوية ولا لأنها متناقضة، ولا لأني مسلم مضطر إلى عدم الاعتراف بها، فقد أعترف بها كدين الصحابة الأولون وعاملوا أهلها كما عومل أصحاب الدينيين السماوية اليهودية والمسيحية، ولكني لا أستريح إلى اعتبارها ديانة لأن الديانات تكون خصيصة سامية، فموسى والمسيح ومحمد - عليهم السلام - الذين أرسلهم الله بأعظم الديانات السماوية كانوا ساميين، وهناك سبب آخر هو أن المجوسية على اختلاف أطوارها لم تستوفي معنى الديانة الكامل كما نفهم من هذه الكلمة عند إطلاقها. وأقرب إلى الصواب في نظري أن ندعوها فلسفة أو نزعة عقلية أو نزعة فنية، فهي لا تهتم كالديانات بحل المشاكل الغيبية، ولا تتطلع إلى ما وراء الطبيعة وفوق العقول بل إنها تحصر اهتمامها حصراً في العالم الذي أمامها وتحاول أن تتعرفه من طريق الحواس، كي تخلص من ذلك إلى الامتزاج به والانغماس فيه، وهذه هي النزعة التي تسلطت على العقل الآري في كل العصور. من طريف ما أذكر هنا أني قرأت في كتاب (في أصول الأدب) للزيات أن فولتير في روايته (زيير) مثل عقد زواج بين رجل وامرأة على الطريقة الإسلامية فوصف أنه كان بأحد المساجد، وقد تسرب اليأس إلى ذهن المؤلف المسيحي من أن العادة في الزواج عند المسيحيين أن يعقد في الكنائس فقاس المساجد عليها في عقود الزواج بين المسلمين وشبيه بهذا المؤلف وما تصور من ذهب من العرب إلى اعتبار المجوسية ديانة كالإسلام واليهودية والنصرانية قبله، ومن ثم وقعت أخطاء كثيرة في فهمها. تنتمي الأمة الفارسية إلى الجنس الآري، وقد سكنت إيران وما حولها قبل الإسلام بقرون كثيرة، وبالرغم من أنا لا نرى كل ما ارتآه الفيلسوف الفرنسي رينان فمن الفروق الكثيرة بين العقل السامي والعقل الآري - لا نستطيع أن ننكر أن ثمة فروقاً بينهما. يرى الفيلسوف الهندي رابندرانات تاجور في كتابه (السدهانا) عند كلامه في أصول الفلسفة البرهمية القديمة أن الآريين القدماء عندما نزلوا الهند وجدوها مكشوفة بغاباتها وأنهارها وغدرانها، فكان من ذلك أن وجدوا أنفسهم جزء مًنها فحاولوا الامتزاج بها والاندماج فيها، وكان لذلك أثره في فلسفتهم وعقولهم وخيالهم وحضارتهم، وكذلك يقال في الآريين الذي نزلوا في إيران والذين يسمون الفرس أو الإيرانيين، فقد أحبوا الطبيعة وعبدوا قواها وحاولوا أن يندسوا فيها بفهمها على اعتبار انهم جزء منها وأنهم مثلها، والاتصال بها من طريق الحواس؛ ومن ثم جاءت فلسفتهم حية لا تؤمن بغير الحواس، وتحرص على التثبت أكثر مما تحرص على الاعتقاد، وتحاول أن تقف منها على أنها جزء منها لا أنها شيء خارج عنها يجب أن تخضع له وتلقى قيادها إليه. ولأمر ما لم تنجح المذاهب المجوسية المختلفة في الانتشار بين العرب الساميين بالرغم مما كان للفرس من سلطان سياسي وأدبي ومالي عليهم، وبالرغم من الاختلاط بينهم قروناً عدة قبل الإسلام ولا سيما في العراق واليمن وبالرغم من أن العرب ظلوا يدينون بديانات وثنية أثناء هذا الاختلاط حتى جاء الإسلام. إن كل ما ورد من مذاهب المجوسية ينبئ أول ما ينبئ عن أن الفرس الآريين عشقوا الطبيعة عشقاً قوياً، وأن هذا العشق القوي هو الذي دفعهم إلى تصورها على الهيئة التي عليها تصورها، والتعبير عنها على النمط الذي به عبروا عنها، وكان أعظم ما لفت أنظارهم الشمس، فقد رأوها أعظم الأشياء، ووجدوا لها من المنافع ما لم يجدوا لغيرها، فقدسوها وأسندوا إليها كثيراً من الصفات الإلهية، ومن أجلها عشقوا النور وعظموه وعبدوه وأسندوا أليه كل خير كما أسندوا إلى ضده الظلام كل شر، أوهم رمزوا بالنور إلى كل خير وبالظلام إلى كل شر، ونحن نعلم ان الرموز تنقلب بتطاول الزمن رسوماً وتقاليد جافة وتمحي منها صبغتها الفلسفية والفنية، وتقدس لذاتها ولم يفهم مدلولها، بل تقدس لذاتها ولو لم تحقق مدلولها المقصود في البدء، ويكون لها بعد جمودها الإجلاء وحدها دون المعاني المستترة وراءها، وهذا ما جرى ويجري في كل زمن على الفلسفيات والديانات والفنون ونحوها ولا سيما على أيدي عوامها، وكل إنسان يرى حتى في الحياة اليومية أمثلة لهذه الانتكاسات العقلية بين العامة بل الخاصة في كل صقع من الأرض. ويظهر لي أن هذه العقائد والنزعات المجوسية أقدم عند الفرس من تاريخهم المعروف، فهناك فرقة من المجوس تسمى الكيو مرتية نسبة إلى كيو مرتْ ترى أن للعالم إلها قديماً خالقاً أضافوه إلى النور وسموه (يزدان) وهو يقارب الله عند غيرهم، وإلهاً مخلوقا - خلقه يزدان - أضافوه إلى الظلمة وسموه (أهرمن) وهو يقارب إبليس عند غيرهم، وقد نسبوا إلى الأول الحياة والحكمة وكل خير وبركة في العالم، كما نسبوا إلى الثاني الموت والفساد والجهل وكل شر وفتنة وضرر وإضرار. ولتقديس الفرس النور بنوا بيوت النيران وعبدوها حتى قبل ظهور زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكمائهم، وسنتحدث به وبمذاهبه إجمالا إن شاء الله فيما سيلي، ونحن حقيقون قبل الكلام في مذهبه إن نقف هنا لنعلق على العرض السابق لما كان قبل زرداتش بما يمكن أن نفهم منه، وينبغي ألا نقف عند هذه العناوين التي تبدو لنا في الآراء المجوسية قبله بل تنطق إلى ما رواءها، وإلا كنا كالعوام وأشباهم ممن يقفون عند الظواهر دون التعمق إلى البواطن. ينبغي أن نفهم من عرض ما قدمنا أن الفرس منذ القدم وحين نزعوا هذا المنزع كانوا أولا عشاقاً للطبيعة، وكانوا يؤمنون بتضاد الأشياء وتعاقبها، ورمزو لذلك بأشد ضدين بروزاً وتعاقباً في كل ما رأوا وهما النور والظلمة، فهذان الضدان أبرز من كل ضدين في الكون، وتعاقبهما أوضح من تعاقب كل ضدين، فهم لم يحاولوا التهجم على عالم الغيب المستور الذي لا تنزع عقولهم - وهم عشاق الطبيعة ومظاهرها المحسوسة إلى الضرب في آفاقه الغامضة، والاهتداء إلى مضامينه المستورة، ومن أجل ذلك نفضل ألا نسمي آثار المجوسية ديانة بل فلسفة لأنها نزعة عقلية بل نزعة فنية شعرية تعبر عن عشق مفرط للطبيعة واستجابة لآثارها وإعجاب بها وطرب لها عن فهم حيناً وعن غير فهم أحياناً، وهذا هو الأليق بالعقلية الفارسية الآرية
محمد خليفة التونسي
مجلة الرسالة | العدد 652
- المجوسية وأطوارها بالإجمال - زرادشت وماني ومزدك - انتشار المذاهب قبل الإسلام وبعده إلى عهد المهدي.
بينا فيما تقدم بعض أسباب الشعوبية التي كانت تدفع الفرس إلى كره العرب والسعي إلى أطراح حكمهم ودينهم، وأشرنا إلى بعض مظاهر هذه الشعوبية ومنها كثرة انتفاضات الفرس على العرب طلباً للاستقلال ببلادهم ودينهم ونظمهم مما يدعونا إلى أن نسمي الحروب التي جرت بين الفريقين من جراء هذه الانتفاضات حروباً استقلالية، لأن الاستقلال هو الهدف الذي كان يرمي إليه الفرس من جراء هذه الانتفاضات، وأشرنا إلى بعض ما كان من سعي الفرس بطريق غير طريق القوة المباشر لكيد العرب وهدم سلطانهم السياسي والديني، ومن ذلك محافظتهم على كل ما هو فارسي يصلح للفخر على العرب به عند المفاخرة. ولم يكن همنا في ذلك كله أن نفصل الكلام في الشعوبية وأسبابها ونتائجها جميعا بل الكشف عن العلاقة بين الشعوبية وبعض مظاهرها حتى لا تكن الزندقة التي نعتقد أنها أحد هذه المظاهر بدعة غريبة عن الشيوعية، ولم نقل ما قلناه آنفاً من الكلام في مظاهرها إلا لبيان أن الزندقة ليست المظهر الوحيد لها بل هي أحد مظاهرها، فكما حاول الفرس كيد العرب بكل الوسائل التي أشرنا إليها، والتي حال ضيق المقام عن الإشارة المفصلة إليها قبل - كذلك حافظوا على ديانتهم القديمة (المجوسية) ولهذه المحافظة أسباب: منها أنها أرض لنفوسهم من المحافظة على كثير من مفاخر فارس القديمة التي فاخروا بها العرب، وأرضى لعقولهم لأن ديانتهم أقرب إليها من الإسلام، فإن المجوسية قد نبتت في البيئة التي نبتوا فيها فهي منهم ولمهم، أما الإسلام فإنه بالرغم من أنه دين عام جاء للعرب والفرس وغيرهم - لم تستطيع عقولهم أن تألفه كما ألفت المجوسية. ومن هذه الأسباب أن المجوسية كانت صلة قوية من الصلات التي تقفهم كتلة واحدة أمام السيل العربي المتدفق على بلادهم والذي قضى على استقلالهم ومملكتهم ونظمهم، وجاء بدين يحاول هدم عقائدهم. ومنها أن المجوسية سلاح خفي فالمحافظة عليها محافظة على سلاح أفتك بالإسلام والعرب وسلطانهم من كثير من الأسلحة التي جربوها فنجحوا حيناً وفشلوا أحياناً، ولم يكن خافياً على دهاتهم ورؤسائهم أثر هذه الديانة من حيث هي صلة قوية بين الفرس ولا من حيث هي سلاح. ولم يكن من الممكن أن تمحي هذه العقيدة من قلوب معتنقيها وعقولهم وهي منهم بمجرد إكراههم على تركها، بل لم يكن ذلك ممكناً حتى لمن دخلوا في الإسلام مخلصين له لآن النفس البشرية بحكم تكوينها تأبى أن يمحى منها عقيدة محواً تاماً لتحل محلها أخرى حلولا تاماً كما هي عليه في صورتها الأولى، بل المجرب والمشاهد والمستطاع أن تتقارب العقيدتان وتتداخلا على حساب كل منهما حتى تنسجما في النفس البشرية بعض الانسجام وهذا مع الإخلاص وعلى أفضل حل مستطاع. والأكثر ألا تتغير من العقيدة القديمة إلا العناوين فتبقى كما هي، ولا يدخل في النفس من العقيدة الجديدة شيء بالرغم من التمسك بعناوينها في الظاهر. وإذن فكيف بمن دخلوا في الإسلام خوفاً أو طمعاً بل كيف بمن استطاعوا أن يؤدوا الجزية للفاتحين مع البقاء على دينهم؟ ذلك لأن المجوس حين فتح فارس اعتبروا كأنهم أهل كتاب، وإن لم يكونوا من الكتابيين: اليهود أصحاب التوراة والنصارى أصحاب الإنجيل - وهؤلاء الكتابيون هم الذين نص القرآن على أخذ الجزية منهم إذا أرادوا البقاء على دينهم، ومع ذلك فقد سن القواد الذين فتحوا بلادهم سنة أهل الكتاب بهم حسب رأى الخليفة لأن كتابهم الذي سنذكره بعد قليل - وإن يكن غير منزل من السماء كما رأى المسلمون - يشبه الكتب السماوية، ومن أجل ذلك فرضت الجزية على من شاء البقاء على مجوسيته واستطاع دفعها أو أعفى منها لسبب من أسباب الإعفاء. فكانت هذه المعاملة من أسباب بقاء المجوسية يضاف إلى عوامل بقائها التي أشرنا إليها من قبل. وقد بقيت مذاهب المجوسية التي سنتكلم فيها بعد قليل قائمة بعد الفتح الإسلامي لفارس زمناً طويلا، فكانت بيوت النيران التي يعظمها المجوس تتقد فيها النيران ولها خدمها وسدنتها في فارس تحت حكم العربي الإسلامي، وحسبنا مثلا خالد بن برمك وهو من أكبر دعاة الدولة العباسية وزعمائها والمشاركين في قيامها وقد استوزره الخليفة العباسي السفاح (132 - 136هـ) بعد قتل أبي سلمة حفص الخلال أول وزير في الإسلام كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وكان خالد هذا كما قال الخضري بك (من مجوس بلغ وكان يخدم النوبهار، وهو معبد للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران فكان برمك وبنوه سدنة له) (محاضراته في الدولة العباسية ص 111). وكان ذلك في أوائل القرن الثاني الهجري بل ظلت بيوت النيران قائمة في غير بلاد الفرس عند موت خالد بن برمك سنة 163هـ في خلافة المهدي الذي نتكلم في الزندقة على عهده، فقد كان على خليج القسطنطينية من بلاد الدولة الرومانية الشرقية يومئذ بيت نار كان قد بناه سابور الجنود بن أردشير حين نزل على الخليج وحاصر القسطنطينية في إحدى حروبه مع الروم، وقد اشترط عليهم بقاءه فبقى إلى خلافة المهدي (158 - 169هـ) الذي نتحدث بموضوع الزندقة في عهده. بل ما زالت عبادة النيران في الهند حتى القرن الثامن الهجري وكان عبادها يسمون (الإكنواطرية)، بل ما تزال في بمباي بالهند طائفة من المجوس يتمسكون بمجوسيتهم ونيرانهم حتى اليوم ويسمون (الفرسيين). بل لقد تأدى بنا البحت إلى مكان لا مناص لنا فيه من السؤال عن المجوسية وعما إذا كان لها من أثر في تعاليم الزنادقة الذين ظهروا في عهد المهدي. ليس من همنا هنا أن نتبسط في شرح المجوسية بل سنجعل القول فيها إجمالا، وسنقتصر في هذا الإجمال على التعاليم التي يمكن أن يكون لها بموضوعنا صلة. وأبادر فأنبه إلى أننا عاجزون عن فهم مدلول المجوسية بغير فهم أطوارها وفهم الرجال الذين تطورت على أيديهم، وإلا فإن معنى المجوسية يظل محوطا بكثير من الغموض والاضطراب، فالحق أن المجوسية إنما هي أطوارها، وهناك تعاليم مشتركة بين كل هذه الأطوار، ولكن هناك أيضاً تعاليم تختص بها بعض الأطوار دون بعض، فإذا أطلقنا المجوسية على التعاليم المشتركة دون غيرها أخرجنا عنها ما هو منها، وإذا أطلقناها على كل التعاليم عامة وخاصة أدخلنا فيها ما ليس منها أو وجدناها أمامنا مضطربة متناقضة في جملتها وتفصيلاتها. كما أبادر فأنبه إلى أني غير مستريح إلى اعتبار المجوسية على اختلاف أطوارها ديانة من الديانات، لا لأنها غير سماوية ولا لأنها متناقضة، ولا لأني مسلم مضطر إلى عدم الاعتراف بها، فقد أعترف بها كدين الصحابة الأولون وعاملوا أهلها كما عومل أصحاب الدينيين السماوية اليهودية والمسيحية، ولكني لا أستريح إلى اعتبارها ديانة لأن الديانات تكون خصيصة سامية، فموسى والمسيح ومحمد - عليهم السلام - الذين أرسلهم الله بأعظم الديانات السماوية كانوا ساميين، وهناك سبب آخر هو أن المجوسية على اختلاف أطوارها لم تستوفي معنى الديانة الكامل كما نفهم من هذه الكلمة عند إطلاقها. وأقرب إلى الصواب في نظري أن ندعوها فلسفة أو نزعة عقلية أو نزعة فنية، فهي لا تهتم كالديانات بحل المشاكل الغيبية، ولا تتطلع إلى ما وراء الطبيعة وفوق العقول بل إنها تحصر اهتمامها حصراً في العالم الذي أمامها وتحاول أن تتعرفه من طريق الحواس، كي تخلص من ذلك إلى الامتزاج به والانغماس فيه، وهذه هي النزعة التي تسلطت على العقل الآري في كل العصور. من طريف ما أذكر هنا أني قرأت في كتاب (في أصول الأدب) للزيات أن فولتير في روايته (زيير) مثل عقد زواج بين رجل وامرأة على الطريقة الإسلامية فوصف أنه كان بأحد المساجد، وقد تسرب اليأس إلى ذهن المؤلف المسيحي من أن العادة في الزواج عند المسيحيين أن يعقد في الكنائس فقاس المساجد عليها في عقود الزواج بين المسلمين وشبيه بهذا المؤلف وما تصور من ذهب من العرب إلى اعتبار المجوسية ديانة كالإسلام واليهودية والنصرانية قبله، ومن ثم وقعت أخطاء كثيرة في فهمها. تنتمي الأمة الفارسية إلى الجنس الآري، وقد سكنت إيران وما حولها قبل الإسلام بقرون كثيرة، وبالرغم من أنا لا نرى كل ما ارتآه الفيلسوف الفرنسي رينان فمن الفروق الكثيرة بين العقل السامي والعقل الآري - لا نستطيع أن ننكر أن ثمة فروقاً بينهما. يرى الفيلسوف الهندي رابندرانات تاجور في كتابه (السدهانا) عند كلامه في أصول الفلسفة البرهمية القديمة أن الآريين القدماء عندما نزلوا الهند وجدوها مكشوفة بغاباتها وأنهارها وغدرانها، فكان من ذلك أن وجدوا أنفسهم جزء مًنها فحاولوا الامتزاج بها والاندماج فيها، وكان لذلك أثره في فلسفتهم وعقولهم وخيالهم وحضارتهم، وكذلك يقال في الآريين الذي نزلوا في إيران والذين يسمون الفرس أو الإيرانيين، فقد أحبوا الطبيعة وعبدوا قواها وحاولوا أن يندسوا فيها بفهمها على اعتبار انهم جزء منها وأنهم مثلها، والاتصال بها من طريق الحواس؛ ومن ثم جاءت فلسفتهم حية لا تؤمن بغير الحواس، وتحرص على التثبت أكثر مما تحرص على الاعتقاد، وتحاول أن تقف منها على أنها جزء منها لا أنها شيء خارج عنها يجب أن تخضع له وتلقى قيادها إليه. ولأمر ما لم تنجح المذاهب المجوسية المختلفة في الانتشار بين العرب الساميين بالرغم مما كان للفرس من سلطان سياسي وأدبي ومالي عليهم، وبالرغم من الاختلاط بينهم قروناً عدة قبل الإسلام ولا سيما في العراق واليمن وبالرغم من أن العرب ظلوا يدينون بديانات وثنية أثناء هذا الاختلاط حتى جاء الإسلام. إن كل ما ورد من مذاهب المجوسية ينبئ أول ما ينبئ عن أن الفرس الآريين عشقوا الطبيعة عشقاً قوياً، وأن هذا العشق القوي هو الذي دفعهم إلى تصورها على الهيئة التي عليها تصورها، والتعبير عنها على النمط الذي به عبروا عنها، وكان أعظم ما لفت أنظارهم الشمس، فقد رأوها أعظم الأشياء، ووجدوا لها من المنافع ما لم يجدوا لغيرها، فقدسوها وأسندوا إليها كثيراً من الصفات الإلهية، ومن أجلها عشقوا النور وعظموه وعبدوه وأسندوا أليه كل خير كما أسندوا إلى ضده الظلام كل شر، أوهم رمزوا بالنور إلى كل خير وبالظلام إلى كل شر، ونحن نعلم ان الرموز تنقلب بتطاول الزمن رسوماً وتقاليد جافة وتمحي منها صبغتها الفلسفية والفنية، وتقدس لذاتها ولم يفهم مدلولها، بل تقدس لذاتها ولو لم تحقق مدلولها المقصود في البدء، ويكون لها بعد جمودها الإجلاء وحدها دون المعاني المستترة وراءها، وهذا ما جرى ويجري في كل زمن على الفلسفيات والديانات والفنون ونحوها ولا سيما على أيدي عوامها، وكل إنسان يرى حتى في الحياة اليومية أمثلة لهذه الانتكاسات العقلية بين العامة بل الخاصة في كل صقع من الأرض. ويظهر لي أن هذه العقائد والنزعات المجوسية أقدم عند الفرس من تاريخهم المعروف، فهناك فرقة من المجوس تسمى الكيو مرتية نسبة إلى كيو مرتْ ترى أن للعالم إلها قديماً خالقاً أضافوه إلى النور وسموه (يزدان) وهو يقارب الله عند غيرهم، وإلهاً مخلوقا - خلقه يزدان - أضافوه إلى الظلمة وسموه (أهرمن) وهو يقارب إبليس عند غيرهم، وقد نسبوا إلى الأول الحياة والحكمة وكل خير وبركة في العالم، كما نسبوا إلى الثاني الموت والفساد والجهل وكل شر وفتنة وضرر وإضرار. ولتقديس الفرس النور بنوا بيوت النيران وعبدوها حتى قبل ظهور زرادشت أول حكيم يعيه التاريخ من حكمائهم، وسنتحدث به وبمذاهبه إجمالا إن شاء الله فيما سيلي، ونحن حقيقون قبل الكلام في مذهبه إن نقف هنا لنعلق على العرض السابق لما كان قبل زرداتش بما يمكن أن نفهم منه، وينبغي ألا نقف عند هذه العناوين التي تبدو لنا في الآراء المجوسية قبله بل تنطق إلى ما رواءها، وإلا كنا كالعوام وأشباهم ممن يقفون عند الظواهر دون التعمق إلى البواطن. ينبغي أن نفهم من عرض ما قدمنا أن الفرس منذ القدم وحين نزعوا هذا المنزع كانوا أولا عشاقاً للطبيعة، وكانوا يؤمنون بتضاد الأشياء وتعاقبها، ورمزو لذلك بأشد ضدين بروزاً وتعاقباً في كل ما رأوا وهما النور والظلمة، فهذان الضدان أبرز من كل ضدين في الكون، وتعاقبهما أوضح من تعاقب كل ضدين، فهم لم يحاولوا التهجم على عالم الغيب المستور الذي لا تنزع عقولهم - وهم عشاق الطبيعة ومظاهرها المحسوسة إلى الضرب في آفاقه الغامضة، والاهتداء إلى مضامينه المستورة، ومن أجل ذلك نفضل ألا نسمي آثار المجوسية ديانة بل فلسفة لأنها نزعة عقلية بل نزعة فنية شعرية تعبر عن عشق مفرط للطبيعة واستجابة لآثارها وإعجاب بها وطرب لها عن فهم حيناً وعن غير فهم أحياناً، وهذا هو الأليق بالعقلية الفارسية الآرية
محمد خليفة التونسي
مجلة الرسالة | العدد 652