محمد حافظ رجب: تنكر الأصدقاء جعل الكتابة مجرد حطام
لم تكن صيحة محمد حافظ رجب «نحن جيل بلا أساتذة» التي أطلقها في مطالع الستينات من القرن الماضي مجرد خبط عشواء، وإنما كانت تجسيدا لهموم جيل يجاهد في أن ينفض عن كاهله ميراث الكتابة التقليدية، ويشق لنفسه طريقه وهويته الخاصة، سواء في الكتابة الروائية أو القصصية. لقد بزغ رجب في تلك الفترة، وأصبح يشكل رأس سهم مؤثرا وفاعلا في تيار كتابة الستينات، لكن سرعان ما أجهضت أمراض الحياة الثقافية المصرية أحلامه، فانزوى وحيدا في ركنه يتحسر على الأيام التي كان يبيع فيها المحمصات أمام إحدى دور السينما في الإسكندرية، ثم مضى في سبيله ينتقل من وظيفة إلى أخرى، وبين الحين والآخر تشده جمرة الكتابة من بئر عزلته، فيطالعنا بقصة قصيرة لا تخلو من نزق الشهوة الأولى. لا يحب محمد حافظ رجب الكلام للصحف، ويبدو أن الصمت مع مرارة السنين أصبح لغته غير المنطوقة. بصعوبة انتزعنا منه هذه الكلمات والتي يكشف فيها عن لمحة شديدة الصدق والخصوصية من حياته. وهنا نص الحوار:
* ما العوامل التي دفعتك إلى كتابة نص مختلف عن ميراث الكتابة المصرية في ذلك الوقت؟
- كنت في أشد التعاسة، وصرت على وشك الانهيار الكامل، فكانت تلك القصص التي ظهر بعضها في مجموعات مشتركة مع الأصدقاء، مثل «عيش وملح» و«غرباء» ثم «الكرة ورأس الرجل». كانت هذه الكتابة بالنسبة لي هي حطام السفينة الذي تمسكت به، وكان علي أن أسبح بحطامي، فسبحت، فكان هذا الوميض الذي قد يكون مختلفا عن الكتابات الموجودة في ذلك الوقت، بالإضافة إلى الافتتان بالكتابة التي كانت تترجم آنذاك بالعظيم مكسيم جوركي، الذي عرفنا على كتابة مختلفة، شديدة الارتباط بالإنسان، وبالحياة في الوقت نفسه..
* في قصص «اشتعال الرأس الميت» و«طارق ليل الظلمات» تبدو الوحشة والعنف وكأنهما المحرك الرئيسي والخفي للسرد، وكأنه ناتج عنهما، إضافة إلى عنف خاص بداخلك، وأنت اشتهرت بخناقاتك في تلك الفترة خاصة خناقتك مع القاص الراحل يحيى الطاهر عبد الله، كيف ترى ذلك؟
- الوحشة هي نتاج وحشية ما رأيته من عنف قاهر. في ذلك الوقت كنت أعمل وأنا صغير أبيع المحمصات بجوار سينما ستراند الشهيرة بمحطة الرمل بالأسكندرية والتي تمتلئ بالبشر وبائعي الجرائد واللصوص والبلطجية والمتسولين، بالإضافة إلى الحروب التي كانت قائمة في ذلك الوقت، من الحرب العالمية الثانية إلى حرب 48، وحرب 56 و67، كل هذا العنف الذي عشته هو الدافع الأول، ناهيك عن ظروف الحياة المريرة والخانقة. أما بالنسبة لخناقتي مع يحيى الطاهر عبد الله فقد كان الصحافي أحمد صالح رئيس تحرير «أخبار النجوم» يعمل ريبورتاجا أدبيا عن جيل بلا أساتذة، لينشر في مجلة «آخر ساعة». بحثت عن أحد ينطبق عليه جيل بلا أساتذة لم أجد إلا يحيى، وأخذ يحيى يرقص ويتحنجل أمام الكاميرا، وكل ما أقول له إهدأ يا يحيى، يقول: أنا باتعالج نفسيا. وعند قهوة الجيزة فوجئت بقريبه الذي أحضره معه يحتضنني، ويحيى ينهال علي ضربا، وعندما استطعت الإفلات منهما أسرعت وكسرت زجاجة بيبسي وجريت وراءهما في الشارع، لكن التحقيق في هذه الواقعة ودوافعها لم يكتمل.. لكنها خلفت في نفسي جرحا عميقا آنذاك.
* من في جيلك من الكتاب تحبهم وتعتز بكتاباتهم، ومن الذي أثر فيك؟
- كثير من الكتاب، لكن الأهم إبراهيم أصلان، وعبد الحكيم قاسم، لكن الذي أثر في بقوة هو الكاتب المصري العظيم يوسف إدريس، الذي لم يؤثر في وحدي، لكنه أثر في كل الأجيال التالية له.
* تقطيع الزمن في قصصك، وإيقاع المونتاج هل بسبب تأثرك بالسينما، أم بأشياء أخرى؟
- لقد أوضحت لك قبل ذلك، أنني كنت أعمل بجوار سينما ستراند، أشاهد كل فيلم جديد يعرض، وكان بجوارها سينما الهمبرا. كانت الأفلام - إلى حد بعيد- هي بديل الروايات، كانت الرسوم المتحركة تجذبني بخاصة «توم وجيري» الذي قلب موازين الأمور، القط الأليف في الواقع أراه على الشاشة شرسا، والفأر الجبان الرعديد له من الذكاء والحيلة مما يجعله في مأزق، تعاطفنا مع الفأر على الشاشة، بالإضافة إلى السينما الأميركية القائمة على التشويق والإثارة، حتى لو كان الفيلم حدوتة مكررة، هذا يوضح السرعة في القص والشخوص المضغوطة، وكأنها شخوص كرتونية. ومن ثم التقطيع الزمني يا سيدي نتاج أنفاس لاهثة متحشرجة.
* هل تتفق مع مقولة أن هذا الزمن هو «زمن الرواية». وهل تعيش هذا الزمن بالفعل، ثم لماذا لم تكتب رواية؟
- هذا ليس زمن الرواية، بل زمن الكاميرا، الكاميرا مازالت هي العلاقة المتفوقة في عصر يندفع بجنون إلى الهاوية. أما بخصوص الرواية، فقد كتبت الكثير من الروايات لكنها مقصوصة الجناحين حتى يمكنها أن تنشر، ويمكنك أن تقول إن قصصي هي روايات.
* البعض يرى أن القصة القصيرة فن أوشك على الانقراض، كيف ترى ذلك؟
- المستقبل المقبل من صنع القصة القصيرة، فهي قادرة على تجسيد علاقة العصر الذي يندفع إلى غاياته بلا أثقال وحرج، وأنفاس مجهضة مثلما يحدث في الرواية. القصة القصيرة هي أكثر الأشكال قربا لروح الإنسان، لكن يجب الانتباه إلى أنني أكتب وأتكلم عن القص الجميل القادر على القبض على جوهر الإنسان، وليس الرثاثة وضحالة الموهبة.
* برغم وحشية عالمك القصصي إلا أن الملاحظ أنك تتميز بشعرية اللغة، كيف استطعت التوفيق بين الاثنين؟
- الكابوس شبح الإنسانية السائرة باهتزاز عميق وزعيق، والشيطان الأكبر هو هذه القوة المدمرة المسيطرة على أعناق الأمم والشعوب والإنسان الفرد، الرصاص يدوي في كل مكان، إنه مشهد يوم عظيم، الكابوس سيد الموقف الآن، سواء كان في العراق أو السودان أو الهند أو أفغانستان. ولغتي الشاعرية، كما تقول، هي لهاثي في هذا في العالم الموشوم بالوشم الوحشي الذي حاولت من خلالها أن أهرب من قتامة هذا العالم والرؤى السوداوية والحروب والقتلة والجماجم التي أصبحت سمة أساسية في هذا العصر.
* في «طارق ليل الظلمات» كان السرد أكثر انتظاما واكتمالا وأقل تفكيكا من «الكرة ورأس الرجل» لماذا؟
- أنا ولدت في الإسكندرية الكوزموباليتانية، إسكندرية دأرييل وكفافيس، ورأيت وسمعت اليونانيين، والمالطيين، والإيطاليين، والفرنسيين، بالإضافة إلى الفقراء من الصعايدة والنوبيين والفلاحين والمغاربة الذين قذفت بهم عوامل الطرد الاقتصادي. كنت مطاردا في الأحياء الشعبية «بائع سريح» من الشرطة، وحاولت أن أعبر عن هذا العالم المسحوق تحت وطأة الفقر في «مخلوقات براد الشاي» و«الكرة ورأس الرجل». كما كنت في ذلك الوقت شابا أعيش الحياة وبي رغبة في امتلاكها، لكني كنت أحس بأنني تحت المقصلة تماماً. أما الآن فقد هد القلب التعب وخشع إلى الله وحده. اليوم أنا في معترك جديد. لقد أخذني الشيطان كثيرا ولكن الآن أنا في مفترق طرق حقيقي لا لهو فيه ولا خداع.
* بالنسبة لعبثية السرد والبناء الروائي..
هل تأثرت في ذلك بتيار العبث في المسرح العالمي، الذي كان مزدهراً في ذلك الوقت؟
- العبث صرخة أوروبا ضد اندحار القيم، إنها قفزة هائلة لكنها بائسة، الأيدي والأرجل ممزقة. وعندما وصل إلينا تيار العبث من خلال الترجمات، تأثرنا به بشكل عميق وصرنا نباهي بأننا امتلكنا هذا العالم وكأننا نحن الذين صنعناه، ورغم ذلك أنا متفائل وستتبلور الرؤى شيئا فشيئا وسنخرج من قارورة العسل المر، ونحن أشد عزما وقدرة.
* انضممت إلى الماركسيين بين 54 و56 ما الظروف التي دفعت بك إلى ذلك خاصة أن لك ميولا إسلامية؟
- انضممت لمدة أسبوع واحد في خلية يرأسها الدكتور حسونة حسين أحد كوادر الحزب حتى قابلت الناقد الراحل علي شلش. كنت أقابله في المقهى وفوجئت به يقول للموجودين «يا جماعة حافظ رجب انضم لتنظيم ماركسي»، طبعا أنا ذعرت وقلت «هو فيه تنظيم سري يبقي علنيا بالشكل ده». ثم في عام 56 كونت رابطة في مقهى الفنجلي بالأسكندرية وانضم إليها عدد كبير من الماركسيين. وحين امتلأت القهوة بالمخبرين استدعاني بعد ذلك ممدوح سالم وزير الداخلية ورئيس الوزراء في عهد السادات، وكان في ذلك الوقت ضابطا في مديرية أمن الإسكندرية وقال لي: «إن الشيوعيين يحومون حولك اليومين دول»، قلت له «لا يوجد حد يقدر يلفني»، قال «طيب لو أي حد قرب منك منهم بلغني فورا»، قلت له حاضر، وتلك كانت حكايتي معهم.
* ماذا تفعل الآن؟
- لا شيء أسمع النشرات الإخبارية وكل يوم أزداد تعاسة من الوضع الذي وصلنا إليه في العراق وفلسطين وأفغانستان، وأنشر قليلا من القصص كل حين وآخر في مجلة الثقافة الجديدة الذي يرأس تحريرها الناقد سامي خيشة الذي احتفى بي قبل ذلك ونشر لي «طارق ليل الظلمات».
* من أعماله:
- «عيش وملح» مجموعة قصصية بالاشتراك مع الدسوقي فهمي، صدرت في الستينات.
لم تكن صيحة محمد حافظ رجب «نحن جيل بلا أساتذة» التي أطلقها في مطالع الستينات من القرن الماضي مجرد خبط عشواء، وإنما كانت تجسيدا لهموم جيل يجاهد في أن ينفض عن كاهله ميراث الكتابة التقليدية، ويشق لنفسه طريقه وهويته الخاصة، سواء في الكتابة الروائية أو القصصية. لقد بزغ رجب في تلك الفترة، وأصبح يشكل رأس سهم مؤثرا وفاعلا في تيار كتابة الستينات، لكن سرعان ما أجهضت أمراض الحياة الثقافية المصرية أحلامه، فانزوى وحيدا في ركنه يتحسر على الأيام التي كان يبيع فيها المحمصات أمام إحدى دور السينما في الإسكندرية، ثم مضى في سبيله ينتقل من وظيفة إلى أخرى، وبين الحين والآخر تشده جمرة الكتابة من بئر عزلته، فيطالعنا بقصة قصيرة لا تخلو من نزق الشهوة الأولى. لا يحب محمد حافظ رجب الكلام للصحف، ويبدو أن الصمت مع مرارة السنين أصبح لغته غير المنطوقة. بصعوبة انتزعنا منه هذه الكلمات والتي يكشف فيها عن لمحة شديدة الصدق والخصوصية من حياته. وهنا نص الحوار:
* ما العوامل التي دفعتك إلى كتابة نص مختلف عن ميراث الكتابة المصرية في ذلك الوقت؟
- كنت في أشد التعاسة، وصرت على وشك الانهيار الكامل، فكانت تلك القصص التي ظهر بعضها في مجموعات مشتركة مع الأصدقاء، مثل «عيش وملح» و«غرباء» ثم «الكرة ورأس الرجل». كانت هذه الكتابة بالنسبة لي هي حطام السفينة الذي تمسكت به، وكان علي أن أسبح بحطامي، فسبحت، فكان هذا الوميض الذي قد يكون مختلفا عن الكتابات الموجودة في ذلك الوقت، بالإضافة إلى الافتتان بالكتابة التي كانت تترجم آنذاك بالعظيم مكسيم جوركي، الذي عرفنا على كتابة مختلفة، شديدة الارتباط بالإنسان، وبالحياة في الوقت نفسه..
* في قصص «اشتعال الرأس الميت» و«طارق ليل الظلمات» تبدو الوحشة والعنف وكأنهما المحرك الرئيسي والخفي للسرد، وكأنه ناتج عنهما، إضافة إلى عنف خاص بداخلك، وأنت اشتهرت بخناقاتك في تلك الفترة خاصة خناقتك مع القاص الراحل يحيى الطاهر عبد الله، كيف ترى ذلك؟
- الوحشة هي نتاج وحشية ما رأيته من عنف قاهر. في ذلك الوقت كنت أعمل وأنا صغير أبيع المحمصات بجوار سينما ستراند الشهيرة بمحطة الرمل بالأسكندرية والتي تمتلئ بالبشر وبائعي الجرائد واللصوص والبلطجية والمتسولين، بالإضافة إلى الحروب التي كانت قائمة في ذلك الوقت، من الحرب العالمية الثانية إلى حرب 48، وحرب 56 و67، كل هذا العنف الذي عشته هو الدافع الأول، ناهيك عن ظروف الحياة المريرة والخانقة. أما بالنسبة لخناقتي مع يحيى الطاهر عبد الله فقد كان الصحافي أحمد صالح رئيس تحرير «أخبار النجوم» يعمل ريبورتاجا أدبيا عن جيل بلا أساتذة، لينشر في مجلة «آخر ساعة». بحثت عن أحد ينطبق عليه جيل بلا أساتذة لم أجد إلا يحيى، وأخذ يحيى يرقص ويتحنجل أمام الكاميرا، وكل ما أقول له إهدأ يا يحيى، يقول: أنا باتعالج نفسيا. وعند قهوة الجيزة فوجئت بقريبه الذي أحضره معه يحتضنني، ويحيى ينهال علي ضربا، وعندما استطعت الإفلات منهما أسرعت وكسرت زجاجة بيبسي وجريت وراءهما في الشارع، لكن التحقيق في هذه الواقعة ودوافعها لم يكتمل.. لكنها خلفت في نفسي جرحا عميقا آنذاك.
* من في جيلك من الكتاب تحبهم وتعتز بكتاباتهم، ومن الذي أثر فيك؟
- كثير من الكتاب، لكن الأهم إبراهيم أصلان، وعبد الحكيم قاسم، لكن الذي أثر في بقوة هو الكاتب المصري العظيم يوسف إدريس، الذي لم يؤثر في وحدي، لكنه أثر في كل الأجيال التالية له.
* تقطيع الزمن في قصصك، وإيقاع المونتاج هل بسبب تأثرك بالسينما، أم بأشياء أخرى؟
- لقد أوضحت لك قبل ذلك، أنني كنت أعمل بجوار سينما ستراند، أشاهد كل فيلم جديد يعرض، وكان بجوارها سينما الهمبرا. كانت الأفلام - إلى حد بعيد- هي بديل الروايات، كانت الرسوم المتحركة تجذبني بخاصة «توم وجيري» الذي قلب موازين الأمور، القط الأليف في الواقع أراه على الشاشة شرسا، والفأر الجبان الرعديد له من الذكاء والحيلة مما يجعله في مأزق، تعاطفنا مع الفأر على الشاشة، بالإضافة إلى السينما الأميركية القائمة على التشويق والإثارة، حتى لو كان الفيلم حدوتة مكررة، هذا يوضح السرعة في القص والشخوص المضغوطة، وكأنها شخوص كرتونية. ومن ثم التقطيع الزمني يا سيدي نتاج أنفاس لاهثة متحشرجة.
* هل تتفق مع مقولة أن هذا الزمن هو «زمن الرواية». وهل تعيش هذا الزمن بالفعل، ثم لماذا لم تكتب رواية؟
- هذا ليس زمن الرواية، بل زمن الكاميرا، الكاميرا مازالت هي العلاقة المتفوقة في عصر يندفع بجنون إلى الهاوية. أما بخصوص الرواية، فقد كتبت الكثير من الروايات لكنها مقصوصة الجناحين حتى يمكنها أن تنشر، ويمكنك أن تقول إن قصصي هي روايات.
* البعض يرى أن القصة القصيرة فن أوشك على الانقراض، كيف ترى ذلك؟
- المستقبل المقبل من صنع القصة القصيرة، فهي قادرة على تجسيد علاقة العصر الذي يندفع إلى غاياته بلا أثقال وحرج، وأنفاس مجهضة مثلما يحدث في الرواية. القصة القصيرة هي أكثر الأشكال قربا لروح الإنسان، لكن يجب الانتباه إلى أنني أكتب وأتكلم عن القص الجميل القادر على القبض على جوهر الإنسان، وليس الرثاثة وضحالة الموهبة.
* برغم وحشية عالمك القصصي إلا أن الملاحظ أنك تتميز بشعرية اللغة، كيف استطعت التوفيق بين الاثنين؟
- الكابوس شبح الإنسانية السائرة باهتزاز عميق وزعيق، والشيطان الأكبر هو هذه القوة المدمرة المسيطرة على أعناق الأمم والشعوب والإنسان الفرد، الرصاص يدوي في كل مكان، إنه مشهد يوم عظيم، الكابوس سيد الموقف الآن، سواء كان في العراق أو السودان أو الهند أو أفغانستان. ولغتي الشاعرية، كما تقول، هي لهاثي في هذا في العالم الموشوم بالوشم الوحشي الذي حاولت من خلالها أن أهرب من قتامة هذا العالم والرؤى السوداوية والحروب والقتلة والجماجم التي أصبحت سمة أساسية في هذا العصر.
* في «طارق ليل الظلمات» كان السرد أكثر انتظاما واكتمالا وأقل تفكيكا من «الكرة ورأس الرجل» لماذا؟
- أنا ولدت في الإسكندرية الكوزموباليتانية، إسكندرية دأرييل وكفافيس، ورأيت وسمعت اليونانيين، والمالطيين، والإيطاليين، والفرنسيين، بالإضافة إلى الفقراء من الصعايدة والنوبيين والفلاحين والمغاربة الذين قذفت بهم عوامل الطرد الاقتصادي. كنت مطاردا في الأحياء الشعبية «بائع سريح» من الشرطة، وحاولت أن أعبر عن هذا العالم المسحوق تحت وطأة الفقر في «مخلوقات براد الشاي» و«الكرة ورأس الرجل». كما كنت في ذلك الوقت شابا أعيش الحياة وبي رغبة في امتلاكها، لكني كنت أحس بأنني تحت المقصلة تماماً. أما الآن فقد هد القلب التعب وخشع إلى الله وحده. اليوم أنا في معترك جديد. لقد أخذني الشيطان كثيرا ولكن الآن أنا في مفترق طرق حقيقي لا لهو فيه ولا خداع.
* بالنسبة لعبثية السرد والبناء الروائي..
هل تأثرت في ذلك بتيار العبث في المسرح العالمي، الذي كان مزدهراً في ذلك الوقت؟
- العبث صرخة أوروبا ضد اندحار القيم، إنها قفزة هائلة لكنها بائسة، الأيدي والأرجل ممزقة. وعندما وصل إلينا تيار العبث من خلال الترجمات، تأثرنا به بشكل عميق وصرنا نباهي بأننا امتلكنا هذا العالم وكأننا نحن الذين صنعناه، ورغم ذلك أنا متفائل وستتبلور الرؤى شيئا فشيئا وسنخرج من قارورة العسل المر، ونحن أشد عزما وقدرة.
* انضممت إلى الماركسيين بين 54 و56 ما الظروف التي دفعت بك إلى ذلك خاصة أن لك ميولا إسلامية؟
- انضممت لمدة أسبوع واحد في خلية يرأسها الدكتور حسونة حسين أحد كوادر الحزب حتى قابلت الناقد الراحل علي شلش. كنت أقابله في المقهى وفوجئت به يقول للموجودين «يا جماعة حافظ رجب انضم لتنظيم ماركسي»، طبعا أنا ذعرت وقلت «هو فيه تنظيم سري يبقي علنيا بالشكل ده». ثم في عام 56 كونت رابطة في مقهى الفنجلي بالأسكندرية وانضم إليها عدد كبير من الماركسيين. وحين امتلأت القهوة بالمخبرين استدعاني بعد ذلك ممدوح سالم وزير الداخلية ورئيس الوزراء في عهد السادات، وكان في ذلك الوقت ضابطا في مديرية أمن الإسكندرية وقال لي: «إن الشيوعيين يحومون حولك اليومين دول»، قلت له «لا يوجد حد يقدر يلفني»، قال «طيب لو أي حد قرب منك منهم بلغني فورا»، قلت له حاضر، وتلك كانت حكايتي معهم.
* ماذا تفعل الآن؟
- لا شيء أسمع النشرات الإخبارية وكل يوم أزداد تعاسة من الوضع الذي وصلنا إليه في العراق وفلسطين وأفغانستان، وأنشر قليلا من القصص كل حين وآخر في مجلة الثقافة الجديدة الذي يرأس تحريرها الناقد سامي خيشة الذي احتفى بي قبل ذلك ونشر لي «طارق ليل الظلمات».
* من أعماله:
- «عيش وملح» مجموعة قصصية بالاشتراك مع الدسوقي فهمي، صدرت في الستينات.