قد كان لي ولع بالتجوال في البراري، ففيها كان الهواء مما يلذ امتلاء الصدر منه، وفي سمائها صفاء يروق الأبصار لا تدانيه زرقة البحر إلا في أيام الخريف الوادعة، ورمال الصحراء أخاذة باللب في لآلائها واختلاف لون حصاها، فإذا ما جرت عليها قطرات من الغيث في الشتاء غسلت عنها ما يغشاها من التراب، فإذا هي تزري باليواقيت وللآلئ، وإذا أسعد الإنسان الحظ فجاس خلال تلك الرمال في عقب سيل لا تزال منه بقية تجري في جدول رأى منها المعجب والفاتن حتى ليتمثل العذراء الحإليه وقد راعها ذلك الحصى فلمست جانب عقدها النضيد. وقد جمع حب ذلك التجوال بين قلوب مختلفة الأصول متباينة الطباع، يرضعون جمعيهم معا من ثدي تلك الطبيعة الجميلة حتى لقد نما في قلوبهم إخاء هو أقوى من الإخاء المعتاد إذ قد عرف كل منهم أخاه وكشف عن مخبوئه في تلك المعاشرة الطويلة، واعتاد كل منهم أن يكون مستعدا لان يبذل كل شيء حتى حياته ذاتها في سبيل الإخلاص لصديقه. لا عجب أن تكون الصحراء مهد جلائل الأمور!
وقد قصدت يوما مع صديق من الانجليز، وهو ممن يهيمون بالصحراء هياما، وقصدنا معا إلى برية سيناء نقطع الفيافي بمركبة القرن العشرين ونطوي أميالها مرحلة بعد مرحلة، فكانت صحبة عجيبة من كل الوجوه.
قلت له في فترة من فترات ما بين التفكير المتصل: كأني بك من أبناء الصحراء يا مستر لي. فأن حبك للصحراء وصبرك على مشتقاتها ينمان عن بدوي في اصله)
فقال لي باسما (إن البدوي وجواب البحار أخوان، فإذا لم يكن في دم البدوي فان في بغير شك دما من جوابي البحار)
قال لي ذلك وهو يحدق بنظرة في ناحية من الصحراء إلى يسارنا ونحن نطوي مراحلها، ثم قال لي:
انظر إلى هذا الموضع. كأني به فناء بيت من بيوت الجان، إنني اشعر بانجذاب عجيب نحوه. ألا ترى أن نقف هنا قليلا؟ أن التمتع بالصحراء لا يكون إلا إذا سرنا فيها كما كان يسير البدو على الإبل أو الحمير أو ما سوى ذلك من وسائل السير الوئيد. أما هذه السيارات السريعة فليست هنا إلا دخيلة غريبة. إنها تدخل السرعة والعجلة والقلق إلى ارض خلقها الله لتكون وادعة متئدة مطمئنة
قال هذا وعرج إلى الموضع الذي أشار إليه وأوقف دولاب السيارة والقينا عصا السير وجلسنا إلى جانب صخرة قائمة كأنها المائدة، واعددنا عدة الطعام إذ كان وقته قد أظلنا، وكان سمرنا على ذلك الطعام حديثا أوحاه إلينا الموضع. وأي حديث لمن يسير في برية سينا أقرب من حديث قوم موسى؟ لقد كان المكان يوحى به وحيا فاستغرق خيالنا حتى كأننا كنا نعيش في ذلك الوقت ونحس بما كان ينبض به قلب أهله
كان ذلك الموضع متسعا من الأرض تحيط به تلال من كل نواحيه إلا من جهة الغرب المائل إلى الشمال، وكان متدرجا في العلو من خارجه إلى داخله، ولا يكاد تمر عليه ساعة من النهار وليس في ناحية منه ظل ممتد. وكانت الرياح كلها محجوبة عنه إلا الرخاء التي تتهادى إليه من الشمال الغربي. فجلسنا به جلسة هنيئة زادت حديثنا اطمئنانا واستغراقا.
وخاطبت صاحبي في شيء من الدعابة قائلا (كم شهدت هذه البقعة من مناظر جليلة! أترى قد شهد موضعنا هذا بعض مواقف بني إسرائيل يحرجون صدر موسى بذكريات عدس مصر وفولها؟ فأجاب صاحبي (لقد كنت أفكر في هذه اللحظة في أن مكاننا هذا لابد قد وطئته أقدام من خرجوا من مصر مع موسى) وكنا قد فرغنا عند ذلك من أكلنا فقمنا نمشي رويدا ونتحدث. وحدث أن ضربت بقدمي حجرا من الأحجار على عادة كانت بي منذ صغري كنت اعتدتها في عبث الصبا، وما كان اشد عجبي إذ رأيت أن ذلك لم يكن حجرا بل كان قطعة من عظام جمجمة آدمية.
إذن لقد شهد ذلك الموضع حادثة إنسانية! وإذن فان لذلك الموضع قصته! فوقفت حيث كنت وملت إلى الموضع لأفحص موضع تلك العظمة فإذا بي أبصر عظمة أخرى قد طمرها الرمل. فتناولت حجرا وجعلت أحفر ما حولها لاستخرجها فرأيتها تتصل بهيكل إنساني. فاعتراني انقباض شديد، واسترجعت ثم ألقيت الرمال التي كنت استخرجتها لكي أعيد لتلك العظام مدفنها، وفيما أنا في ذلك إذ بدا لي سطح من الخشب الصقيل. فتركت ما كنت فيه وأقبلت على ذلك الخشب أفحص أمره، وإذا به غطاء صندوق صغير طوله نحو نصف متر في عرض اقل من ذلك بقليل وعمق أقل من عرضه، وكان صديقي عند ذلك قد بدأ يقبل على مساعدتي إذ رآني قد عثرت على شيء يستحق الاهتمام، فاستخرجنا الصندوق من مكانه ونفضنا عنه الرمال، ونزعنا عنه غطاءه فإذا فيه مجموعة من الجلود الرقيقة وقد دب إليها شيء من الفساد من اثر البلى. وكانت على تلك الجلود كتابة يميل لونها إلى السواد، وكانت بقلم غريب
انتهى بنا السير بعد ذلك إلى غايتنا، ثم عدنا وكان ذلك الصندوق قطب حديثنا في رجعتنا إلى القاهرة. ففرضنا فيه الفروض المختلفة وتناقشنا في قيمة ما فيه حتى بلغنا نهاية رحلتنا، فكان أول هم لنا أن نطرق باب صديق من علماء الآثار ليساعدنا على كشف ما وراء ذلك الطلسم.
نظر صديقنا العالم إلى صحيفة منها نظره الفاحص ثم قال: (إن هذا خط كاتب مصري. وهذا المداد مما كان يستعمله الكتاب في عصر الإمبراطورية الثانية في المحابر النحاسية التي كانوا يضعونها في مناطقهم. وهذا هو الحرف (الديموطيقي) الذي كانوا يكتبون به في الدواوين عند ذلك
قال هذا ونظر إلى أول سطر من الصفحة طويلا ثم علت وجهه ابتسامة الظفر وقال: (لم يكن كاتب هذه السطور مصريا بل هو (شاءول اللاوي) أحد بني إسرائيل الذين خرجوا مع موسى من مصرفي أيام (منفتاح) فرعون مصر، وقد كتبها بلغة قومه العبرانيين كاتب بارع
ولأخذ يترجم لنا الصحائف واحدة بعد واحدة فإذا هي آية العجب وفريدة الصدف وها هي:
(أنا شاءول بن شمويل بن شمعون اللاوي من عشيرة اللاويين قادة إسرائيل وساداتهم. كنت بمصر مع قومي وكنا في أرض جاشان مهد أبي وجدي، والأرض التي دفنت فيها عظامهما. كنت في أول الأمر صاحب خاتم الأمير (راحا ترع) ثم حدثت الحوادث المشئومة المعروفة فطردت كما طرد كل قومي من خدمة المصريين، ووضعت على رقابنا العبودية. وكنت أنا ممن حشروا لعمل اللبن من الطين لبناء مدينة (بيثوم) تسوقنا سياط المقدمين ورؤساء العمل ذوي الأيدي الصلبة والقلوب التي مثل خشب السنط.
وكانت مشقة العمل تزيد من يوم إلى يوم، وكلما مر شتاء علينا جاء شتاء آخر أشد منه برداً، فامتلأت نفوس الشعب الإسرائيلي من الغيظ والحقد. وبدءوا يسأمون حياتهم، ويتخلصون منها بضرب المقدمين ورؤساء العمل المصريين. وكان الذي يضرب منهم أحد هؤلاء يموت تحت السياط، وهذه ميتة أهون من الحياة الشاقة التي كان أبناء إسرائيل يحيونها.
وقد جاء رجل من أولاد عمي بني لاوي اسمه (موسى) كان هاربا من مصر من زمن. وقد عرفته كما عرفه كثيرون من أبناء أعمامي. وكان رجلا رحيما يبكي كلما رأى أحد بني إسرائيل يضرب ويصيح وتجري الدماء من جسمه، فكان في أول الأمر يزورنا في الليل ليواسينا، ولا يظهر في النهار مخافة أن يراه أحد فيعرفه، فاحبه الشعب المسكين وصار كل فرد منه يرضى أن يقتل في سبيل حمايته. وأقام سنين وهو على تلك الحال، وجعل يفهم الشعب أن وراء البرية أرضاً فسيحة يقدر أن يعيش فيها حراً ويجد فيها ماء وطعاماً. ولكن الشعب كان يخاف من البرية ولا يرضى أن يخرج من أرض مصر التي فيها عظام آبائه.
ولكن فرعون مصر عرف من جواسيسه أن هناك رجلا عبرانيا يحرض العبرانيين على العصيان والخروج. وقال له خدمه وعبيده إنه السبب في تجمع الإسرائيليين وتجمهرهم ومطالبتهم بعبادة إلههم على طريقتهم الخاصة. وقالوا له ان العبرانيين يتظاهرون بأنهم يريدون أن يسمح لهم بالخروج إلى البرية لتقديم الضحايا لألههم بعيداً عن أرض مصر، والحقيقة أنهم يريدون الذهاب إلى أرض الفلسطينيين والحيثيين لمساعدتهم على غزو مصر
فقال لهم فرعون: (وماذا ترون؟) فقال له عبيده (نرى أن تشغلهم وتضيق عليهم الخناق، فمر بمنع التبن عنهم حتى يضطروا لجمع الأعشاب الجافة ليصنعوا بها اللبن وطالبهم بأن يقدموا كل يوم ما اعتادوا ان يقدموه من قبل من اللبن اللازم للبناء)
فأمر فرعون بذلك ومنع خدمه من صرف التبن للشعب المسكين، وطالبهم بأن يقدموا له كل يوم نفس المقدار الذي كانوا يصنعونه من قبل من اللبن، مع قيامهم بجمع الأعشاب الجافة لاستعمالها بدل التبن الذي منع عنهم. فكان هذا الأمر غير ممكن. فعصا الشعب وامتنع وتجمهر وصاح بفرعون وخدم فرعون. وكان ابن عمي موسى يحرضا على العصيان ويأمرنا بالخروج معه إلى البرية، ولكنا كنا نخاف من ذلك فالموت مخيف وإن كانت العبودية صعبة.
وكثر التعذيب والضرب والقتل فينا حتى أننا ضجرنا وفزعنا، وسمعنا كلمة موسى وقمنا لنخرج إلى البرية جميعا نساؤنا وأطفالنا على الحمير، وقد لبس النساء الحلي التي استعرنها من جاراتهن المصريات. وفي الليلة الموعودة خرجنا نغطي وجه الأرض نحو البرية.
وكان الخوف يملأ قلوبنا من جنود فرعون أن تلحق بنا، فعبرنا إلى الصحراء من أقرب طريق، وخضنا في البحر بإذن الله وبركة ذلك الرجل المبارك (موسى). وتنفسنا الصعداء عند العيون التي حولها النخيل، عندما رأينا جيش فرعون قد عجز عن اللحاق بنا وعاد أدراجه بعد أن غرق منه عدد كبير. ويقال ان فرعون نفسه كان من الذين غرقوا في المياه. غير أن الحرية لا تعطي طعاما ولا ماء. فلما أكلنا الزاد الذي كان معنا بدأنا نفكر في موقفنا، وخرجنا إلى (موسى) نطلب منه أن يعطينا خبزا ولحماً.
أعطانا موسى كل ما معه، وقال لنا اقتصدوا ولا تأكلوا كثيرا ولكنا لم نقدر أن نمنع الأطفال والنساء من الأكل والشرب، ولم نقدر أن نمنع بكاءهم عندما نفذ ما كان معنا من الزاد، فقمنا بعد أسبوع من الجوع والعطش وطلبنا من (موسى) أن يطعمنا. وصرخنا له (أعدنا إلى مصر. أعدنا إلى العبودية. الإنسان قد يحيا مع العبودية. ولكنه يموت حتما بلا طعام. نريد الحياة ولو مع العبودية. لا نريد الموت في هذه الحرية وسط الصحراء).
لقد غضب موسى وظهر عليه الغيظ، وكلمنا كثيرا ولكن لم يكن لقوله ذلك الأثر الذي اعتدنا أن نجده في نفوسنا عندما كنا نسمع ألفاظه. وزاد صراخنا وعزم بعضنا على الرجوع.
وفي الصباح التالي ذهبنا إلى موسى لنخبره بأننا سنعود إلى مصر لنأكل من طعامها، فوجدناه يصلي ثم أقبل علينا ووجهه يتهلل وقال (اذهبوا إلى ذلك الوادي) وأشار بيده إلى جهة الشروق. (وهناك تجدون كثيرا من الحب على الأرض. فاطحنوه وكلوا منه فانه مثل الحنطة إذا عجنت بالزيت) ثم أشار إلى السماء وقال (انظروا إلى هذه الطيور الكثيرة الآتية من البحر. أنها تقع على الأرض عند أول وصولها إلى البحر فاذبحوا منها وكلوا فان هذا رزق حلال قد أرسله الله إليكم)
سرنا بعد ذلك في البرية نأكل من هذا الطعام ولكنا كنا كل يوم أشقى مما كنا في اليوم الذي قبله. فأين طعام مصر؟ وأين زيتها الكثير وأعشابها الخضراء المسمنة؟ وأين ماؤها العذب.
وخيراتها العميمة؟ حقا لقد كنا فيها معذبين، وكنا عبيداً نسام الخسف والذلة، ولكن الجوع والموت كانا أفظع في نظرنا من الذل. أقمنا أكثر من سنة في البرية ننتقل من مكان إلى مكان ومن واد إلى واد حتى ذهبنا إلى (رفيديم) في جوار الجبال العإليه التي تغطيها ثلوج الشتاء وقد بلغ بنا الحنين عند ذلك إلى مصر مبلغا عظيما وأشتد غضبنا على ذلك الزعيم الذي أخرجنا منها.
فهل الحرية تستحق أن نسعى إلى الفقر من أجلها؟ وهل الذل والعبودية يستحقان أن يهرب منهما إلى الموت؟ لقد كرهنا كل شيء في تلك البرية حتى اسم الحرية، وذكرنا مصر بالحنين بما كان فيها من طعام وشراب، حتى لقد بلغ بنا الحنين إليها ان نحن إلى ما كان فيها من ذل وخسف، ثم حننا إلى النيران التي كنا نوقدها ليلا ونرقص حولها فرحا في أعياد (رع) و (هاتور) لا بل لقد مالت قلوبنا إلى تلك الآلهة المرحة، ووددنا لو أقيمت لنا تماثيلها الذهبية لنعبدها بدل الآله الذي لا نراه ولا تقام له الأعياد المرحة على شراب البلح والحنطة.
فما كاد (موسى) يصعد على عادته إلى الجبل العالي الذي تغطي قمته الثلوج حتى اجتمعنا وصرخنا إلى (هرون) وتجمهرنا واجتمعنا حوله، فلم يستطيع أن يمنعنا من أن نصور تمثالا (لأبيس) من الذهب الخالص، وأقمنا حوله الأعياد والأفراح ونادينا بالعودة إلى مصر. غير أن (موسى) عاد بعد قليل فرآنا على تلك الحال فغضب وحطم التمثال، وأوقع بالرؤساء، ولم يقدر أحد منا أن يقاوم أو يراجع.
وجعل يعنفنا على ما ارتكبناه من الذنب العظيم، وكنا لا نستطيع أن نرفع أعيننا نحوه. وكأنه أراد أن يعاقبنا على ذلك عقاباً شديداً فما مضت أيام حتى أمرنا بالتأهب لغزو بلاد (مواب). بلاد مواب؟ أنستطيع أن نحارب جنود (مواب)؟ وهل خرجنا من مصر لكي نحارب؟ أي معنى لهذه الحرية وأي معنى لهذا الخلاص؟ إننا لم نفهمه ولم نفكر في شيء سوى ما كنا فيه من الحرمان. أنحارب، لا، لا إننا لن نستطيع الحرب مع أحد فلنعد إلى مصر
غضب (موسى) غضباً شديداً وصاح بنا (أيها العبيد، انكم قد نشأتم في الذل وعشتم في الخسف، ان دمكم قد تلوث بالعبودية فليس يحمى وليس يغضب. إنكم لا تعنون إلا بالطعام، كلوا واشربوا وعيشوا في الذل والخسف؛ فما أنتم إلا مثل الأنعام لا تعبئون إلا بما يملأ بطونكم. لقد حكم على جيلكم أن تظلوا عبيدا لا تهتمون إلا ببطونكم حتى تنقرضوا ويفنى كل جيلكم، فإذا نشأ جيل آخر لم تسممه العبودية استطاع أن يفهم الحرية والكرامة ستبقون في البرية أربعين عاما حتى يموت آخركم فيها، ثم ينهض الجيل الجديد الذي يقدر له أن يفهم حياة الأحرار ويغزو معي بلاد مواب) سمعنا ذلك القول ولم نستطع جوابا، ولكن قلوبنا كانت تغلي من الغيظ، ولم يكن موسى سوى أبن عم لي أنا شأول بن شمويل اللاوي. فذهبتّ تلك الليلة إلى مضجعي ولم أستطيع أن أجد النوم، وسألتني امرأتي أن أخبرها بما يقض مضجعي فأخبرتها. فقالت لي لماذا لا نعود إلى مصر؟) ولم أكن أنتظر أكثر من ذلك، فعولت على الخروج ليلا والعودة إلى مصر في الطريق الذي أتينا منه. وفي الليلة التإليه كنت في طريقي إلى بلاد فرعون. قضيت في سيري هذا ثلاثة شهور من هلال أول السنة إلى هلال الشهر الثالث، وكانت هذه الشهور الثلاثة عقابا عادلا على كل ما وقعت فيه من البطر والاعتداء لقد هربت خوفا من الجوع وعدت بنفسي لكي أعرض ظهري إلى سياط عبيد فرعون وأضع يدي في قيود الذل والظلم لكي أشبع جوعي، وأطعم امرأتي وأبنائي، ولكني لم أجد ما ابتغيت. فقد قبض علي (منحوتب) قائد رميد وأرسل أبنائي وامرأتي ليكونوا عبيدا لفرعون، ووضعوني في السجن لانتظر الموت، وهنا في هذه الحجرة أبقاني في انتظار حكم فرعون.
وإني في هذه الحجرة المظلمة أجلس الآن في انتظار الهلاك، ويمر بخاطري كل ما حدث في حياتي من الحوادث، يمر كل ما كان في أيامي الماضية كما تمر حوادث الماضي أمام عين الغريق إذا اشرف على الموت وقد رأيت أن أكتب قصة تلك الحياة لكي أخلف صرخة لمن يجئ بعدي. لقد كنا نهرب في كل أيامنا من الموت، وهاهو يجئ أخيراً ويلحق بنا مع طول هربنا منه. ونرضى بالذل في سبيل الحياة، ونرضى بالعبودية والخسف في سبيل الحصول على القوت، مع أن الحياة لا تستحق أن يحياها الإنسان إذا كانت حياة ذل وعبودية. ها قد تنبهت أخيرا إلى أن (موسى) كان عظيما حين دعانا إلى البرية وفضل الجوع والموت على حياة الشبع والذل. ولكن كنا قد مشى دم العبيد أجيالا في دمائنا، فلم يحم ذلك الدم في عروقنا غضبا للكرامة والحرية، ولم نفهم صرخة زعيمنا على وجهها، بل اندفعنا وراءه هربا من ألم السياط؛ فلما رفع عنا ألم السوط عدنا إلى بذل أنفسنا الذليلة. لقد أحرجنا صدره كثيرا بنفوسنا الوضيعة، وهربت أنا منه خوفا من الموت والجوع وفضلت أن أعود إلى ذلي في مصر لكي اشبع بطني، فوجدت الذل والأسر، ولكني لم أجد الطعام الذي يملأ البطن. وهاأنذا انتظر الموت الذي استحقه. حقا لقد فهمت الآن قول موسى إذ قال لنا عند سفح جبل سيناء إننا من جيل مسمم، وانه سيصبر حتى يهلك ذلك الجيل كله في البرية، حتى ينهض جيل جديد يفهم معنى الحرية الكرامة. إنني الآن اسمع ضجةعند باب سجني وهاهو مفتاح الباب يصر في ثقبه)
إلى هنا انتهت القصة التي عثرنا عليها في الصحراء وحقا قد كان ذلك المكان الذي عرجنا إليه جديرا بأن يكون طلل بناء قديم حصين، لم يبق منه اليوم إلا تلال الرمال، ولا تزال تحتفظ بالروح الرهيبة التي خلفتها حوادث الماضي في ثنايا الأطلال.
الأستاذ محمد فريد أبو حديد
وكيل مدرسة القبة الثانوية
مجلة الرسالة - العدد 26
بتاريخ: 01 - 01 - 1934
وقد قصدت يوما مع صديق من الانجليز، وهو ممن يهيمون بالصحراء هياما، وقصدنا معا إلى برية سيناء نقطع الفيافي بمركبة القرن العشرين ونطوي أميالها مرحلة بعد مرحلة، فكانت صحبة عجيبة من كل الوجوه.
قلت له في فترة من فترات ما بين التفكير المتصل: كأني بك من أبناء الصحراء يا مستر لي. فأن حبك للصحراء وصبرك على مشتقاتها ينمان عن بدوي في اصله)
فقال لي باسما (إن البدوي وجواب البحار أخوان، فإذا لم يكن في دم البدوي فان في بغير شك دما من جوابي البحار)
قال لي ذلك وهو يحدق بنظرة في ناحية من الصحراء إلى يسارنا ونحن نطوي مراحلها، ثم قال لي:
انظر إلى هذا الموضع. كأني به فناء بيت من بيوت الجان، إنني اشعر بانجذاب عجيب نحوه. ألا ترى أن نقف هنا قليلا؟ أن التمتع بالصحراء لا يكون إلا إذا سرنا فيها كما كان يسير البدو على الإبل أو الحمير أو ما سوى ذلك من وسائل السير الوئيد. أما هذه السيارات السريعة فليست هنا إلا دخيلة غريبة. إنها تدخل السرعة والعجلة والقلق إلى ارض خلقها الله لتكون وادعة متئدة مطمئنة
قال هذا وعرج إلى الموضع الذي أشار إليه وأوقف دولاب السيارة والقينا عصا السير وجلسنا إلى جانب صخرة قائمة كأنها المائدة، واعددنا عدة الطعام إذ كان وقته قد أظلنا، وكان سمرنا على ذلك الطعام حديثا أوحاه إلينا الموضع. وأي حديث لمن يسير في برية سينا أقرب من حديث قوم موسى؟ لقد كان المكان يوحى به وحيا فاستغرق خيالنا حتى كأننا كنا نعيش في ذلك الوقت ونحس بما كان ينبض به قلب أهله
كان ذلك الموضع متسعا من الأرض تحيط به تلال من كل نواحيه إلا من جهة الغرب المائل إلى الشمال، وكان متدرجا في العلو من خارجه إلى داخله، ولا يكاد تمر عليه ساعة من النهار وليس في ناحية منه ظل ممتد. وكانت الرياح كلها محجوبة عنه إلا الرخاء التي تتهادى إليه من الشمال الغربي. فجلسنا به جلسة هنيئة زادت حديثنا اطمئنانا واستغراقا.
وخاطبت صاحبي في شيء من الدعابة قائلا (كم شهدت هذه البقعة من مناظر جليلة! أترى قد شهد موضعنا هذا بعض مواقف بني إسرائيل يحرجون صدر موسى بذكريات عدس مصر وفولها؟ فأجاب صاحبي (لقد كنت أفكر في هذه اللحظة في أن مكاننا هذا لابد قد وطئته أقدام من خرجوا من مصر مع موسى) وكنا قد فرغنا عند ذلك من أكلنا فقمنا نمشي رويدا ونتحدث. وحدث أن ضربت بقدمي حجرا من الأحجار على عادة كانت بي منذ صغري كنت اعتدتها في عبث الصبا، وما كان اشد عجبي إذ رأيت أن ذلك لم يكن حجرا بل كان قطعة من عظام جمجمة آدمية.
إذن لقد شهد ذلك الموضع حادثة إنسانية! وإذن فان لذلك الموضع قصته! فوقفت حيث كنت وملت إلى الموضع لأفحص موضع تلك العظمة فإذا بي أبصر عظمة أخرى قد طمرها الرمل. فتناولت حجرا وجعلت أحفر ما حولها لاستخرجها فرأيتها تتصل بهيكل إنساني. فاعتراني انقباض شديد، واسترجعت ثم ألقيت الرمال التي كنت استخرجتها لكي أعيد لتلك العظام مدفنها، وفيما أنا في ذلك إذ بدا لي سطح من الخشب الصقيل. فتركت ما كنت فيه وأقبلت على ذلك الخشب أفحص أمره، وإذا به غطاء صندوق صغير طوله نحو نصف متر في عرض اقل من ذلك بقليل وعمق أقل من عرضه، وكان صديقي عند ذلك قد بدأ يقبل على مساعدتي إذ رآني قد عثرت على شيء يستحق الاهتمام، فاستخرجنا الصندوق من مكانه ونفضنا عنه الرمال، ونزعنا عنه غطاءه فإذا فيه مجموعة من الجلود الرقيقة وقد دب إليها شيء من الفساد من اثر البلى. وكانت على تلك الجلود كتابة يميل لونها إلى السواد، وكانت بقلم غريب
انتهى بنا السير بعد ذلك إلى غايتنا، ثم عدنا وكان ذلك الصندوق قطب حديثنا في رجعتنا إلى القاهرة. ففرضنا فيه الفروض المختلفة وتناقشنا في قيمة ما فيه حتى بلغنا نهاية رحلتنا، فكان أول هم لنا أن نطرق باب صديق من علماء الآثار ليساعدنا على كشف ما وراء ذلك الطلسم.
نظر صديقنا العالم إلى صحيفة منها نظره الفاحص ثم قال: (إن هذا خط كاتب مصري. وهذا المداد مما كان يستعمله الكتاب في عصر الإمبراطورية الثانية في المحابر النحاسية التي كانوا يضعونها في مناطقهم. وهذا هو الحرف (الديموطيقي) الذي كانوا يكتبون به في الدواوين عند ذلك
قال هذا ونظر إلى أول سطر من الصفحة طويلا ثم علت وجهه ابتسامة الظفر وقال: (لم يكن كاتب هذه السطور مصريا بل هو (شاءول اللاوي) أحد بني إسرائيل الذين خرجوا مع موسى من مصرفي أيام (منفتاح) فرعون مصر، وقد كتبها بلغة قومه العبرانيين كاتب بارع
ولأخذ يترجم لنا الصحائف واحدة بعد واحدة فإذا هي آية العجب وفريدة الصدف وها هي:
(أنا شاءول بن شمويل بن شمعون اللاوي من عشيرة اللاويين قادة إسرائيل وساداتهم. كنت بمصر مع قومي وكنا في أرض جاشان مهد أبي وجدي، والأرض التي دفنت فيها عظامهما. كنت في أول الأمر صاحب خاتم الأمير (راحا ترع) ثم حدثت الحوادث المشئومة المعروفة فطردت كما طرد كل قومي من خدمة المصريين، ووضعت على رقابنا العبودية. وكنت أنا ممن حشروا لعمل اللبن من الطين لبناء مدينة (بيثوم) تسوقنا سياط المقدمين ورؤساء العمل ذوي الأيدي الصلبة والقلوب التي مثل خشب السنط.
وكانت مشقة العمل تزيد من يوم إلى يوم، وكلما مر شتاء علينا جاء شتاء آخر أشد منه برداً، فامتلأت نفوس الشعب الإسرائيلي من الغيظ والحقد. وبدءوا يسأمون حياتهم، ويتخلصون منها بضرب المقدمين ورؤساء العمل المصريين. وكان الذي يضرب منهم أحد هؤلاء يموت تحت السياط، وهذه ميتة أهون من الحياة الشاقة التي كان أبناء إسرائيل يحيونها.
وقد جاء رجل من أولاد عمي بني لاوي اسمه (موسى) كان هاربا من مصر من زمن. وقد عرفته كما عرفه كثيرون من أبناء أعمامي. وكان رجلا رحيما يبكي كلما رأى أحد بني إسرائيل يضرب ويصيح وتجري الدماء من جسمه، فكان في أول الأمر يزورنا في الليل ليواسينا، ولا يظهر في النهار مخافة أن يراه أحد فيعرفه، فاحبه الشعب المسكين وصار كل فرد منه يرضى أن يقتل في سبيل حمايته. وأقام سنين وهو على تلك الحال، وجعل يفهم الشعب أن وراء البرية أرضاً فسيحة يقدر أن يعيش فيها حراً ويجد فيها ماء وطعاماً. ولكن الشعب كان يخاف من البرية ولا يرضى أن يخرج من أرض مصر التي فيها عظام آبائه.
ولكن فرعون مصر عرف من جواسيسه أن هناك رجلا عبرانيا يحرض العبرانيين على العصيان والخروج. وقال له خدمه وعبيده إنه السبب في تجمع الإسرائيليين وتجمهرهم ومطالبتهم بعبادة إلههم على طريقتهم الخاصة. وقالوا له ان العبرانيين يتظاهرون بأنهم يريدون أن يسمح لهم بالخروج إلى البرية لتقديم الضحايا لألههم بعيداً عن أرض مصر، والحقيقة أنهم يريدون الذهاب إلى أرض الفلسطينيين والحيثيين لمساعدتهم على غزو مصر
فقال لهم فرعون: (وماذا ترون؟) فقال له عبيده (نرى أن تشغلهم وتضيق عليهم الخناق، فمر بمنع التبن عنهم حتى يضطروا لجمع الأعشاب الجافة ليصنعوا بها اللبن وطالبهم بأن يقدموا كل يوم ما اعتادوا ان يقدموه من قبل من اللبن اللازم للبناء)
فأمر فرعون بذلك ومنع خدمه من صرف التبن للشعب المسكين، وطالبهم بأن يقدموا له كل يوم نفس المقدار الذي كانوا يصنعونه من قبل من اللبن، مع قيامهم بجمع الأعشاب الجافة لاستعمالها بدل التبن الذي منع عنهم. فكان هذا الأمر غير ممكن. فعصا الشعب وامتنع وتجمهر وصاح بفرعون وخدم فرعون. وكان ابن عمي موسى يحرضا على العصيان ويأمرنا بالخروج معه إلى البرية، ولكنا كنا نخاف من ذلك فالموت مخيف وإن كانت العبودية صعبة.
وكثر التعذيب والضرب والقتل فينا حتى أننا ضجرنا وفزعنا، وسمعنا كلمة موسى وقمنا لنخرج إلى البرية جميعا نساؤنا وأطفالنا على الحمير، وقد لبس النساء الحلي التي استعرنها من جاراتهن المصريات. وفي الليلة الموعودة خرجنا نغطي وجه الأرض نحو البرية.
وكان الخوف يملأ قلوبنا من جنود فرعون أن تلحق بنا، فعبرنا إلى الصحراء من أقرب طريق، وخضنا في البحر بإذن الله وبركة ذلك الرجل المبارك (موسى). وتنفسنا الصعداء عند العيون التي حولها النخيل، عندما رأينا جيش فرعون قد عجز عن اللحاق بنا وعاد أدراجه بعد أن غرق منه عدد كبير. ويقال ان فرعون نفسه كان من الذين غرقوا في المياه. غير أن الحرية لا تعطي طعاما ولا ماء. فلما أكلنا الزاد الذي كان معنا بدأنا نفكر في موقفنا، وخرجنا إلى (موسى) نطلب منه أن يعطينا خبزا ولحماً.
أعطانا موسى كل ما معه، وقال لنا اقتصدوا ولا تأكلوا كثيرا ولكنا لم نقدر أن نمنع الأطفال والنساء من الأكل والشرب، ولم نقدر أن نمنع بكاءهم عندما نفذ ما كان معنا من الزاد، فقمنا بعد أسبوع من الجوع والعطش وطلبنا من (موسى) أن يطعمنا. وصرخنا له (أعدنا إلى مصر. أعدنا إلى العبودية. الإنسان قد يحيا مع العبودية. ولكنه يموت حتما بلا طعام. نريد الحياة ولو مع العبودية. لا نريد الموت في هذه الحرية وسط الصحراء).
لقد غضب موسى وظهر عليه الغيظ، وكلمنا كثيرا ولكن لم يكن لقوله ذلك الأثر الذي اعتدنا أن نجده في نفوسنا عندما كنا نسمع ألفاظه. وزاد صراخنا وعزم بعضنا على الرجوع.
وفي الصباح التالي ذهبنا إلى موسى لنخبره بأننا سنعود إلى مصر لنأكل من طعامها، فوجدناه يصلي ثم أقبل علينا ووجهه يتهلل وقال (اذهبوا إلى ذلك الوادي) وأشار بيده إلى جهة الشروق. (وهناك تجدون كثيرا من الحب على الأرض. فاطحنوه وكلوا منه فانه مثل الحنطة إذا عجنت بالزيت) ثم أشار إلى السماء وقال (انظروا إلى هذه الطيور الكثيرة الآتية من البحر. أنها تقع على الأرض عند أول وصولها إلى البحر فاذبحوا منها وكلوا فان هذا رزق حلال قد أرسله الله إليكم)
سرنا بعد ذلك في البرية نأكل من هذا الطعام ولكنا كنا كل يوم أشقى مما كنا في اليوم الذي قبله. فأين طعام مصر؟ وأين زيتها الكثير وأعشابها الخضراء المسمنة؟ وأين ماؤها العذب.
وخيراتها العميمة؟ حقا لقد كنا فيها معذبين، وكنا عبيداً نسام الخسف والذلة، ولكن الجوع والموت كانا أفظع في نظرنا من الذل. أقمنا أكثر من سنة في البرية ننتقل من مكان إلى مكان ومن واد إلى واد حتى ذهبنا إلى (رفيديم) في جوار الجبال العإليه التي تغطيها ثلوج الشتاء وقد بلغ بنا الحنين عند ذلك إلى مصر مبلغا عظيما وأشتد غضبنا على ذلك الزعيم الذي أخرجنا منها.
فهل الحرية تستحق أن نسعى إلى الفقر من أجلها؟ وهل الذل والعبودية يستحقان أن يهرب منهما إلى الموت؟ لقد كرهنا كل شيء في تلك البرية حتى اسم الحرية، وذكرنا مصر بالحنين بما كان فيها من طعام وشراب، حتى لقد بلغ بنا الحنين إليها ان نحن إلى ما كان فيها من ذل وخسف، ثم حننا إلى النيران التي كنا نوقدها ليلا ونرقص حولها فرحا في أعياد (رع) و (هاتور) لا بل لقد مالت قلوبنا إلى تلك الآلهة المرحة، ووددنا لو أقيمت لنا تماثيلها الذهبية لنعبدها بدل الآله الذي لا نراه ولا تقام له الأعياد المرحة على شراب البلح والحنطة.
فما كاد (موسى) يصعد على عادته إلى الجبل العالي الذي تغطي قمته الثلوج حتى اجتمعنا وصرخنا إلى (هرون) وتجمهرنا واجتمعنا حوله، فلم يستطيع أن يمنعنا من أن نصور تمثالا (لأبيس) من الذهب الخالص، وأقمنا حوله الأعياد والأفراح ونادينا بالعودة إلى مصر. غير أن (موسى) عاد بعد قليل فرآنا على تلك الحال فغضب وحطم التمثال، وأوقع بالرؤساء، ولم يقدر أحد منا أن يقاوم أو يراجع.
وجعل يعنفنا على ما ارتكبناه من الذنب العظيم، وكنا لا نستطيع أن نرفع أعيننا نحوه. وكأنه أراد أن يعاقبنا على ذلك عقاباً شديداً فما مضت أيام حتى أمرنا بالتأهب لغزو بلاد (مواب). بلاد مواب؟ أنستطيع أن نحارب جنود (مواب)؟ وهل خرجنا من مصر لكي نحارب؟ أي معنى لهذه الحرية وأي معنى لهذا الخلاص؟ إننا لم نفهمه ولم نفكر في شيء سوى ما كنا فيه من الحرمان. أنحارب، لا، لا إننا لن نستطيع الحرب مع أحد فلنعد إلى مصر
غضب (موسى) غضباً شديداً وصاح بنا (أيها العبيد، انكم قد نشأتم في الذل وعشتم في الخسف، ان دمكم قد تلوث بالعبودية فليس يحمى وليس يغضب. إنكم لا تعنون إلا بالطعام، كلوا واشربوا وعيشوا في الذل والخسف؛ فما أنتم إلا مثل الأنعام لا تعبئون إلا بما يملأ بطونكم. لقد حكم على جيلكم أن تظلوا عبيدا لا تهتمون إلا ببطونكم حتى تنقرضوا ويفنى كل جيلكم، فإذا نشأ جيل آخر لم تسممه العبودية استطاع أن يفهم الحرية والكرامة ستبقون في البرية أربعين عاما حتى يموت آخركم فيها، ثم ينهض الجيل الجديد الذي يقدر له أن يفهم حياة الأحرار ويغزو معي بلاد مواب) سمعنا ذلك القول ولم نستطع جوابا، ولكن قلوبنا كانت تغلي من الغيظ، ولم يكن موسى سوى أبن عم لي أنا شأول بن شمويل اللاوي. فذهبتّ تلك الليلة إلى مضجعي ولم أستطيع أن أجد النوم، وسألتني امرأتي أن أخبرها بما يقض مضجعي فأخبرتها. فقالت لي لماذا لا نعود إلى مصر؟) ولم أكن أنتظر أكثر من ذلك، فعولت على الخروج ليلا والعودة إلى مصر في الطريق الذي أتينا منه. وفي الليلة التإليه كنت في طريقي إلى بلاد فرعون. قضيت في سيري هذا ثلاثة شهور من هلال أول السنة إلى هلال الشهر الثالث، وكانت هذه الشهور الثلاثة عقابا عادلا على كل ما وقعت فيه من البطر والاعتداء لقد هربت خوفا من الجوع وعدت بنفسي لكي أعرض ظهري إلى سياط عبيد فرعون وأضع يدي في قيود الذل والظلم لكي أشبع جوعي، وأطعم امرأتي وأبنائي، ولكني لم أجد ما ابتغيت. فقد قبض علي (منحوتب) قائد رميد وأرسل أبنائي وامرأتي ليكونوا عبيدا لفرعون، ووضعوني في السجن لانتظر الموت، وهنا في هذه الحجرة أبقاني في انتظار حكم فرعون.
وإني في هذه الحجرة المظلمة أجلس الآن في انتظار الهلاك، ويمر بخاطري كل ما حدث في حياتي من الحوادث، يمر كل ما كان في أيامي الماضية كما تمر حوادث الماضي أمام عين الغريق إذا اشرف على الموت وقد رأيت أن أكتب قصة تلك الحياة لكي أخلف صرخة لمن يجئ بعدي. لقد كنا نهرب في كل أيامنا من الموت، وهاهو يجئ أخيراً ويلحق بنا مع طول هربنا منه. ونرضى بالذل في سبيل الحياة، ونرضى بالعبودية والخسف في سبيل الحصول على القوت، مع أن الحياة لا تستحق أن يحياها الإنسان إذا كانت حياة ذل وعبودية. ها قد تنبهت أخيرا إلى أن (موسى) كان عظيما حين دعانا إلى البرية وفضل الجوع والموت على حياة الشبع والذل. ولكن كنا قد مشى دم العبيد أجيالا في دمائنا، فلم يحم ذلك الدم في عروقنا غضبا للكرامة والحرية، ولم نفهم صرخة زعيمنا على وجهها، بل اندفعنا وراءه هربا من ألم السياط؛ فلما رفع عنا ألم السوط عدنا إلى بذل أنفسنا الذليلة. لقد أحرجنا صدره كثيرا بنفوسنا الوضيعة، وهربت أنا منه خوفا من الموت والجوع وفضلت أن أعود إلى ذلي في مصر لكي اشبع بطني، فوجدت الذل والأسر، ولكني لم أجد الطعام الذي يملأ البطن. وهاأنذا انتظر الموت الذي استحقه. حقا لقد فهمت الآن قول موسى إذ قال لنا عند سفح جبل سيناء إننا من جيل مسمم، وانه سيصبر حتى يهلك ذلك الجيل كله في البرية، حتى ينهض جيل جديد يفهم معنى الحرية الكرامة. إنني الآن اسمع ضجةعند باب سجني وهاهو مفتاح الباب يصر في ثقبه)
إلى هنا انتهت القصة التي عثرنا عليها في الصحراء وحقا قد كان ذلك المكان الذي عرجنا إليه جديرا بأن يكون طلل بناء قديم حصين، لم يبق منه اليوم إلا تلال الرمال، ولا تزال تحتفظ بالروح الرهيبة التي خلفتها حوادث الماضي في ثنايا الأطلال.
الأستاذ محمد فريد أبو حديد
وكيل مدرسة القبة الثانوية
مجلة الرسالة - العدد 26
بتاريخ: 01 - 01 - 1934