عبد الرحمن جبير - الطبيعة في شعر ابن خفاجة - 3-

وصف الآلات والأدوات: - كان علينا أن ننتقل بك في هذا الفصل إلى وصف الخمر ووصف مجالسها في شعر ابن خفاجة، وأن نريك الطبيعة الماثلة في ذلك النوع من الشعر؛ ولكنا رأينا أن نذكر شيئا عن تشبيهه الآلات والأدوات، ووصفه للخيل والذئاب، قبل أن نذكر لك شيئا من أقواله في الخمر، ومن تشبيهه إياها، خوفا عليك من أن تنتشي وتطرب فلا تعود تصغي إلينا.

وهو في وصفه السيف والرمح والقوس والكأس والزورق، وفي وصفه للفرس الأشقر، والكلب والأرنب، لا يخرج في كل هذا عن الطبيعة في شيء، ولا يشبه تلك الأدوات إلا بما يماثلها في الطبيعة. فيقول في السيف:

ومرهف كلسان النار منصلت ... يشفى من الثار أو ينفى من العار

فهو يشبهه بلسان النار الملتمع. ثم يقول:

تخال شعلة نار منه طائرة ... في عارض من عجاج الخيل موار
يمضي فيهوى وراء النقع ملتهباً ... كما تصوَّب يجري كوكب سار

وهو يشبه قول بشار:

كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوي كواكبه

ويقول أيضاً في وصف كأس أهديت اليه:

ومثلك مد يمين الندى ... بعلق يطيل عنان النظر
بأزرق سالت به صفرة ... كما طرز البرق ثوب السحر

يقول إنه كأس ازرق قد سالت به صفرة فبدا كسماء أبرقت في ليل مظلم.

ويقول كذلك في الرمح:

وأسمر يلحظ عن ازرق ... كأنه كوكب رجم وقد
يعتمد العين اعتماد الكرى ... وينتحي القلب انتحاء الكمد

فان السمرة والزرقة وكواكب الرجم المتوقدة والكرى والكمد كلها صور لأشياء طبيعية، شبه بها عود الرمح الأسمر، وسنانه الأزرق، ولمعانه وقت الطعن.

وأجمل ما قاله في وصف الإله وصفه القوس فهو يقول:

عوجاء تعطف ثم ترسل تارة ... فكأنما هي حية تنساب
وإذا انحنت والهم منها خارج ... فهي الهلال أنقض منه شهاب

فلم يخرج في تشبيهها ووصفها عن حيوان الطبيعة وعن أفلاكها.

ويقول في صفة كلب وأرنب:

وأطلس ملء جانحتيه خوف ... لأشوس ملء شدقيه سلاح

فهو يشبه الأرنب الهاربة امام الكلب بالذئب للتشابه الموجود بين لونيهما، وللتشابه الموجود بين حاليهما، لأن الذئب يهرب من وجه الكلب، ويعبر عن الكلب بالأشوس، وهي حال ضم الجفنين للتحديق والنظر، ويشبه انيابه التي كشر عنها بالأسلحة التي يحملها الصياد.

ويقول في صفة فرس أشقر عليه حلى لآلئه:

بسام ثغر الحَلْي تحسب أنه ... كأس أثار بها المزاج حبابا

فهو يشبهه بكأس من الخمر قد مزجت بالماء فبدت صفراء اللون وطفا عليها حباب ابيض.

واقرأ هذه المقطوعة في وصف نزهة ركب اليها زورقا:

وانساب بي نهر يعب وزروق ... فتحملتني عقرب وحباب
نجلو من الدنيا عروساً بيننا ... حسناء ترشف والمدام رُضاب
ثم ارتحلت وللسماء ذؤابة ... شهباء تخضب والظلام خضاب
تلوى معاطفي الصبابة والصبا ... والليل دون الكاشحين حجاب
حيث استقل الجسر فوق زوارق ... نسقت كما تتراكب الأحباب
لم تستبق وكأنها مصطفةً ... دُعم تنازعك السباق عِراب

فقد شبه أولاً الزورق الأدهم بالعقرب لانحناء مقدمه إلى الأعلى، وانحناء متوسطه إلى الأسفل، وشبه ماء النهر الثائر المائج المزبد بالحباب. ثم شبه ثانية اصطفاف الزوارق باصطفاف الخيل العراب للسباق.

إلى هنا انتهى كلامنا عن وصف ابن خفاجة للآلات والأدوات، وقد أريناك تشبيهاته وأوصافه التي أتى بها ولم يخرج فيها عن حبيبته الطبيعة التي يرى بها كل ما موجود، وكأنه لا يرى في الحياة إلا الطبيعة، فلا يتكلم إلا عنها ولا يشبه إلا بها.

فان كان البحتري قد أثر فيه حب علوة الحلبية فقال الشعر الغنائي الرقيق، ورسم الصور الشعرية الجميلة، وأخذ في كل هذا على نفسه ألا يبوح باسمها.

وسميتها من خشية الناس زينباً ... وكم سترت حباً عن الناس زينب

فان ابن خفاجة أثرت فيه الطبيعة فهام بها وأحبها حتى كان يذكرها في شعره واصفاً أو متغزلاً، صاحياً أو نشوان.

وكأنه وهو نشوان أقدر على وصف الطبيعة والتشبيه بها، أو كأن حبه لها يهيج فيه قريحته الشعرية حين يجلس إلى الشراب ثم لا يرى بداً من ذكرها لأنه مفتون بجمالها مسحور بمناظرها.

أقواله في الخمر: - يصف ابن خفاجة الخمر ويصف كؤوسها ويشبهها فيتفنن في التشبيه والوصف، فإذا أردنا أن نقايس بينه وبين أبي نواس في وصفها، فهو بلا شك دون منزلة أبي نواس. لأن أبي نواس يقصد إلى الخمر قصداً، فينشئ القصيدة على ذكرها ويجعلها موضوعاً من الموضوعات الشعرية، ولكن ابن خفاجة في مقطوعاته التي يذكر فيها الخمر يجعلها أحد المواضيع التي ينشئ فيها المقطوعة. فأكثر مقطوعاته الخمرية ينشئها على ذكر نزهة جميلة مع إخوان صدق في ظلال الأدواح يشربون ويسمرون، أو على ذكر مجلس إخوان وأصدقاء يقرضون الشعر ويصفون فيه مجلسهم واعتكافهم على الخمر، أو يصف الخمر أثناء تغزله، وفي كل مقطوعة من مقطوعاته التي فيها للخمر ذكر لا نرى الأ البيت والبيتين. قال من وصف يوم أنس وفكاهة:

وجاء بها حمراء أما زجاجها ... فماء، وأما ملؤه فلهيب

فهو يقول: انها خمرة حمراء كأنها لهيب النار المتوقدة في كأس كأنه الماء صفاء وشفافية:

ويصف الخمر بيد حبيب له فيقول:

مشمولة بينا ترى في كفه ... ماء، ترى في خده الهوبا

فهو يقول: انها باردة الطعم لهبوب الشمال عليها كأنها الماء صفاء، وانه محمر الخدين كأنهما لهيب نار مستعرة، وقال ايضاً:

فجاءت بحمراء وقادة ... تلهب في كأسها كوكبا

فقد شبهها بالكوكب المتوقد وهو يشبه قول ابي نواس:

إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا

ويشبهها بالفرس الأشقر فيقول:

وقد جاء من كاس السلافة أشقر ... يسابقه من جدول الماء أشهب

ويقول في وصفها أيضاً وهو يتغزل:

حيا بها ونسيمها كنسيمه ... فشربتها من كفه في دره
منساغة، فكأنها من ريقه ... محمرة، فكأنها من خده

إلى هنا لا نرى في وصف ابن خفاجة الخمر وفي تشبيهه إياها شيئاً يخرج عن الطبيعة؛ فقد شبهها بلهيب النار المشتعلة وشبه كأسها بالماء الصافي الرائق، ثم شبهها بالكوكب المتوقد، ثم شبهها بالفرس الأشقر للونها الأشقر، ثم شبهها وقال انها منساغة فكأنها من ريق الحبيب الخصر العذب، وإنها حمراء كأنما قد عصرت من خده الوردي.

واقرأ هذه المقطوعة يداعب بها الساقي الأسود، وانظر كيف يصف الخمر الحمراء والكؤوس البيضاء، ثم ينبري فيصف لنا المكان الذي جلسوا به، والوقت الذي شربوا فيه، ولاحظ إذا شئت تشبيهاته وأوصافه التي لا يخرج بها عن مناظر الطبيعة وعن أوصافها:

رب ابن ليل سقانا ... والشمس تطلع غره
فظل يسود لونا ... والكأس تسطع حمره
كأنه كيس فحم ... قد أوقدت فيه جمره

إلى أن يقول:

فظلت آخذ ياقو ... تة واصرف دره
حتى تثنيت غصنا ... واصفرت الشمس نقره
وارتد للشمس طرف ... به من السقم حسره
يجول للغيم كحل ... فيه وللقطر عبره

فهو يقول: إن عبداً اسود يسقينا منذ طلوع الشمس، وكأنه وهو يدير علينا الخمر في كؤوسها الحمراء كيس من فحم قد أوقدت فيه جمرة ملتهبة، وظللت على هذه الحال أتناول الكأس مملوءة حمراء كالياقوتة وأعيدها فارغة بيضاء كالدرة، حتى تثنيت من شدة السكر كالغصن تثنيه الرياح، وحتى اصفر لون الشمس وارتد طرفها إلى الغروب كما يرتد طرف الناعس من النعاس، وكانت الغمامة دكناء كأن بها كحل كاحل، وكانت ممطرة كأنها عين باك مستعبر.

وقال أيضا يصف متفرجا. ويصف في أثناء ذلك الخمر:

ومجر ذيل غمامة قد نمقت ... وشى الربيع به يد الأنواء
ألقيت أرحلنا هناك بقبة ... مضروبة من سرحة غناء
وقسَمت طرف العين بين رباوة ... مخضرة وقرارة زرقاء
وشربتها عذراء تحسب أنها ... معصورة من وجنتي عذراء
حمراء صافية تطيب بنفسها ... وغنائها وخلائق الندماء

أدلب. عبد الرحمن جبير


مجلة الرسالة - العدد 24
بتاريخ: 18 - 12 - 1933

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...