سأقص حديثاً عجيباً. من شاء يصدقه فأني اشكر مع تقديري انه إما يصدقني لاعتقادي أنني لا اكذب، وإما إذا شاء أحد أن يكذبني فله ان يفعل وهو معذور. فان الناس لا يصدقون مايرونه بأعينهم، ولا سبيل إلى ان أريهم ما رأيت، وقد آثرت أن إذكر في حديثي هذا كل الأسماء على حقيقتها حتى إذا عرف أحد بعض هذه الأسماء ساعده ذلك على تصديقي، إذ ليسمن الممكن أن تبلغ بي الجرأة على الحق أن أذكر أسماء الناس علنا في صحيفة سيارة وأنا اكذب في قولي: أصبت في وقت من الأوقات بضعف في الأعصاب من الجهد المتواصل والهم المضي، فوصف لي بعض الأطباء أنواعاً من الرياضة. ولكن ابى الله ان يمكنني من ذلك العلاج. فقد زهدت في رياضة الصيد إذ رأيت فيها قسوة ومثله ووحشية، ثم زهدت في السباحة لأنني لم أجد مكاناً منعزلا ملائماً انزل إلى البحر فيه في أثناء الصيف، لان جسمي ليس بالجميل، وثياب الشواطئ كما لا يخفي على أحد مهلهلة تصف الأجسام على حقيقتها، ثم مارست ما سوى ذلك من أنواع الرياضة حينا فأصبحت بضعف في رجلي فلم استطع متابعة هذا السعي، لان الرياضي لا يليق به أن يظلع. ولكني جعلت ابحث عن تسلية ملائمة فوقفت إلى اختراع اختراعه الإنجليزي بارع وهو المؤلف المشهور (هـ. ج. ولز). وكان لاختراعه هذا رجة كبرى في الأوساط العلمية، ولكن هذا المخترع يحترف الأدب فأصابته محنة الأدباء فلم يقبل أحد على شراء اختراعه. فغضب حتى حطم النموذج الذي اخترعه وأبى أن يعلنه إلى الناس. غير انه لما بلغة ما أنا فيه من الحيرة بعث إلي بوصف اختراعه، وطلب إلي أن استفيد به ماشئت، ولكنه حرم على اطلع أحد عليه الا بإذنه فلا يطمع أحد في أن يسألني عن سر ذلك الاختراع. ومن شاء فليرسل إلى ذلك العالم وليسأله أن يبيع له الاطلاع على النموذج الذي صنعته أنا لنفسي، وذلك الاختراع بالاختصار هو آله دقيقة الصنع تحتاج إلى مهارة فائقة في الإدارة والاستعمال، كما تحتاج إلى مواهب خاصة فيمن يريد أن يستعملها. واخمد الله إذ كنت ممن منح هذه المواهب الخاصة، وهي مصنوعة من معدن لا يزال عجيب الخواص مجهول الكنه، ومن خواصه التي عرفت إلى اليوم انه شفاف ولا تبصر لاه الأعين في ضوء النهار إلا إذا وضع منظار من نفس المعدن على الأعين. ولهذا يسهل على الإنسان أن يترك الآلة المصنوعة منه في أي مكان بغير حارس ولا يخاف عليهااللصوص أو من عبث المارة. ولا حاجة بي إلى إطالة في وصف هذه الآلة، ويكفيني أن أذكر اسمها وقد يكون بعض القراء قد سمع به من قبل وهي (آلة الزمان)، واسم هذه الآلة يدل عليها وعلى الغرض منها. ومن أراد التوسع في فهم أغراضها ونظرياتها وطرق أدارتها فعلية ان يستأذن صاحب اختراعها كما أسلفت في أول هذا الحديث. هذه الآلة بالاختصار عبارة عن حجرة صغيرة لها جدران شفافة من المعدن الذي وصفته، وفيها مقعد واحد لا يسمع إلا رجلا واحداً وفي داخلها أمام المقعد مفاتيح كثيرة يتحرك بعضها إلى أعلى وبعضها إلى أسفل وبعضها إلى اليمين والبعض إلى اليسار وهكذا في جميع الأنحاء التي يتصورها الذهن، وفي وسطها عجلة كبيرة تدور إذا قبض عليها الإنسان بيده وضغط عليها قليلاً. فإذا أمال يده نحو اليمين دارت يميناً، وإذا أمالها نحو اليسار دارت يساراً. وهذه العجلة هي أم الآلات في تلك الحجرة. فإذا بالحجرة كلها تدور دوراناً شديداً، ثم إذا بالجالس على الكرسي يعتريه دوار شديد ويفقد الحس حينا من الزمن ثم يصحو فينظر إلى ما حوله فيرى مناظر غير المناظر التي كانت حوله قبل ان يدير العجلة. لا بل انه يرى مناظر ما كان يحلم بوجودها قبل أن يضع يده على تلك العجلة. والذي يحدث باختصار عند ضغط العجلة إن الإنسان إذا مال بيده نحو اليمين دارت الآلة، وتحرك لسان على لوحة أمام الجالس فهبط إلى اسفل، وعلى تلك اللوحة أرقام كثيرة، وعند ذلك ينتقل هذا الشخص الجالس في الآلة بطريقة عجيبة يطول شرحها - ولا اسمح لنفسي أن أذكرها بغير إذن - فإذا ذلك الجالس ينتقل على السنين نحو الماضي فيذهب إلى العصور الماضية ويرى نفسه يمر على السنوات الغابرة عاماً فعاماً. وكلما انتقل من عام إلى عام قبله تحرك اللسان على اللوحة مشيراً إلى رقم السنة. وأما إذا كان ميل الضغط نحو اليسار فان اللسان يتحرك على اللوحة إلى أعلى، فإذا بالجالس في تلك الآلة ينتقل على السنين نحو المستقبل
فيذهب إلى العصور المقبلة ويرى نفسه في غمار الحياة في الأجيال الآتية. ويتحرك اللسان على اللوحة مشيراً إلى رقم السنوات المقبلة. حسبي الآن ما ذكرت من وصف الآلة فاني أخشى من بعض أساتذة الجامعة في كلية العلوم أن يفطن إذا أطلت الوصف فيعرف سر هذه الآلة من ثنايا قولي بوساطة بعض طرقهم العلمية الماكرةمن الارثماطيقي والماتيماطيقي والفيزنيقي. او غير ذلك من العلوم التي لا علم لي بها. فانهم لو فعلوا ذلك لأوقعوني في ورطة، إذا أكون قد خدعت عن سر لا املكه ولا يحمل بي التصرف فيه. وقد كنت إذا شعرت بالسام يدب إلى نفسي انهض إلى هذا إليه فاجلس فيها وأدير العجلة الوسطى نحو اليمين فأذهب في العصور الماضية لأني شديد الحنين إليها لأنني لست ممن يرتاحون إلى الوقت الحاضر، ولا يرون في الحال المائلة حولنا شيئاً ترتاح إليه النفس أو يطمئن إليه القلوب فالناس فيه: شيوخهم فيهم وهن، وكهولهم فيهم حرص، وشبانهم فيهم طراوة ورخاوة. ولا فائدة في أن أعيد إلى القارئ مناظر تلك العصور الماضية فهي مائلة مصورة في كتب التاريخ إذا كانت غير مائلة مع الأهواء. وكنت أجد ما أحببت من السرور بالتجول في تلك العصور، إذ كنت اشبع كبريائي بما أراه من مجد الآباء والأجداد، وكنت إذا رأيت منظراً يؤلمني في عصر من العصور أسرعت بإدارة العجلة التي أمامي فانتقل مسرعاً حتى ابصر مناظر مجيدة في عصر آخر فأوقف العجلة وانزل من الآلة وأجول في أنحاء ذلك العصر حتى امتلئ سروراً، ثم ارجع وأدير العجلة فأعود إلى عصري ومنزلي خوف أن يقلق أهلي إذا أطلت عنهم غيبتي. وقد وقعت عيني مرة في أثناءعودتي إلى عصري على منظر استرعى انتباهي فأوقفت العجلة مسرعا ثم نزلت من الآلة لأشاهده. فقد رأيت رجلا من عامة أهل الريف واقفاً في وسط ساحة قريبة من (ميدان الأوبرا) وقد اخذ بتلا بية رجل على رأسه قبعة قذرة وهو ضخم الجسم ولكن وجهة بشع المنظر، وله عينان كأنهما عينا ذئب مفترس، وله أظافر طويلة ليست كأظافر بني الإنسان بل هي قريبة إلى أظافر النسور مقصوصة طويلة مدببة، وقد وقف حول الرجلين جماعة من أمم مختلفة، ولكن أكثرهم من أولاد مصر القاهرة ممن يسهل اجتماعهم حول أية ضجة تثور في طريق من الطرق، وهم لا يقصدون بذلك إلا إشباع رغبة الاستطلاع، ولا فرق بيني وبينهم وأنا ممتلئ مثلهم رغبة في الاستطلاع، ولا فرق بيني وبينهم غلا إنني لم اكن عند ذلك مستعدا للدعابة ولا للثرثرة. وبعد هنيهة علمت ان ذلك المبرنط دائن لذلك الريفي وانه قد استولى على كل ماله في الريف حتى ألجأت إلى أن يهرب إلى القاهرة لاجئا إلى أزقتها وجدران مبانيها متخذاً الأولى مغدي ومراحا والثانية مأوى. وقد استجدت ذلك الفلاح يوماً رغيفاً فأكل ربعه ودس الباقي في جيب ثوبه المهلل جاعلاً إياه ذخرا يلجأ إليه إذا عضه الجوع في ليلة لم يجد فيها من يطعمه لقمة. فكان جيبه بارزاً إلى أمام يخيل إلى من يراه إنه قد خبأ فيه شيء ذا قيمة وقد أراد سوء حظه أن يلقاه دائنه المبرنط وهو على تلك الحال فأسرع إليه الشك في إنه يخفي في جيبه دجاجة لها بيض ذهبي، وزاد الشك في قلبه وغلى دمه عندما تذكر أنه لا يزال له على ذلك الريفي مقدار من المال. فقال في نفسه (يا للعدالة أأكون دائناً لذلك الريفي ولا أستطيع أن أحصل على ديني منه؟ وهاهو ذا يسير طليقاً وفي جيبه دجاجة تبيض الذهب؟) وما هو إلا أن قال ذلك في نفسه حتى اندفع إليه وأمسك بتلابيبه. وما هو إلا أن فعل ذلك حتى أجتمع من رأيت حولهما من الناس ينظرون ويتكلمون ويمزحون وقد أراد ذلك المبرنط أن ينزع عنه ثوبه المهلهل ليرى ما تحته فأبى الرجل الريفي خجلاً من أن يرى الناس جسمه المشعر عارياً، فتشبث بالثوب وعلا النزاع بين الرجلين حتى بدأ النظارة يتدخلون بينهما ووقفت أنظر ما يؤول إليه أمر هذا النزاع، فما هي إلا برهة حتى رأيت الجميع يتألبون على الريفي حتى نزعوا عنه ثوبه، يبحثون عن الدجاجة ذات البيض الدجاجة. فلما تم لهم ذلك
المسعى لم يجدوا إلا رغيفاً مقطوع الربع مهشم الباقي. فلما راى الرجل المبرنط ذلك لم يرض أن يرجع عن هجومه ذلك خائباً، فأصر على أن يأخذ الثوب المهلهل ويترك الرجل عارياً، ثم فكر في أخذ الرغيف ولكن نفسه عافته، وظن أنه لم يجد له شارياً فتركه وقال: (عليك أن تشكرني أيها المماطل لأني تركت لك ذلك الرغيف تأكله وتملأ به بطنك وتنام في حين أنا لا أتقاضى منك ديني. يا للعدالة!). إلى هذا فهز كثير من الحضور رؤوسهم علامة الإعجاب والموافقة ولم يتكلم واحد منهم بكلمة. ولكني كنت حديث العهد برحلة في عصر ماض من عصور مجد بلادي وكان قلبي ممتلئا كبراً واعتدادً بنفسي. فأنفت أن أترك مواطني في هذا البلاء. فتقدمت نحوه وقد غلبني الغضب على الصمت وقلت للريفي بصوت عال: (هل لك أيها المسكين أن تشترك معي في استرداد ثوبك بالقوة؟) فنظر الرجل إلي نظرة ذات مغزى ثم نظر إلبى منت حولنا وسكت فنظرت حيث رأيته ينظر فإذا بالنظارة يمزحون ويضحكون ويقلبون الثوب وهو مع الرجل المبرنط ويهنئونه بحصوله على شيء من دينه، وكان أعلاهم صوتاً رجال مبرنطون مثله يبلغون العشرة عداً فعلمت من نظرة الرجل إنه يرى نفسه عاجزاً ولو مساعدتي على استرداد ثوبي ورأيت دمعة تسقط من عينيه وجثى على ركبتيه حياء من تعريض جسمه الضخم المشعر للأنظار، وكان فوق ثيابه معطف قديم كنت أحتاطه بلبسه في رحلات فخلعته صامتاً وطرحته فوق منكبيه فكساه إلى ملئت ركبتيه، فنظر إلي صامتاً نظرة كدت أبكي من وقعيها عندما لاقت نظري وتركته مسرعاً وعدت إلى اللآله فأسرعت بها عائداً إلى العصور الماضية أطلب التسلية في مناظرها. حتى إذا ما سرى عندي ما بي من الشجن أدرت العجلة وعدت مسرعاً إلى عصري ودخلت منزلي وكان أهلي قد قلقوا بطول غيبتي، ومنذ ذلك اليوم عاودتني كآبة كانت تظهر في حديثي وتدل عليها ملامح وجهي حتى لقد لاحظها بعض أصدقائي وكان فيهم جماعة من الشبان أولي الهمة فجعلوا يسألونني عن علة ما بي فذكرت لهم قصتي في ذلك اليوم الذي رأيت فيه ما رأيت من المبرنط والريفي. وذكرت لهم في قصتي حديث الالة التي أتجول بها في العصور الماضية طالباً التسلية من هموم الوقت الحاضر. فقال لي أحدهم وأسمه توفيق: (ولكن العجيب أنك لم تفكر يوما في أن ندبر تلك العجلة نحو اليسار) ولم أنتبه قبل الساعة إلى أن عجلة الآلة يمكن أن تدار إلى اليسار فسيكون التجول في عصور المستقبل بدل أن يكون في عصور الماضي. فقلت له وبي شيء من الارتباك (أنني لم أفطن إلى ذلك إلا ألان) فأجابني ذلك الصديق الشاب (أنني أعتقد أن السلوة لا تكون أبدا في العودة إلى الماضي. فان الغنى إذا أفتقر لا يسليه عن فقره أنه كان يوما ما واسع النعمة رافلاً في الغنى بل إن ذلك أدعى إلى أسفه وأسخن لعينه. ولكن الذي يسلي الفقير أن يتطلع إلى المستقبل ليرى أنه سيكون بعد ألمه في راحة وبعد إملاقه في غنى. وكذلك الحال في السجين، فأنه لا يهدأ قلبه من ذكرى ماضي حريته، بل قلبه يهدأ وألمه يضمحل إذا فكر في قرب يوم الانطلاق) والحق أنني لم أتعلم من أحد مثل هذه الحكمة الصادرة من شاب غير مجرب. وقد شعرت بالخجل إذ رأيت أحد أبنائي في السن يعلمني حكمة غربت عن فكري، ولكني أحمد الله على أني في هذه الأمور أنزل عند الحق ولا تأخذني العزة بالإثم. فقلت له (إني شاكر لك تنبهي إلى هذا يا صديقي وسوف أقص عليك نبأ ما أرى) وما هي إلا ساعة حتى كنت جالساً على المقعد في تلك الآلة المحبوبة ووضعت يدي على عجلتها وأدرتها ضاغطاً نحو اليسار. فرأيت اللسان يتحرك هذه المرة إلى أعلى وقد أشار إلى أرقام أعلى من رقم 1933. وقد عراني عند دوران الالة دوار شديد لم أشعر بمثله عند تجوالي في العصور الماضية فلم أفق من الدوار حتى كان اللسان قد بلغ رقم (2000) عند ذلك أوقفت حركة العجلة ونزلت من الالة وتركتها علىجانب الطريق الذي وجدت نفسي فيه، ولم أخش أن
أتركها حيث هي وأسير إذ أني كنت على يقين من أنها في مأمن من الرقة لأني كنت كل الثقة من أنه ليس في الناس جميعاً من يملك منظاراً من معدن الآلة فيستطيع أن يرها إلا أنا والمخترع الأصلي للآلة وقد سبق لي ذكر أسمه. سرت بعد ذلك في طريق عجيبة لم تقع عيني على مثلها، فهي فسيحة لا يقل عرض أضيقها عن مائة متر. ويحف بها من جانبيها أبنية شاهقة هي أشبه بما نسمع في عصرنا الحالي في أمريكا وهو ما يسمونه (ناطحات السحاب) وكانت حركة الانتقال في تلك الطرق الفسيحة سريعة عنيفة حتى كنت أخطو الخطوة وأنا خائف أترقب، وكانت السيارات من كل نوع ومن صنوف لم أرى مثلها من قبل في عصري الذي أعيش فيه وما كان أشد عجبي عند ما رفعت رأسي إلى قمة هذه الأبنية فوجدت فوقها حركة عظيمة من طيور عظيمة تعدو وأخرى تهبط، ولكني عجبت أن تكون الطيور في مثل هذا الحجم وهي على البعد العظيم الذي بيني وبين قمم هذه الأبنية، وهمت أن أسال بعض المارين عن ذلك، ثم رأيت منطاداً طائراً يشبه ذلك المنطاد الذي آتى به (اكنر) إلى مصر في العام المنصرم في عصرنا هذا، ففكرت في نفسي قائلا: ألاتكون تلك الطيور طائرات ميكانيكية. ولم يطل بي أمد الحدس والتخمين فقد رأيت طائراً من تلك الطيور يهوي من العلو الشاهق إلى أسفل فإذا به يستوي على جانب الطريق وإذا به آدمي قد وضع على ظهره آلة ذات جناحين قد ربطها ربطاً محكماً في كتفيه وأعلى صدره. فما هبط على الأرض حتى حل الأربطة وعالج الآلة حتى أسترت على عجلتين كانتا خفيفتين ثم أدار لولباً في جانب الآلة فإذا بها تعدوا على نمط (الموتوسيكل) في عصرنا الحالي. وعند ذلك فقط عرفت كنه هذه الأسراب الطائرة فوق أعلى الأبنية. ومضيت في سيري وأنا اكثر علماً بأنني في عصر جديد وعهد غير ما عرفت في بلادي. وجعلت وأنا سائر أتلفت حولي تلفت المذهول الدهش كأنني بعض أهل الريف نزل عاصمة كبرى لاول مرة في حياته، فقلت في نفسي إنني أخشى أن أنا بعدت عن موضعي ألا أستطيع العودة إليه فليست هذه المدينة القاهرة التي ولدت فيها وعشت فيها طوال السنين، بل لقد غيرها مر الدهر أي تغيير حتى صارت غير ملائمة لحواسي وأعصابي، وعولت على أن أعود إلى الآلة التي حملتني إلى ذلك العصر المجهول فأحرك عجلتها وأعود من حيث أتيت. بينا أنا أفكر في عصر غير ناظر إلى ما حولي إذا أسرع إلى شاب فاختطفني اختطافاً ودفعني إلى جانب. وما هي إلا ثانية بعد ذلك حتى رأيت طائراً من تلك الطيور الآدمية قد نزل في الموضع الذي كنت واقفاً فيه ولو لم يدفعني ذلك الشاب لكان الطائر قد هوى على وحطم رأسي. فلما أفقت من ذعري خاطبني الشاب بلهجةاللوم قائلاً: ((أما ترى علامة انفتاح الطريق امامك؟)) فنظرت إلى حيث أشار بيده فوجدت إشارة حمراء وسهما مشيراً إلى أعلى فعلمت إن ذلك المكان موضع لرسو من أراد النزول من الطائرين إلى الأرض وان الناس قد اعتادوا إطاعة تلك الإشارات الحمراء وتحاشي تلك المواضيع. فاعتذرت إلى الشاب وشكرته ثم دنوت منه فسألته قائلاً: (أرجو أن تدلني على مكان محطة المترو هنا. فنظر إلى الشاب وتبسم ضاحكاً ثم قال: (لقد عرفت منذ رايتك انك لست من أهل القاهرة) فغضبت لهذا لاني لا اعتز بشيء اعتزازي باني من أبناء القاهرة الصميمين، وقلت له: (إنني منهم ومنزلي في مصر الجديدة في شارع. . .) وما كدت اكمل هذا القول حتى ضحك وقال (مصر الجديدة! حقاً إنك رجل لطيف. تعال معي إلى هذا المجلس فإنني متعب وقد سرتني دعابتك. فمن أي الأرياف جئت؟). قال هذا وسار بي نحو مقعد عام على جانب الحديقة التي في وسط الطريق. وقد أعجبني من الشاب شهامته وخفة روحة فكظمت غضبي من إصراره على إنني ريفي، وذهبت معه وأنا مسرورة لأنني ووجدت رجلاً من أهل العصر الذي دخلت فيه أكلمه واعرف منه أسرار حياة الناس في أيامه. فلما استقر بنا الجلوس قال
باسماً: (إنت إذن من مصر الجديدة؟) فقلت له متحدياً: (نعم! أنا من هناك). قال: (انيس سمعت بهذا الاسم في التاريخ في أثناء دراستي في الجامعة، ولكن مصر الجديدة اليوم اسمها حي الشركة القديمة.) فقلت - (حي الشركة القديمة؟ ولكن ما معنى هذا؟) فقال إنني كنت ادرس التاريخ الاقتصادي في جامعة حوش عيسى وهناك. . . . . .). فلم أتمالك نفسي أن ضحكت هذه المرة متهكما إذ رأيت فرصة للانتقام. وقلت: (جامعة حوش عيسى؟ يالك من مداعب ماهر! ألا تعرف إنني عشت في إقليم البحيرة ورأيت حوش عيسى؟ جامعة حوش عيسى!) ثم اندفعت اضحك. فقال الشاب متعجباً من ضحكي: (لست ادري لماذا تضحك؟ نعم جامعة حوش عيسى. ألا تعجبك مدينة تعدادها اليوم فوق نصف مليون من الأنفس؟ وهل تسخر من مدينة هي مركز شركات صناعة القطن والحرير والصابون وعجلات السيارات وأجنحة الطيارات؟). فقلت له ضاحكاً: (ما أمهرك في الفكاهة يا أخي! لعلهم قد كشفوا هناك منجماً للفحم.). فقال الشاب: (منجماً للفحم؟ ولماذا؟ إن هناك اكبر مؤسسات استخدام أشعة الشمس. فهل من حاجة مع هذه المؤسسات إلى منجم للفحم؟) فأرجعت شفتي إلى نصابيهما من الجد وعلمت أن قول الشاب لا ينم عن هزل أو فكاهة. فقلت له معتذراً إذ كنت اجهل ذلك، ولكني أرجو أن تخبرني أي شعب له فضل إنشاء هذا المصانع؟). فنظر إلى متعجباً وقال: (الست مصريا؟ فقلت له مرتبكاً: (نعم أنا مصري. وكدت أخون نفسي فافصح له عن سرب حالي وحقيقة أمري ثم تدرعت بالحزم وقلت له: (ولكن أرجو العفو فقد غبت عن مصر مدة طويلة. فالحقيقة إنني انتقلت منها طفلاً ولم اعد إليها إلا اليوم، وكنت احب أن اعرف الموضع الذي كنت أعيش فيه وأنا طفل فسألتك عن محطة المترو لأذهب به إلى مصر الجديدة لذلك الغرض. فقال الشاب: (اعلم إن مصر اليوم لا يسمح فيها لشركة أجنبية ان تقوم بعمل. فهذا محرم في قانونها، ومنذ عشرات من السنين قد أفلست شركة مصر الجديدة لأنها ضاربت في بعض المشروعات الأجنبية، ومنذ أفلست استولت الدولة على مكانها وأطلقت عليه اسم حي الشركة القديمة، وهي حي متوسط بين حي (الملكة نازلي الذي نحن فيه الآن وحي ميدان الطيران الضغر الذي في الطريق المؤدي إلى مدينة السويس، ويمكنك الوصول إليه عن طريق تحت الأرض رقم 105 عن طريق السيارات رقم 50 شمال، وكنت اسمع قول الشاب وأنا في دهشة عظيمة من التغير الذي اعترى البلاد وأردت أن اعلفم علم تلك الشركات التي ذكرها الشاب في عرض حديثة عن مدينة حوش عيسى فقلت له: (ولكنك لم تقل لي لمن تلك الشركات التي تملك مصانع حوش عيسى) فقال الشاب: (هي مثل الشركات التي تملك مصانع بليسون الإسماعيلية وبور فؤاد: ومثل شركات مصانع السيارات والطيارات في أسوان. وشركات استخراج الراديوم والألمنيوم وسائر المعادن في سواحل البحر الأحمر، ومشركات مصانع الفواكه والمربيات في وادي عربة الواقع في الصحراء في شرق مديريتي بني سويف والمنيا. فكلها شركات مصرية) فلم أتمالك أن اهتززت هزة قوية عندما ذكر الفتى ذلك ورفعت رأسي مباهياً كأنما هذه الشركات قائمة في عصري الحالي وكدت افخر قائلاً أنا من بني مصر هؤلاء. ولكني ذكرت أن فخر ذلك ليس لي فاني من أهل جيل لم يحن لهم أن يفاخروا بمثل هذا. ورأيت الفتى يستعد للقيام فسألته وأنا آسف لفراقه: (إلى أين؟) ولقد وددت أن أبقى معه حتى اعرف كل ما في حياة مصر في عصره من التجديد البديع، ولكنه أجاب إجابة حاسمة: (اعتذر لك لاني ذاهب لسماع خطاب رئيس شركة قناة السويس في البرلمان في موضوع هام خاص برسوم البحارة في تلك القناة) فسألته: (وكيف يكون رئيس تلك الشركة عضواً في البرلمان؟) فنظر ألي متأففاً من غبائي وقال: (ولكن لم تعجب لذلك؟ أليس مصرياً؟) فخجلت إذ عرفت إنني دائماً أنسى واخلط بين عصري وذلك العصر الجديد الذي نزلت به. ومد الفتى يده إلى
مسلماً وقال: (لعلنا نلتقي بعد!) فسلمت عليه باسماً وشكرته ولكنني لم املك نفسي أن سألته سؤالاً كان يحول بنفسي طول المدة التي جلست فيها معه فقلت: (ولكن ماذا فعل الإنجليز. ألا يزالون على عهدهم) فرفع الشاب رأسه عالياً وشمخ بأنفه وقال لي غاضباً: (حسبك أيها الرجل. ما ظننت انك تبلغ بي إلى هده الإهانة.) فقلت معتذراً: (أية اهانة؟ انني لم اقصد شيئاً من ذلك) فقال وهو يسير: (انك تذكرني بعصر مضى منذ بعيد. قضى على بلادي أن تخضع له حيناً من الدهر أيام كان أهلها فيهم رخاوة وضعف، ولكن ماذا يدخل الإنجليز اليوم في أمورنا ولهم من أمورهم في بلادهم ما يملأ دائرة اهتمامهم؟) قال هذا وسار مسرعاً وتركني وحدي لا املك رأسي ما بها من الدوار. فوضعت منظاري على يميني وجعلت بنظري حتى رأيت الآلة حيث تركتها وأسرعت إليها فأدرتها وعدت إلى عصري ورأيت المناظر التي أعدتها منذ عشت، وعدت إلى منزلي فقضيت ليلة مسهدة بين آمال وهموم. وقد زارني أصدقائي في اليوم التالي فقال لي توفيق: (لعلك رأيت في العصور الآتية ما يذهب عنك الم الحاضر) فقلت: (لن تراني بعد اليوم مقطب الجبين. سوف أسعى بقدر طاقتي لعلي أكون موفور النصيب من بناءس ذلك المجد المقدور. ثم حكيت له قصة ما رأيت وقلت له: (ليحمل كل منا أمانته إلى أبناء الجيل الذي بعده. فهذا مجد محتوم. هذا أمل محقق ان شاء الله)
مجلة الرسالة - العدد 21 ←
بتاريخ: 15 - 11 - 1933
فيذهب إلى العصور المقبلة ويرى نفسه في غمار الحياة في الأجيال الآتية. ويتحرك اللسان على اللوحة مشيراً إلى رقم السنوات المقبلة. حسبي الآن ما ذكرت من وصف الآلة فاني أخشى من بعض أساتذة الجامعة في كلية العلوم أن يفطن إذا أطلت الوصف فيعرف سر هذه الآلة من ثنايا قولي بوساطة بعض طرقهم العلمية الماكرةمن الارثماطيقي والماتيماطيقي والفيزنيقي. او غير ذلك من العلوم التي لا علم لي بها. فانهم لو فعلوا ذلك لأوقعوني في ورطة، إذا أكون قد خدعت عن سر لا املكه ولا يحمل بي التصرف فيه. وقد كنت إذا شعرت بالسام يدب إلى نفسي انهض إلى هذا إليه فاجلس فيها وأدير العجلة الوسطى نحو اليمين فأذهب في العصور الماضية لأني شديد الحنين إليها لأنني لست ممن يرتاحون إلى الوقت الحاضر، ولا يرون في الحال المائلة حولنا شيئاً ترتاح إليه النفس أو يطمئن إليه القلوب فالناس فيه: شيوخهم فيهم وهن، وكهولهم فيهم حرص، وشبانهم فيهم طراوة ورخاوة. ولا فائدة في أن أعيد إلى القارئ مناظر تلك العصور الماضية فهي مائلة مصورة في كتب التاريخ إذا كانت غير مائلة مع الأهواء. وكنت أجد ما أحببت من السرور بالتجول في تلك العصور، إذ كنت اشبع كبريائي بما أراه من مجد الآباء والأجداد، وكنت إذا رأيت منظراً يؤلمني في عصر من العصور أسرعت بإدارة العجلة التي أمامي فانتقل مسرعاً حتى ابصر مناظر مجيدة في عصر آخر فأوقف العجلة وانزل من الآلة وأجول في أنحاء ذلك العصر حتى امتلئ سروراً، ثم ارجع وأدير العجلة فأعود إلى عصري ومنزلي خوف أن يقلق أهلي إذا أطلت عنهم غيبتي. وقد وقعت عيني مرة في أثناءعودتي إلى عصري على منظر استرعى انتباهي فأوقفت العجلة مسرعا ثم نزلت من الآلة لأشاهده. فقد رأيت رجلا من عامة أهل الريف واقفاً في وسط ساحة قريبة من (ميدان الأوبرا) وقد اخذ بتلا بية رجل على رأسه قبعة قذرة وهو ضخم الجسم ولكن وجهة بشع المنظر، وله عينان كأنهما عينا ذئب مفترس، وله أظافر طويلة ليست كأظافر بني الإنسان بل هي قريبة إلى أظافر النسور مقصوصة طويلة مدببة، وقد وقف حول الرجلين جماعة من أمم مختلفة، ولكن أكثرهم من أولاد مصر القاهرة ممن يسهل اجتماعهم حول أية ضجة تثور في طريق من الطرق، وهم لا يقصدون بذلك إلا إشباع رغبة الاستطلاع، ولا فرق بيني وبينهم وأنا ممتلئ مثلهم رغبة في الاستطلاع، ولا فرق بيني وبينهم غلا إنني لم اكن عند ذلك مستعدا للدعابة ولا للثرثرة. وبعد هنيهة علمت ان ذلك المبرنط دائن لذلك الريفي وانه قد استولى على كل ماله في الريف حتى ألجأت إلى أن يهرب إلى القاهرة لاجئا إلى أزقتها وجدران مبانيها متخذاً الأولى مغدي ومراحا والثانية مأوى. وقد استجدت ذلك الفلاح يوماً رغيفاً فأكل ربعه ودس الباقي في جيب ثوبه المهلل جاعلاً إياه ذخرا يلجأ إليه إذا عضه الجوع في ليلة لم يجد فيها من يطعمه لقمة. فكان جيبه بارزاً إلى أمام يخيل إلى من يراه إنه قد خبأ فيه شيء ذا قيمة وقد أراد سوء حظه أن يلقاه دائنه المبرنط وهو على تلك الحال فأسرع إليه الشك في إنه يخفي في جيبه دجاجة لها بيض ذهبي، وزاد الشك في قلبه وغلى دمه عندما تذكر أنه لا يزال له على ذلك الريفي مقدار من المال. فقال في نفسه (يا للعدالة أأكون دائناً لذلك الريفي ولا أستطيع أن أحصل على ديني منه؟ وهاهو ذا يسير طليقاً وفي جيبه دجاجة تبيض الذهب؟) وما هو إلا أن قال ذلك في نفسه حتى اندفع إليه وأمسك بتلابيبه. وما هو إلا أن فعل ذلك حتى أجتمع من رأيت حولهما من الناس ينظرون ويتكلمون ويمزحون وقد أراد ذلك المبرنط أن ينزع عنه ثوبه المهلهل ليرى ما تحته فأبى الرجل الريفي خجلاً من أن يرى الناس جسمه المشعر عارياً، فتشبث بالثوب وعلا النزاع بين الرجلين حتى بدأ النظارة يتدخلون بينهما ووقفت أنظر ما يؤول إليه أمر هذا النزاع، فما هي إلا برهة حتى رأيت الجميع يتألبون على الريفي حتى نزعوا عنه ثوبه، يبحثون عن الدجاجة ذات البيض الدجاجة. فلما تم لهم ذلك
المسعى لم يجدوا إلا رغيفاً مقطوع الربع مهشم الباقي. فلما راى الرجل المبرنط ذلك لم يرض أن يرجع عن هجومه ذلك خائباً، فأصر على أن يأخذ الثوب المهلهل ويترك الرجل عارياً، ثم فكر في أخذ الرغيف ولكن نفسه عافته، وظن أنه لم يجد له شارياً فتركه وقال: (عليك أن تشكرني أيها المماطل لأني تركت لك ذلك الرغيف تأكله وتملأ به بطنك وتنام في حين أنا لا أتقاضى منك ديني. يا للعدالة!). إلى هذا فهز كثير من الحضور رؤوسهم علامة الإعجاب والموافقة ولم يتكلم واحد منهم بكلمة. ولكني كنت حديث العهد برحلة في عصر ماض من عصور مجد بلادي وكان قلبي ممتلئا كبراً واعتدادً بنفسي. فأنفت أن أترك مواطني في هذا البلاء. فتقدمت نحوه وقد غلبني الغضب على الصمت وقلت للريفي بصوت عال: (هل لك أيها المسكين أن تشترك معي في استرداد ثوبك بالقوة؟) فنظر الرجل إلي نظرة ذات مغزى ثم نظر إلبى منت حولنا وسكت فنظرت حيث رأيته ينظر فإذا بالنظارة يمزحون ويضحكون ويقلبون الثوب وهو مع الرجل المبرنط ويهنئونه بحصوله على شيء من دينه، وكان أعلاهم صوتاً رجال مبرنطون مثله يبلغون العشرة عداً فعلمت من نظرة الرجل إنه يرى نفسه عاجزاً ولو مساعدتي على استرداد ثوبي ورأيت دمعة تسقط من عينيه وجثى على ركبتيه حياء من تعريض جسمه الضخم المشعر للأنظار، وكان فوق ثيابه معطف قديم كنت أحتاطه بلبسه في رحلات فخلعته صامتاً وطرحته فوق منكبيه فكساه إلى ملئت ركبتيه، فنظر إلي صامتاً نظرة كدت أبكي من وقعيها عندما لاقت نظري وتركته مسرعاً وعدت إلى اللآله فأسرعت بها عائداً إلى العصور الماضية أطلب التسلية في مناظرها. حتى إذا ما سرى عندي ما بي من الشجن أدرت العجلة وعدت مسرعاً إلى عصري ودخلت منزلي وكان أهلي قد قلقوا بطول غيبتي، ومنذ ذلك اليوم عاودتني كآبة كانت تظهر في حديثي وتدل عليها ملامح وجهي حتى لقد لاحظها بعض أصدقائي وكان فيهم جماعة من الشبان أولي الهمة فجعلوا يسألونني عن علة ما بي فذكرت لهم قصتي في ذلك اليوم الذي رأيت فيه ما رأيت من المبرنط والريفي. وذكرت لهم في قصتي حديث الالة التي أتجول بها في العصور الماضية طالباً التسلية من هموم الوقت الحاضر. فقال لي أحدهم وأسمه توفيق: (ولكن العجيب أنك لم تفكر يوما في أن ندبر تلك العجلة نحو اليسار) ولم أنتبه قبل الساعة إلى أن عجلة الآلة يمكن أن تدار إلى اليسار فسيكون التجول في عصور المستقبل بدل أن يكون في عصور الماضي. فقلت له وبي شيء من الارتباك (أنني لم أفطن إلى ذلك إلا ألان) فأجابني ذلك الصديق الشاب (أنني أعتقد أن السلوة لا تكون أبدا في العودة إلى الماضي. فان الغنى إذا أفتقر لا يسليه عن فقره أنه كان يوما ما واسع النعمة رافلاً في الغنى بل إن ذلك أدعى إلى أسفه وأسخن لعينه. ولكن الذي يسلي الفقير أن يتطلع إلى المستقبل ليرى أنه سيكون بعد ألمه في راحة وبعد إملاقه في غنى. وكذلك الحال في السجين، فأنه لا يهدأ قلبه من ذكرى ماضي حريته، بل قلبه يهدأ وألمه يضمحل إذا فكر في قرب يوم الانطلاق) والحق أنني لم أتعلم من أحد مثل هذه الحكمة الصادرة من شاب غير مجرب. وقد شعرت بالخجل إذ رأيت أحد أبنائي في السن يعلمني حكمة غربت عن فكري، ولكني أحمد الله على أني في هذه الأمور أنزل عند الحق ولا تأخذني العزة بالإثم. فقلت له (إني شاكر لك تنبهي إلى هذا يا صديقي وسوف أقص عليك نبأ ما أرى) وما هي إلا ساعة حتى كنت جالساً على المقعد في تلك الآلة المحبوبة ووضعت يدي على عجلتها وأدرتها ضاغطاً نحو اليسار. فرأيت اللسان يتحرك هذه المرة إلى أعلى وقد أشار إلى أرقام أعلى من رقم 1933. وقد عراني عند دوران الالة دوار شديد لم أشعر بمثله عند تجوالي في العصور الماضية فلم أفق من الدوار حتى كان اللسان قد بلغ رقم (2000) عند ذلك أوقفت حركة العجلة ونزلت من الالة وتركتها علىجانب الطريق الذي وجدت نفسي فيه، ولم أخش أن
أتركها حيث هي وأسير إذ أني كنت على يقين من أنها في مأمن من الرقة لأني كنت كل الثقة من أنه ليس في الناس جميعاً من يملك منظاراً من معدن الآلة فيستطيع أن يرها إلا أنا والمخترع الأصلي للآلة وقد سبق لي ذكر أسمه. سرت بعد ذلك في طريق عجيبة لم تقع عيني على مثلها، فهي فسيحة لا يقل عرض أضيقها عن مائة متر. ويحف بها من جانبيها أبنية شاهقة هي أشبه بما نسمع في عصرنا الحالي في أمريكا وهو ما يسمونه (ناطحات السحاب) وكانت حركة الانتقال في تلك الطرق الفسيحة سريعة عنيفة حتى كنت أخطو الخطوة وأنا خائف أترقب، وكانت السيارات من كل نوع ومن صنوف لم أرى مثلها من قبل في عصري الذي أعيش فيه وما كان أشد عجبي عند ما رفعت رأسي إلى قمة هذه الأبنية فوجدت فوقها حركة عظيمة من طيور عظيمة تعدو وأخرى تهبط، ولكني عجبت أن تكون الطيور في مثل هذا الحجم وهي على البعد العظيم الذي بيني وبين قمم هذه الأبنية، وهمت أن أسال بعض المارين عن ذلك، ثم رأيت منطاداً طائراً يشبه ذلك المنطاد الذي آتى به (اكنر) إلى مصر في العام المنصرم في عصرنا هذا، ففكرت في نفسي قائلا: ألاتكون تلك الطيور طائرات ميكانيكية. ولم يطل بي أمد الحدس والتخمين فقد رأيت طائراً من تلك الطيور يهوي من العلو الشاهق إلى أسفل فإذا به يستوي على جانب الطريق وإذا به آدمي قد وضع على ظهره آلة ذات جناحين قد ربطها ربطاً محكماً في كتفيه وأعلى صدره. فما هبط على الأرض حتى حل الأربطة وعالج الآلة حتى أسترت على عجلتين كانتا خفيفتين ثم أدار لولباً في جانب الآلة فإذا بها تعدوا على نمط (الموتوسيكل) في عصرنا الحالي. وعند ذلك فقط عرفت كنه هذه الأسراب الطائرة فوق أعلى الأبنية. ومضيت في سيري وأنا اكثر علماً بأنني في عصر جديد وعهد غير ما عرفت في بلادي. وجعلت وأنا سائر أتلفت حولي تلفت المذهول الدهش كأنني بعض أهل الريف نزل عاصمة كبرى لاول مرة في حياته، فقلت في نفسي إنني أخشى أن أنا بعدت عن موضعي ألا أستطيع العودة إليه فليست هذه المدينة القاهرة التي ولدت فيها وعشت فيها طوال السنين، بل لقد غيرها مر الدهر أي تغيير حتى صارت غير ملائمة لحواسي وأعصابي، وعولت على أن أعود إلى الآلة التي حملتني إلى ذلك العصر المجهول فأحرك عجلتها وأعود من حيث أتيت. بينا أنا أفكر في عصر غير ناظر إلى ما حولي إذا أسرع إلى شاب فاختطفني اختطافاً ودفعني إلى جانب. وما هي إلا ثانية بعد ذلك حتى رأيت طائراً من تلك الطيور الآدمية قد نزل في الموضع الذي كنت واقفاً فيه ولو لم يدفعني ذلك الشاب لكان الطائر قد هوى على وحطم رأسي. فلما أفقت من ذعري خاطبني الشاب بلهجةاللوم قائلاً: ((أما ترى علامة انفتاح الطريق امامك؟)) فنظرت إلى حيث أشار بيده فوجدت إشارة حمراء وسهما مشيراً إلى أعلى فعلمت إن ذلك المكان موضع لرسو من أراد النزول من الطائرين إلى الأرض وان الناس قد اعتادوا إطاعة تلك الإشارات الحمراء وتحاشي تلك المواضيع. فاعتذرت إلى الشاب وشكرته ثم دنوت منه فسألته قائلاً: (أرجو أن تدلني على مكان محطة المترو هنا. فنظر إلى الشاب وتبسم ضاحكاً ثم قال: (لقد عرفت منذ رايتك انك لست من أهل القاهرة) فغضبت لهذا لاني لا اعتز بشيء اعتزازي باني من أبناء القاهرة الصميمين، وقلت له: (إنني منهم ومنزلي في مصر الجديدة في شارع. . .) وما كدت اكمل هذا القول حتى ضحك وقال (مصر الجديدة! حقاً إنك رجل لطيف. تعال معي إلى هذا المجلس فإنني متعب وقد سرتني دعابتك. فمن أي الأرياف جئت؟). قال هذا وسار بي نحو مقعد عام على جانب الحديقة التي في وسط الطريق. وقد أعجبني من الشاب شهامته وخفة روحة فكظمت غضبي من إصراره على إنني ريفي، وذهبت معه وأنا مسرورة لأنني ووجدت رجلاً من أهل العصر الذي دخلت فيه أكلمه واعرف منه أسرار حياة الناس في أيامه. فلما استقر بنا الجلوس قال
باسماً: (إنت إذن من مصر الجديدة؟) فقلت له متحدياً: (نعم! أنا من هناك). قال: (انيس سمعت بهذا الاسم في التاريخ في أثناء دراستي في الجامعة، ولكن مصر الجديدة اليوم اسمها حي الشركة القديمة.) فقلت - (حي الشركة القديمة؟ ولكن ما معنى هذا؟) فقال إنني كنت ادرس التاريخ الاقتصادي في جامعة حوش عيسى وهناك. . . . . .). فلم أتمالك نفسي أن ضحكت هذه المرة متهكما إذ رأيت فرصة للانتقام. وقلت: (جامعة حوش عيسى؟ يالك من مداعب ماهر! ألا تعرف إنني عشت في إقليم البحيرة ورأيت حوش عيسى؟ جامعة حوش عيسى!) ثم اندفعت اضحك. فقال الشاب متعجباً من ضحكي: (لست ادري لماذا تضحك؟ نعم جامعة حوش عيسى. ألا تعجبك مدينة تعدادها اليوم فوق نصف مليون من الأنفس؟ وهل تسخر من مدينة هي مركز شركات صناعة القطن والحرير والصابون وعجلات السيارات وأجنحة الطيارات؟). فقلت له ضاحكاً: (ما أمهرك في الفكاهة يا أخي! لعلهم قد كشفوا هناك منجماً للفحم.). فقال الشاب: (منجماً للفحم؟ ولماذا؟ إن هناك اكبر مؤسسات استخدام أشعة الشمس. فهل من حاجة مع هذه المؤسسات إلى منجم للفحم؟) فأرجعت شفتي إلى نصابيهما من الجد وعلمت أن قول الشاب لا ينم عن هزل أو فكاهة. فقلت له معتذراً إذ كنت اجهل ذلك، ولكني أرجو أن تخبرني أي شعب له فضل إنشاء هذا المصانع؟). فنظر إلى متعجباً وقال: (الست مصريا؟ فقلت له مرتبكاً: (نعم أنا مصري. وكدت أخون نفسي فافصح له عن سرب حالي وحقيقة أمري ثم تدرعت بالحزم وقلت له: (ولكن أرجو العفو فقد غبت عن مصر مدة طويلة. فالحقيقة إنني انتقلت منها طفلاً ولم اعد إليها إلا اليوم، وكنت احب أن اعرف الموضع الذي كنت أعيش فيه وأنا طفل فسألتك عن محطة المترو لأذهب به إلى مصر الجديدة لذلك الغرض. فقال الشاب: (اعلم إن مصر اليوم لا يسمح فيها لشركة أجنبية ان تقوم بعمل. فهذا محرم في قانونها، ومنذ عشرات من السنين قد أفلست شركة مصر الجديدة لأنها ضاربت في بعض المشروعات الأجنبية، ومنذ أفلست استولت الدولة على مكانها وأطلقت عليه اسم حي الشركة القديمة، وهي حي متوسط بين حي (الملكة نازلي الذي نحن فيه الآن وحي ميدان الطيران الضغر الذي في الطريق المؤدي إلى مدينة السويس، ويمكنك الوصول إليه عن طريق تحت الأرض رقم 105 عن طريق السيارات رقم 50 شمال، وكنت اسمع قول الشاب وأنا في دهشة عظيمة من التغير الذي اعترى البلاد وأردت أن اعلفم علم تلك الشركات التي ذكرها الشاب في عرض حديثة عن مدينة حوش عيسى فقلت له: (ولكنك لم تقل لي لمن تلك الشركات التي تملك مصانع حوش عيسى) فقال الشاب: (هي مثل الشركات التي تملك مصانع بليسون الإسماعيلية وبور فؤاد: ومثل شركات مصانع السيارات والطيارات في أسوان. وشركات استخراج الراديوم والألمنيوم وسائر المعادن في سواحل البحر الأحمر، ومشركات مصانع الفواكه والمربيات في وادي عربة الواقع في الصحراء في شرق مديريتي بني سويف والمنيا. فكلها شركات مصرية) فلم أتمالك أن اهتززت هزة قوية عندما ذكر الفتى ذلك ورفعت رأسي مباهياً كأنما هذه الشركات قائمة في عصري الحالي وكدت افخر قائلاً أنا من بني مصر هؤلاء. ولكني ذكرت أن فخر ذلك ليس لي فاني من أهل جيل لم يحن لهم أن يفاخروا بمثل هذا. ورأيت الفتى يستعد للقيام فسألته وأنا آسف لفراقه: (إلى أين؟) ولقد وددت أن أبقى معه حتى اعرف كل ما في حياة مصر في عصره من التجديد البديع، ولكنه أجاب إجابة حاسمة: (اعتذر لك لاني ذاهب لسماع خطاب رئيس شركة قناة السويس في البرلمان في موضوع هام خاص برسوم البحارة في تلك القناة) فسألته: (وكيف يكون رئيس تلك الشركة عضواً في البرلمان؟) فنظر ألي متأففاً من غبائي وقال: (ولكن لم تعجب لذلك؟ أليس مصرياً؟) فخجلت إذ عرفت إنني دائماً أنسى واخلط بين عصري وذلك العصر الجديد الذي نزلت به. ومد الفتى يده إلى
مسلماً وقال: (لعلنا نلتقي بعد!) فسلمت عليه باسماً وشكرته ولكنني لم املك نفسي أن سألته سؤالاً كان يحول بنفسي طول المدة التي جلست فيها معه فقلت: (ولكن ماذا فعل الإنجليز. ألا يزالون على عهدهم) فرفع الشاب رأسه عالياً وشمخ بأنفه وقال لي غاضباً: (حسبك أيها الرجل. ما ظننت انك تبلغ بي إلى هده الإهانة.) فقلت معتذراً: (أية اهانة؟ انني لم اقصد شيئاً من ذلك) فقال وهو يسير: (انك تذكرني بعصر مضى منذ بعيد. قضى على بلادي أن تخضع له حيناً من الدهر أيام كان أهلها فيهم رخاوة وضعف، ولكن ماذا يدخل الإنجليز اليوم في أمورنا ولهم من أمورهم في بلادهم ما يملأ دائرة اهتمامهم؟) قال هذا وسار مسرعاً وتركني وحدي لا املك رأسي ما بها من الدوار. فوضعت منظاري على يميني وجعلت بنظري حتى رأيت الآلة حيث تركتها وأسرعت إليها فأدرتها وعدت إلى عصري ورأيت المناظر التي أعدتها منذ عشت، وعدت إلى منزلي فقضيت ليلة مسهدة بين آمال وهموم. وقد زارني أصدقائي في اليوم التالي فقال لي توفيق: (لعلك رأيت في العصور الآتية ما يذهب عنك الم الحاضر) فقلت: (لن تراني بعد اليوم مقطب الجبين. سوف أسعى بقدر طاقتي لعلي أكون موفور النصيب من بناءس ذلك المجد المقدور. ثم حكيت له قصة ما رأيت وقلت له: (ليحمل كل منا أمانته إلى أبناء الجيل الذي بعده. فهذا مجد محتوم. هذا أمل محقق ان شاء الله)
مجلة الرسالة - العدد 21 ←
بتاريخ: 15 - 11 - 1933