" الدكتور محمد كامل حسين كان من أشد الناس حبًا للقراءة وأعظمهم بها كلفًا وأكثرهم عليها إقبالاً... وهو لا يقرأ بقلبه وحده ولا يقرأ بعقله وحده وإنما يقرأ بهما معًا" (عميد الأدب العربى الدكتور / طه حسين).
هذا العالم عرفته مصر من خلال صحيفة أحدثت ما أحدثت من حركة فى حياتنا الأدبية والفكرية خلال القرن العشرين، وأعنى بها (السياسة الأسبوعية)، وكان الدكتور/ كامل حسين يسهم فيها بالكتابة مع قادة النهضة الأدبية فى تلك الفترة، من أمثال: الدكتور / محمد حسين هيكل باشا، وعميد الأدب العربى الدكتور / طه حسين، واختار لنفسه اسمًا مستعارًا هو (ابن سينا)، وإذا أردت أن تسأل عن ابن سينا القرن العشرين هذا، سيقولون لك: إنه طبيب شاب حصل على بكالوريوس الطب، ولم يجاوز الثانية والعشرين، وما أن أمضى سنتى الامتياز بطب القاهرة حتى أوفد فى بعثة إلى إنجلترا، ومن هناك كان يراسل باستمرار (السياسة الأسبوعية)، وينشر فيها بواكير إنتاجه الأدبي.
ولد الدكتور محمد كامل حسين فى العشرين من شهر مارس 1901، فى قرية سبك الضحاك، مركز الباجور، فى دلتا مصر بمحافظة المنوفية، حيث تربى فى كنف أخيه الأكبر بعد وفاة والده وهو لا يزال بعد صغيرًا، كان الأول فى شهادة البكالوريا (الثانوية العامة الآن)، وكذلك ظل الأول داخل فرقته فى كلية طب القصر العيني، حيث تخرج فيها وعمره لم يتجاوز الثانية والعشرين.
لم يتزوج عالمنا الأديب، وروى عنه أنه قال: إن هناك إحصائية حديثة مفادها أن عدد السعداء فى دول العالم الثالث من الزواج 7 % فلهذا أخذت بالأحوط، وقيل: إنه أحجم عن الزواج لاقتناعه بمقولة لشكسبير جاء فيها: إن الإنسان يولد ويتعلم ويعمل ويتزوج وينجب ويموت، وأنا لم أتزوج حتى يتأجل الموت خطوتين. .!!
أمضى عالمنا سنوات الامتياز فى قصر العيني، وفى عام 1925، سافر فى بعثة دراسية إلى انجلترا، وأمضى هناك خمس سنوات حصل خلالها على عدة ألقاب علمية منها: زمالة الجراحين الملكية، وماجستير فى جراحة العظام، فكان بذلك أول مصرى يجمع بين زمالة كلية الجراحين بانجلترا وماجستير جراحة العظام فى ليفربول، وكما أوضحت لك من قبل فإن دراسته العلمية وبعده عن وطنه لم يمنعاه من متابعة أبحاثه الأدبية والاجتماعية التى ظل يراسل بها الصحف والمجلات المصرية طوال مدة غيابه عن وطنه.
وعندما عاد إلى مصر فى عام 1930، تولى مهام التدريس فى كلية الطب، جامعة القاهرة، وأنشأ قسمًا لجراحة العظام، وتدرج بعدها فى مناصب هيئة التدريس فأصبح أستاذًا مساعدًا للدراسات العليا للجراحة عام 1936، ثم أستاذًا لجراحة العظام عام 1940.
عالمنا يعد بحق رائد طب العظام فى مصر والشرق الأوسط، فقد قام بإنشاء قسم جراحة العظام وطوره وفقًا للنظم العالمية الحديثة، كما ساهم فى إنشاء مستشفى الهلال الأحمر فى القاهرة عام 1937، وظل يشرف عليها مدة أربعين عامًا، كما اختير عضوًا فى مجمع اللغة العربية والمجمع العلمى المصري، والذى تولى رئاسته أكثر من مرة، كما دعى فى عام 1965، لإلقاء محاضرة بعنوان (التعاون الدولى والسلام العالمى ) فى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وعندما تولى الدكتور / طه حسين وزارة المعارف (التربية والتعليم)، رأى أن الدكتور / كامل حسين هو الشخص الذى يقدر على تحمل تبعات إنشاء جامعة جديدة، فعينه كأول مدير لجامعة إبراهيم (عين شمس حاليًا) عام 1950، ورغم حداثة هذه الجامعة وضخامة مشاكلها فإن عالمنا كان له الفضل الأكبر فى إيجاد كيان متميز لها، ورغم العوائق الشديدة التى واجهته أثناء تكوين هذه الجامعة، فقد كان يرى أن القانون يعطى الجامعة استقلالها، فإذا عبث أحد بهذا الاستقلال فهذا ليس ذنب القانون، كما كان يرى ضرورة توفير حماية النشر والتعبير لأساتذة الجامعة.
وكان يلح على ضرورة إتاحة الحرية الكاملة للباحثين عند عرض موضوعات أبحاثهم على المجتمع للاستفادة منها، وكانت نتيجة التعقيدات الإدارية والمناورات السياسية أن قدم استقالته بعد عامين فقط. كان عالمنا عالمًا حقًا، وبأدق معنى لهذه الصفة، فهو يؤمن بالتجربة إيمانًا لا يقل عن إيمانه بالعقل، يؤمن بالتجربة لأنها سبيل كسب المعلومات والكشف عن الحقيقة، ويلاحظ أن ميزة الطب الحديث هى أنه طب التجربة والمشاهدة، فى حين أن الطب القديم، أو بعبارة أدق طب اليونان، اعتمد على الوصفات الشائعة، والقضايا المسلمة، وكان يرى أن الاتصال المباشر بالطبيعة عن طريق الملاحظة والتجربة يربطنا بها، ويمكننا من أن نستنتج ونستنبط ونكشف عن قوانينها.
وكان مولعًا بالمنهج والدراسة المنهجية، ويؤثر منهجين واضحين فى دراساته، وهما: المقارنة والتحليل، فيقارن الظواهر بعضها ببعض، ويقارن الفكرة بالأخرى، يقارن ليكشف عن مواطن الضعف والقوة، ويتبين جوانب الكمال، وهو لم يطبق التحليل على العلم وحده بل طبقه على الأدب أيضًا.
وإذا تابعت كتابات الدكتور / كامل حسين ستجد أنها لم تقف عند الطب والصحة العامة، بل امتدت إلى لغتنا العربية وقضاياها، والبحوث العلمية بكل فروعها، وحقًا لو كان قد سمى نفسه (ابن المقفع)، أو (عبد الحميد بن يحيى الكاتب)، ما عز عليه ذلك.
كان الدكتور / كامل حسين شديد الولع بالدراسة والاطلاع فى كافة المجالات العلمية والفكرية والأدبية، وقد أوضح طه حسين ذلك بقوله: " إن الدكتور محمد كامل حسين كان من أشد الناس حبًا للقراءة وأعظمهم بها كلفًا وأكثرهم عليها إقبالاً. .. وهو لا يقرأ بقلبه وحده ولا يقرأ بعقله وحده وإنما يقرأ بهما معًا "
وفى مجالس أستاذ الجيل / أحمد لطفى السيد، عرف الدكتور / كامل حسين، مجالس الفكر والمعرفة، وكانت ملأى بالعلم والأدب والحكمة والتوجيه والإصلاح، ومرت بأصحاب هذه المجالس أمور كان لها شأنها، وقل أن يفكر أحدهم فى تسجيلها كتابة، مع أنها من ذخائر الماضي، واستشرافات المستقبل، وما أشبه مجالس لطفى السيد بمجالس (الإمتاع والمؤانسة)، إلا أنها لم تجد أبا حيان التوحيدى معاصرًا يعنى بتدوينها لنا.
كان صوت الدكتور / كامل حسين فى هذه المجالس مسموعًا، وكلامه عذبًا، وتعليقه واضحًا مرتبًا، ونقده سمحًا، وكلنا يعرف أن هذا الرجل كان له منزلة محترمة بين العلماء والأطباء، ومع هذا كان حديثه فى هذه المجالس يدور غاليًا حول الفكر والأدب واللغة، والإصلاح والتجديد والتنوير.
ونقرأ عن هذا المجلس العلمى الأدبي، الذى كان يعقد بقاعة لطفى السيد فى نادى محمد على باشا (نادى التحرير اليوم)، عقب ظهور قصة الدكتور / كامل حسين (قرية ظالمة )، وكان من بين من شهد المجلس، عبد الحميد بدوي، وبهى الدين بركات، وكل واحد منهما يحتاج الآلاف من الصفحات لتظهر قيمته الفكرية وتعرف الناس به، وما كان أشبه هذا المجلس بحفل تكريم منه بمحاكمة أدبية جادة، وإن لم يخل من تندر لطيف، وإيحاء بتوجس، أن تثير القصة بعض علماء الدين أو على الأقل بعض المتشددين، وكان الجميع قد قرأوها وقدروها قدرها.
ورواية قرية ظالمة تدور حول حال بنى إسرائيل والرومان والحواريين ليلة الجمعة التى رفع فيها السيد / المسيح (عليه السلام)، وترجمة هذه الرواية إلى 7 لغات من بينها الإنجليزية وحصل بها مؤلفها على جائزة الدولة التقديرية فى الأدب عام 1957، وأذكر لك من بين مؤلفات الدكتور / كامل حسين: الوادى المقدس، قوم لا يتطهرون، الذكر الحكيم، وحدة المعرفة، اللغة العربية المعاصرة وهو مشروع يقع فى 32 صفحة لتبسيط اللغة العربية لطلاب المدارس الابتدائية، التحليل البيولوجى للتاريخ، أدب مصر الإسلامية، طائفة الإسماعيلية. .. إلخ. . وكل هذه الكتب والأبحاث يجدر بنا الاطلاع عليها واستيعابها وفهمها، حتى نعطى هذا الرجل حقه، كأحد رموز التنوير فى عصرنا الحديث.
وفى عام 1952، اختير عالمنا الأديب عضوًا بمجمع اللغة العربية، وسعد جميع أعضاء المجمع باستقباله، وأجمع الأعضاء على أنه قل أن نجد من يقبل على الثقافة إقباله، ومن يحب القراءة حبه، فلا تكاد تذهب إلى محاضرة عامة فى العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن، إلا وتراه فى مقدمة المستمعين، ولا يكاد يظهر كتاب قيم كتب بالعربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، إلا ويسارع إلى قراءته.
وفى مجمع الخالدين برز نشاطه من خلال مشاركته فى هيئة المجمع ومؤتمراته ولجانه، وخاصة لجنة المصطلحات الطبية التى ساهم بجهد كبير فى نشاطها، وكذلك مساهمته فى أعمال لجنة المعجم اللغوى الوسيط ولجنة الأدب.
ومما لا شك فيه أن قراءاته الشخصية وإحساسه المرهف كان سببًا جوهريًا فى تكوينه كأديب متفرد، وعليه منح جائزة الدولة فى الأدب عام 1957، وجائزة الدولة التقديرية عام 1966 فى العلوم، فكان أول من منح جوائز الدولة فى كل من الآداب والعلوم، أضيف لك: أن عالمنا الكبير ظل عضوًا بمجلس جامعة عين شمس حتى وفاته يشارك بآرائه السديدة فى صنع أجيال الجامعيين، كما اختير عضوًا بمجلس جامعة الأزهر، وكان لفترة طويلة فى حياته عضوًا بالمجلس الأعلى للجامعات.
وكم ساءل البعض أنفسهم: كيف كان يوفق صاحبنا بين هذا وبين أعبائه المتعددة، فى درسه، وفى عيادته الخاصة، وفى سهره على مرضاه فى منازلهم أو فى المستشفيات؟!، مع الوضع فى الاعتبار أن أغلب هؤلاء المرضى كانوا من الفقراء المعدمين، فكان يعالجهم بالمجان، بل كان يعطى بعضهم من أصحاب الأمراض المزمنة رواتب شهرية، دون أن يعرف أحد ذلك.
ولم تقف قراءته عند الحديث والمعاصر، بل أبى إلا أن يجمع بين الماضى والحاضر، ودون أن نعرض لإلمامه الواسع بمختلف الثقافات العالمية الكبرى، أحب أن أشير لك من تمكنه الواسع من الثقافة العربية الأصيلة، حيث تبحر فى أصولها، وأحاط بشتى جوانبها، ودرسها فى عمق وسعة، وكون فيها رأيه الخاص.
وهل كان من بين أقرانه من يقرأ كتاب (المغني) و(التصريح ) فى النحو، أو من يبحث ويفتش كثيرًا فى معجم (القاموس المحيط) للفيروز آبادي، و(لسان العرب ) لابن منظور، من كتب اللغة ؟ !.
أما الأدب فله فيه بحث ودرس، ونقد وتعليق، وحكم ورأي، وقد وقف طويلاً عند شاعر العربية الأكبر / أبى الطيب المتنبي، وفيلسوف الشعراء / أبى العلاء المعري، وكشف فى مجمع اللغة العربية عبر أبحاثه ومحاضراته عن حسه اللغوي، وذوقه الأدبى الرفيع.
أقول لكم: إن الدكتور/ كامل حسين كان يؤمن إيمانًا جازمًا بأن اللغة العربية، لغة حية، لغة كفيلة بأن تؤدى رسالة العلم والحضارة اليوم، كما أدتها بالأمس، وحياة كل لغة بحياة أهلها، فهم الذين يستطيعون أن يغذوها وينموها، وأن يلائموا بينها وبين حاجات العصر ومقتضياته.
كان يؤمن أيضًا أن اللغة العربية هى أداة أساسية من أدوات التفاهم والحوار والتبادل على كل الأصعدة، يملكها أصحابها، ومن العبث أن تملكهم وتتحكم فيهم، وهى ملكية عامة شائعة بين الجميع، ولا يقبل اليوم بحال من الأحوال أن نقصرها على طبقة معينة من الناس.
ولينظر معى القارئ الكريم أمنيته الحارة التى تضمنها تعليقه على رائعة الدكتور / طه حسين (دعاء الكروان) والتى صدرت عام 1942، إذ يقول: " آمل أن أرى يومًا هذه اللغة الشعرية تتمدد دون ابتذال، ودون أن تفقد من رونقها شيئًا إلى أن تصبح أداة فعالة لمجرد رواية حادثة وشرح موقف".
يلمس عالمنا الأديب الصراع بين العربية والعامية، ويراه دورًا من أدوار التطور فى حياة اللغة، وعلينا أن نواجهه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتيسير اللغة العربية على الناس كتابة، وقراءة، وتعلمًا، وبهذا تحيا وتنتشر، ويقبل عليها النشء، وإلا عز عليه أمرها، واستبدل بها وسائل تعبير أخرى.
ويسهم الدكتور كامل حسين فى هذا التيسير إسهامًا جادًا، فيعرض للإملاء، ورسم الحروف، مقترحًا طريقة سهلة لكتابة الهمزة، وأخرى لرسم الكلمات الأجنبية. ولفت نظره ما فى بعض قواعد النحو العربى من غموض أو تعقيد، واستوقفه بوجه خاص جنس العدد، وما يستلزمه من تذكير أو تأنيث للفظ العدد نفسه، ويرى أن ييسر ذلك بإبقاء اسم العدد على حاله دائمًا، مع الفصل بينه وبين المعدود بحرف (مِن)، فيقال دون تفرقة (خمسة من الرجال) و(خمسة من النساء)، ويذهب بوجه عام إلى أن النحو توسعًا وفلسفة، وإن لاءمت الخاصة فإنها لا تلائم العامة، ولا بد من أن نيسر تعليمه على النشء والشادين فى العلم.
وهذا أمر فكرت فيه وزارة المعارف (التربية والتعليم الآن) منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن، واقترحت نحوًا مدرسيًا ميسرًا، وتركت للمتخصصين أن يدرسوا فلسفة النحو ما وسعهم، وقد عرض عالمنا هذا الاقتراح على مجمع اللغة العربية المصري، وأقره فى تعديل يسير.
لم يفت عالمنا الأديب أن يدلى بدلوه فى هذا التيسير، واقترح ما سماه (النحو المعقول)، وبسط قواعده بالقدر الذى ارتضاه.
وفى رأيه أن كتب اللغة التى بين أيدينا تحتاج إلى تعديل وتنقيح، فتكتب بروح العصر، وفى ضوء التقدم العلمى الحديث، وتستبعد منها المماحكات اللفظية، والتعديلات السطحية، وأكد على أننا فى حاجة ماسة إلى معجم حديث مصفى، حديث فى اختيار ألفاظه، وحديث فى تجديد معانيه، لا يذكر فيه اختلاف أللهجات، ولا استعمال الأضداد للفظ الواحد، ولا يقبل فيه إلا صيغة واحدة للكلمة، وإلا مصدر واحد للفعل، وإلا جمع واحد للاسم، وتشرح الألفاظ شرحًا دقيقًا واضحًا يتمشى مع ما انتهى إليه العلم الحديث.. ليت مجمع الخالدين، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، يقرأ ما قاله الرجل، ويفهمه حق فهم، إن كنا بحق غيورين على لغتنا الأم. !!!
يقدر الدكتور كامل حسين لغتنا حق قدرها، ويعتز بها، ويريد لها أن تستعيد مجدها، وأن تصبح لغة العلم والفن، وأن تؤدى رسالتها على أكمل وجه، وأن تأخذ مكانتها بين اللغات الحالية العالمية الكبرى، وهو ينقد بعض جوانبها، ولكنه نقد بناء يرمى إلى الإصلاح والتجديد، وليس ثمة لغة لا مآخذ عليها.
وحس عالمنا الجليل الأدبى لا يقل عن حسه اللغوي، درس الأدب العربى بمختلف مراحله درسًا عميقًا، وحاول أن يطبق عليه المنهج المقارن، فيقارن أدباء اللغة العربية بعضهم ببعض، ويقارنهم ببعض الأدباء العالميين، وفى المقارنة تشويق وفتح لأبواب مغلقة، ولعله لا يسلم بنظرية التحليل النفسي، ولكنه لا يرفض أن يطبقها فى دراساته الأدبية.
فهو يرى مثلاً أن ما فى شعر المتنبى من غموض وتعقيد أحيانًا، إنما يرجع إلى ما صادفه فى حياته من خيبة وفشل، ذلك لأن الشاعر الكبير الذى شغل الدنيا وملأ الأسماع لم يحقق شيئًا من أهدافه السياسية والاجتماعية، فشاء أن يتخيل فى شعره مشاكل وصعوبات يحاول تذليلها، فينجح هنا بعد أن فشل هناك.
ويذهب أيضًا إلى أن نقائض (الفرزدق)، وقوله الفاحش، وهجاؤه المقذع حتى لنفسه ولأهله، ربما كان وليد ضعف وقصور فى الشخصية.
وبعكس هذا كان أدب شيخ المعرة (أبو العلاء المعري)، حيث يرى أن أدبه يعكس سمو شخصيته، وفى رأيه أن المعرى أقوى رجال الأدب العربى شخصية، وأعمقهم تفكيرًا، وأصدقهم عاطفة، وأحدهم ذكاء، لم يخلو نثره وشعره من مآخذ، ففى سجعه ضعف وتكلف أحيانًا، وفى شعره تشبيهات غامضة، وفى معانيه تكرار، وفى تعبيراته إسراف حتى يظهر ثروته اللغوية، ومع ذلك يعد إنتاجه من الأدب الرفيع، لصدقه الفنى وقوة تعبيره، وأدبه فى الواقع هو كل حياته، عاش فيه وله، وعن طريق اللغة عرف الحياة كلها، ولا غرابة إذن أن تطغى على نثره وشعره. وأذكر هنا أنه كتب ذات مرة محللاً أسباب انهيار الدولة العثمانية، فذهب إلى أنها انهارت بسبب الحرمان أكثر مما أثر فيها البطش والاستبداد والاستغلال من جانب حكامها، وهذا أدب تحليلى يقاس فيه اللفظ بمقياس المعنى، امتاز به عالمنا الأديب.
والدكتور كامل حسين أديب موضوعى يعنى بالحقائق والمعاني، يجمعها ويتخير أوثقها، ويهذبها وينسقها بحيث تبدو جلية واضحة، وقد مكنه اطلاعه الواسع من أن يعرض منها ألوانًا شتى: فى الأدب والتاريخ، فى العلم والفكر.
وعالمنا الأديب ممن يؤمنون بوحدة المعرفة وارتباط جوانبها بعضها ببعض، فعلم النفس فيه ما يوضح بعض المشاكل الأدبية، والتاريخ وثيق الصلة بعلم الاجتماع والسياسة، وكثيرًا ما تقود الدراسات الطبيعية إلى ضرب من البحث فيما وراء الطبيعة.
وهو يترجم لبعض الشخصيات المعاصرة له، فيقف عند أبرز المعالم وأوضح السمات، فأحمد لطفى السيد فى رأيه (أرسطي) صادق فى (أرسطيته)، ولا غرابة فوجوه الشبه بينه وبين أرسطو كثيرة، فكلاهما معلم، وكلاهما شديد العناية بالكليات عناية فائقة، وكلاهما مرهف الحس من ناحية المنطق البحت، يدرك الخطأ فى التفكير بطبيعته الصافية.
وفى عام 1977، انتقل عالمنا الأديب إلى رحمة الله تعالى، راضيًا مرضيًا، جزاءً وفاقًا لما قدم للعلم والأدب من خدمات جليلة، وختامًا أقول لك: إن وعينا وفهمنا ما قاله وكتبه لنا الدكتور / كامل حسين، فبدون شك لن ندخل القرية الظالمة أو نقترب منها.
د. يسري عبدالغني عبدالله - باحث وخبير في التراث الثقافي
هذا العالم عرفته مصر من خلال صحيفة أحدثت ما أحدثت من حركة فى حياتنا الأدبية والفكرية خلال القرن العشرين، وأعنى بها (السياسة الأسبوعية)، وكان الدكتور/ كامل حسين يسهم فيها بالكتابة مع قادة النهضة الأدبية فى تلك الفترة، من أمثال: الدكتور / محمد حسين هيكل باشا، وعميد الأدب العربى الدكتور / طه حسين، واختار لنفسه اسمًا مستعارًا هو (ابن سينا)، وإذا أردت أن تسأل عن ابن سينا القرن العشرين هذا، سيقولون لك: إنه طبيب شاب حصل على بكالوريوس الطب، ولم يجاوز الثانية والعشرين، وما أن أمضى سنتى الامتياز بطب القاهرة حتى أوفد فى بعثة إلى إنجلترا، ومن هناك كان يراسل باستمرار (السياسة الأسبوعية)، وينشر فيها بواكير إنتاجه الأدبي.
ولد الدكتور محمد كامل حسين فى العشرين من شهر مارس 1901، فى قرية سبك الضحاك، مركز الباجور، فى دلتا مصر بمحافظة المنوفية، حيث تربى فى كنف أخيه الأكبر بعد وفاة والده وهو لا يزال بعد صغيرًا، كان الأول فى شهادة البكالوريا (الثانوية العامة الآن)، وكذلك ظل الأول داخل فرقته فى كلية طب القصر العيني، حيث تخرج فيها وعمره لم يتجاوز الثانية والعشرين.
لم يتزوج عالمنا الأديب، وروى عنه أنه قال: إن هناك إحصائية حديثة مفادها أن عدد السعداء فى دول العالم الثالث من الزواج 7 % فلهذا أخذت بالأحوط، وقيل: إنه أحجم عن الزواج لاقتناعه بمقولة لشكسبير جاء فيها: إن الإنسان يولد ويتعلم ويعمل ويتزوج وينجب ويموت، وأنا لم أتزوج حتى يتأجل الموت خطوتين. .!!
أمضى عالمنا سنوات الامتياز فى قصر العيني، وفى عام 1925، سافر فى بعثة دراسية إلى انجلترا، وأمضى هناك خمس سنوات حصل خلالها على عدة ألقاب علمية منها: زمالة الجراحين الملكية، وماجستير فى جراحة العظام، فكان بذلك أول مصرى يجمع بين زمالة كلية الجراحين بانجلترا وماجستير جراحة العظام فى ليفربول، وكما أوضحت لك من قبل فإن دراسته العلمية وبعده عن وطنه لم يمنعاه من متابعة أبحاثه الأدبية والاجتماعية التى ظل يراسل بها الصحف والمجلات المصرية طوال مدة غيابه عن وطنه.
وعندما عاد إلى مصر فى عام 1930، تولى مهام التدريس فى كلية الطب، جامعة القاهرة، وأنشأ قسمًا لجراحة العظام، وتدرج بعدها فى مناصب هيئة التدريس فأصبح أستاذًا مساعدًا للدراسات العليا للجراحة عام 1936، ثم أستاذًا لجراحة العظام عام 1940.
عالمنا يعد بحق رائد طب العظام فى مصر والشرق الأوسط، فقد قام بإنشاء قسم جراحة العظام وطوره وفقًا للنظم العالمية الحديثة، كما ساهم فى إنشاء مستشفى الهلال الأحمر فى القاهرة عام 1937، وظل يشرف عليها مدة أربعين عامًا، كما اختير عضوًا فى مجمع اللغة العربية والمجمع العلمى المصري، والذى تولى رئاسته أكثر من مرة، كما دعى فى عام 1965، لإلقاء محاضرة بعنوان (التعاون الدولى والسلام العالمى ) فى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وعندما تولى الدكتور / طه حسين وزارة المعارف (التربية والتعليم)، رأى أن الدكتور / كامل حسين هو الشخص الذى يقدر على تحمل تبعات إنشاء جامعة جديدة، فعينه كأول مدير لجامعة إبراهيم (عين شمس حاليًا) عام 1950، ورغم حداثة هذه الجامعة وضخامة مشاكلها فإن عالمنا كان له الفضل الأكبر فى إيجاد كيان متميز لها، ورغم العوائق الشديدة التى واجهته أثناء تكوين هذه الجامعة، فقد كان يرى أن القانون يعطى الجامعة استقلالها، فإذا عبث أحد بهذا الاستقلال فهذا ليس ذنب القانون، كما كان يرى ضرورة توفير حماية النشر والتعبير لأساتذة الجامعة.
وكان يلح على ضرورة إتاحة الحرية الكاملة للباحثين عند عرض موضوعات أبحاثهم على المجتمع للاستفادة منها، وكانت نتيجة التعقيدات الإدارية والمناورات السياسية أن قدم استقالته بعد عامين فقط. كان عالمنا عالمًا حقًا، وبأدق معنى لهذه الصفة، فهو يؤمن بالتجربة إيمانًا لا يقل عن إيمانه بالعقل، يؤمن بالتجربة لأنها سبيل كسب المعلومات والكشف عن الحقيقة، ويلاحظ أن ميزة الطب الحديث هى أنه طب التجربة والمشاهدة، فى حين أن الطب القديم، أو بعبارة أدق طب اليونان، اعتمد على الوصفات الشائعة، والقضايا المسلمة، وكان يرى أن الاتصال المباشر بالطبيعة عن طريق الملاحظة والتجربة يربطنا بها، ويمكننا من أن نستنتج ونستنبط ونكشف عن قوانينها.
وكان مولعًا بالمنهج والدراسة المنهجية، ويؤثر منهجين واضحين فى دراساته، وهما: المقارنة والتحليل، فيقارن الظواهر بعضها ببعض، ويقارن الفكرة بالأخرى، يقارن ليكشف عن مواطن الضعف والقوة، ويتبين جوانب الكمال، وهو لم يطبق التحليل على العلم وحده بل طبقه على الأدب أيضًا.
وإذا تابعت كتابات الدكتور / كامل حسين ستجد أنها لم تقف عند الطب والصحة العامة، بل امتدت إلى لغتنا العربية وقضاياها، والبحوث العلمية بكل فروعها، وحقًا لو كان قد سمى نفسه (ابن المقفع)، أو (عبد الحميد بن يحيى الكاتب)، ما عز عليه ذلك.
كان الدكتور / كامل حسين شديد الولع بالدراسة والاطلاع فى كافة المجالات العلمية والفكرية والأدبية، وقد أوضح طه حسين ذلك بقوله: " إن الدكتور محمد كامل حسين كان من أشد الناس حبًا للقراءة وأعظمهم بها كلفًا وأكثرهم عليها إقبالاً. .. وهو لا يقرأ بقلبه وحده ولا يقرأ بعقله وحده وإنما يقرأ بهما معًا "
وفى مجالس أستاذ الجيل / أحمد لطفى السيد، عرف الدكتور / كامل حسين، مجالس الفكر والمعرفة، وكانت ملأى بالعلم والأدب والحكمة والتوجيه والإصلاح، ومرت بأصحاب هذه المجالس أمور كان لها شأنها، وقل أن يفكر أحدهم فى تسجيلها كتابة، مع أنها من ذخائر الماضي، واستشرافات المستقبل، وما أشبه مجالس لطفى السيد بمجالس (الإمتاع والمؤانسة)، إلا أنها لم تجد أبا حيان التوحيدى معاصرًا يعنى بتدوينها لنا.
كان صوت الدكتور / كامل حسين فى هذه المجالس مسموعًا، وكلامه عذبًا، وتعليقه واضحًا مرتبًا، ونقده سمحًا، وكلنا يعرف أن هذا الرجل كان له منزلة محترمة بين العلماء والأطباء، ومع هذا كان حديثه فى هذه المجالس يدور غاليًا حول الفكر والأدب واللغة، والإصلاح والتجديد والتنوير.
ونقرأ عن هذا المجلس العلمى الأدبي، الذى كان يعقد بقاعة لطفى السيد فى نادى محمد على باشا (نادى التحرير اليوم)، عقب ظهور قصة الدكتور / كامل حسين (قرية ظالمة )، وكان من بين من شهد المجلس، عبد الحميد بدوي، وبهى الدين بركات، وكل واحد منهما يحتاج الآلاف من الصفحات لتظهر قيمته الفكرية وتعرف الناس به، وما كان أشبه هذا المجلس بحفل تكريم منه بمحاكمة أدبية جادة، وإن لم يخل من تندر لطيف، وإيحاء بتوجس، أن تثير القصة بعض علماء الدين أو على الأقل بعض المتشددين، وكان الجميع قد قرأوها وقدروها قدرها.
ورواية قرية ظالمة تدور حول حال بنى إسرائيل والرومان والحواريين ليلة الجمعة التى رفع فيها السيد / المسيح (عليه السلام)، وترجمة هذه الرواية إلى 7 لغات من بينها الإنجليزية وحصل بها مؤلفها على جائزة الدولة التقديرية فى الأدب عام 1957، وأذكر لك من بين مؤلفات الدكتور / كامل حسين: الوادى المقدس، قوم لا يتطهرون، الذكر الحكيم، وحدة المعرفة، اللغة العربية المعاصرة وهو مشروع يقع فى 32 صفحة لتبسيط اللغة العربية لطلاب المدارس الابتدائية، التحليل البيولوجى للتاريخ، أدب مصر الإسلامية، طائفة الإسماعيلية. .. إلخ. . وكل هذه الكتب والأبحاث يجدر بنا الاطلاع عليها واستيعابها وفهمها، حتى نعطى هذا الرجل حقه، كأحد رموز التنوير فى عصرنا الحديث.
وفى عام 1952، اختير عالمنا الأديب عضوًا بمجمع اللغة العربية، وسعد جميع أعضاء المجمع باستقباله، وأجمع الأعضاء على أنه قل أن نجد من يقبل على الثقافة إقباله، ومن يحب القراءة حبه، فلا تكاد تذهب إلى محاضرة عامة فى العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن، إلا وتراه فى مقدمة المستمعين، ولا يكاد يظهر كتاب قيم كتب بالعربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، إلا ويسارع إلى قراءته.
وفى مجمع الخالدين برز نشاطه من خلال مشاركته فى هيئة المجمع ومؤتمراته ولجانه، وخاصة لجنة المصطلحات الطبية التى ساهم بجهد كبير فى نشاطها، وكذلك مساهمته فى أعمال لجنة المعجم اللغوى الوسيط ولجنة الأدب.
ومما لا شك فيه أن قراءاته الشخصية وإحساسه المرهف كان سببًا جوهريًا فى تكوينه كأديب متفرد، وعليه منح جائزة الدولة فى الأدب عام 1957، وجائزة الدولة التقديرية عام 1966 فى العلوم، فكان أول من منح جوائز الدولة فى كل من الآداب والعلوم، أضيف لك: أن عالمنا الكبير ظل عضوًا بمجلس جامعة عين شمس حتى وفاته يشارك بآرائه السديدة فى صنع أجيال الجامعيين، كما اختير عضوًا بمجلس جامعة الأزهر، وكان لفترة طويلة فى حياته عضوًا بالمجلس الأعلى للجامعات.
وكم ساءل البعض أنفسهم: كيف كان يوفق صاحبنا بين هذا وبين أعبائه المتعددة، فى درسه، وفى عيادته الخاصة، وفى سهره على مرضاه فى منازلهم أو فى المستشفيات؟!، مع الوضع فى الاعتبار أن أغلب هؤلاء المرضى كانوا من الفقراء المعدمين، فكان يعالجهم بالمجان، بل كان يعطى بعضهم من أصحاب الأمراض المزمنة رواتب شهرية، دون أن يعرف أحد ذلك.
ولم تقف قراءته عند الحديث والمعاصر، بل أبى إلا أن يجمع بين الماضى والحاضر، ودون أن نعرض لإلمامه الواسع بمختلف الثقافات العالمية الكبرى، أحب أن أشير لك من تمكنه الواسع من الثقافة العربية الأصيلة، حيث تبحر فى أصولها، وأحاط بشتى جوانبها، ودرسها فى عمق وسعة، وكون فيها رأيه الخاص.
وهل كان من بين أقرانه من يقرأ كتاب (المغني) و(التصريح ) فى النحو، أو من يبحث ويفتش كثيرًا فى معجم (القاموس المحيط) للفيروز آبادي، و(لسان العرب ) لابن منظور، من كتب اللغة ؟ !.
أما الأدب فله فيه بحث ودرس، ونقد وتعليق، وحكم ورأي، وقد وقف طويلاً عند شاعر العربية الأكبر / أبى الطيب المتنبي، وفيلسوف الشعراء / أبى العلاء المعري، وكشف فى مجمع اللغة العربية عبر أبحاثه ومحاضراته عن حسه اللغوي، وذوقه الأدبى الرفيع.
أقول لكم: إن الدكتور/ كامل حسين كان يؤمن إيمانًا جازمًا بأن اللغة العربية، لغة حية، لغة كفيلة بأن تؤدى رسالة العلم والحضارة اليوم، كما أدتها بالأمس، وحياة كل لغة بحياة أهلها، فهم الذين يستطيعون أن يغذوها وينموها، وأن يلائموا بينها وبين حاجات العصر ومقتضياته.
كان يؤمن أيضًا أن اللغة العربية هى أداة أساسية من أدوات التفاهم والحوار والتبادل على كل الأصعدة، يملكها أصحابها، ومن العبث أن تملكهم وتتحكم فيهم، وهى ملكية عامة شائعة بين الجميع، ولا يقبل اليوم بحال من الأحوال أن نقصرها على طبقة معينة من الناس.
ولينظر معى القارئ الكريم أمنيته الحارة التى تضمنها تعليقه على رائعة الدكتور / طه حسين (دعاء الكروان) والتى صدرت عام 1942، إذ يقول: " آمل أن أرى يومًا هذه اللغة الشعرية تتمدد دون ابتذال، ودون أن تفقد من رونقها شيئًا إلى أن تصبح أداة فعالة لمجرد رواية حادثة وشرح موقف".
يلمس عالمنا الأديب الصراع بين العربية والعامية، ويراه دورًا من أدوار التطور فى حياة اللغة، وعلينا أن نواجهه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتيسير اللغة العربية على الناس كتابة، وقراءة، وتعلمًا، وبهذا تحيا وتنتشر، ويقبل عليها النشء، وإلا عز عليه أمرها، واستبدل بها وسائل تعبير أخرى.
ويسهم الدكتور كامل حسين فى هذا التيسير إسهامًا جادًا، فيعرض للإملاء، ورسم الحروف، مقترحًا طريقة سهلة لكتابة الهمزة، وأخرى لرسم الكلمات الأجنبية. ولفت نظره ما فى بعض قواعد النحو العربى من غموض أو تعقيد، واستوقفه بوجه خاص جنس العدد، وما يستلزمه من تذكير أو تأنيث للفظ العدد نفسه، ويرى أن ييسر ذلك بإبقاء اسم العدد على حاله دائمًا، مع الفصل بينه وبين المعدود بحرف (مِن)، فيقال دون تفرقة (خمسة من الرجال) و(خمسة من النساء)، ويذهب بوجه عام إلى أن النحو توسعًا وفلسفة، وإن لاءمت الخاصة فإنها لا تلائم العامة، ولا بد من أن نيسر تعليمه على النشء والشادين فى العلم.
وهذا أمر فكرت فيه وزارة المعارف (التربية والتعليم الآن) منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن، واقترحت نحوًا مدرسيًا ميسرًا، وتركت للمتخصصين أن يدرسوا فلسفة النحو ما وسعهم، وقد عرض عالمنا هذا الاقتراح على مجمع اللغة العربية المصري، وأقره فى تعديل يسير.
لم يفت عالمنا الأديب أن يدلى بدلوه فى هذا التيسير، واقترح ما سماه (النحو المعقول)، وبسط قواعده بالقدر الذى ارتضاه.
وفى رأيه أن كتب اللغة التى بين أيدينا تحتاج إلى تعديل وتنقيح، فتكتب بروح العصر، وفى ضوء التقدم العلمى الحديث، وتستبعد منها المماحكات اللفظية، والتعديلات السطحية، وأكد على أننا فى حاجة ماسة إلى معجم حديث مصفى، حديث فى اختيار ألفاظه، وحديث فى تجديد معانيه، لا يذكر فيه اختلاف أللهجات، ولا استعمال الأضداد للفظ الواحد، ولا يقبل فيه إلا صيغة واحدة للكلمة، وإلا مصدر واحد للفعل، وإلا جمع واحد للاسم، وتشرح الألفاظ شرحًا دقيقًا واضحًا يتمشى مع ما انتهى إليه العلم الحديث.. ليت مجمع الخالدين، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، يقرأ ما قاله الرجل، ويفهمه حق فهم، إن كنا بحق غيورين على لغتنا الأم. !!!
يقدر الدكتور كامل حسين لغتنا حق قدرها، ويعتز بها، ويريد لها أن تستعيد مجدها، وأن تصبح لغة العلم والفن، وأن تؤدى رسالتها على أكمل وجه، وأن تأخذ مكانتها بين اللغات الحالية العالمية الكبرى، وهو ينقد بعض جوانبها، ولكنه نقد بناء يرمى إلى الإصلاح والتجديد، وليس ثمة لغة لا مآخذ عليها.
وحس عالمنا الجليل الأدبى لا يقل عن حسه اللغوي، درس الأدب العربى بمختلف مراحله درسًا عميقًا، وحاول أن يطبق عليه المنهج المقارن، فيقارن أدباء اللغة العربية بعضهم ببعض، ويقارنهم ببعض الأدباء العالميين، وفى المقارنة تشويق وفتح لأبواب مغلقة، ولعله لا يسلم بنظرية التحليل النفسي، ولكنه لا يرفض أن يطبقها فى دراساته الأدبية.
فهو يرى مثلاً أن ما فى شعر المتنبى من غموض وتعقيد أحيانًا، إنما يرجع إلى ما صادفه فى حياته من خيبة وفشل، ذلك لأن الشاعر الكبير الذى شغل الدنيا وملأ الأسماع لم يحقق شيئًا من أهدافه السياسية والاجتماعية، فشاء أن يتخيل فى شعره مشاكل وصعوبات يحاول تذليلها، فينجح هنا بعد أن فشل هناك.
ويذهب أيضًا إلى أن نقائض (الفرزدق)، وقوله الفاحش، وهجاؤه المقذع حتى لنفسه ولأهله، ربما كان وليد ضعف وقصور فى الشخصية.
وبعكس هذا كان أدب شيخ المعرة (أبو العلاء المعري)، حيث يرى أن أدبه يعكس سمو شخصيته، وفى رأيه أن المعرى أقوى رجال الأدب العربى شخصية، وأعمقهم تفكيرًا، وأصدقهم عاطفة، وأحدهم ذكاء، لم يخلو نثره وشعره من مآخذ، ففى سجعه ضعف وتكلف أحيانًا، وفى شعره تشبيهات غامضة، وفى معانيه تكرار، وفى تعبيراته إسراف حتى يظهر ثروته اللغوية، ومع ذلك يعد إنتاجه من الأدب الرفيع، لصدقه الفنى وقوة تعبيره، وأدبه فى الواقع هو كل حياته، عاش فيه وله، وعن طريق اللغة عرف الحياة كلها، ولا غرابة إذن أن تطغى على نثره وشعره. وأذكر هنا أنه كتب ذات مرة محللاً أسباب انهيار الدولة العثمانية، فذهب إلى أنها انهارت بسبب الحرمان أكثر مما أثر فيها البطش والاستبداد والاستغلال من جانب حكامها، وهذا أدب تحليلى يقاس فيه اللفظ بمقياس المعنى، امتاز به عالمنا الأديب.
والدكتور كامل حسين أديب موضوعى يعنى بالحقائق والمعاني، يجمعها ويتخير أوثقها، ويهذبها وينسقها بحيث تبدو جلية واضحة، وقد مكنه اطلاعه الواسع من أن يعرض منها ألوانًا شتى: فى الأدب والتاريخ، فى العلم والفكر.
وعالمنا الأديب ممن يؤمنون بوحدة المعرفة وارتباط جوانبها بعضها ببعض، فعلم النفس فيه ما يوضح بعض المشاكل الأدبية، والتاريخ وثيق الصلة بعلم الاجتماع والسياسة، وكثيرًا ما تقود الدراسات الطبيعية إلى ضرب من البحث فيما وراء الطبيعة.
وهو يترجم لبعض الشخصيات المعاصرة له، فيقف عند أبرز المعالم وأوضح السمات، فأحمد لطفى السيد فى رأيه (أرسطي) صادق فى (أرسطيته)، ولا غرابة فوجوه الشبه بينه وبين أرسطو كثيرة، فكلاهما معلم، وكلاهما شديد العناية بالكليات عناية فائقة، وكلاهما مرهف الحس من ناحية المنطق البحت، يدرك الخطأ فى التفكير بطبيعته الصافية.
وفى عام 1977، انتقل عالمنا الأديب إلى رحمة الله تعالى، راضيًا مرضيًا، جزاءً وفاقًا لما قدم للعلم والأدب من خدمات جليلة، وختامًا أقول لك: إن وعينا وفهمنا ما قاله وكتبه لنا الدكتور / كامل حسين، فبدون شك لن ندخل القرية الظالمة أو نقترب منها.
د. يسري عبدالغني عبدالله - باحث وخبير في التراث الثقافي