عبد الرحمن جبير - الطبيعة في شعر ابن خفاجة - 4-

ثم لاحظ في هذه المقطوعات أنه يتعرض للمكان الذي شرب عنده الخمر بالذكر، فيصفه ويصف الغمامة الدكناء والشمس المريضة: فإذا لاحظت ذلك فانك لابد واجد الاختلاف البين بين خمريات أبي نواس المطولة وبين خمريات ابن خفاجة القصيرة. فلعلك ترى أن ابن خفاجة لا يجعل الخمر ولا غيرها موضوعا يقول فيه الشعر، ولكنه يجعل مناظر الطبيعة ومتفرجاتها موضوعاً يتكلم عنه ويصفه، ثم يتعرض في أثناء وصفه إياه إلى الخمر الحمراء والى كؤوسها البيضاء بالوصف، ويتعرض إلى الساقي والشاربين بالذكر، فيكون من ذلك صورة قوم عاكفين على الشراب في أخريات النهار أو في رائعة الصباح على ضفاف الجداول في ظل الأدواح وبين العرار والاقاح.

هذا هو الفرق، تدركه حين تعلم أن أبا نواس كان مغرما بالخمر وان ابن خفاجة كان مغرما بالطبيعة، وان أبا نواس كانيقصد إلى الخمر قصدا فينشئ القصيدة فيها، وان ابن خفاجة كان يقصد الى الطبيعة قصداً فينشئ المقطوعة فيها، وحين تعلم أن أبا نواس في خمرياته يقصد إلى خمارة البلد فيدخلها ويشرب ويصف مجلسه فيها والخمر التي يتناولها والكؤوس التي يرشف منها، وان ابن خفاجة كان يقصد إلى المتفرجات والمناظر فيصفها ويصف مجلسه فيها، وحين تعلم أن أبا نواس كان يشرب ويكثر من الشرب في الحانات أو في المنازل في كل وقت حتى يسكر وتميل به الكأس، وان ابن خفاجة لا يشرب إلا حين يدعوه جمال المنظر ورقة النسيم واعتدال الإقليم.

فأبو نواس حين يصف الخمر كابن خفاجة حين يصف الطبيعة، وابن خفاجة كأبي نواس في الإقلاع عن الخمر وفي التوبة عنها يحسنان وصفها ويجيدانه: فيقول أبو نواس:

وقلت لساقيها أجزها فلم أكن ... ليأبى أمير المؤمنين واشربا
فجوزها عني سلافا ترى لها ... إلى الأفق الأعلى شعاعا مطنبا
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا

ويقول ابن خفاجة:

يا حبذا نادى المدام ومجتلي ... سر السرور به ومسلى الأنفس
ولئن كففت عن المدام فان لي ... نفساً تهش بصدر ذاك المجلس
لولا الحياء من المشيب لقبلت ... ثغر الحباب به وعين النرجس

فهو يتأوه ويقول: يا حبذا نادى المدام حيث السرور وحيث الطرب، ولئن كنت قد كففت عن الشراب وأقلعت عنه فأن لي نفساً تهش إليه مع الصدور، وتحن إليه على البعد، ولولا حيائي من المشيب لقبلت ثغر الحباب، وحضرت مجالس الأحباب، ويقول كذلك:

صحا عن اللهو صاح عافه خلقا ... فقام يخلع سربالا له خلقا
وعطل الكأس من شقراء سابحة ... ألا كفاها بريعان الصبا طلقا
ورب ليلة وصل قد لهوت بها ... مغازلا فلقا أو شاربا شفقا

فهو يقول: لقد صحوت عن اللهو وعفته. وقمت أخلع سرباله الخلق الرث، وقد عطلت الكأس من الخمر الشقراء بعد أن كانت في ريعان الصبا طليقة غير معطلة، ومقربة غير مبعدة، وموصولة غير مقطوعة: إلى هنا يمسك نفسه عن تذكر الماضي ولكنه بعد ذلك لا يرى بداً من ذكره فيقول، ورب ليلة قد أجتمع لي فيها خمر حمراء ووجه جميل، فكنت أقضيها بين مغازلة صباح وضاء، وبين رشف شفق أحمر.

وهو في القطعة الأولى جعل لأحباب ثغراً وأنه لولا المشيب لقبله، وفي القطعة الثانية شبه الخمر بالشفق الأحمر؛ والثغر والشفق منظران من مناظر الطبيعة.

هذا ما وعدناك به في هذا الفصل، فهل ارتحت إليه وهل أعجبت بشعر ابن خفاجة حين يذكر الخمر ويذكر معها جمال الوقت واعتدال الزمان فيسكرك بوصفه الخمر ويطربك بوصفه الطبيعة: (له رشفها دوني ولي دونه السكر)

وكأني بك تتمايل من شدة الطرب وتترنح من شعر ابن خفاجة كما ترنح العباس بن الأحنف حين سمع قول ابن الدمينة يتشوق إلى نجد:

إلا ياصبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد

إذا كان ذلك فاسمع إذن هذه المقطوعة في الخمر:

ندى النسيم فما ارق وأعطر ... وهفا القضيب فما أغض وانظرا
فزففتها بكراً إذا قبلتها ... ألقت على وجهي قناعا احمرا
ورفلت بين قميص غيم هلهل ... ورداء قد تمزق اصفرا
والريح تنخل من رذاذ لؤلؤاً ... رطبا وتفتق من غمام عنبرا

الطبيعة في الغزل: -

قرأت قولنا في خمريات ابن خفاجة ورأيت أقواله في الخمر، ولابد لنا حتى تزول عنك تلك النشوة التي أصابتك من جمال وصفه ومن جودة تشبيهه من أن نورد على مسامعك هذه الأبيات:

وابتع بكيس كأس مشمولة ... واسحب ذيول اللهو واخلع وهب
واستضحك المجلس عن قهوة ... قد نبهت للصبح هدءا فهب
نارية اللذعة نورية ... في صفرة فاقعة أو صهب
وهز من عطفيك عن نشوة ... غضا إذا ما نفس الصبح هب
بأبيض كالماء مستودع ... ما شئته من أحمر كاللهب
لو ذاب هذا لجرى فضة ... أو جمدت تلك لكانت ذهب

فإذا صحوت من نشوتك فاصغ إذا شئت إلى قولنا في غزله والى وصفه الطبيعة في ذلك الغزل.

وانك بعد أن نورد على مسامعك غزله الرقيق ووصفه الأعضاء وتناسقها، والليالي وجمالها، والطيف وزيارته، ستجد في كل هذا وصفا للطبيعة لم يبلغه الكثير من أساطير الشعر. قال يتغزل:

فتق الشباب بوجنتيها وردة ... في فرغ أسحلة تميد شبابا
وضحت سوالف جيدها سوسانة ... وتوردت أطرافها عنابا
بيضاء فاض الحسن ماء فوقها ... وطفا به الدر النفيس حبابا

فهو يقول: إنها شابة فتق الشباب بوجنتيها وردة حمراء، كأن قامتها الهيفاء شجرة الأسحل تميد نضارة وشبابا، وكأن سوالف جيدها البلوري سوسانة، وكأن أطراف أصابعها عناب، وهي إلى ذلك بيضاء كأنما الحسن ماء فاض فوق جسمها فطف عليه حباب أبيض: يشير بذلك إلى أنها مطوقة بقلادة من الدر. ثم يختم تغزله بهذه الأبيات:

بين النحور قلادة تحت الظلا ... م غمامة دون السحاب نقابا
نادمتها ليلا وقد طلعت به ... شمسا وقد رق الشراب سرابا
وترنمت حتى سمعت حمامة ... حتى إذا حسرت زجرت غرابا

ثم اقرأ قوله:

ومهفهف طاوى الحشا ... خنث المعاطف والنظر
ملأ العيون بسورة ... تليت محاسنها سور
فإذا رنا وإذا مشى ... وإذا شدا وإذا سفر
فضح الغزالة والغما ... مة والحمامة والقمر

ولاحظ بعد ذلك ما يمكنك أن تلاحظه: فلعلك ترى أن غزل ابن خفاجة لا يشابه غزل غيره من الشعراء: فهو غزل أشبه شيء بوصف مناظر الطبيعة: فهو حين يقف أمام محبوبته فيتغزل بها يكون كأنه واقف أمام منظر من مناظر الطبيعة، وكأن غرامه بالطبيعة وبمناظرها يغلب على شعره حتى في أوقات الغزل، فيشبه حمرة وجنتيها بالوردة الحمراء، وقامتها بشجرة الأسحل، ثم يرى من سوالفها السوداء فوق جيدها البلوري، ومن أطراف أصابعها التي خضبتها الحناء ما يذكره بالسوسن والعناب، ويشبه حسنها بالماء الصافي، وقلادتها اللؤلؤية بالحباب، وفي القطعة الثانية يشبه محبوبه بحيوانات الطبيعة: يشبه رنوه بالغزالة، ومشيه بالغمامة، وشدوه بالحمامة، ووجهه السافر بصفحة القمر المنير،

ولعلك تلاحظ أيضا أن غيره من الشعراء يقف في غزله موقف الولهان فيمعن في وصف محبوبه. وفي وصف حاله، ثم ينبري فيبدي شكواه ويتألم ويتوجع ويصف عاطفته المهتاجة ونفسه الملتاعة.

ألا ترى إلى ابن الدمينة كيف يبث في مقطوعته لواعج نفسه وكيف يبوح بوجده الذي يسره لمحبوبه حين يهب عليه ريح الصبا فيذكره بديار الحبيب:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غض النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد صبابة ... وشجوا وأبديت الذي لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وان النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا كان من تهواه ليس بذي ود

وانظر إلى البحتري كيف يبكي على فراق علوة الحلبية بما يثير العواطف والشجون:

قضت عقب الأيام فينا بفرقة ... متى ما تغالب بالتجلد تغلب
فإن أبك لا أشف الغليل وإن أدع ... أدع لوعة في الصدر ذات تلهب
ألا لا تذكرني الحمى أن ذكره ... جوى باطن للمستهام المعذب
أتت دون ذاك العهد أيام جرهم ... وطارت بذاك العيش عنقاء مغرب
ويالائمي في عبرة قد سفحتها ... لبين وأخرى مثلها للتجنب
تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهبا غير مذهبي
وما كبدي بالمستطيعة للأذى ... أسلو، ولا قلبي كثير التقلب
ولما تزايلنا من الجزع وانتأى ... مشرق ركب مصعد عن مغرب
تبينت أن لا دار من بعد عالج ... تسر، وأن لا خلة بعد زينب

ولكن ابن خفاجة لم يكن له من ذلك حظ قليل ولا كثير لأنه لم يكن له حبيب يبكي على فراقه ويطلب الشفاء مما قد ساهمه حبه ولم يكن له من لائم يلومه ويكلفه ما لاطاقة له به.

يكلفني عنك العذول تصبراً ... وأعوز شيء ما يكلفنيه

وإنما كانت حبيبته الطبيعة، والطبيعة ماثلة في كل مكان وزمان قريبة الوصال هينة اللقاء، ولأنه كان يرى أن كل ما في الحياة مجلس إخوان ود في بستان أو على ضفة جدول يقرضون الشعر، ويرشفون الخمر، ويمتعون أنظارهم بجمال الطبيعة الساحر، فلم يك في غزله إلا وصافاً للطبيعة، ولم يك في غزله ولهان، ولم يكن في غزله مفحشا. هذه ملاحظات قليلة خلاصتها انه لم يتفنن في غزله تفنن المحبين المغرمين أمثال ابن الدمينة والبحتري وغيرهما، ولم يفحش في غزله فحش أبي نواس.

أدلب. عبد الرحمن جبير

مجلة الرسالة - العدد 25
بتاريخ: 25 - 12 - 1933

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...