هناك ابتسامة تتردد كثيراً قبل أن ترتسم على بعض الثغور. وتتألق في بعض الوجوه. أو قل إن هناك ثغوراً ووجوها تتردد كثيرا قبل أن تقبل أن ترتسم عليها، وتتألق فيها بعض الابتسامات. أو قل إن هناك نفوساً تتردد كثيرا قبل أن تتخذ ثغورها ووجوهها مظاهر لهذا الذي يعرب عنه الابتسام في بعض الظروف. وقد فكرت في هذه الابتسامة المترددة، وفي هذه الثغور والوجوه والنفوس التي تتردد بين الرضا والسخط، وبين ما يظهرهما، ويدل عليهما من الابتسام والعبوس، حين قرأت في الصحف أخبار ملكة الجمال وتشريفها لمصر بزيارتها السعيدة الموفقة.
فكرت في هذه الابتسامة المترددة، لأني أحسست ترددها على شفتي، فرأيتهما تحاولان الانبساط ثم تعودان فتنفرجان وتنبسطان بالابتسامة، ثم تستقر عليهما هذه الابتسامة التي كانت مترددة؛ ولكنها تستقر في سخرية إلا تكن شديدة المرارة، فليس فيها شيء من حلاوة الرضا. ذلك لأني لا أدري أوفقت الإنسانية حين فتحت على نفسها هذا الباب الظريف السخيف، الذي يدخل عليها منه ظرف كثير، ويدخل عليها منه سخف كثير؟ ومن يدري لعل الظرف والسخف صديقان لا يفترقان، وحليفان لن يختصما، أو تتغير الأرض ومن عليها وما عليها. وهذا الباب الظريف السخيف الذي يبعث الرضا ويبعث السخط، والذي يغيظ ويلهي هو باب المسابقة إلى الفوز بسلطان الجمال!
خطرت هذه الفكرة لكاتب فرنسي، ليس هو من المتعمقين في الجد، ولا هو من المتهالكين على الهزل. وإنما هو كاتب خفيف ظريف، يرضى في سهولة، ويرضي الناس في يسر، وتنفق عندهم سوقه في غير مشقة. وأكبر الظن انه يسخر من الناس ومن نفسه وأكبر الظن انه إنما يرضي الناس ويعجبهم لأنه يسخر منهم، يستهزئ بهم ويخيل إليهم أنه يجد كل الجد حين يسوق إليهم الأحاديث، مع أنه لا يزيد على أن يهزل أشد الهزل وألطفه، ولعله إنما يفعل هذا كله، فيهزل جاداً ويجد هازلاً لأنه صحفي، أو قل لعله إنما أصبح صحفيا رائجا نافق السوق لأنه يفعل هذا كله. وأنا اعتذر إلى الصحفيين ولكني أعتقد أن صاحبة الجلالة الصحافة إنما أقامت عرشها العظيم على هذه الدعائم المتينة الصلبة من سياسة الجمهور. وإنما تساس الجماهير في ظل الديمقراطية أحسن سياسة وأجداها حين تلبس لها ثوب الجد وأنت تهزل، وترتدي لها رداء الهزل وأنت تجد، وتظهر لها على كل حال من نفسك ما تريد أن تظهر لا ما ينبغي أن تظهر. هذا الكاتب الفرنسي اللبق الذي فتح للإنسانية باب الجمال على مصراعيه وأثار في رءوسهاالفارغة فكرة المسابقة إلى سلطان الحسن هو (موريس دواليف). خطرت له هذه الخاطرة ذات يوم وهو يمزح، أو ذات ليل وهو يلهو، فتحدث فيها إلى صديق أو صديقين ثم إلى زميل أو زميلين ثم إلى إدارة الجرنال. وما أصبح الصباح حتى ملأت الفكرة باريس. وما أمس المساء حتى ملأت الفكرة فرنسا. وما كان الغد حتى ملأت الفكرة أوربا، وما مضت أيام حتى ملأت الفكرة الأرض كلها ولعبت برؤوس الناس جميعا. وهذا مصدر آخر من المصادر المادية لسلطان صاحبة الجلالة الصحافة هو أنها ترى الرأي فإذا هو أمام الناس جميعا أو أمام جماعات ضخمة منهم في وقت واحد أو في أوقات متقاربة. ومن حوله المغريات والمرغبات والمثيرات للميل. فيلقى الناس بعضهم بعضا وقد قرءوا الصحيفة وإذا هم يتساءلون: وما رأيك في هذه الفكرة الطريفة الظريفة معا فكرة موريس دواليف في هذه المسابقة التي ستدعى إليها الفتيات لإظهار ما لهن من جمال بارع وحسن فتان. ثم تعود أصداء الدعوة من باريس وفرنسا وأوربا وأطراف الأرض إلى الجورنال، وإذا الفكرة قيمة، وإذا التجربة الأولى تهيأ ثم تتم، وإذا للجمال ملكة في فرنسا، وإذا البلاد الأخرى تسير مسيرة فرنسا، وإذا لكل بلد ملكة للجمال، وإذا المسابقة أوربية بين صاحبات الجلالة القومية. وإذا لأوربا ملكة، ثم للعالم كله ملكة، وإذا نظام جديد قد أقيم، وإذا الديمقراطية المتطرفة والاشتراكية الغالية والأرستقراطية المعتدلة والأوتقراطية المسرفة. كل هذه النظم المختلفة المتباعدة قد اتفقت على الإذعان لسلطان الجمال.
ولكن سلطان الجمال وان استعار ألقاب الملكية، أحاط نفسه بألوان القوة وضروب الأبهة، ضعيف نحيف، فاتر قصير المدى كالجمال نفسه، فهو ملك، ولكنه أشبه بالجمهورية، وأي جمهورية؟ أشبه بالجمهورية القديمة؛ جمهورية اليونان والرومان لا يدوم السلطان فيه لصاحبته أكثر من سنة، وهو ملك، ولكنه لا يورث، وإنما يكسب بالانتخاب، وأي انتخاب!! انتخاب ضيق محدود متأثر بالأغراض والأعراض السياسية في كثير من الأحيان، فيجب أن يكون ملك الجمال قسمة بين الشعوب تتبادل سلطانه فيما بينها، تظفر به فرنسا ثم تمره إلى بلجيكا، وهذه تمره إلى هولندا، وعلى هذا النحو حتى يكون لكل شعب حظه من هذه السيادة العالمية البريئة. البريئة؟ مسألة فيها نظر! فهي سيادة بريئة بالقياس إلى الشعوب والأقاليم والمدن والقرى، ولكن براءتها تتعرض للشك والخطر في كثير من الأحيان، ذلك أن هذا الملك الطارئ السريع الزوال يعبث برؤس الملكات وأسرهن، ومن طبيعة الملك أن يعبث برؤس الا إذا اعتمد على دستور صحيح متين، وليس لملك الجمال دستور، وملك الجمال لا يعبث برؤس الملكات وحدهن، وإنما يعبث برؤس كثير من الرعية أيضا، من الشبان والشيوخ وأصحاب الملاعب والمراقص والسينما، ثم ملك الجمال فصيح على هذا العبث، فهو يجري أقلام الكتاب في الصحف، ويطلق ألسنة السيدات في الصالونات، ويزيد هذا كله في الدوار واضطراب العقول. لذلك لا تكاد ملكة ترقى إلى عرش الجمال حتى يصبح مصيرها بعد الخلع - أستغفر الله - بعد الاعتزال مشكوكا فيه. وأكبر الظن أنها صائرة إلى ملعب من ملاعب اللهو، أو ناد من أندية الرقص، أو دار من دور السينما، أو إلى هذه جميعا.
فملك الجمال في حاجة إلى دستور يضمن الملكة الا يكون ارتقاؤها إلى العرش وسيلة إلى ابتذالها.
على أن ناحية أخرى من نواحي هذا العبث الذي يعبثه ملك الجمال بالعقول خليقة بالملاحظة، فملكات الجمال يؤمن بملكهن عادة، ويصدقن أنهن ملكات حقا، وكثيرا ما تؤمن لهن الجماعات بهذا الملك، فيصبح المزاح جداً واللعب حقا لا شك فيه، وينشأ عن هذا الجد الطارئ وعن هذه الحقيقة الإضافية الموقوتة التي لم يفكر فيها اينيشتين بعد، لون من الحياة الذي يبعث هذه الابتسامات المترددة التي تحدثت عنها أول هذا الفصل.
أنظر إلى ملكة الجمال التي شرفت مصر بزيارتها هذه الأيام لم تكد تهم بهذه الزيارة حتى سبقتها الأنباء فطربنا واستشعرنا شيئا من الغبطة لا حد له وتفضلت صاحبة الجلالة الصحافة فقامت لزميلتها في الملك بما يجب من الإعلان ونشر الدعوة. ثم وصلت ملكة الجمال فلم يكن بد لصاحبة الجلالة الجميلة من أن تتناول الشاي عند صاحبة الجلالة الفصيحة البليغة. وكانت دار الجهاد ملتقى الملكتين على مائدة صديقي توفيق دياب، وتفضلت الملكتان ملكة الجمال وملكة الكلام بشيء من العطف الغالي الكثير على طائفة من الرعية المولهة المفتونة، وكنت ممن مسهم هذا العطف. ولكن ملكة أخرى ثقيلة ممقوتة تبسط سلطانها الآثم على الناس في الشتاء وهي صاحبة الجلالة البغيضة الأنفلونزا حالت بيني وبين الاستمتاع بهذا العطف السامي من صاحبة الجلالة الجميلة وصاحبة الجلالة الفصيحة. فأسفت وما أشد ما أسفت!
وملكة الجمال ظريفة كما ينبغي أن تكون فلم تكد تصل إلى مصر حتى أدت طائفة من الواجبات بفرضها عليها جلال الملك وسماحة الجمال فقيدت اسمها في قصرها الملكي العالي ثم ثبت فزارت رئيس الوزراء. فلما فرغت من السلطة التنفيذية تعطفت على السلطة التشريعية فتفضلت بزيارة البرلمان. فأدى وكلاء الأمة واجبهم بين يدي جلالتها كأحسن ما تكون التأدية.
ثم لم تكد صاحبة الجلالة تفرغ من مصر الرسمية حتى تفضلت ففكرت في مصر المعارضة. والملك فوق الأحزاب فتعطفت بزيارة حضرة صاحب الدولة رئيس الوفد المصري ثم فكرت في مصر التي لا تشتغل بالسياسة وإنما تشتغل بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي فتفضلت بزيارة حضرة صاحبة العصمة رئيسة الاتحاد النسائي وزارت دار الاتحاد وشهدت فيه التمثيل وزارت دور الصناعة والتجارة وهي في هذه الزيارات تؤدي لكل حقه بما فطرت عليه من جمال وظرف وأدب ورشاقة وخفة روح، وإذا جلالة أخرى رسمية تشرف مصر وهي الجلالة الإيطالية فينقطع حديث الجمال ويبتدئ حديث السياسة. وليست هذه الصحيفة من السياسة في قليل ولا كثير، فلتكتف إذا بأن ترحب في صدق وإخلاص بصاحبي الجلالة الإيطالية ثم لتعد إلى ملكة الجمال، فلتتمن لها التوفيق بعد الملك كما وفقت أثناء الملك ولتلتفت بعد ذلك إلى القارئ الكريم فننصح له بأن يقرأ قصة تمثيلية بديعة أنشأها الكاتبان الفرنسيان جورج بيرولويس فرنويل، موضوعها ملكة الجمال وعنوانها (مس فرانس) فسيجد القارئ في هذه القصة جداً وهزلاً وفكاهة وصراحة ولذة قوية على كل حال.
مجلة الرسالة - العدد 4
بتاريخ: 01 - 03 - 1933
فكرت في هذه الابتسامة المترددة، لأني أحسست ترددها على شفتي، فرأيتهما تحاولان الانبساط ثم تعودان فتنفرجان وتنبسطان بالابتسامة، ثم تستقر عليهما هذه الابتسامة التي كانت مترددة؛ ولكنها تستقر في سخرية إلا تكن شديدة المرارة، فليس فيها شيء من حلاوة الرضا. ذلك لأني لا أدري أوفقت الإنسانية حين فتحت على نفسها هذا الباب الظريف السخيف، الذي يدخل عليها منه ظرف كثير، ويدخل عليها منه سخف كثير؟ ومن يدري لعل الظرف والسخف صديقان لا يفترقان، وحليفان لن يختصما، أو تتغير الأرض ومن عليها وما عليها. وهذا الباب الظريف السخيف الذي يبعث الرضا ويبعث السخط، والذي يغيظ ويلهي هو باب المسابقة إلى الفوز بسلطان الجمال!
خطرت هذه الفكرة لكاتب فرنسي، ليس هو من المتعمقين في الجد، ولا هو من المتهالكين على الهزل. وإنما هو كاتب خفيف ظريف، يرضى في سهولة، ويرضي الناس في يسر، وتنفق عندهم سوقه في غير مشقة. وأكبر الظن انه يسخر من الناس ومن نفسه وأكبر الظن انه إنما يرضي الناس ويعجبهم لأنه يسخر منهم، يستهزئ بهم ويخيل إليهم أنه يجد كل الجد حين يسوق إليهم الأحاديث، مع أنه لا يزيد على أن يهزل أشد الهزل وألطفه، ولعله إنما يفعل هذا كله، فيهزل جاداً ويجد هازلاً لأنه صحفي، أو قل لعله إنما أصبح صحفيا رائجا نافق السوق لأنه يفعل هذا كله. وأنا اعتذر إلى الصحفيين ولكني أعتقد أن صاحبة الجلالة الصحافة إنما أقامت عرشها العظيم على هذه الدعائم المتينة الصلبة من سياسة الجمهور. وإنما تساس الجماهير في ظل الديمقراطية أحسن سياسة وأجداها حين تلبس لها ثوب الجد وأنت تهزل، وترتدي لها رداء الهزل وأنت تجد، وتظهر لها على كل حال من نفسك ما تريد أن تظهر لا ما ينبغي أن تظهر. هذا الكاتب الفرنسي اللبق الذي فتح للإنسانية باب الجمال على مصراعيه وأثار في رءوسهاالفارغة فكرة المسابقة إلى سلطان الحسن هو (موريس دواليف). خطرت له هذه الخاطرة ذات يوم وهو يمزح، أو ذات ليل وهو يلهو، فتحدث فيها إلى صديق أو صديقين ثم إلى زميل أو زميلين ثم إلى إدارة الجرنال. وما أصبح الصباح حتى ملأت الفكرة باريس. وما أمس المساء حتى ملأت الفكرة فرنسا. وما كان الغد حتى ملأت الفكرة أوربا، وما مضت أيام حتى ملأت الفكرة الأرض كلها ولعبت برؤوس الناس جميعا. وهذا مصدر آخر من المصادر المادية لسلطان صاحبة الجلالة الصحافة هو أنها ترى الرأي فإذا هو أمام الناس جميعا أو أمام جماعات ضخمة منهم في وقت واحد أو في أوقات متقاربة. ومن حوله المغريات والمرغبات والمثيرات للميل. فيلقى الناس بعضهم بعضا وقد قرءوا الصحيفة وإذا هم يتساءلون: وما رأيك في هذه الفكرة الطريفة الظريفة معا فكرة موريس دواليف في هذه المسابقة التي ستدعى إليها الفتيات لإظهار ما لهن من جمال بارع وحسن فتان. ثم تعود أصداء الدعوة من باريس وفرنسا وأوربا وأطراف الأرض إلى الجورنال، وإذا الفكرة قيمة، وإذا التجربة الأولى تهيأ ثم تتم، وإذا للجمال ملكة في فرنسا، وإذا البلاد الأخرى تسير مسيرة فرنسا، وإذا لكل بلد ملكة للجمال، وإذا المسابقة أوربية بين صاحبات الجلالة القومية. وإذا لأوربا ملكة، ثم للعالم كله ملكة، وإذا نظام جديد قد أقيم، وإذا الديمقراطية المتطرفة والاشتراكية الغالية والأرستقراطية المعتدلة والأوتقراطية المسرفة. كل هذه النظم المختلفة المتباعدة قد اتفقت على الإذعان لسلطان الجمال.
ولكن سلطان الجمال وان استعار ألقاب الملكية، أحاط نفسه بألوان القوة وضروب الأبهة، ضعيف نحيف، فاتر قصير المدى كالجمال نفسه، فهو ملك، ولكنه أشبه بالجمهورية، وأي جمهورية؟ أشبه بالجمهورية القديمة؛ جمهورية اليونان والرومان لا يدوم السلطان فيه لصاحبته أكثر من سنة، وهو ملك، ولكنه لا يورث، وإنما يكسب بالانتخاب، وأي انتخاب!! انتخاب ضيق محدود متأثر بالأغراض والأعراض السياسية في كثير من الأحيان، فيجب أن يكون ملك الجمال قسمة بين الشعوب تتبادل سلطانه فيما بينها، تظفر به فرنسا ثم تمره إلى بلجيكا، وهذه تمره إلى هولندا، وعلى هذا النحو حتى يكون لكل شعب حظه من هذه السيادة العالمية البريئة. البريئة؟ مسألة فيها نظر! فهي سيادة بريئة بالقياس إلى الشعوب والأقاليم والمدن والقرى، ولكن براءتها تتعرض للشك والخطر في كثير من الأحيان، ذلك أن هذا الملك الطارئ السريع الزوال يعبث برؤس الملكات وأسرهن، ومن طبيعة الملك أن يعبث برؤس الا إذا اعتمد على دستور صحيح متين، وليس لملك الجمال دستور، وملك الجمال لا يعبث برؤس الملكات وحدهن، وإنما يعبث برؤس كثير من الرعية أيضا، من الشبان والشيوخ وأصحاب الملاعب والمراقص والسينما، ثم ملك الجمال فصيح على هذا العبث، فهو يجري أقلام الكتاب في الصحف، ويطلق ألسنة السيدات في الصالونات، ويزيد هذا كله في الدوار واضطراب العقول. لذلك لا تكاد ملكة ترقى إلى عرش الجمال حتى يصبح مصيرها بعد الخلع - أستغفر الله - بعد الاعتزال مشكوكا فيه. وأكبر الظن أنها صائرة إلى ملعب من ملاعب اللهو، أو ناد من أندية الرقص، أو دار من دور السينما، أو إلى هذه جميعا.
فملك الجمال في حاجة إلى دستور يضمن الملكة الا يكون ارتقاؤها إلى العرش وسيلة إلى ابتذالها.
على أن ناحية أخرى من نواحي هذا العبث الذي يعبثه ملك الجمال بالعقول خليقة بالملاحظة، فملكات الجمال يؤمن بملكهن عادة، ويصدقن أنهن ملكات حقا، وكثيرا ما تؤمن لهن الجماعات بهذا الملك، فيصبح المزاح جداً واللعب حقا لا شك فيه، وينشأ عن هذا الجد الطارئ وعن هذه الحقيقة الإضافية الموقوتة التي لم يفكر فيها اينيشتين بعد، لون من الحياة الذي يبعث هذه الابتسامات المترددة التي تحدثت عنها أول هذا الفصل.
أنظر إلى ملكة الجمال التي شرفت مصر بزيارتها هذه الأيام لم تكد تهم بهذه الزيارة حتى سبقتها الأنباء فطربنا واستشعرنا شيئا من الغبطة لا حد له وتفضلت صاحبة الجلالة الصحافة فقامت لزميلتها في الملك بما يجب من الإعلان ونشر الدعوة. ثم وصلت ملكة الجمال فلم يكن بد لصاحبة الجلالة الجميلة من أن تتناول الشاي عند صاحبة الجلالة الفصيحة البليغة. وكانت دار الجهاد ملتقى الملكتين على مائدة صديقي توفيق دياب، وتفضلت الملكتان ملكة الجمال وملكة الكلام بشيء من العطف الغالي الكثير على طائفة من الرعية المولهة المفتونة، وكنت ممن مسهم هذا العطف. ولكن ملكة أخرى ثقيلة ممقوتة تبسط سلطانها الآثم على الناس في الشتاء وهي صاحبة الجلالة البغيضة الأنفلونزا حالت بيني وبين الاستمتاع بهذا العطف السامي من صاحبة الجلالة الجميلة وصاحبة الجلالة الفصيحة. فأسفت وما أشد ما أسفت!
وملكة الجمال ظريفة كما ينبغي أن تكون فلم تكد تصل إلى مصر حتى أدت طائفة من الواجبات بفرضها عليها جلال الملك وسماحة الجمال فقيدت اسمها في قصرها الملكي العالي ثم ثبت فزارت رئيس الوزراء. فلما فرغت من السلطة التنفيذية تعطفت على السلطة التشريعية فتفضلت بزيارة البرلمان. فأدى وكلاء الأمة واجبهم بين يدي جلالتها كأحسن ما تكون التأدية.
ثم لم تكد صاحبة الجلالة تفرغ من مصر الرسمية حتى تفضلت ففكرت في مصر المعارضة. والملك فوق الأحزاب فتعطفت بزيارة حضرة صاحب الدولة رئيس الوفد المصري ثم فكرت في مصر التي لا تشتغل بالسياسة وإنما تشتغل بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي فتفضلت بزيارة حضرة صاحبة العصمة رئيسة الاتحاد النسائي وزارت دار الاتحاد وشهدت فيه التمثيل وزارت دور الصناعة والتجارة وهي في هذه الزيارات تؤدي لكل حقه بما فطرت عليه من جمال وظرف وأدب ورشاقة وخفة روح، وإذا جلالة أخرى رسمية تشرف مصر وهي الجلالة الإيطالية فينقطع حديث الجمال ويبتدئ حديث السياسة. وليست هذه الصحيفة من السياسة في قليل ولا كثير، فلتكتف إذا بأن ترحب في صدق وإخلاص بصاحبي الجلالة الإيطالية ثم لتعد إلى ملكة الجمال، فلتتمن لها التوفيق بعد الملك كما وفقت أثناء الملك ولتلتفت بعد ذلك إلى القارئ الكريم فننصح له بأن يقرأ قصة تمثيلية بديعة أنشأها الكاتبان الفرنسيان جورج بيرولويس فرنويل، موضوعها ملكة الجمال وعنوانها (مس فرانس) فسيجد القارئ في هذه القصة جداً وهزلاً وفكاهة وصراحة ولذة قوية على كل حال.
مجلة الرسالة - العدد 4
بتاريخ: 01 - 03 - 1933