حميد الحريزي - (باب الخان ) بانو راما حياة بانو راما مدينة للروائي الدكتور علاء مشذوب

المدينة وما حولها :-



المدينة لم تولد ولم تتطور نتيجة رغبة فرد ، سواء اكان حاكما او محكوما ، ولكن هناك ضرورات حياتية ادت وستؤدي الى قيامها ، وديمومتها وتطورها او اندثارها عبر التاريخ .هناك مدن عمرت آلاف السنين في حين اندثرت اخرى خلال عدة قرون او اقل من ذلك .

ومن اهم اسباب وجود المدينة طبيعة تربتها من ناحية الصلاحية للسكن الملائم للجنس البشري ، كخصوبة التربة وتوفر المياه واعتدال المناخ ، كما ان موقعها الجغرافي مهم جدا حينما تقع بؤرة لتقاطع طرق تجارية وطرق تواصل هامة ، كذلك يؤخذ في نظر الاعتبار امكانية حمايتها بشرا وثروة من غزوات الاعداء الطامعين .

ومدينة كربلاء تمتلك العديد من هذه العوامل المساعدة على نشأتها ، من حيث خصوبة الارض وتوفر مياه الفرات ، وموقعها الجغرافي الهام ، بحيث اخترها النصارى مقبرة لموتاهم قبل الفتح الاسلامي لتوفر السلامة والأمان .

ومن خلال تفحص اسمائها خلال التاريخ يمكن استنتاج سبب قيامتها وتطورها عبر قرون من الزمان ، فهي تدل على ((قرب الاله )) كما في البابلية القديمة ، و ((كوربايل )) مجموعة قرى بابلية بمعنى انها مؤهلة من قبل الناس . و دلالة ((كرب)) بمعنى حرم و ((ايل)) الله أي حرم الله وكيف لا يكون حرم اله امنا وخصبا وجميلا ومدعاة للاستيطان البشري ، وهي العمل الاعلى باللغة الفارسية ((كار)) العمل و ((بالا)) الاعلى .

وفوق هذا كله شاءت الاقدار ان تكون ارض كربلاء ((الطف)) او ((نينوى)) ساحة لملحمة الطف حيث اشتبك جيش العدل والحق بقيادة الامام الحسين بن علي وأنصاره وبين جيوش الضلالة بقيادة يزيد بن معاوية ، فتشربت ارض كربلاء بدم الثوار الطاهر ، وتشييد قبور الثوار الشهداء على هذه الارض الطيبة ، مما شجع محبيهم ومواليهم الى مجاورتهم والسكن قرب اضرحتهم تبركا بأرض كربلاء التي اصبحت معركتها اسطورة لا تمحوها السنين ، ورغم كل محاولات السلاطين على طمس معالمها وتسوية منازلها بالارض وغمرها بالماء ولكن ذلك زاد الناس اصرارا على احياءها وتعميرها حتى وصلت الى ما هي الان ، ولسنا بصد استعراض تاريخ تطور وأعمار مدينة كربلاء وهو تاريخ مفتوح امام من يريد ان يتابع ذلك .

يذهب البعض الى ان التاريخ الحقيقي لقيام مدينة كربلاء هو 12 محرم سنة 61 هجرية بعد دفن جثث الشهداء ،وبداية قيام وعمران كربلاء .

تاريخ المدن وسيرتها تاريخ الانسان وتحولاته :-



بعد انتشار التوثيق خلال تطور الحضارات البشرية ومنذ اقدم الازمنة حتى قبل التاريخ اهتم العديد من اهل الفطنة الى توثيق تحولات المدن ، وسيرة وطبيعة حياة سكانها خلال حقبة منا الزمان ما خلف للجيل الحديث مخططات كاملة عن هذه المدن من حيث العمران ، وبذلك اصبحت لهم صورة واضحة عن جذور تطورهم في الماضي والسير قدما نحو المستقبل ، وهم عارفين ما قام به اجدادهم من عمل مفيد ليطوروه وما هو ضار ليتجنبوه ...

اهتم العديد من الكتاب العرب والعراقيين في كتابة تاريخ المدينة ومنهم عدالرحمن منيف في سيرة مدينة ((عمان)) ، ونجم والي ((بغداد سيرة مدينة ) ، والدكتور سلطان بن محمد القاسمي – الشارقة ، و سميح مسعود - حيفا .. برقه ، و د خالد محمد غازي - القدس ، و عبد الهادي الفرطوسي - بانيقيا ، ومحمد خضير في بصرياثا ... الخ .

وهناك الكثير يمكن ذكره حول كتاب من مختلف بلدان العالم قد كتبوا سيرة مدنهم وتحولاتها .

طبعا لكل منهم اسلوبه السردي وطريقة عرضه لمسيرة المدينة ، منهم من لا يخرج عن مراقبة وتسجيل التحولات كصورة فو تغرافية ولا يذهب بعيدا ليغوص في عمق اسباب هذه التحولات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، وقد يعزوها احيانا الى رغبة او ارادة حاكم او قائد او صاحب ثروة دون البحث عن بواعثها المستترة والظاهرة ...

في حين ابدع العديد من الرواة في كشف المستور وغير المذكور حول اسباب قيام المدن وتبدلات حياة الناس الفكرية وعاداتهم وتقاليدهم ، استجابة للتحولات الاقتصادية والبيئية والسياسية التي يتعرضون لها ، فتثبت قسما من الافعال والسلوكيات في حين تنبذ وتميت اخرى ، وبذلك تكون هذه الروايات لمسيرة المدينة خير مساعد للإنسان المتابع لما يجري ي حاضره ليكشف جذوره في ماضيه وبذلك يتمكن من الوصول الى وسائل التطوير او الدفاع والتحوير لتكريس الايجابي وتوقي السلبي .

استعرضنا ما تقدم علنا نستطيع ان نمسك بالمفاتح المناسب لفتح ((باب الخان )) رواية الاستاذ الروائي الجميل ((علاء مشذوب )) ، هذا الباب الذي سيؤاخذنا الى حارات ، ودرابين ، وساحات ، وعمران ، ونس مدينة كربلاء المقدسة ولو عبر اهم محلاتها آلا وهي الفسحة وباب الخان ، نأمل ان ترافقنا دقة الملاحظة والفطنة الكافية لفهم الاحداث ، ورصد الظواهر و النجاح في التأويل والتحليل لمثل هذا العمل الذي يبدو لي انه يمتلك التميز في مثل هذا السرد الزمكاني لحياة مدينة مهمة مثل كربلاء .



((باب الخان ))، مفتاح الحارات ، كاشف خفايا الانسان :-



الباب اسم معروف الدلالة ، ولكن الخان له الكثير من المعاني والتوصيفات منها

الفندق ، الحانوت ، المتجر ، الحاكم ، الامير ، وفي روايتنا هنا فالخان هو بمعنى الفندق الذي بني لخدمة التجاروبضائعهم ودوابهم ، وايواء الزائرين والقادمين الغرباء الى كربلاء او اية مدينة او حاضرة انذاك . وهناك ايضا خان العطيشي في كربلاء احد اهم خانات القوافل في العراق في منطقة العطيشي وهو ايل للاندثار في الزمن الحاضر .

هناك العديد من الخانات في مدن العراق المختلفة مثل ((خان حجغان )) ،1592 والمضروب به المثل لكل امر بلا ضوابط ولا حدود ، وخان ((مرجان))، وخان النخلية وخان النص بين النجف وكربلاء ، وخان الشيلان في النجف تاسس عام 1899.

خان العمدان في عكا 1785، خان الخليلي في مصر

محل موضوعنا ((باب الخان )) في كربلاء هو احد ابواب سور مدينة كربلاء الخمسة الذي بني عام 1802 بعد هدم سورها من قبل الوهابيين عام 1801، وسمي بباب الخان بسبب اقامة خان بالقرب من الخان ، وهناك باب الطاق ، وباب بغداد ، باب النجف ، باب السلالمة ، باب المخيم وقد اشرف على البناء وانشاء الابواب المرجع الكبير السيد علي الطباطبائي ..

ثم تم توسعة السور في زمن الوالي مدحت باشا عام 1868 فأصبحت ثمانية ابواب حيث اضيف لها باب العباسية الشرقية ، وباب العباسية الغربية .

واضح هنا سبب بناء السور لحماية المدينة من الغزوات الخارجية للقبائل البدوية الهمجية وخصوصا من قبل الوهابيين لغرض نهب وتهديم الاضرحة المقدسة .

ف ((باب الخان )) احد محلات مدينة كربلاء بأزقتها الضيقة وبيوتها المكتضة المتلاصقة ، وقد شهدت توسعا ملحوظا بعد ان تم هدم ((زقاق ابو صويحة )) الذي كان تجمعا لسكن المومسات والقوادات والقوادين في المدينة ، بأمر من رئيس الوزراء ياسين الهاشمي.

في المحلة هذه خليط من المهن والحرف ، المطاعم ، وباعة الخضر ، والباعة المتجولين ، والحدادين ، وباعة التمر ، والصاغة ،. ونساء ورجال يفترشون الارض لبيع منتجاتهم المختلفة المحلية او المجلوبة من ارياف المدينة .

كانت المدينة تضاء بالفوانيس التي تضاء من قبل ((الجرخجي)) المنسوبين للبلدية ، والحراس الليلين الذي تم ربطهم بمراكز الشرطة بعد قيام الدولة العراقية وانقشاع الاحتلال العثماني ، ((وبعد عشر سنوات على الاحتلال البريطاني للعراق ، شيدت بناية دائرة الكهرباء وسط المدينة القديمة عند طرف باب الخان ، وقرب المقامات والمراقد الدينية )) ص9.

مما ساعد كثيرا على ازدهار الحياة العامة في المدينة وبقاء الناس في الليل الى اوقات متأخرة متنعمين بنور الكهرباء ، ومن المؤسف ان يحرم اهل كربلاء وأهل العراق عموما من خدمة الكهرباء بعد اكثر من ثمانين عام من التطور التقني والحضاري في القرن الحادي والعشرين وأصبحت مشكلة بلا حل في الوقت الحاضر !!!

وجهاء يتميزون بالحكمة والكرم والشهامة والاهتمام بهموم ألناس

الراوي العليم يلف المدينة ويستطلع كل خفاياه عبر شخصية السيد ((عدنان)) احد اهم وجهاء وتجار محلة باب الخان ، الذي كان يرقب ناسها وحركة اهلها من مختلف الشرائح الاجتماعية ، فقيرهم وثريهم ، شريفهم ووضيعهم ، قويهم وضعيفهم ، اميهم ومثقفهم ، شقاوتهم ومسالمهم ، رجالهم ونسائهم ، بعثيهم وشيوعيهم ، متدينهم وملحدهم من خلال جلوسه على كرسيه في باب اوفيسه لمحله لبيع وشراء النمور او في باب الاوفيس ان راق مزاجه ((عبارة عن مكتب ومجموعة سجلات وبعض الكاسي الخشبية في ركنه قاصة كبيرةالحجم ، اما حائطه الوحيد فيحمل ثلاث صور، الاولى للملك فيصل زالثانية لوالده سيد كامل.... والثالثة للزعيم عبد الكريم قاسم))ص31 ،او من خلال تجواله راكبا دراجته الهوائية ، في مختلف ازقة ومقاهي ودرابين المحلة ، باصطحاب صديقه الحميم سيد حليم ...

ان هذه الشخصية المركزية في الرواية تلفت النظر في مثل هذه المجتمعات التي لازالت في طور المجتمع الاهلي حيث العشيرة والدين والطائفة وسوانيها واحكامها هي السائدة في مثل هذه الاوساط الشعبية لجمهر الفقراء والمهمشين في المجتمعات الريعية الغير انتاجية ومنها العراق ، فرغم علامات ومظاهر المدنية من السيارات والطائرات والبنايات الشاهقة والملابس الحديثة ولكنها لا تعرف من المجتمع المديني آلا مظاهره وقشوره فقط ، كونه مجتمع استهلاكي غير منتج لم تصقله حياة الصناعة والعمل المنتج آلا في ابسط صوره ، وما تتطلبه هذه الحياة من تغييرات في الثقافة والسلوك وفرض القانون او فلنقل حاجة المجتمع المنتج الى قوانين تنظم حياته وبالتالي دولة ودستور من صنع الانسان ليكون في خدمته كما في بلدان العالم الاول .

ففي مثل هذا المجتمع يظهر ((سيد عدنان)) رئيس جمهورية ولكن دون جيوش حماية ولا لقصر جمهوري ولا الى سلطة قمع او الى مراسيم جمهورية لفرض سلطته ، بل ان الاعراق والقوانين العرفية ترفض نفسها على كل فرد في هذه الجمهورية جمهورية الفقراء والصعاليك وعموم الناس ومختلف القوميات ،والاديان، والطوائف ، حيث تسير الحياة دون تعقيدات او مؤسسات وروتين ، فبإشارة وقرار من سيد عدنان تحل اعقد المشاكل وتفض اعقد الخلافات ، وتنفذ الاوامر والتوجيهات ...

((سيد عدنان )) من الثقات المعتمدين في سوق الفسحة كلها وموضع امانتهم ممهما بلغ حجمها)) ص31

اما لو سال سائل الروائي عن كيفية وجود مثل هذه الشخصيات الحاكمة في مثل هذه العشوائيات والكتل البشرية المتنوعة الشرائح والانتماءات ، لتكتسب مثل هذه السطوة والقوة وتلك الطاعة والقبول من قبل الجميع .

فالجواب مضمن من خلال السرد الروائي وتشريح الكاتب لطبيعة هز الكتل البشرية ، وتاريخ هذه الشخصيات التي هي من صلب هذه الجموع البشرية ومن رحمها امتلكت الرأسمال الرمزي ك ((سيد)) بانتمائه الى نسل رسول الله محمد وابن عمه الامام علي وذريته من الائمة ، او من توارث الحكمة والفريضة من قبل اجداده وآبائه من شيوخ العشائر ، على ان يتمكن من كسب ود وقناعة الجمهور من خلال شجاعته وكرمه وحكمته وتواضعه ، وهذا الشبه مجتمع من الخليط الاجتماعي الذي ارتضى العيش المشترك في مثل هذا الحي او الحارة او المحلة بحاجة الى من ينظم شؤونه ويقود تحولاته ، بغياب السلطة المركزية للدولة يتجه الناس لهذا الشخص كما يتجه قطيع الخراف الى ((المرياع)) ليتقدم القطيع وتوجهاته ، هنا بحكم الغريزة وميزة القوة الجسدية لأكثر الخراف قوة على التحمل والفحولة وقوة القرون وطولها ، هنا تدخل عوامل غير القوة الطبيعية والغريزية هي قوة الشخصية من حيث الشجاعة والكرم والحكمة كما تجسدت عند ((سيد علي)) الذي كان غالبا ما ينفق من ماله الخاص لاعانة من يحتاج للمعونة ، او لحل خلاف مالي بين طرفين ، بالإضافة الى سعة صدره وتواجده وسط هذا الجمهور لا تفصله اية حواجز عنهم شريفهم ووضيعهم فقيرهم وغنيهم ...

فقد اجاد الروائي تخليق وتظهير وصيرورة هذه الشخصية بشكل موفق تماما منذ بداية الرواية وحتى نهايتها ، وكان موفقا بإظهار كافة ملامح هذه الشخصية من حيث الشكل والمواصفات الجسدية ، وطريقة اللبس ، والتحدث في حالات الانبساط والغضب ، الانشراح والحزن ، كما انه لم يضفي علية سمات الفضيلة المزيفة فهو تلقائي الحركة والسلوك يحب الفرفشة والغناء والطرب ، ليس من واجباته الدخول في باب الحلال والحرام ، بل لكل حالة وتوصيف اسبابه ومسبباته كما يرى ، ينجذب نحو المثقف والإنسان المكافح من اجل كسب عيشه والداعي للعدالة والمعادي للظلم / كما هو حاله في علاقته بمنتصر الشيوعي المثقف الملتزم ...ونفوره من سلوكيات صاحب الزيتوني المتغطرس .

طبيعة مجتمع باب الحارة :-



بواسطة كاميرا الحرف البانورامية الحاذقة يصور لنا الروائي طبيعة المجتمع ان صح التعبير لسكنة باب الخان من كسبة وعمال وباعة متجوليين وأصحاب مطاعم ومقاهي ، يصفهم ويؤثث لشخصياتهم بشكل دقيق في حركاتهم وسكناتهم ... النساء الجميلات والقبيحات ، المومسات ، والفاضلات ، الهادئات وسليطات اللسان ، الشقاوات وطبائعهم وعاداتهم وتنافسهم على فرض الهيمنة والتبختر ، اللوطيين وغلامنهم ومعاركهم وخزعبلاتهم

اصحاب الحرف وطبيعة عملهم ، تنوع التبعيات القومية في باب الخان من الفرس والأفغان والترك والباكستانين وغيرهم ، طبيعتهم وتجمعاتهم وحرفهم المفضلة ، واللحمة العامة التي تجعلهم يعيشون بسلام ووئام دون اية ضغائن او عداوات او تفرقة ، مما يجعل الحياة تسير بسلاسة والعمل يزدهر ، والطمأنينة تحل على الجميع في جمهورية ((سيد عدنان)) بلا سوط ولا حمايات ولا عسس واستخبارات .

في مقارنة بسيطة مما كان ومما هو الحال الان ، لماذا تلاشت جمهورية سد عدنان او باب الخان ، لتسود سلطة القوة والجاه والعشيرة والقومية ومدى الارتباط بالسلطة او المعارضة والابتعاد عنها ، حل التباغض والكره والتنافس الغير شريف والغير متكافئ بين الناس الان .التي اشرت بدايتها بزيارة ((صدام حسين)) لكربلاء وتذمره من وجود ونفوذ الجالية الايرانية في كربلاء ، وحينها بدأت تتآكل جمهورية ((سيد عدنان ))...

هل السبب كامن في التقدم العلمي والتقني ؟؟

او في اقتلاع مكانة سيد علي واشباهه لتحل محله سلطة الحزب الواحد والفكر الواحد ؟؟

هل بسبب فرض سلطة المال والعزوة على الناس بالقوة بدل الاقتناع ؟؟

اسئلة كبيرة مضمرة في سياق السرد الروائي لرواية باب الخان ، ملمحة وغير مصرحة للمفكرين وعلماء الاجتماع والمثقفين ان يولوا مثل هذه التحولات اهمية كبيرة لفهم اسباب ومسببات ما يجري في عراق اليوم ، حيث يسير الوضع الى الهاوية سواء بالنسب للمجتمع وشرذمته الى طوائف وأعراق وعشائر متناحرة ومتقاتلة ، او بالنسبة للطبقة الحاكمة حيث الصراع الدامي على كرسي الحكم للاستحواذ على المال والجاه بمختلف الاساليب اللاشرعية واللاقانونية ولبوسها لأقنعة الطائفة والقومانية الزائفة ...

هيجان موج البحر دون احكام قيادة السفينة :-



احداث الرواية تبدو انها تجري في زمن النظام الملكي في العراق ، أي بعد قيام الدولة العراقية ، ومن ثم تتابع جمهورياتها ، ففي العهد الملكي كان المجتمع يميل الى سيادة الاعراف والتقاليد بعيد عن هيمنة السلطة المركزية ، الصراع الاجتماعي يجري وكأنه غير ملحوظ رغم حدوث الكثير من الانتفاضات والحركات الثورية ، آلا ان صولجان السلطة كان قادرا على التحكم في الاحداث ، آلا ان ثورة 14 تموز 1958 حركت الساكن ورفعة الصراع للسطح على مستوى السلطة وعلى مستوى المجتمع ، فكان الصراع بين الفلاح والإقطاعي ، والعامل ومالك الشركة الاحتكارية ، والمثقف العلماني واليساري والقوى الاقطاعية ومسانديها من بعض ادعياء الدين ، وبين العرب والكرد والكرد والتركمان وهكذا ... ماج وضج المجتمع بصراع قاسي فكري وسياسي واجتماعي بشكل غير مسبوق عبر الجمهورية الاولى والثانية والثالثة دون ان يحسم الصراع لطبقة او لفئة دون غيرها بسبب الميوعة والشرذمة الطبقية في مثل هذه المجتمعات ، حتى قيام جمهورية البعث وهيمنة الفرد القائد الضرورة ، الذي افتقد الحكمة والعقلانية في قياد ة الصراع وإبقائه على قيد الفكر والرأي والرأي الاخر ، فا تبع طريق القوة والعنف ، ازاح سلطة ((سيد علي)) وأمثاله ، وسلط شخصيات رثة لا تمتلك أي احترام او هيبة بين افراد المجتمع ، تدفعها دونيتها وإحساسها بالنقص الى الانتماء لأجهزة السلطة وفرض ارادتها ، مما جعل هياج الموج يزداد وتسود عواصف التكاره الحزبي والقومي والطائفي، خصوصا بعد انهيار الجبهة الوطنية مع الحزب الشيوعي وضرب الاكراد ومن ثم ركوب مركب الطائفية في السياسة والحكم ، والدخول في حروب وحشية وعبثية ،فجعل السفينة العراقية تترنح وتتلاقفها الامواج ،والمجتمع يتشظى ويزداد فقرا وتخلفا وخاضعا تحت قوة النار والحديد للديكتاتورية المتخادمة مع قوى الرأسمال العالمي ، مما سهل على الامريكان احتلال العراق ،وإسقاط الديكتاتور وإقامة حكم العرق والطائفة وتسليط اللصوص والفاسدين على رقاب اهل العراق .

لا ارى ان ما ذهبت اليه في اعلاه بعيدا عن سياق الرواية وصيرورة احداثها فالكاتب وضع امامنا طبيعة الحراك الاجتماعي بكافة مستوياته الطبقية والثقافية والاجتماعية ليوضح لنا حيثيات ومقدمات ما وصلنا اليه في حاضرنا عبر صراع ظاهر ومستتر بين قيم التحضر والمدنية وقيم وثقافة البداوة والتسلط والتخلف ، فلاغرابة ان نشهد كل هذا الخراب والفساد والتشرذم في المجتمع العراقي ، وهذا الجشع والأنانية والسقوط الاخلاقي للطبقة الحاكمة بوصاية المحتل والعقل الاكبر

التوصيف غلب التعريف على سلوكيات العقل الجمعي في جمهورية ((باب الخان)):-



لا نقول اسهب ولكنه اوضح بشكل واسع مفصل سلوكيات الجماهير في ممارسة مراسيم وشعائرها الدينية في موسمها المعروف وخصوصا في شهر عاشوراء وصفر ، مواكب بآلاف وبذل حد التضحية بالنفس والصحة والمال ، دموع لا تتوقف ، ولطم يدمي الصدور والظهور ، من قبل جموع الفقراء والمهمشين بالتعاون والمد المالي والمعنوي من قبل الاثرياء بمختلف مستوياتهم ...

وكان الفقراء وجموع المهمشين يخاطبون الاثرياء ولسان حالهم يقول :-

- منكم المال والطعام ومنا شج الرؤوس وذرف الدموع ... منكم اللحم والطحين ومنا الدم والأنين - ولكن لماذا وما هو الهدف المطلوب من وراء كل هذه المحافل الجبارة وهذا الفزع الجماهيري الجبار ؟؟

هل يشعر الفقراء انهم مقصرين ومذنبين بحق الامام الحسين وأهل بيته وان أسلافهم وابائهم وأجدادهم قد خذلوه فكان معه ما كان وعليهم ان يجلدوا الذات حد الموت للحصول على الغفران ودخول رحاب الجنان .في الوقت الذي تشير الروايات التاريخية ان الامر بيد رؤساء القبائل وأهل السطوة ولا رأي للعامة من الناس ، وهؤلاء المشايخ يغريهم ويغير مواقفهم بريق الليرات الذهبية ووعود وسائد الريش ومزيدا من الاقطاعيات الخضراء ...وحينما حصلوا او وعدهم يزيد بها خذلوا الامام الحسين عليه السلام فتركوه لسيوف الطغاة والبغاة .

وبعملية توجيه هذه الجماهير هذه الوجهة نقصد وجهة جلد الذات دون ان تتبنى قضية الحسين في محاربة قوى الاستغلال والاستبداد ولصوص المال العام ،دون فهم الحسين كرمز للثورة على الظلم والفساد فينتهج مريديه ومحبيه طريقه ، سوف يحافظ على كراسي الحكام وأهل الثروة وأهل الفساد والاستعباد ، حينما يغيب عنهم الغفاري وفكره ، وعلي وزهده ، والحسين وأهل بيته وهدفهم من الثورة والتضحية حد الشهادة من أجل حياة كريمة وآمنة للإنسان على الارض .ومن أجل أنْ تبقى مراسيم عاشوراء في حيز البكاء والعويل والطبخ والنفخ وشج الرؤوس يبذل الأثرياء والوجهاء ورموز السلطة الاموال لادامة تزييف الوعي و تغطية الاهداف الحقيقية لثورة الحسين عليه السلام .

السؤال المضمر عبر سطور الرواية هو لماذا لم تنتهجوا نهج الامام الحسين والثورة على الظلم والظالمين وبناء دولة العدل والسعادة والسلام التي كان يريد ان يقيمها الحسين وأبناء بيته .؟؟؟

كان الكاتب مصورا دقيقا وفطنا وشاملا لتفاصيل مراسيم عاشوراء وصفر .

ولم يفته الاشارة الى ازدواجية السلوكيات في هذه المدن المقدسة ، حيث انتشار مظاهر التحلل الخلقي ، من مومسات ولواطين من قحاب وقوادين ودور بغاء بحيث كانت ازقة كاملة وسط مدينة مقدسة كما هو زقاق ((ابو صويحه ))، والإشارة الى قناني العرق والويسكي والبيرة وسط اكوام النفايات في شوارع وساحات المدينة رغم كل مظاهر التدين وضخامة الشعائر وبريق المنائر ، بمعنى ان الحياة لا يمكن ان يحكمها فكر واحد او سلوك محدد مها بلغت قوته والتمظهر بتبنيه ... فللحياة متطلباتها ولها شروطها في ترسخ قيم العدالة والفضيلة. و لا نرى ان اليوم مختلف عن البارحة .

فلاعقة مع الكبت ، ولا امان مع الجوع والحرمان ، ولا ثقافة وتحضر مع الامية والجهل ، ولا احترام للقانون دون عدالة ، ولا تطور للفكر دون عمل منتج .

كما ان الروائي لم يهمل مظاهر الفرح وحب الطرب لاهل المدينة بما فيهم ((سيد عدنان)) ورفاقه حيث يحضر حفلة غناء لسعدي الحلي في بيت صديقه ، بالإضافة الى تقليد يبدو كالمفارقة حيث مظاهر الرقص ((الجوبي)) والغناء في زيارة الناس لضريح ((احمد بن هاشم)) في عين التمر او شثاثه مصيف الكربلائيين ومقصد متعتهم وسفراتهم وكأنه أمام الفرح والطرب والرقص والبهجة ، هذه الممارسات التي كانت تمارس في الأعياد والمناسبات في نوروز ((الدخول)) وعيد الفطر والأضحى حول الاضرحة وفي القبور في عموم العراق بعد الانتهاء من مظاهر الحزن في محرم وصفر ، حيث يعود الفرح ثانية في ما اسموه((عيد الزهرة )) وفرحتها كما يزعمون ليكون متنفسا للرقص والغناء بعد ايام الحزن والالم ، الان زحف الحزن ليأكل ويلتهم كل مظاهر الفرح والبهجة حيث دخلت هذه الفعاليات في باب الحرام والمحظور فسادت روح الغلظة والكآبة والموت على معنى الحياة والأمل .

كان الروائي بنو راميا لتوصيف مختلف طبقات وشرائح وفئات جمهوريته حتى المجانين مثل(( كازولي)) المجنون الايراني ، وتوصيف افراحهم كالزواج والطهور الفتيان ، وطريقة ومكان تغسيل ودفن الموتى .

لكنه لم يتحدث حول فئة النشالة والحرامية في المدينة والريف اللذين يحكى عنهم الكثير من الحكايات والطرائف والمفارقات . ربما اراد الكاتب ان لا يستفز مشاعر زملائهم في المهنة ممن يحتلون مناصب كبيرة في سلطة المحاصصة العرقية والطائفية في زمننا الحاضر ، كانوا انذاك اشرف وأنبل وأصحاب مبادئ وأعراف مفقودة تماما لدى نشالة وسراق((الديمقراطية )).



الانتصار للأقليات القومية والدينية :-



على اثر زيارة صدام لسوق العجم ، وإحساسه بتكتل الفرس وحفاظهم على لغتهم وخصوصيتهم وهيمنتهم على العديد من فروع التجارة والمهن والحرف ، وعدم اظهار مراسيم الخضوع وتملق سيادته ، انتصر لبدويته وخصوصا بعد استلامه للسلطة بعيد نجاح الثورة الايرانية الخمينية ، المبشرة بتصدير الثورة وخصوصا الى العراق ، قرر صدام تسفير كل المنتمين للأصول الايرانية ودون تفريق من هو ايراني وفارسي حقيقي ومن تفرس خوفا من العسكرية او أي سبب اخر ، ودون التفريق من ولد هو وآبائه في العراق او من جاء للعراق حديثا ، فاستشرس كلاب الامن من الجهلة والمتعصبين في التعامل مع الايرانين بين تسليب وفرهود اموالهم ومتلكاتهم وحالات التعذيب دون تفرقة بين طفل وشيخ وامرأة وشاب ، حتى ان بعضا منهم كان ملتحقا بالجيش العراقي ... فكانت مأساة حقيقية خالية من الرحمة والإنسانية لم ترق للكثير من العراقيين وكان الايرانين محل تعاطف من قبل اغلبية ابناء العراق آلا زمر السلطة .هذا ليعني ابدا عدم وجود حالات من التعصب من قبل الطرف الاخر وحتى احتقاره للعربي عموما رغم انه يعيش في بلدهم ويثري من ثرواتهم وهؤلاء طبعا اقلية من المتعصبين وهو وجود في كل القوميات والبلدان .تبقى عملية تهجير الايرانين وصمة عار بوجه الديكتاتورية تذكر بما حصل لليهود في زمن الملكية وربما اشد قسوة ووحشية . ولسنا بصدد الحرب الجنونية التي اشعلها الحكام في البلدين وراح ضحيتها عشرات الالاف من الشباب ودمرت المدن وشرد الابرياء في البلدين بعد ان دامت اكثر من ثماني سنوات . كان التلفزيون ((يعرض اشلاء الجثث والأسرى كغنائم حرب وكانت موسيقى البيانات تشيع الرعب والخوف، وهي بمثابة أنذار لكل العوائل... كان صوت البيانات كصوت عزرائي الذي يقبض الأرواح ..)) ص311.

الروائي أمتاز في شرح وتوضيح مظلمة الأخوة الأرمن وما تعرضوا له من القهر والقتل والإبادة المروعة من قبل السلطات العثمانية ، من خلال الاصغاء لرواية الممرضة من اصل ارمني ((اريف)) التي تزوجت ((يوسف)) المسلم في كربلاء ، فكان بحق انحيازا انسانيا ربما لم يسبق اليه احد من الرواة والأدباء بمثل هذا التوصيف والتعريف بمجزرة وجريمة كبرى ضد الارمن يلفها الغموض والسكوت والكتمان ، ربما اكثر قسوة وإيلاما ووحشية من افعال ((داعش)) في العراق وما فعلته مع الازيدين والمسيح وحتى المسلمين من المذاهب الاخرى ، فكان المشذوب رائعا في الوصف والكشف عبر تقنية سردية وراو ثان متمثلا بشاهد عيان لما جرى للأرمن . وكنا نتمنى ان ينسب ما رواه الكاتب الى مصدر تاريخي مطبوع ، لتكون له مصداقية الوثيقة التاريخية ...

قاريء رواية (( باب الخان)) لا يشعر بالملل وهو يتابع التوصيف الرائع والمجسم والدقيق للاحداث وأبطالها ، مما يترك صورة الشخصيات عالقة في ذاكرته ، بعد الانتهاء من القراءة ، للكلمة مسحة شعرية جميلة ، وكذلك الوصف للأزقة والتنقل للأمكنة المختلفة في جمهورية ملونة بلون الحب والبغض ، بلون الشرف والنذالة ، بلون الغنى والفقر ، البساطة والتعقيد ، الثقافة الرفيعة والجهل ، العفة والعهر ، بتعدد القوميات والأجناس والإعمال والمهن ...جمهورية الوجهاء والمهمشين على حد السواء ، جمهورية بلا علم ولا دستور ولا جيش ولا شرطة ، رئيسها بلا راتب ولا مخصصات باذخة ، ولا خدم ولا حشم ولا حمايات ، عرشه كرسي متهالك ، وناقلته دراجة هوائية متداعية . وقد ابدع الراوي في ذكر تفاصيل حياة ((جمهورية الخان)) ، فكانت ذاكرته ملمة بكل التفاصيل الحياتية للمدينة

وكما قال غابريل غارسا ماركيز:-

((الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وأنما هي ما يتذكره ، وكيف يتذكره ليرويه)) عشت لاروي ص7 دار المدى ط1 2005.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...