خجلتُ أن أبكي أمام أبني الصغير، هو يحكي لي كيف حدث ذلك.. أنا أتأمله.. يقص كعادة الأطفال.. ما أن يقترب من النهاية أجده يتذكر جزئية صغيرة فيعود إلى البداية من جديد .
فجأة .. تنبهتُ لوجودها في شارعنا الصغير .. أسير بالقرب منها يومياً .. سيارة موديل خاص قديم ،يقال - والعهدة على الرواة من الميكانيكيين وغيرهم - أنه لا توجد لها قطع غيار ، ويقال أيضا أن هذا الموديل بطل إنتاجه . هي سيارة صغيرة وقوية - والحديث مازال للرواة من ذوي الخبرة - .. وتنبه المصنع المنتج لها أن مثل هذا الموديل يُعمر كثيراً وبالتالي فأن مبيعاته سوف تقل تدريجيا ، وكان عليهم إنتاج سيارات أخرى أكثر وسامة ولا تُعمِّر كثيراً .. وهكذا توقف مثل هذا الموديل .
تنبهتُ في البداية لوجودها بشارعنا الصغير .. ثم حدثتُ زوجتي عنها .. تشاورتُ معها أن نشتريها .. يقيني أن صاحبها قد لفظها .. ربما لكثرة أعطالها .. ربما لا توجد لها قطع غيار .. .. أياً ما كانت الأسباب إلا أنني شعرتُ بأنها سيارة صغيرة مظلومة .. .. هي أفادتْ كثيراً ، ألا تستحق الإصلاح ؟ أو محاولات التجديد ؟ خاصة أن هناك موديلات أخرى قديمة مازالت تسير في الشوارع بل وتعطل حركة المرور بتوقفها المفاجئ .
وطالت مدة تواجدها .. .. تشاورتُ ثانيةً مع زوجتي كي نشتريها وننفق عليها القليل ونستعملها في المسافات القصيرة .. خافت زوجتي - والتي تتعامل معنا كأنها وزيرة الاقتصاد - أن نفقد نقودنا ثم تظل السيارة واقفة .
طالت مدة تواجدها في شارعنا وطال تفكيري فيها ، شيئاً ما يجذبني إليها .. وبمرور الأيام زاد ارتباطي بها .. بدأت تنمو بيني وبينها علاقة غامضة لا أملك وصفاً لهذه العلاقة غير الحزن وأتخيل أصاحبها القدامى .. صاحبها يقود ، زوجته بجواره ، الصغار في الخلف يمرحون ، السيارة تنطلق بهم هنا وهناك . أتأمل السيارة الصغيرة الساكنة بعد ما أضفته عليها من صور وهى تتحرك .. ينمو حزني أكثر . أنها في يومٍ ما كانت تسير وأنها كانت عزيزة على أصحابها . . تصوري هذا زاد من تعاطفي معها .
وبدأ الأطفال في الشارع يستخدمونها في ألعابهم ، كأن يركبونها ويتخيلون أنها تسير ، وللمزيد من الوهم أو الاقتناع يصدرون بأفواههم أصواتا كأنها أصوات المحرك وهو يدوِر ويعمل ويدوي مع السرعات العالية .. في لعبة أخرى يستعملونها للاختفاء . عند هذا الحد كانت حالتي حزينة .. نعم لكن .. قلت لنفسي لا بأس مادام البعض - هم أطفال صغار أبرياء - يجدون المتعة معها وفيها .
تمضي الأيام ، في ذهابي لعملي كل صباح ألقي ببصري عليها .. ومع عودتي أيضا . . يبدو أن المشاهدة اليومية ولمدة صغيرة ومع التكرار اليومي خلقت علاقة وطيدة مع هذه السيارة .
لكن البعض بدأ يلقي بالقمامة بجوارها ، وعلى الفور تذكرتُ ما قرأته يوماً عن فكرة تراكم الزبالة ومؤداها أنه ما أن يلقي إنسان ما بورقة صغيرة في مكانٍ ما حتى يتراكم في هذا المكان كومة كبيره من الزبالة ، وخشيتُ أن يتحول المكان حولها إلى مقلب للزبالة . نبهتُ البواب التي تقع عمارته أمامها ، وحاول الرجل إزالة القمامة ومنع الآخرين من إلقاء الفضلات حول السيارة . لكن الأيادي بدأت تعبث بها .. الفوانيس الأمامية نُزعت منها .. الفوانيس الخلفية كُسرت .. مساحات الزجاج كُسرت وخُلعت .. الزجاج الأمامي الكبير تهشم وصار فُتتاً .. الزجاج الخلفي تحطم .. الجلد المبطن للكراسي تمزق .. الإسفنج مٓزّعُوه .. المرآة الداخلية خُلعت والجانبية أيضاً .. و .. و.. ..
مع كل صباح في طريقي إلى عملي ومعي زوجتي وابني نرقب ما تغير .. ما تحطم .. ما هشمته الأيادي ، وينتابني الحزن ، كان مروري اليومي هو إضافة حزينة إلى ما لدى من أحزان . أكثر من مرة حاولتُ أشتريها .. لكنها الآن ومع ما تحطم سوف تكلفني الكثير.. بل الكثير جداً . وأُضيف إلى ما لدى من أحزان الشعور بقسوة الآخرين حتى ولو كانوا صغاراً .. أبرياء .
وفِي نوبة من النوبات التي تصيب زوجتي ويهيأ لها أنها من حكماء الزمان .. قالت يهيأ لي أن سبب تعاطفك مع هذه السيارة أنك أيضاً صرتٓ عجوزاً مثلها . لم أعلق على قولها خشية صداع حديث لن ينتهي إلا بأن استسلم لما تقوله كي أُنهيه - هذه هى المرة الأولى التي تشير بها زوجتي إلى هرمي - وكعادتي قلتُ لنفسي لابد أنها لاحظت علامات الهِرم .. وبدأتُ أستعرض حالتي البدنية ، تنبهتُ أنني أشكو من أسناني التي تنزف بشكل مستمر وحالت علاجها ، وطالت المدة ، وحدثتٰ الطبيب عن ذلك فأخبرني أني جئته متأخراً .. .. تبيتُ أيضاً أني ما عُدتُ بقادر على القيام من الفراش دفعة واحده ، بل لابد من أن أنقلب على جنبي أولا ثم التقوس ، ثم ألقي ببدني تجاه الأرض ، ثم أتماسك وكل ذلك كي أجلس .. ثم أتنهد قليلا وتبدأ محاولاتي للوقوف . قيل روماتويد وهو بخلاف الروماتيزم .. وقيل .. وقيل .. . ضقتُ بالأطباء وأقوالهم . تبيتُ أيضاً أنني ما عُدتُ بقادر على حمل أنبوبة البوتاجاز لتغيرها ، ولذلك أشتريتُ قاعدة بعجلات لنقلها من الشرفة إلى المطبخ .
لكني قلتُ لنفسي كل هذا لا يهم زوجتي وعلىّ أن أتذكر ما الذي جعلها تنطق بالحكمة .. .. لابد أن هناك ما هو أكثر من هذا ، صحيح أنني غيرتُ نظارة القراءة بل ونظارة المسافات أيضاً .. لكني لا أتخيل أن هذا ما شغل زوجتي فمنذ زواجنا وهى تعرف عني ضعف إبصاري وكل ما أشكو منه ، وحديثي معها حديث متكرر مع زملائي في العمل أيضاً . الكل يشكو من أعراض أمراض مختلفة .. إن لم يكن الروماتويد فهو الروماتيزم .. إن لم يكن نزيف اللثة فهو جيوب اللثة .. . ويدور الحديث في المكتب ثم نتوصّل معا أنها أمراض المهنة ونؤكد لأنفسنا ضرورة الرياضة البدنية والتخطيط لنظام غذائي جديد . لكن ما نقوله لا يعني أن ننفذه .. قد نبدأ لكننا لا نكمل .
وشحذتُ ذهني لأعرف ما وراء كلمات زوجتي .. تذكرتُ .. في بداية زوجنا كان السرير يضج من حركتي المستمرة .. ثم ومع الأيام أخترنا .. .. أو للدقة أخذتُ أنا وضعاً يريحني ، أحتضنها ودون تحركات كثيرة ينتهي إلقاء بيننا وأستغرق في النوم على حالتي .. .. لكني أقسم على ذلك .. ليس لضعفٍ أصابني ولا كما يقولون العادة والرتابة .. .. لكنها الهموم الكثيرة التي أحملها .. كنتُ فيما مضى من الأيام أحكي لزوجتي مشاكلي .. وتقوم لتُعد لي كوباً من الشاي .. ونجلس في الشرفة بعد أن ينام الصغير وحيدنا - فأنا لا أفكر في طفل آخر بل يصيبني الفزع لمجرد تخيل قادم جديد فنحن بالكاد قللنا حجم الاستدانة الشهرية - مع أي أزمة مالية تجلس زوجتي .. تعدني بعمل جمعية مالية مع زملاء عملها .. وأشعر بأن الأزمة قد حُلت .. ونذهب إلى فراشنا وبريق من أمل ولمسة فرح .. ويكون قدر لا بأس به من الحركة . لكن الأمر تكرر .. وتبينا خواء كل هذه الحلول . نفس الحال مع مشاكل العمل .. الرؤساء وأوامرهم .. أشكو لها .. تريحني .. وكوباً من الشاي و .. .. لكنني أيضاً تبينتُ عجز هذه الكلمات .. صرنا لا نتكلم إلا حول زيارة والدتها أو أختها .. في تلك الليلة .. بدأ اللقاء لكنه حتى لم يتم .. بل لم يستمر إلا لثواني .
قلتُ لنفسي ربما هذا ما جعل زوجتي تتهمني بأن الهِرم قد أصابني . ويجئ صغيري بينما أطالع الجريدة في الشرفة يخبرني.. " أبي أشعل أحدهم ناراً في كومة الزبالة بجوار سيارتك " - فلقد صار تقليداً منزلياً بيننا أن نسميها سيارتنا - " وامتدت النار .. وأشعلت السيارة .. .. " قاومت ألا أبكي أمام الصغير .. لكنه بعناد طفوليّ يعود ليقص من جديد كيف امتدت النار من الزبالة حتى لحقت بالسيارة .. وكعادة الأطفال يتذكر أحدى التفاصيل الصغيرة ويبدأ الحكاية من جديد .. . ضٓعُفت مقاومتي .. بكيتُ .. غادرنا الصغير ..وعرفتُ أنه ذاهب إلى أمه في المطبخ يحكي لها عن السيارة وعن بكائي .. وسمعتُ نتفاً من كلماته .. توقعتُ أن تجئ زوجتي لكنها لم تحضر بل أكملت ما كانت تؤديه في المطبخ .. .. ثم جاءت وهى تجفف يديها في قماشة صغيرة بعد أن نزل الصغير ليستكمل مشاهدته لسيارة المطافئ -التي حضرت خشية على باقي السيارات- هى تجهز على ما تبقى من نيران .
-: علمتَ بما جرى .
هكذا بدأت زوجتي حديثها .. وهززتُ رأسي
-: هل صحيح أنك بكيت
نظرتُ خجلا .. وبحثتُ عن إجابة .. ساعدتني الجريدة في تأليف ما يبدو منطقي ..
قلتُ : أبداً .. أحزنتني أحداث لبنان القتل والدمار في كل مكان .. وهذه الحرائق التي لا تنتهي .
هزت رأسها وغادرت الشرفة كأنها فهمت أو أطمأنت .. وكانت هناك دمعتان مازالتا محتبستين .
غبريال زكي غبريال
13 \ 9 \ 1985
فجأة .. تنبهتُ لوجودها في شارعنا الصغير .. أسير بالقرب منها يومياً .. سيارة موديل خاص قديم ،يقال - والعهدة على الرواة من الميكانيكيين وغيرهم - أنه لا توجد لها قطع غيار ، ويقال أيضا أن هذا الموديل بطل إنتاجه . هي سيارة صغيرة وقوية - والحديث مازال للرواة من ذوي الخبرة - .. وتنبه المصنع المنتج لها أن مثل هذا الموديل يُعمر كثيراً وبالتالي فأن مبيعاته سوف تقل تدريجيا ، وكان عليهم إنتاج سيارات أخرى أكثر وسامة ولا تُعمِّر كثيراً .. وهكذا توقف مثل هذا الموديل .
تنبهتُ في البداية لوجودها بشارعنا الصغير .. ثم حدثتُ زوجتي عنها .. تشاورتُ معها أن نشتريها .. يقيني أن صاحبها قد لفظها .. ربما لكثرة أعطالها .. ربما لا توجد لها قطع غيار .. .. أياً ما كانت الأسباب إلا أنني شعرتُ بأنها سيارة صغيرة مظلومة .. .. هي أفادتْ كثيراً ، ألا تستحق الإصلاح ؟ أو محاولات التجديد ؟ خاصة أن هناك موديلات أخرى قديمة مازالت تسير في الشوارع بل وتعطل حركة المرور بتوقفها المفاجئ .
وطالت مدة تواجدها .. .. تشاورتُ ثانيةً مع زوجتي كي نشتريها وننفق عليها القليل ونستعملها في المسافات القصيرة .. خافت زوجتي - والتي تتعامل معنا كأنها وزيرة الاقتصاد - أن نفقد نقودنا ثم تظل السيارة واقفة .
طالت مدة تواجدها في شارعنا وطال تفكيري فيها ، شيئاً ما يجذبني إليها .. وبمرور الأيام زاد ارتباطي بها .. بدأت تنمو بيني وبينها علاقة غامضة لا أملك وصفاً لهذه العلاقة غير الحزن وأتخيل أصاحبها القدامى .. صاحبها يقود ، زوجته بجواره ، الصغار في الخلف يمرحون ، السيارة تنطلق بهم هنا وهناك . أتأمل السيارة الصغيرة الساكنة بعد ما أضفته عليها من صور وهى تتحرك .. ينمو حزني أكثر . أنها في يومٍ ما كانت تسير وأنها كانت عزيزة على أصحابها . . تصوري هذا زاد من تعاطفي معها .
وبدأ الأطفال في الشارع يستخدمونها في ألعابهم ، كأن يركبونها ويتخيلون أنها تسير ، وللمزيد من الوهم أو الاقتناع يصدرون بأفواههم أصواتا كأنها أصوات المحرك وهو يدوِر ويعمل ويدوي مع السرعات العالية .. في لعبة أخرى يستعملونها للاختفاء . عند هذا الحد كانت حالتي حزينة .. نعم لكن .. قلت لنفسي لا بأس مادام البعض - هم أطفال صغار أبرياء - يجدون المتعة معها وفيها .
تمضي الأيام ، في ذهابي لعملي كل صباح ألقي ببصري عليها .. ومع عودتي أيضا . . يبدو أن المشاهدة اليومية ولمدة صغيرة ومع التكرار اليومي خلقت علاقة وطيدة مع هذه السيارة .
لكن البعض بدأ يلقي بالقمامة بجوارها ، وعلى الفور تذكرتُ ما قرأته يوماً عن فكرة تراكم الزبالة ومؤداها أنه ما أن يلقي إنسان ما بورقة صغيرة في مكانٍ ما حتى يتراكم في هذا المكان كومة كبيره من الزبالة ، وخشيتُ أن يتحول المكان حولها إلى مقلب للزبالة . نبهتُ البواب التي تقع عمارته أمامها ، وحاول الرجل إزالة القمامة ومنع الآخرين من إلقاء الفضلات حول السيارة . لكن الأيادي بدأت تعبث بها .. الفوانيس الأمامية نُزعت منها .. الفوانيس الخلفية كُسرت .. مساحات الزجاج كُسرت وخُلعت .. الزجاج الأمامي الكبير تهشم وصار فُتتاً .. الزجاج الخلفي تحطم .. الجلد المبطن للكراسي تمزق .. الإسفنج مٓزّعُوه .. المرآة الداخلية خُلعت والجانبية أيضاً .. و .. و.. ..
مع كل صباح في طريقي إلى عملي ومعي زوجتي وابني نرقب ما تغير .. ما تحطم .. ما هشمته الأيادي ، وينتابني الحزن ، كان مروري اليومي هو إضافة حزينة إلى ما لدى من أحزان . أكثر من مرة حاولتُ أشتريها .. لكنها الآن ومع ما تحطم سوف تكلفني الكثير.. بل الكثير جداً . وأُضيف إلى ما لدى من أحزان الشعور بقسوة الآخرين حتى ولو كانوا صغاراً .. أبرياء .
وفِي نوبة من النوبات التي تصيب زوجتي ويهيأ لها أنها من حكماء الزمان .. قالت يهيأ لي أن سبب تعاطفك مع هذه السيارة أنك أيضاً صرتٓ عجوزاً مثلها . لم أعلق على قولها خشية صداع حديث لن ينتهي إلا بأن استسلم لما تقوله كي أُنهيه - هذه هى المرة الأولى التي تشير بها زوجتي إلى هرمي - وكعادتي قلتُ لنفسي لابد أنها لاحظت علامات الهِرم .. وبدأتُ أستعرض حالتي البدنية ، تنبهتُ أنني أشكو من أسناني التي تنزف بشكل مستمر وحالت علاجها ، وطالت المدة ، وحدثتٰ الطبيب عن ذلك فأخبرني أني جئته متأخراً .. .. تبيتُ أيضاً أني ما عُدتُ بقادر على القيام من الفراش دفعة واحده ، بل لابد من أن أنقلب على جنبي أولا ثم التقوس ، ثم ألقي ببدني تجاه الأرض ، ثم أتماسك وكل ذلك كي أجلس .. ثم أتنهد قليلا وتبدأ محاولاتي للوقوف . قيل روماتويد وهو بخلاف الروماتيزم .. وقيل .. وقيل .. . ضقتُ بالأطباء وأقوالهم . تبيتُ أيضاً أنني ما عُدتُ بقادر على حمل أنبوبة البوتاجاز لتغيرها ، ولذلك أشتريتُ قاعدة بعجلات لنقلها من الشرفة إلى المطبخ .
لكني قلتُ لنفسي كل هذا لا يهم زوجتي وعلىّ أن أتذكر ما الذي جعلها تنطق بالحكمة .. .. لابد أن هناك ما هو أكثر من هذا ، صحيح أنني غيرتُ نظارة القراءة بل ونظارة المسافات أيضاً .. لكني لا أتخيل أن هذا ما شغل زوجتي فمنذ زواجنا وهى تعرف عني ضعف إبصاري وكل ما أشكو منه ، وحديثي معها حديث متكرر مع زملائي في العمل أيضاً . الكل يشكو من أعراض أمراض مختلفة .. إن لم يكن الروماتويد فهو الروماتيزم .. إن لم يكن نزيف اللثة فهو جيوب اللثة .. . ويدور الحديث في المكتب ثم نتوصّل معا أنها أمراض المهنة ونؤكد لأنفسنا ضرورة الرياضة البدنية والتخطيط لنظام غذائي جديد . لكن ما نقوله لا يعني أن ننفذه .. قد نبدأ لكننا لا نكمل .
وشحذتُ ذهني لأعرف ما وراء كلمات زوجتي .. تذكرتُ .. في بداية زوجنا كان السرير يضج من حركتي المستمرة .. ثم ومع الأيام أخترنا .. .. أو للدقة أخذتُ أنا وضعاً يريحني ، أحتضنها ودون تحركات كثيرة ينتهي إلقاء بيننا وأستغرق في النوم على حالتي .. .. لكني أقسم على ذلك .. ليس لضعفٍ أصابني ولا كما يقولون العادة والرتابة .. .. لكنها الهموم الكثيرة التي أحملها .. كنتُ فيما مضى من الأيام أحكي لزوجتي مشاكلي .. وتقوم لتُعد لي كوباً من الشاي .. ونجلس في الشرفة بعد أن ينام الصغير وحيدنا - فأنا لا أفكر في طفل آخر بل يصيبني الفزع لمجرد تخيل قادم جديد فنحن بالكاد قللنا حجم الاستدانة الشهرية - مع أي أزمة مالية تجلس زوجتي .. تعدني بعمل جمعية مالية مع زملاء عملها .. وأشعر بأن الأزمة قد حُلت .. ونذهب إلى فراشنا وبريق من أمل ولمسة فرح .. ويكون قدر لا بأس به من الحركة . لكن الأمر تكرر .. وتبينا خواء كل هذه الحلول . نفس الحال مع مشاكل العمل .. الرؤساء وأوامرهم .. أشكو لها .. تريحني .. وكوباً من الشاي و .. .. لكنني أيضاً تبينتُ عجز هذه الكلمات .. صرنا لا نتكلم إلا حول زيارة والدتها أو أختها .. في تلك الليلة .. بدأ اللقاء لكنه حتى لم يتم .. بل لم يستمر إلا لثواني .
قلتُ لنفسي ربما هذا ما جعل زوجتي تتهمني بأن الهِرم قد أصابني . ويجئ صغيري بينما أطالع الجريدة في الشرفة يخبرني.. " أبي أشعل أحدهم ناراً في كومة الزبالة بجوار سيارتك " - فلقد صار تقليداً منزلياً بيننا أن نسميها سيارتنا - " وامتدت النار .. وأشعلت السيارة .. .. " قاومت ألا أبكي أمام الصغير .. لكنه بعناد طفوليّ يعود ليقص من جديد كيف امتدت النار من الزبالة حتى لحقت بالسيارة .. وكعادة الأطفال يتذكر أحدى التفاصيل الصغيرة ويبدأ الحكاية من جديد .. . ضٓعُفت مقاومتي .. بكيتُ .. غادرنا الصغير ..وعرفتُ أنه ذاهب إلى أمه في المطبخ يحكي لها عن السيارة وعن بكائي .. وسمعتُ نتفاً من كلماته .. توقعتُ أن تجئ زوجتي لكنها لم تحضر بل أكملت ما كانت تؤديه في المطبخ .. .. ثم جاءت وهى تجفف يديها في قماشة صغيرة بعد أن نزل الصغير ليستكمل مشاهدته لسيارة المطافئ -التي حضرت خشية على باقي السيارات- هى تجهز على ما تبقى من نيران .
-: علمتَ بما جرى .
هكذا بدأت زوجتي حديثها .. وهززتُ رأسي
-: هل صحيح أنك بكيت
نظرتُ خجلا .. وبحثتُ عن إجابة .. ساعدتني الجريدة في تأليف ما يبدو منطقي ..
قلتُ : أبداً .. أحزنتني أحداث لبنان القتل والدمار في كل مكان .. وهذه الحرائق التي لا تنتهي .
هزت رأسها وغادرت الشرفة كأنها فهمت أو أطمأنت .. وكانت هناك دمعتان مازالتا محتبستين .
غبريال زكي غبريال
13 \ 9 \ 1985