لم أعرف يوسف إدريس (1927-1991)* بشكل شخصي طوال الخمسينيات والستينيات. ذلك على الرغم من أنني قرأت له كل ما نشره في هذه الفترة من مجموعات قصة قصيرة وروايات, ابتداء من (أرخص ليالي) مجموعته الأولى التي نشرها سنة 1954 حتى نهاية أعماله.
لاأزال أذكر كيف كنت أحصل على أعمال يوسف إدريس التي جذبتني إليها منذ الخمسينيات, وكنت أجد بعضها في مكتبة المدرسة, وبعضها الآخر على عربة عم كامل ومساعده طلعت قنديل ثم محمد أبي العلا. وكان عم كامل - رحمه الله - يبيعني النسخ المرتجعة من سلسلة الكتاب الذهبي والكتاب الفضي وغيرهما من السلاسل بقرشين أو ثلاثة على الأكثر, وكنا نتبادل هذه النسخ في مدينة المحلة الكبرى التي شهدت صباي البعيد, والتي تعرفت فيها على المجموعة التي صار أفرادها كتابا كبارا: محمد صالح ونصر أبو زيد وسعيد الكفراوي وأحمد عسر, رحمه الله, ورمضان جميل ثم فريد أبو سعدة وجار النبي الحلو والمنسي قنديل وغيرهم من الذين تبادلت وإياهم أعمال يوسف إدريس الأولى: وتناقشنا حولها, وتعلقنا به بوصفه نموذجا لكاتب القصة القصيرة التي سرعان ما حاكاه بعضنا الذين مضوا في طريق القصة القصيرة.
وعندما دخلت جامعة القاهرة, وجمعتني سنوات الجامعة الأولى بالأقران المشغولين بالحياة الثقافية, خصوصا الذين أدركتهم حرفة الأدب, ازددت تعلقاً بيوسف إدريس, أولا: لأنه كان يواصل كشوفه الرائعة في فضاء الكتابة السردية, ويضيف إليها جسارته التي ظهرت في مقالاته التي كنا نتابعها بشغف في الجرائد السيارة. وفي هذا السياق, عرفت الكثير عن حياة يوسف إدريس, وذلك ضمن دائرة الاهتمام بكاتب كبير لم يكف عن تفجير القضايا واقتحام المواقف الصعبة, ولم يرض عنه اليمين قط, وظل على خلاف مع بعض فصائل اليسار التي لم تغفر له ما رأته سقطات, حتى بعد موته, على نحو ما نرى في كتاب فاروق عبدالقادر (البحث عن اليقين المراوغ: قراءة في قصص يوسف إدريس) الذي صدر ضمن سلسلة كتاب الهلال في أغسطس سنة 1998. وأتصور أن اهتمامي بإبداع يوسف إدريس وشخصه, خصوصا بعد أن أصبحت معدودا من معارفه ثم أصدقائه منذ السنوات الأخيرة للسبعينيات, هو الذي دفعني إلى متابعة ما كتب عنه باللغة العربية أولا, وباللغة الإنجليزية ثانيا, الأمر الذي قادني إلى قراءة كتب لمؤلفين ومؤلفات من أمثال نادية رؤوف فرج: يوسف إدريس والمسرح العربي الحديث - القاهرة 1976, وعبدالحميد القط: يوسف إدريس والفن القصصي - القاهرة 1980, وناجي نجيب: الحلم والحياة في صحبة يوسف إدريس - القاهرة 1985, وعبدالعزيز محمود: يوسف إدريس والتابو - القاهرة 1986. وأضيف إلى ما ذكرت غيره من الكتب العربية التي لاتزال تصدر, جنبا إلى جنب الكتابات الأجنبية التي يبرز من بينها ما كتبه ساسون سوميخ الإسرائيلي, وروجر آلان البريطاني الأصل الأمريكي النشاط, وكربر شويك الذي كتب كتابا متميزا عن الإبداع القصصي عند يوسف إدريس. وكنت أوّل من عرّف بهذا الكتاب بترجمة بعض فصوله في عدد (القصة القصيرة) الذي أخرجته مجلة (فصول) وكنت - في ذلك الوقت - أعمل نائباً لرئيس تحريرها الدكتور عز الدين إسماعيل.
خبرات متراكمة
وبالطبع, عرفت في سياق اهتمامي بالكاتب المبدع الذي لاأزال على إعجابي بكتاباته, أنه ولد في التاسع عشر من مايو سنة 1927 بقرية البيروم - مركز فاقوس بمحافظة الشرقية, وتلقى دراساته الابتدائية في مدينة فاقوس التي تتبعها قريته إداريا, وفرضت عليه تنقلات والده الذي كان يعمل باستصلاح الأراضي التنقل ما بين المدارس الثانوية لمدن الدلتا: دمياط والزقازيق والمنصورة وطنطا, إلى أن حصل بتفوق على شهادة إتمام الدراسة الثانوية سنة 1947, وكان ترتيبه الثالث عشر على مستوى كل طلاب القطر المصري في ذلك الوقت, وأتاح له مجموعه المرتفع الدخول إلى كلية الطب التي كانت تموج بالنشاط الثوري, ولليمين واليسار حضور قوى فيها, فجذبته المجموعات اليسارية بواسطة من سبقوه إلى اليسار وإلى كتابة القصة القصيرة في الوقت نفسه, فتفجّرت موهبته الإبداعية في موازاة ممارساته اليسارية, سواء في المظاهرات ضد الاستعمار, أو تولي مسئولية السكرتير التنفيذي للجنة الدفاع عن الطلبة. وكان ذلك في السنة الأخيرة من دراسته بالكلية التي تخرج منها طبيبا واعدا. ومثقفا يساريا مناضلا, وكاتب قصة قصيرة انضم إلى القافلة التي استهلها سلفه الروسي أنطون تشيكوف (1860-1904) الذي تأثر به يوسف إدريس, وتعلم منه أن أول الإبداع الحقيقي هو تمثل الميراث العالمي للقصة من منظور الهوية الوطنية, والإبداع الجسور بما يعيد تجسيد هذه الهوية وتقديمها بما يلقي الضوء على أصالتها ولا يتردد في الكشف عن سلبياتها.
وأتاحت الحياة العملية ليوسف إدريس مادة وفيرة لكتاباته التي عرفناه بها طوال الخمسينيات والستينيات, فقد عرف تجربة السجن لأكثر من سنة بعد صدور مجموعته الأولى (أرخص ليالي) فأفاد من التجربة, كما أفاد من رفقة اليسار في جريدة (المصري) التي سرعان ما أغلقتها يوليو 1952 في توجهها المعادي للديمقراطية, وتقلبت به المهنة الطبية ما بين طبيب امتياز في القصر العيني, وطبيب تراخيص للمحلات العامة ببلدية القاهرة, وطبيب عمال النظافة بوزارة الأشغال, ومفتش صحة بكل من الدرب الأحمر والسيدة زينب وحلوان ومصر القديمة والجديدة على السواء, الأمر الذي أتاح له ذخيرة بالغة الغنى من الخبرات الإنسانية على كل المستويات التي اتصل بها, والتي عرفها طبيبا ومثقفا ومناضلا, فظهر أثر ذلك في الكتابة التي اهتمت باعتقال المثقفين وعمليات تعذيبهم في السجون الناصرية, ثم الساداتية, وحياة المناضلين المليئة بالمفارقات والتناقضات والتمزقات, وغاصت هذه الكتابة في تفاصيل حياة الفقراء والبسطاء, كما عرفت ضباط الجيش الوطنيين, والحراك الاجتماعي بين الطبقات في كل من القرية والمدينة, حيث يتكرر معنى العيب والحرام في أرخص الليالي التي لم تخل, قط, من لغة الآي آي, أو من سياط العسكري الأسود, أو حضور البطل الذي يتحدى قدره ويمضي إلى آخر الدنيا.
علاقة الحب والكراهية
وكان من الطبيعي أن يكتب يوسف إدريس, النجم الصاعد منذ الخمسينيات, في جرائد الثورة ومجلاتها, بعد خروجه من المعتقل, وبعد قراره التخلي عن العمل السري والانصراف إلى الكتابة التي رأى فيها وسيلته المثلى والوحيدة في مقاومة ما يراه باطلا وظلما وزيفا, وهو قرار أدى إلى الاصطدام بالرفاق القدامى الذين اتهموه بالتقرب إلى السلطة السياسية مقابل السماح بالكتابة في جرائد الدولة ومجلاتها. وكانت البداية مجلة (التحرير) التي سرعان ما أغلقت, ثم جاءت (روز اليوسف) و(الجمهورية) بعدها. وفي (الجمهورية) توثقت الصلة بأنور السادات الذي توسط لانتدابه من وزارة الصحة إلى وزارة الثقافة, ومن وزارة الثقافة إلى المؤتمر الإسلامي الذي كان يتولاه السادات, وظل هناك إلى أن طرد منه بسبب مقال شهير عن (الاتحاد القومي). ولكن سرعان ما تصالح يوسف إدريس والدولة, وأثمر الصلح تعيينه كاتباً في جريدة (الأهرام) وكانت أولى قصصه المنشورة (سنة 1969) هي قصة (الخديعة) التي كانت تهكما مريرا من الحضور الطاغي المخيف لجمال عبدالناصر الذي رمزت له القصة برأس جمل يظهر للبطل في كل مكان, ويطارده في كل مكان. وأدّت القصة الرمزية إلى فصله من (الأهرام) الذي سرعان ما عاد إليه بعد مصالحة مع الدولة, ولكنه لم يكف عن المشاغبة وإنطاق المسكوت عنه بواسطة الكتابة الرمزية, وذلك في السياق الذي انتهى بموت عبدالناصر الذي ارتبط به يوسف إدريس بنوع من التضاد العاطفي الذي يجمع بين الحب والكره, الإعجاب والنفور, شأنه في ذلك شأن كثير من كتّاب جيله الذين هاجموا عبدالناصر - رمزيا على الأقل - طوال حياته, وبكوا عليه بكاء حاراً كشف عن حبّهم الدفين بعد وفاته.
ولا غرابة - والأمر كذلك - في أن يكون يوسف إدريس الذي كتب (العسكري الأسود) (1961) لمهاجمة المعتقلات الناصرية وأتبعها بقصص من مثل (مسحوق الهمس) و(العملية الكبرى) وغيرهما من القصص التي تتحدث عن المعتقلات الناصرية كما تحدث عن نتائج تسلط القيادة أو سقطاتها, أقول: لا غرابة في أن يكون يوسف إدريس الذي هاجم عبدالناصر أعنف الهجوم بقصصه الرمزية هو نفسه يوسف إدريس الذي يكتب في (الأهرام) بعد رحيل عبدالناصر, مناجيا الزعيم الخالد بقوله: (يا أبانا الذي في الأرض - يا صدرنا الحنون الكبير), ويتابع النبرة نفسها قائلا: (أصبحت الدنيا لأول مرة بلا عبدالناصر, ونحن لم نتعود أبدا أن نتنفس هواء لا يتنفسه هو, ولا أن ننام إلا ونحن نحس أنه هناك في كوبري القبة, ولا أن نستقبل الصباح إلا على صورة له وابتسامة).
زمن السادات
وقد ظلت علاقة يوسف إدريس بالزمن الساداتي علاقة شد وجذب, حاول الطرفان الإبقاء على شعرة معاوية, وذلك بما أتاح لجسارة الكاتب أن تواصل تعريتها لكثير من السلبيات إلى أن توفي السادات في أكتوبر 1981, على أيدي الجماعات التي رعاها ليقمع بها اليسار القومي والناصري والماركسي على السواء.
ولم يكف يوسف إدريس عن مشاكساته وتقلباته, طوال السنوات التي عاشها في زمن مبارك, فأخرج قنبلته المدوية (البحث عن السادات) سنة 1983, فأقام الدنيا ولم يقعدها, وتصدت له الأقلام الساداتية التي هاجمته أعنف هجوم, ومنع (الأهرام) كاتبه الكبير - يوسف إدريس - من نشر ردوده على الحملات الشرسة المضادة, فاضطر إلى أن ينشر في جريدة (الأحرار) خطابا موجها إلى الرئيس مبارك بعنوان (أشكو إليك منك) وانتهى الخصام بالمصالحة كالعادة, ولم تتوتر العلاقات بسبب الخصومة مع وزير الثقافة عبدالحميد رضوان, أو مع الشيخ الشعراوي, وإن كان كل خصومة منهما شغلت الدنيا والناس.
هكذا, كانت صورة يوسف إدريس الإشكالية تتشكل في مخيلتي حتى قبل أن أعرفه شخصيا, وذلك بفضل المعارك التي خاضها والعواصف التي أثارها والمواقف التي اتخذها. وأذكر بدايات تشكل هذه الصورة بأربعة ملامح. أولها ما عرفته من أنه انضم إلى المناضلين الجزائريين في الجبال, واشترك معهم في بعض العمليات العسكرية لمعارك الاستقلال, وأنه بقى مع المقاتلين في الجبال لستة أشهر إلى أن أصيب, وكسرت ساقه, فأهداه الجزائريون وساما رفيعا تقديرا لإسهامه بالكلمة والفعل في تحرير الجزائر. وكان ذلك في السياق الذي اشتعل فيه الوجدان القومي بالغضب على الاستعمار الفرنسي في الجزائر, وتعاطف القوى الوطنية مع نضال الأبطال الجزائريين في بلد المليون شهيد. وهو السياق الذي شهد فيلم يوسف شاهين (جميلة) سنة 1958, تعبيرا عن التعاطف القومي اليساري مع النضال الجزائري للتحرر من الاستعمار.
الجائزة المشبوهة
ويرتبط الملمح الثاني بسنة 1965 التي تخرجت فيها من الجامعة, والسنة اللاحقة التي شهدت نهاية قصة مجلة (حوار). وهي مجلة بيروتية, صدرت عن الدار نفسها التي نشرت مجلة (شعر) البيروتية, وقد سعت المجلتان إلى تبني حركة طليعية ليبرالية, ومضت في اتجاه قادها إلى الصدام مع القوى القومية التي كانت تمثلها في لبنان, في ذلك الوقت, مجلة (الآداب) التي صدرت سنة 1953, ورأس تحريرها سهيل إدريس, مؤكدة البعد القومي للأدب الطليعي الجديد لجيل نازك الملائكة وصلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وغيرهم, مصطدمة مع مجلة (شعر) التي صدر عددها الأول في شتاء 1957. وكانت مجلة (حوار) آخر إصدارات المجموعة نفسها, في اندفاعها الليبرالي المستفز للمجموعات القومية التي تمثلها مجلة (الآداب) وغيرها من المجلات المشابهة. وقد أعلنت المجلة عن جائزة كبيرة تمنح لأبرز الكتاب العرب, وقررت منح جائزتها ليوسف إدريس الذي قبل الجائزة, وأجرى حوارا مع مراسلها في القاهرة: غالي شكري. وما إن أعلنت المجلة عن الجائزة حتى ثارت الأقلام القومية فاضحة ارتباط القوى الاستعمارية بالمجلة, وكشفت عن مصادر تمويلها التي كان على رأسها (المنظمة العالمية لحرية الثقافة) التي ثبت أنها غطاء ثقافي لنشاط حلف الأطلنطي الذي قام بتمويلها ضمن سياق تمويل المخابرات الأمريكية للحرب الثقافية الباردة المضادة للقوى الاشتراكية وحلفائها بين قوى التحرر الوطني على امتداد العالم كله. (وقد تكشفت خبايا هذه الحرب في كتاب ف.ن. سوندرز (الحرب الثقافية الباردة) الذي ترجمه ترجمة متميزة طلعت الشايب, وأصدره المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة سنة 2002) وعندما تكشف الجانب السلبي لجائزة (حوار) وعلاقة المجلة بالقوى الاستعمارية, وأصبح ذلك حديث آلاف المثقفين الوطنيين والقوميين, قرر يوسف إدريس الاعتذار عن الجائزة ورفضها, تضامنا مع الموقف القومي العام المعادي لتوجهات المجلة التي سرعان ما أغلقت بعد ذلك بسنوات معدودة من افتضاح أمرها. وقد كافأت القوى الوطنية يوسف إدريس على موقفه, واحتفى به الجميع. وقرر الرئيس جمال عبدالناصر صرف مبلغ الجائزة له. وبالفعل, استدعى سامي شرف - سكرتير الرئيس والرجل القوي في النظام الناصري - يوسف إدريس, وتولى تسليمه ما يعادل قيمة الجائزة التي كانت عشرة آلاف ليرة لبنانية, تساوي ألفين وخمسمائة جنيه مصري في ذلك الوقت الذي كان الجنيه المصري ثروة صغيرة لأمثالنا من خريجي الجامعة. وكان مرتبنا في السنة الأولى من عملنا حوالي ستة عشر جنيها بالتمام والكمال.
وكان يوسف إدريس خارجا من عاصفة مسرحيته (الفرافير) 1964 التي انتهت معركتها نهاية مظفرة, خصوصا بعد أن ثار فيها يوسف إدريس على القالب المسرحي الأوربي, بادئا من حيث انتهى برتولت برخت (1898-1956) في مسرحه الملحمي الذي شهدنا منه (دائرة الطباشير القوقازية) ثم (الأم شجاعة وأولادها), وقد كانت المسرحية تجسيدا للآراء التي ذهب إليها في مجلة (الكاتب) بعنوان (نحو مسرح مصري), والتي دعا فيها إلى هجر القوالب المستوردة, وصياغة قوالب مسرحية نابعة من هويتنا وتراثنا, تطويرا للتراث الشعبي كالسامر وحلقات الذكر والكوميديا المرتجلة. ولذلك كان الفرفور شخصية شعبية, ماكرة, مرحة, فهلوية, مطحونة, خفيف الظل وسليط اللسان. ورغم أن المسرحية كانت تحولا عن اتجاه الواقعية وانقلابا عليه, في تأكيد العلاقة الأزلية بين السيد والعبد, فإنها حققت نجاحا مدويا.
دفاع عن لغة الفن
ويقترن الملمح الثالث في ذاكرتي بلغة الكتابة الأدبية. وكان ذلك سنة 1965 التي تخرجت فيها, والتي صدر فيها كتاب لويس عوض (1915-1920) (مذكرات طالب بعثة) الذي كتبه سنة 1942 باللغة العامية, وضاع منه لسنوات طويلة, وظل مجهولا إلى أن أصدره أديب سكندري باسم مستعار - (كناري) فأثار نشر الكتاب ضجة كبيرة لصراحته في الكشف عن حياة طالب بعثة في إنجلترا, ولأن المذكرات كلها مكتوبة بالعامية التي كان ينظر إلى الكتابة بها شزرا في سنوات المد القومي الصاعد. وقد حضرت مناقشة الكتاب بعد أن أعاد لويس عوض طبعه مع مقدمة كاشفة, فرغ من كتابتها في الثلاثين من يوليو 1965. وكانت المناقشة في (نادي القصة) الذي ذهبت إلى مقره مع بعض زملائي الذين كانوا قد تخرجوا معي في الشهر السابق على صدور الطبعة الكاملة. واستمعنا إلى آراء عدد من الكتاب الكبار في ذلك الوقت, على رأسهم أستاذتي سهير القلماوي (1911-1997) التي هاجمت الكتابة بالعامية في المذكرات, وأنكرت على لويس استخدامه لها, معتمدة في ذلك على مبررات قومية, كانت استمرارا للمبررات التي ساقها من قبل أستاذها طه حسين (1889-1973) في كتبه ومقالاته.
وجاءت المفاجأة التي لم نتوقعها بتعقيب يوسف إدريس الذي كان حاضرا, مستوفزا طوال الوقت, متوترا بما لا تخفيه ملامح وجهه من انفعالات لم نلحظها إلا بعد أن تكلم. وانطلق مفندا آراء أستاذتنا, محللا المذكرات وطبيعتها, مدافعا عن الكتابة بالعامية, ما ظلت الكتابة تحمل تبريرها الفني, مؤكدا ضرورة الفصل بين الحجج القومية والتقنيات الفنية.وظل يوسف يتحدث بحماسة صادقة, سرعان ما انتقلت عدواها إلى نفوسنا, فإذا بنا نميل تدريجيا إلى موقفه كلما مضى في حماسه الدفاعي عن حرية الكاتب في اختيار لغته, وعن قدرة العامية على تجسيد مواقف ومشاعر لا يمكن تجسيدها إلا بها. وانتهى من كلامه بعد أن اقتنعنا بوجهة نظره, وتذكرنا أن رفض الكتابة العامية سوف يؤدي إلى رفض أجمل قصائد فؤاد حداد (1927 - 1985) وصلاح جاهين (1930 - 1986) التي حفظناها عن ظهر قلب, خصوصا بعد أن قرأنا قصائد ديوان فؤاد حداد (أحرار وراء القضبان) (1952) وصلاح جاهين (كلمة سلام) (1955) و(موال عشان القنال) (1956) و(الرباعيات) (1962) ومعها (قصاقيص ورق).
وكان يوسف إدريس في ذلك الوقت رمزا من رموز التمرد في الكتابة, خصوصا بعد أن قرأنا له رائعته (العسكري الأسود) في مجلة (الكاتب) سنة 1961, وتعلمنا منها كيفية الكتابة الرمزية التي تقصف براثن الوحش, وتنتزع أنياب القمع بكناياتها التي تشير إلى زمن مضى على سبيل التقية, بينما تعني زمنا قائما على مستوى الواقع الذي كنا نعانيه, ونسمع عما حدث فيه, وما كان لا يزال يحدث في معتقلاته, فكانت (العسكري الأسود) البداية التي رأينا امتدادها في رواية صنع الله إبراهيم (تلك الرائحة). وقد صدرت عن مكتب يوليو للطبع سنة 1966, حاملة مقدمة يوسف إدريس التي تشيد بالرواية, وتشيد بشجاعة كاتبها الخارج من المعتقل, وتؤكد قيمة تمردها على أشكال الكتابة التقليدية.
وكان دفاع يوسف إدريس عن هذه الرواية أحد أوجه علاقته بالأجيال الجديدة التي انجذبت إليه, وتأثرت بكتاباته, ودفعت بعض أفرادها علاقة التضاد العاطفي التي ربطتهم بيوسف إدريس إلى التمرد عليه, ومحاولة البدء من حيث انتهى. وكان مسارهم الصاعد شهادة لأصالة نقطة البداية التي انطلقوا منها, واعترافا بفضل الأستاذ الذي علمهم إنطاق المسكوت عنه واقتحام الممنوعات.
الواقعية السحرية
والطريف في الأمر كله أنني لم أقترب من يوسف إدريس إلا في أواخر السبعينيات, وكان السبب في ذلك هو حرصي على الابتعاد عن العلاقة الشخصية بالأدباء, توهما أن ذلك يجعلني محايدا في الكتابة عنهم. وأحسبني أدين لصديقي أمل دنقل (1940 - 1983) بانقشاع هذا الوهم, والتخلي عنه إلى الأبد, خصوصا بعد أن أدركت أن الصداقة لا تحول دون الموضوعية, وأن سلامة المنهج كأمانة الكتابة وصدق الممارسة تنجي من مزالق المجاملة.
وقد دفعني أمل دنقل إلى معرفة يوسف إدريس الذي كانت تربطه به صداقة عميقة, قائمة على الاحترام المتبادل والمودة الخالصة وأوجه التشابه بين شخصيتين تنطوي كل منهما على النزعة الحدّية نفسها, وعلى تلهب التمرد المتصل, وعلى القلق الإبداعي الذي لا يكف عن التوهج كأنه الوجه الآخر من شعلة الرفض التي لا تترك مسلمة او فكرة أو مبدأ إلا وامتدت إليه بلهبها.
وكان اقترابي من يوسف إدريس مع أمل بعد عودتي من الولايات المتحدة, حيث عملت أستاذا زائرا في إحدى جامعاتها, وأتاحت لي الإقامة بها معرفة التيارات الجديدة من الكتابة القصصية في العالم كله, خصوصا تيار (الواقعية السحرية) الذي قدمته إبداعات أمريكا اللاتينية, وأبرزته كتابات جابرييل جارثيا ماركيز المولود سنة 1928, وعلى رأسها رائعته (مائة عام من العزلة) التي صدرت سنة 1967, فجلبت لصاحبها الشهرة التي انتهت بصاحبها إلى الحصول على جائزة نوبل سنة 1982, قبل حصول نجيب عليها بست سنوات فحسب. وأذكر أنني قرأت الترجمة الإنجليزية للرواية أكثر من مرة, وعدت بها مع ما عدت به من كتب, وأعطيتها لزميلي سليمان العطار, دافعا إياه إلى ترجمتها إلى العربية عن اللغة الإسبانية التي يتقنها, ونجحت بعد سنوات قليلة في دفعه إلى إكمال الترجمة التي نشرتها هيئة الكتاب في القاهرة.
وكان من الطبيعي أن تمتد المناقشة مع يوسف إدريس حول (مائة عام من العزلة) وحول تيار (الواقعية السحرية). وهو التيار الذي لاأزال أرى فيه محاولة موازية لمحاولة يوسف إدريس خلق كتابة وطنية أو قومية, تحمل ملامح هويتها الثقافية الخاصة, وتجسد خصوصيتها المحلية دون أن تتنكر قط للموروث العالمي والتيارات المعاصرة التي لا بد أن ينفتح عليها الكاتب, ولا يكف عن الإفادة منها أو التفاعل معها, وإلا انغلق على نفسه, وضاعت أصالته الإبداعية في المدارات المغلقة للتقوقع في صدفة الذات.
وما أكثر الحوارات التي دارت بين جماعتنا ويوسف إدريس, على امتداد ليل القاهرة التي لا تظهر فتنتها إلا بعد منتصف الليل, ومع احتدام النقاش الذي لم يكن يخلو من عتاب ليوسف إدريس على ما رآه بعضنا تكاسلا منه في مجال الحفر في طبقات الوعي المعتمة للذات والجماعة, والمضي بعيدا في أجواء التجريب التي اندفعت إليها كتابات إدوارالخراط, فأغوت البعض باتباعه, بعيدا عن أفق يوسف إدريس الذي وصفه إدوار الخراط, ذات مرة, ظلما, بأنه أفق (الموهبة الحوشية).
وقد ازداد اقترابي من يوسف إدريس حميمية إلى أبعد حد بفضل السياسة. وكان ذلك في سبتمبر سنة 1981, حين قام الرئيس محمد أنور السادات بطرد أكثر من ستين أستاذا من الجامعات المصرية, وكنت واحدا من هؤلاء الذين اقتصر العقاب على طردهم, ولم يودعوا السجن بتهم زائفة كما حدث مع أقران لهم, وكانت حجة السادات الكاذبة لطردنا من الجامعة هي اتهامنا بالعمل على تقويض الوحدة الوطنية, بينما كانت تهمتنا الحقيقية أننا كنا ضد شكل الصلح الذي انتهى إليه مع إسرائيل, والذي أدّى إلى التفريط في الحقوق العربية, والمذابح الإسرائيلية, التي لا تزال تحدث في أرض فلسطين. وقد أرتنا أزمة الطرد من الجامعة الكثير من صغار نفوس بعض زملائنا الذين أنستهم الغيرة إنسانيتهم, كما أرتنا ما انتهى إليه جبن الذين أنكروا صلتهم بنا, خشية وجبنا وتقية.
دعم ومؤازرة
ولكن يوسف إدريس الذي لم أكن صديقه بالمعنى الحميم, في ذلك الوقت, فاجأني بسلوكه ومواقفه, فلم يكن يكف عن الاتصال بي, والاطمئنان على أحوالي وأحوال أصدقائي المطرودين من الجامعة, وما أكثر ما كانت تنتابه نوبات الكرم الشرقاوي, نسبة إلى محافظته - محافظة الشرقية المشهورة بالكرم. وكنت أداعبه بسبب هذه النوبات بتذكيره بقصته (تحويد العروسة) القديمة. وكان يرد على مداعباتي بالضحك المقرون بالإلحاح على دعوتي لزيارته في مبنى جريدة (الأهرام) والغداء معه, كما لو كان يريد أن يعلن للجميع مساندته لكل الذين فصلهم السادات من الجامعة. وبقدر ما كنت أعتذر له عن قبول دعوة الذهاب للغداء معه في الأهرام, تحرجا وتجنبا لإحراجه, كان يحث أمل دنقل على جرّي جرا إلى جريدة (الأهرام).
وعندما يئس من ذهابي إليه جاء هو إلى منزلي, وتعودنا السهر إلى الصباح, تطرز ليالينا مناقشات رائعة حول كل شيء, وقصائد أمل دنقل التي سرعان ما لحقت بها قصائد أحمد حجازي الذي أتى في زيارة إلى القاهرة من منفاه الباريسي في ذلك الوقت.
ولم يتوقف يوسف إدريس عن السؤال والاهتمام, والتأييد والدعم, ولم أكن قد كتبت كلمة واحدة عنه, وظل على كرم خلقه إلى أن ذهبت إلى السويد لكي أعمل أستاذا زائرا في جامعة استوكهولم. وهناك سعدت بمعرفة أن يوسف إدريس أحد المرشحين لجائزة نوبل, وأن القسم الذي أعمل به هو الذي قام بترشيحه لهذه الجائزة, بعد أن سبق له ترشيح نجيب محفوظ الذي كانت الجائزة الكبرى من نصيبه في النهاية. وربما أكون قد ارتكبت خطأ غير مقصود بإبلاغ يوسف إدريس ذلك بعد عودتي من السويد وانتهاء عهد السادات, وإلغاء مبارك لما اتخذه السادات من إجراءات متعسفة ظالمة, ساعيا - أي الرئيس مبارك - إلى تضميد الجروح وإعادة الوفاق الوطني. ويبدو أن يوسف إدريس فهم مما نقلته له, وما أكده له الصديق عطية عامر الذي كان رئيس قسم اللغة العربية في جامعة استوكهولم لسنوات عديدة, أنه المرشح الوحيد, وأن الجائزة من نصيبه وحده. ولذلك جاءت استجابته لحصول نجيب محفوظ على الجائزة سنة 1988 حادة عنيفة, فصدرت عنه تصريحات انفعالية ما كان ينبغي أن تصدر عنه, فحصول نجيب على الجائزة تكريم لكل الكتّاب العرب بوجه عام, وأقرانه المصريين بوجه خاص. ولحسن الحظ, كان نجيب محفوظ سمحا - كعادته الدائمة - في استجابته إلى انفعالية يوسف إدريس, فانتهى الأمر بسلام, وسرعان ما هدأ يوسف إدريس, وتقبل ما حدث في النهاية بروح صافية, لم تتعكر كثيرا بمشاعر الغيرة الإنسانية رغم عنفها الذي زاد عن حده.
وكنت أعرف حدة شعور يوسف إدريس بذاته وسرعة انفعاله وسهولة انفجاره نتيجة علاقتي به وتجاربي معه. ولا أزال أذكر ما حدث بعد عودتي من السويد إلى عملي في مجلة (فصول), واستعدادنا في المجلة لإصدار عدد عن (القصة القصيرة - اتجاهاتها وقضاياها).
وقد صدر العدد بالفعل في سبتمبر سنة 1982. وكنت قد طلبت من أستاذي الدكتور عبدالمحسن بدر ومن الصديق صبري حافظ أن يكتبا عن القصة القصيرة عند يوسف إدريس, وهي معجزته الإبداعية الأولى. لكن مشاغل عرضت للاثنين, فلم يكتبا الدراستين اللتين اتفقنا عليهما, واللتين كانتا ضمن التخطيط الذي وضعته للعدد. ولم يكن من المعقول أن يصدر عدد عن القصة القصيرة وليس فيه دراسة عن أعمال يوسف إدريس الذي كان يقول لي مداعبا: وهل هناك أحد في القصة القصيرة سوى يوسف إدريس? لماذا لا يكون العدد كله عني?
وكان الحل الذي اهتديت إليه لإنقاذ الموقف بسبب ضيق الوقت هو الترجمة. ولحسن الحظ, كنت قد قرأت في السويد كتاب كيربرشويك عن (قصص يوسف إدريس القصيرة) الذي صدر سنة 1981 عن دار نشر بريل, ليدن, فقررت ترجمة القسم الخاص بالتحليل المضموني لقصص يوسف إدريس في الكتاب, ونشره في العدد, وساعدني في سرعة الإنجاز كل من سامي خشبة الذي كان يعمل مديرا لتحرير المجلة واعتدال عثمان التي كانت تعمل سكرتيرة للتحرير, فترجما بعض الأجزاء. ونجحنا في الانتهاء من الترجمة في زمن قياسي, ونجحت في تجنب قصور أن يخلو العدد من دراسة كبيرة عن يوسف إدريس, وأعددت مقدمة لدراسة كيربرشويك التي لم يُحذَف منها سوى فقرتين بسبب ما كان يمكن أن يترتب عليهما من مشكلات رقابية. وخرج العدد بما أرضى يوسف إدريس, بل بما دفعه إلى تشجيع رفعت سلام على إصدار ترجمة كاملة لكتاب كيربرشويك بعد ذلك. وبالفعل, صدرت الترجمة بعنوان (الإبداع القصصي عند يوسف إدريس) في القاهرة سنة 1987.
العتب على النظر
وأذكر أن الهيئة العامة للكتاب أصدرت في ذلك الوقت مجلة (إبداع) التي تولى رئاسة تحريرها أستاذنا الدكتور عبدالقادر القط, رحمة الله عليه. وانتقل سامي خشبة من وظيفة مدير تحرير (فصول) إلى نائب رئيس تحرير مجلة (إبداع). وطلبنا من يوسف إدريس دعم المجلة الجديدة بالكتابة فيها, وبالفعل أرسل إحدى قصصه التي أضافت إلى وزن المجلة. وفي المرة الثانية, أرسل قصة خاف الدكتور عبدالقادر القط من نشرها, وكانت بعنوان (العتب على النظر) التي أصبحت عنوان آخر المجموعات القصصية التي أخرجها. وصدرت عن مركز الترجمة والنشر سنة 1988. وكانت القصة مكتوبة بطريقة قصائد الشعر الحر, وبالعامية, وفي شكل حواري بين طبيب عيون وفلاح يزوره كي يعمل نظارة لحماره, وذلك بعد أن لاحظ الفلاح أن حماره لم يعد يستطيع السير ولا العمل ولا ممارسة أدواره الجنسية. ويذهب الطبيب الراوي إلى ناجي (صاحب محلات نظارات شهير بالقاهرة) لعمل النظارة, ويفلحان في النهاية, بعد أن يقوما بتغيير العدسات المختلفة أمام عيني الحمار, إلى أن وصلا إلى العدسة المطلوبة, فتمكن الحمار من رؤية الأنثى, واندفع إليها في شهوة عارمة. ومن يومها تغير الحمار, وأخذ يطالع الجرائد, وهو يحدّق في مانشتات الصحف الحمراء, فإن لم يعجبه بعضها مضغ الصحيفة وعنوانها ثم لا يلبث أن يبصقها وينهق بشدة علامة الضيق.
ولم يكن فيما ذكرته مشكلة. ولكن المشكلة كانت في الجزء الذي يصف الهياج الجنسي للحمار, ويتعدى ذلك إلى وصف انتصابه تفصيليا. ولم يكن من الممكن للمرحوم عبدالقادر القط أن يتحمل مسئولية نشر هذا الجزء في مجلته. وحاول إقناع يوسف إدريس بحذفه, ولكن يوسف ركب رأسه, ورفض المحاولة, متمسكا بحرية الكتابة, مهاجما الجبن, ولم يستطع عبدالقادر القط الوصول إلى حل, فطلب مني التدخل بحكم علاقتي بيوسف إدريس. وقبلت, حرصا على نشر القصة الطريفة في (إبداع). وقضيت مع يوسف إدريس وقتا طويلا لإقناعه ولم أنجح إلا بعد أن سقت له العديد من المبررات التي تؤكد أن حذف هذا الجزء لن يضر القصة فنيا, بل على العكس يدفع القارئ إلى التركيز على مغزاها الساخر الذي يظهر في ذروة النهاية, خصوصا عندما يأتي الفلاح إلى طبيب العيون سائلا إياه: (مادام نضارات البني آدمين بتنفع الحمير, يا ترى نضارات الحمير تنفع للبني آدمين?). والهدف من السؤال هو الاستهزاء بالأعين الآدمية التي لم تعد ترى ما حولها, أو تتأثر به, على كل المستويات بالطبع. واقتنع يوسف إدريس في النهاية, ونشرت (إبداع) القصة بعد حذف الجزء الخطر منها بيدي يوسف إدريس الذي أعاد نشر القصة كما هي, بعد الحذف, في مجموعته الأخيرة.
وأذكر أنني سألت أسرة يوسف إدريس عن المخطوط الذي يوجد به هذا الجزء, لأفيد منه في دراسة دور الرقابة على نص إبداعي, ولكن كان هذا الجزء من المخطوط الأصلي قد ضاع, وضاع بضياعه أحد انفجارات يوسف إدريس التي لم تكن ترضى بأي عائق يعوق الإبداع, وتدفع صاحبها إلى تأكيد أن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا في الفعل الخلاق للكتابة الإبداعية.
جابر عصفور
مجلة العربي مايو 2003
لاأزال أذكر كيف كنت أحصل على أعمال يوسف إدريس التي جذبتني إليها منذ الخمسينيات, وكنت أجد بعضها في مكتبة المدرسة, وبعضها الآخر على عربة عم كامل ومساعده طلعت قنديل ثم محمد أبي العلا. وكان عم كامل - رحمه الله - يبيعني النسخ المرتجعة من سلسلة الكتاب الذهبي والكتاب الفضي وغيرهما من السلاسل بقرشين أو ثلاثة على الأكثر, وكنا نتبادل هذه النسخ في مدينة المحلة الكبرى التي شهدت صباي البعيد, والتي تعرفت فيها على المجموعة التي صار أفرادها كتابا كبارا: محمد صالح ونصر أبو زيد وسعيد الكفراوي وأحمد عسر, رحمه الله, ورمضان جميل ثم فريد أبو سعدة وجار النبي الحلو والمنسي قنديل وغيرهم من الذين تبادلت وإياهم أعمال يوسف إدريس الأولى: وتناقشنا حولها, وتعلقنا به بوصفه نموذجا لكاتب القصة القصيرة التي سرعان ما حاكاه بعضنا الذين مضوا في طريق القصة القصيرة.
وعندما دخلت جامعة القاهرة, وجمعتني سنوات الجامعة الأولى بالأقران المشغولين بالحياة الثقافية, خصوصا الذين أدركتهم حرفة الأدب, ازددت تعلقاً بيوسف إدريس, أولا: لأنه كان يواصل كشوفه الرائعة في فضاء الكتابة السردية, ويضيف إليها جسارته التي ظهرت في مقالاته التي كنا نتابعها بشغف في الجرائد السيارة. وفي هذا السياق, عرفت الكثير عن حياة يوسف إدريس, وذلك ضمن دائرة الاهتمام بكاتب كبير لم يكف عن تفجير القضايا واقتحام المواقف الصعبة, ولم يرض عنه اليمين قط, وظل على خلاف مع بعض فصائل اليسار التي لم تغفر له ما رأته سقطات, حتى بعد موته, على نحو ما نرى في كتاب فاروق عبدالقادر (البحث عن اليقين المراوغ: قراءة في قصص يوسف إدريس) الذي صدر ضمن سلسلة كتاب الهلال في أغسطس سنة 1998. وأتصور أن اهتمامي بإبداع يوسف إدريس وشخصه, خصوصا بعد أن أصبحت معدودا من معارفه ثم أصدقائه منذ السنوات الأخيرة للسبعينيات, هو الذي دفعني إلى متابعة ما كتب عنه باللغة العربية أولا, وباللغة الإنجليزية ثانيا, الأمر الذي قادني إلى قراءة كتب لمؤلفين ومؤلفات من أمثال نادية رؤوف فرج: يوسف إدريس والمسرح العربي الحديث - القاهرة 1976, وعبدالحميد القط: يوسف إدريس والفن القصصي - القاهرة 1980, وناجي نجيب: الحلم والحياة في صحبة يوسف إدريس - القاهرة 1985, وعبدالعزيز محمود: يوسف إدريس والتابو - القاهرة 1986. وأضيف إلى ما ذكرت غيره من الكتب العربية التي لاتزال تصدر, جنبا إلى جنب الكتابات الأجنبية التي يبرز من بينها ما كتبه ساسون سوميخ الإسرائيلي, وروجر آلان البريطاني الأصل الأمريكي النشاط, وكربر شويك الذي كتب كتابا متميزا عن الإبداع القصصي عند يوسف إدريس. وكنت أوّل من عرّف بهذا الكتاب بترجمة بعض فصوله في عدد (القصة القصيرة) الذي أخرجته مجلة (فصول) وكنت - في ذلك الوقت - أعمل نائباً لرئيس تحريرها الدكتور عز الدين إسماعيل.
خبرات متراكمة
وبالطبع, عرفت في سياق اهتمامي بالكاتب المبدع الذي لاأزال على إعجابي بكتاباته, أنه ولد في التاسع عشر من مايو سنة 1927 بقرية البيروم - مركز فاقوس بمحافظة الشرقية, وتلقى دراساته الابتدائية في مدينة فاقوس التي تتبعها قريته إداريا, وفرضت عليه تنقلات والده الذي كان يعمل باستصلاح الأراضي التنقل ما بين المدارس الثانوية لمدن الدلتا: دمياط والزقازيق والمنصورة وطنطا, إلى أن حصل بتفوق على شهادة إتمام الدراسة الثانوية سنة 1947, وكان ترتيبه الثالث عشر على مستوى كل طلاب القطر المصري في ذلك الوقت, وأتاح له مجموعه المرتفع الدخول إلى كلية الطب التي كانت تموج بالنشاط الثوري, ولليمين واليسار حضور قوى فيها, فجذبته المجموعات اليسارية بواسطة من سبقوه إلى اليسار وإلى كتابة القصة القصيرة في الوقت نفسه, فتفجّرت موهبته الإبداعية في موازاة ممارساته اليسارية, سواء في المظاهرات ضد الاستعمار, أو تولي مسئولية السكرتير التنفيذي للجنة الدفاع عن الطلبة. وكان ذلك في السنة الأخيرة من دراسته بالكلية التي تخرج منها طبيبا واعدا. ومثقفا يساريا مناضلا, وكاتب قصة قصيرة انضم إلى القافلة التي استهلها سلفه الروسي أنطون تشيكوف (1860-1904) الذي تأثر به يوسف إدريس, وتعلم منه أن أول الإبداع الحقيقي هو تمثل الميراث العالمي للقصة من منظور الهوية الوطنية, والإبداع الجسور بما يعيد تجسيد هذه الهوية وتقديمها بما يلقي الضوء على أصالتها ولا يتردد في الكشف عن سلبياتها.
وأتاحت الحياة العملية ليوسف إدريس مادة وفيرة لكتاباته التي عرفناه بها طوال الخمسينيات والستينيات, فقد عرف تجربة السجن لأكثر من سنة بعد صدور مجموعته الأولى (أرخص ليالي) فأفاد من التجربة, كما أفاد من رفقة اليسار في جريدة (المصري) التي سرعان ما أغلقتها يوليو 1952 في توجهها المعادي للديمقراطية, وتقلبت به المهنة الطبية ما بين طبيب امتياز في القصر العيني, وطبيب تراخيص للمحلات العامة ببلدية القاهرة, وطبيب عمال النظافة بوزارة الأشغال, ومفتش صحة بكل من الدرب الأحمر والسيدة زينب وحلوان ومصر القديمة والجديدة على السواء, الأمر الذي أتاح له ذخيرة بالغة الغنى من الخبرات الإنسانية على كل المستويات التي اتصل بها, والتي عرفها طبيبا ومثقفا ومناضلا, فظهر أثر ذلك في الكتابة التي اهتمت باعتقال المثقفين وعمليات تعذيبهم في السجون الناصرية, ثم الساداتية, وحياة المناضلين المليئة بالمفارقات والتناقضات والتمزقات, وغاصت هذه الكتابة في تفاصيل حياة الفقراء والبسطاء, كما عرفت ضباط الجيش الوطنيين, والحراك الاجتماعي بين الطبقات في كل من القرية والمدينة, حيث يتكرر معنى العيب والحرام في أرخص الليالي التي لم تخل, قط, من لغة الآي آي, أو من سياط العسكري الأسود, أو حضور البطل الذي يتحدى قدره ويمضي إلى آخر الدنيا.
علاقة الحب والكراهية
وكان من الطبيعي أن يكتب يوسف إدريس, النجم الصاعد منذ الخمسينيات, في جرائد الثورة ومجلاتها, بعد خروجه من المعتقل, وبعد قراره التخلي عن العمل السري والانصراف إلى الكتابة التي رأى فيها وسيلته المثلى والوحيدة في مقاومة ما يراه باطلا وظلما وزيفا, وهو قرار أدى إلى الاصطدام بالرفاق القدامى الذين اتهموه بالتقرب إلى السلطة السياسية مقابل السماح بالكتابة في جرائد الدولة ومجلاتها. وكانت البداية مجلة (التحرير) التي سرعان ما أغلقت, ثم جاءت (روز اليوسف) و(الجمهورية) بعدها. وفي (الجمهورية) توثقت الصلة بأنور السادات الذي توسط لانتدابه من وزارة الصحة إلى وزارة الثقافة, ومن وزارة الثقافة إلى المؤتمر الإسلامي الذي كان يتولاه السادات, وظل هناك إلى أن طرد منه بسبب مقال شهير عن (الاتحاد القومي). ولكن سرعان ما تصالح يوسف إدريس والدولة, وأثمر الصلح تعيينه كاتباً في جريدة (الأهرام) وكانت أولى قصصه المنشورة (سنة 1969) هي قصة (الخديعة) التي كانت تهكما مريرا من الحضور الطاغي المخيف لجمال عبدالناصر الذي رمزت له القصة برأس جمل يظهر للبطل في كل مكان, ويطارده في كل مكان. وأدّت القصة الرمزية إلى فصله من (الأهرام) الذي سرعان ما عاد إليه بعد مصالحة مع الدولة, ولكنه لم يكف عن المشاغبة وإنطاق المسكوت عنه بواسطة الكتابة الرمزية, وذلك في السياق الذي انتهى بموت عبدالناصر الذي ارتبط به يوسف إدريس بنوع من التضاد العاطفي الذي يجمع بين الحب والكره, الإعجاب والنفور, شأنه في ذلك شأن كثير من كتّاب جيله الذين هاجموا عبدالناصر - رمزيا على الأقل - طوال حياته, وبكوا عليه بكاء حاراً كشف عن حبّهم الدفين بعد وفاته.
ولا غرابة - والأمر كذلك - في أن يكون يوسف إدريس الذي كتب (العسكري الأسود) (1961) لمهاجمة المعتقلات الناصرية وأتبعها بقصص من مثل (مسحوق الهمس) و(العملية الكبرى) وغيرهما من القصص التي تتحدث عن المعتقلات الناصرية كما تحدث عن نتائج تسلط القيادة أو سقطاتها, أقول: لا غرابة في أن يكون يوسف إدريس الذي هاجم عبدالناصر أعنف الهجوم بقصصه الرمزية هو نفسه يوسف إدريس الذي يكتب في (الأهرام) بعد رحيل عبدالناصر, مناجيا الزعيم الخالد بقوله: (يا أبانا الذي في الأرض - يا صدرنا الحنون الكبير), ويتابع النبرة نفسها قائلا: (أصبحت الدنيا لأول مرة بلا عبدالناصر, ونحن لم نتعود أبدا أن نتنفس هواء لا يتنفسه هو, ولا أن ننام إلا ونحن نحس أنه هناك في كوبري القبة, ولا أن نستقبل الصباح إلا على صورة له وابتسامة).
زمن السادات
وقد ظلت علاقة يوسف إدريس بالزمن الساداتي علاقة شد وجذب, حاول الطرفان الإبقاء على شعرة معاوية, وذلك بما أتاح لجسارة الكاتب أن تواصل تعريتها لكثير من السلبيات إلى أن توفي السادات في أكتوبر 1981, على أيدي الجماعات التي رعاها ليقمع بها اليسار القومي والناصري والماركسي على السواء.
ولم يكف يوسف إدريس عن مشاكساته وتقلباته, طوال السنوات التي عاشها في زمن مبارك, فأخرج قنبلته المدوية (البحث عن السادات) سنة 1983, فأقام الدنيا ولم يقعدها, وتصدت له الأقلام الساداتية التي هاجمته أعنف هجوم, ومنع (الأهرام) كاتبه الكبير - يوسف إدريس - من نشر ردوده على الحملات الشرسة المضادة, فاضطر إلى أن ينشر في جريدة (الأحرار) خطابا موجها إلى الرئيس مبارك بعنوان (أشكو إليك منك) وانتهى الخصام بالمصالحة كالعادة, ولم تتوتر العلاقات بسبب الخصومة مع وزير الثقافة عبدالحميد رضوان, أو مع الشيخ الشعراوي, وإن كان كل خصومة منهما شغلت الدنيا والناس.
هكذا, كانت صورة يوسف إدريس الإشكالية تتشكل في مخيلتي حتى قبل أن أعرفه شخصيا, وذلك بفضل المعارك التي خاضها والعواصف التي أثارها والمواقف التي اتخذها. وأذكر بدايات تشكل هذه الصورة بأربعة ملامح. أولها ما عرفته من أنه انضم إلى المناضلين الجزائريين في الجبال, واشترك معهم في بعض العمليات العسكرية لمعارك الاستقلال, وأنه بقى مع المقاتلين في الجبال لستة أشهر إلى أن أصيب, وكسرت ساقه, فأهداه الجزائريون وساما رفيعا تقديرا لإسهامه بالكلمة والفعل في تحرير الجزائر. وكان ذلك في السياق الذي اشتعل فيه الوجدان القومي بالغضب على الاستعمار الفرنسي في الجزائر, وتعاطف القوى الوطنية مع نضال الأبطال الجزائريين في بلد المليون شهيد. وهو السياق الذي شهد فيلم يوسف شاهين (جميلة) سنة 1958, تعبيرا عن التعاطف القومي اليساري مع النضال الجزائري للتحرر من الاستعمار.
الجائزة المشبوهة
ويرتبط الملمح الثاني بسنة 1965 التي تخرجت فيها من الجامعة, والسنة اللاحقة التي شهدت نهاية قصة مجلة (حوار). وهي مجلة بيروتية, صدرت عن الدار نفسها التي نشرت مجلة (شعر) البيروتية, وقد سعت المجلتان إلى تبني حركة طليعية ليبرالية, ومضت في اتجاه قادها إلى الصدام مع القوى القومية التي كانت تمثلها في لبنان, في ذلك الوقت, مجلة (الآداب) التي صدرت سنة 1953, ورأس تحريرها سهيل إدريس, مؤكدة البعد القومي للأدب الطليعي الجديد لجيل نازك الملائكة وصلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وغيرهم, مصطدمة مع مجلة (شعر) التي صدر عددها الأول في شتاء 1957. وكانت مجلة (حوار) آخر إصدارات المجموعة نفسها, في اندفاعها الليبرالي المستفز للمجموعات القومية التي تمثلها مجلة (الآداب) وغيرها من المجلات المشابهة. وقد أعلنت المجلة عن جائزة كبيرة تمنح لأبرز الكتاب العرب, وقررت منح جائزتها ليوسف إدريس الذي قبل الجائزة, وأجرى حوارا مع مراسلها في القاهرة: غالي شكري. وما إن أعلنت المجلة عن الجائزة حتى ثارت الأقلام القومية فاضحة ارتباط القوى الاستعمارية بالمجلة, وكشفت عن مصادر تمويلها التي كان على رأسها (المنظمة العالمية لحرية الثقافة) التي ثبت أنها غطاء ثقافي لنشاط حلف الأطلنطي الذي قام بتمويلها ضمن سياق تمويل المخابرات الأمريكية للحرب الثقافية الباردة المضادة للقوى الاشتراكية وحلفائها بين قوى التحرر الوطني على امتداد العالم كله. (وقد تكشفت خبايا هذه الحرب في كتاب ف.ن. سوندرز (الحرب الثقافية الباردة) الذي ترجمه ترجمة متميزة طلعت الشايب, وأصدره المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة سنة 2002) وعندما تكشف الجانب السلبي لجائزة (حوار) وعلاقة المجلة بالقوى الاستعمارية, وأصبح ذلك حديث آلاف المثقفين الوطنيين والقوميين, قرر يوسف إدريس الاعتذار عن الجائزة ورفضها, تضامنا مع الموقف القومي العام المعادي لتوجهات المجلة التي سرعان ما أغلقت بعد ذلك بسنوات معدودة من افتضاح أمرها. وقد كافأت القوى الوطنية يوسف إدريس على موقفه, واحتفى به الجميع. وقرر الرئيس جمال عبدالناصر صرف مبلغ الجائزة له. وبالفعل, استدعى سامي شرف - سكرتير الرئيس والرجل القوي في النظام الناصري - يوسف إدريس, وتولى تسليمه ما يعادل قيمة الجائزة التي كانت عشرة آلاف ليرة لبنانية, تساوي ألفين وخمسمائة جنيه مصري في ذلك الوقت الذي كان الجنيه المصري ثروة صغيرة لأمثالنا من خريجي الجامعة. وكان مرتبنا في السنة الأولى من عملنا حوالي ستة عشر جنيها بالتمام والكمال.
وكان يوسف إدريس خارجا من عاصفة مسرحيته (الفرافير) 1964 التي انتهت معركتها نهاية مظفرة, خصوصا بعد أن ثار فيها يوسف إدريس على القالب المسرحي الأوربي, بادئا من حيث انتهى برتولت برخت (1898-1956) في مسرحه الملحمي الذي شهدنا منه (دائرة الطباشير القوقازية) ثم (الأم شجاعة وأولادها), وقد كانت المسرحية تجسيدا للآراء التي ذهب إليها في مجلة (الكاتب) بعنوان (نحو مسرح مصري), والتي دعا فيها إلى هجر القوالب المستوردة, وصياغة قوالب مسرحية نابعة من هويتنا وتراثنا, تطويرا للتراث الشعبي كالسامر وحلقات الذكر والكوميديا المرتجلة. ولذلك كان الفرفور شخصية شعبية, ماكرة, مرحة, فهلوية, مطحونة, خفيف الظل وسليط اللسان. ورغم أن المسرحية كانت تحولا عن اتجاه الواقعية وانقلابا عليه, في تأكيد العلاقة الأزلية بين السيد والعبد, فإنها حققت نجاحا مدويا.
دفاع عن لغة الفن
ويقترن الملمح الثالث في ذاكرتي بلغة الكتابة الأدبية. وكان ذلك سنة 1965 التي تخرجت فيها, والتي صدر فيها كتاب لويس عوض (1915-1920) (مذكرات طالب بعثة) الذي كتبه سنة 1942 باللغة العامية, وضاع منه لسنوات طويلة, وظل مجهولا إلى أن أصدره أديب سكندري باسم مستعار - (كناري) فأثار نشر الكتاب ضجة كبيرة لصراحته في الكشف عن حياة طالب بعثة في إنجلترا, ولأن المذكرات كلها مكتوبة بالعامية التي كان ينظر إلى الكتابة بها شزرا في سنوات المد القومي الصاعد. وقد حضرت مناقشة الكتاب بعد أن أعاد لويس عوض طبعه مع مقدمة كاشفة, فرغ من كتابتها في الثلاثين من يوليو 1965. وكانت المناقشة في (نادي القصة) الذي ذهبت إلى مقره مع بعض زملائي الذين كانوا قد تخرجوا معي في الشهر السابق على صدور الطبعة الكاملة. واستمعنا إلى آراء عدد من الكتاب الكبار في ذلك الوقت, على رأسهم أستاذتي سهير القلماوي (1911-1997) التي هاجمت الكتابة بالعامية في المذكرات, وأنكرت على لويس استخدامه لها, معتمدة في ذلك على مبررات قومية, كانت استمرارا للمبررات التي ساقها من قبل أستاذها طه حسين (1889-1973) في كتبه ومقالاته.
وجاءت المفاجأة التي لم نتوقعها بتعقيب يوسف إدريس الذي كان حاضرا, مستوفزا طوال الوقت, متوترا بما لا تخفيه ملامح وجهه من انفعالات لم نلحظها إلا بعد أن تكلم. وانطلق مفندا آراء أستاذتنا, محللا المذكرات وطبيعتها, مدافعا عن الكتابة بالعامية, ما ظلت الكتابة تحمل تبريرها الفني, مؤكدا ضرورة الفصل بين الحجج القومية والتقنيات الفنية.وظل يوسف يتحدث بحماسة صادقة, سرعان ما انتقلت عدواها إلى نفوسنا, فإذا بنا نميل تدريجيا إلى موقفه كلما مضى في حماسه الدفاعي عن حرية الكاتب في اختيار لغته, وعن قدرة العامية على تجسيد مواقف ومشاعر لا يمكن تجسيدها إلا بها. وانتهى من كلامه بعد أن اقتنعنا بوجهة نظره, وتذكرنا أن رفض الكتابة العامية سوف يؤدي إلى رفض أجمل قصائد فؤاد حداد (1927 - 1985) وصلاح جاهين (1930 - 1986) التي حفظناها عن ظهر قلب, خصوصا بعد أن قرأنا قصائد ديوان فؤاد حداد (أحرار وراء القضبان) (1952) وصلاح جاهين (كلمة سلام) (1955) و(موال عشان القنال) (1956) و(الرباعيات) (1962) ومعها (قصاقيص ورق).
وكان يوسف إدريس في ذلك الوقت رمزا من رموز التمرد في الكتابة, خصوصا بعد أن قرأنا له رائعته (العسكري الأسود) في مجلة (الكاتب) سنة 1961, وتعلمنا منها كيفية الكتابة الرمزية التي تقصف براثن الوحش, وتنتزع أنياب القمع بكناياتها التي تشير إلى زمن مضى على سبيل التقية, بينما تعني زمنا قائما على مستوى الواقع الذي كنا نعانيه, ونسمع عما حدث فيه, وما كان لا يزال يحدث في معتقلاته, فكانت (العسكري الأسود) البداية التي رأينا امتدادها في رواية صنع الله إبراهيم (تلك الرائحة). وقد صدرت عن مكتب يوليو للطبع سنة 1966, حاملة مقدمة يوسف إدريس التي تشيد بالرواية, وتشيد بشجاعة كاتبها الخارج من المعتقل, وتؤكد قيمة تمردها على أشكال الكتابة التقليدية.
وكان دفاع يوسف إدريس عن هذه الرواية أحد أوجه علاقته بالأجيال الجديدة التي انجذبت إليه, وتأثرت بكتاباته, ودفعت بعض أفرادها علاقة التضاد العاطفي التي ربطتهم بيوسف إدريس إلى التمرد عليه, ومحاولة البدء من حيث انتهى. وكان مسارهم الصاعد شهادة لأصالة نقطة البداية التي انطلقوا منها, واعترافا بفضل الأستاذ الذي علمهم إنطاق المسكوت عنه واقتحام الممنوعات.
الواقعية السحرية
والطريف في الأمر كله أنني لم أقترب من يوسف إدريس إلا في أواخر السبعينيات, وكان السبب في ذلك هو حرصي على الابتعاد عن العلاقة الشخصية بالأدباء, توهما أن ذلك يجعلني محايدا في الكتابة عنهم. وأحسبني أدين لصديقي أمل دنقل (1940 - 1983) بانقشاع هذا الوهم, والتخلي عنه إلى الأبد, خصوصا بعد أن أدركت أن الصداقة لا تحول دون الموضوعية, وأن سلامة المنهج كأمانة الكتابة وصدق الممارسة تنجي من مزالق المجاملة.
وقد دفعني أمل دنقل إلى معرفة يوسف إدريس الذي كانت تربطه به صداقة عميقة, قائمة على الاحترام المتبادل والمودة الخالصة وأوجه التشابه بين شخصيتين تنطوي كل منهما على النزعة الحدّية نفسها, وعلى تلهب التمرد المتصل, وعلى القلق الإبداعي الذي لا يكف عن التوهج كأنه الوجه الآخر من شعلة الرفض التي لا تترك مسلمة او فكرة أو مبدأ إلا وامتدت إليه بلهبها.
وكان اقترابي من يوسف إدريس مع أمل بعد عودتي من الولايات المتحدة, حيث عملت أستاذا زائرا في إحدى جامعاتها, وأتاحت لي الإقامة بها معرفة التيارات الجديدة من الكتابة القصصية في العالم كله, خصوصا تيار (الواقعية السحرية) الذي قدمته إبداعات أمريكا اللاتينية, وأبرزته كتابات جابرييل جارثيا ماركيز المولود سنة 1928, وعلى رأسها رائعته (مائة عام من العزلة) التي صدرت سنة 1967, فجلبت لصاحبها الشهرة التي انتهت بصاحبها إلى الحصول على جائزة نوبل سنة 1982, قبل حصول نجيب عليها بست سنوات فحسب. وأذكر أنني قرأت الترجمة الإنجليزية للرواية أكثر من مرة, وعدت بها مع ما عدت به من كتب, وأعطيتها لزميلي سليمان العطار, دافعا إياه إلى ترجمتها إلى العربية عن اللغة الإسبانية التي يتقنها, ونجحت بعد سنوات قليلة في دفعه إلى إكمال الترجمة التي نشرتها هيئة الكتاب في القاهرة.
وكان من الطبيعي أن تمتد المناقشة مع يوسف إدريس حول (مائة عام من العزلة) وحول تيار (الواقعية السحرية). وهو التيار الذي لاأزال أرى فيه محاولة موازية لمحاولة يوسف إدريس خلق كتابة وطنية أو قومية, تحمل ملامح هويتها الثقافية الخاصة, وتجسد خصوصيتها المحلية دون أن تتنكر قط للموروث العالمي والتيارات المعاصرة التي لا بد أن ينفتح عليها الكاتب, ولا يكف عن الإفادة منها أو التفاعل معها, وإلا انغلق على نفسه, وضاعت أصالته الإبداعية في المدارات المغلقة للتقوقع في صدفة الذات.
وما أكثر الحوارات التي دارت بين جماعتنا ويوسف إدريس, على امتداد ليل القاهرة التي لا تظهر فتنتها إلا بعد منتصف الليل, ومع احتدام النقاش الذي لم يكن يخلو من عتاب ليوسف إدريس على ما رآه بعضنا تكاسلا منه في مجال الحفر في طبقات الوعي المعتمة للذات والجماعة, والمضي بعيدا في أجواء التجريب التي اندفعت إليها كتابات إدوارالخراط, فأغوت البعض باتباعه, بعيدا عن أفق يوسف إدريس الذي وصفه إدوار الخراط, ذات مرة, ظلما, بأنه أفق (الموهبة الحوشية).
وقد ازداد اقترابي من يوسف إدريس حميمية إلى أبعد حد بفضل السياسة. وكان ذلك في سبتمبر سنة 1981, حين قام الرئيس محمد أنور السادات بطرد أكثر من ستين أستاذا من الجامعات المصرية, وكنت واحدا من هؤلاء الذين اقتصر العقاب على طردهم, ولم يودعوا السجن بتهم زائفة كما حدث مع أقران لهم, وكانت حجة السادات الكاذبة لطردنا من الجامعة هي اتهامنا بالعمل على تقويض الوحدة الوطنية, بينما كانت تهمتنا الحقيقية أننا كنا ضد شكل الصلح الذي انتهى إليه مع إسرائيل, والذي أدّى إلى التفريط في الحقوق العربية, والمذابح الإسرائيلية, التي لا تزال تحدث في أرض فلسطين. وقد أرتنا أزمة الطرد من الجامعة الكثير من صغار نفوس بعض زملائنا الذين أنستهم الغيرة إنسانيتهم, كما أرتنا ما انتهى إليه جبن الذين أنكروا صلتهم بنا, خشية وجبنا وتقية.
دعم ومؤازرة
ولكن يوسف إدريس الذي لم أكن صديقه بالمعنى الحميم, في ذلك الوقت, فاجأني بسلوكه ومواقفه, فلم يكن يكف عن الاتصال بي, والاطمئنان على أحوالي وأحوال أصدقائي المطرودين من الجامعة, وما أكثر ما كانت تنتابه نوبات الكرم الشرقاوي, نسبة إلى محافظته - محافظة الشرقية المشهورة بالكرم. وكنت أداعبه بسبب هذه النوبات بتذكيره بقصته (تحويد العروسة) القديمة. وكان يرد على مداعباتي بالضحك المقرون بالإلحاح على دعوتي لزيارته في مبنى جريدة (الأهرام) والغداء معه, كما لو كان يريد أن يعلن للجميع مساندته لكل الذين فصلهم السادات من الجامعة. وبقدر ما كنت أعتذر له عن قبول دعوة الذهاب للغداء معه في الأهرام, تحرجا وتجنبا لإحراجه, كان يحث أمل دنقل على جرّي جرا إلى جريدة (الأهرام).
وعندما يئس من ذهابي إليه جاء هو إلى منزلي, وتعودنا السهر إلى الصباح, تطرز ليالينا مناقشات رائعة حول كل شيء, وقصائد أمل دنقل التي سرعان ما لحقت بها قصائد أحمد حجازي الذي أتى في زيارة إلى القاهرة من منفاه الباريسي في ذلك الوقت.
ولم يتوقف يوسف إدريس عن السؤال والاهتمام, والتأييد والدعم, ولم أكن قد كتبت كلمة واحدة عنه, وظل على كرم خلقه إلى أن ذهبت إلى السويد لكي أعمل أستاذا زائرا في جامعة استوكهولم. وهناك سعدت بمعرفة أن يوسف إدريس أحد المرشحين لجائزة نوبل, وأن القسم الذي أعمل به هو الذي قام بترشيحه لهذه الجائزة, بعد أن سبق له ترشيح نجيب محفوظ الذي كانت الجائزة الكبرى من نصيبه في النهاية. وربما أكون قد ارتكبت خطأ غير مقصود بإبلاغ يوسف إدريس ذلك بعد عودتي من السويد وانتهاء عهد السادات, وإلغاء مبارك لما اتخذه السادات من إجراءات متعسفة ظالمة, ساعيا - أي الرئيس مبارك - إلى تضميد الجروح وإعادة الوفاق الوطني. ويبدو أن يوسف إدريس فهم مما نقلته له, وما أكده له الصديق عطية عامر الذي كان رئيس قسم اللغة العربية في جامعة استوكهولم لسنوات عديدة, أنه المرشح الوحيد, وأن الجائزة من نصيبه وحده. ولذلك جاءت استجابته لحصول نجيب محفوظ على الجائزة سنة 1988 حادة عنيفة, فصدرت عنه تصريحات انفعالية ما كان ينبغي أن تصدر عنه, فحصول نجيب على الجائزة تكريم لكل الكتّاب العرب بوجه عام, وأقرانه المصريين بوجه خاص. ولحسن الحظ, كان نجيب محفوظ سمحا - كعادته الدائمة - في استجابته إلى انفعالية يوسف إدريس, فانتهى الأمر بسلام, وسرعان ما هدأ يوسف إدريس, وتقبل ما حدث في النهاية بروح صافية, لم تتعكر كثيرا بمشاعر الغيرة الإنسانية رغم عنفها الذي زاد عن حده.
وكنت أعرف حدة شعور يوسف إدريس بذاته وسرعة انفعاله وسهولة انفجاره نتيجة علاقتي به وتجاربي معه. ولا أزال أذكر ما حدث بعد عودتي من السويد إلى عملي في مجلة (فصول), واستعدادنا في المجلة لإصدار عدد عن (القصة القصيرة - اتجاهاتها وقضاياها).
وقد صدر العدد بالفعل في سبتمبر سنة 1982. وكنت قد طلبت من أستاذي الدكتور عبدالمحسن بدر ومن الصديق صبري حافظ أن يكتبا عن القصة القصيرة عند يوسف إدريس, وهي معجزته الإبداعية الأولى. لكن مشاغل عرضت للاثنين, فلم يكتبا الدراستين اللتين اتفقنا عليهما, واللتين كانتا ضمن التخطيط الذي وضعته للعدد. ولم يكن من المعقول أن يصدر عدد عن القصة القصيرة وليس فيه دراسة عن أعمال يوسف إدريس الذي كان يقول لي مداعبا: وهل هناك أحد في القصة القصيرة سوى يوسف إدريس? لماذا لا يكون العدد كله عني?
وكان الحل الذي اهتديت إليه لإنقاذ الموقف بسبب ضيق الوقت هو الترجمة. ولحسن الحظ, كنت قد قرأت في السويد كتاب كيربرشويك عن (قصص يوسف إدريس القصيرة) الذي صدر سنة 1981 عن دار نشر بريل, ليدن, فقررت ترجمة القسم الخاص بالتحليل المضموني لقصص يوسف إدريس في الكتاب, ونشره في العدد, وساعدني في سرعة الإنجاز كل من سامي خشبة الذي كان يعمل مديرا لتحرير المجلة واعتدال عثمان التي كانت تعمل سكرتيرة للتحرير, فترجما بعض الأجزاء. ونجحنا في الانتهاء من الترجمة في زمن قياسي, ونجحت في تجنب قصور أن يخلو العدد من دراسة كبيرة عن يوسف إدريس, وأعددت مقدمة لدراسة كيربرشويك التي لم يُحذَف منها سوى فقرتين بسبب ما كان يمكن أن يترتب عليهما من مشكلات رقابية. وخرج العدد بما أرضى يوسف إدريس, بل بما دفعه إلى تشجيع رفعت سلام على إصدار ترجمة كاملة لكتاب كيربرشويك بعد ذلك. وبالفعل, صدرت الترجمة بعنوان (الإبداع القصصي عند يوسف إدريس) في القاهرة سنة 1987.
العتب على النظر
وأذكر أن الهيئة العامة للكتاب أصدرت في ذلك الوقت مجلة (إبداع) التي تولى رئاسة تحريرها أستاذنا الدكتور عبدالقادر القط, رحمة الله عليه. وانتقل سامي خشبة من وظيفة مدير تحرير (فصول) إلى نائب رئيس تحرير مجلة (إبداع). وطلبنا من يوسف إدريس دعم المجلة الجديدة بالكتابة فيها, وبالفعل أرسل إحدى قصصه التي أضافت إلى وزن المجلة. وفي المرة الثانية, أرسل قصة خاف الدكتور عبدالقادر القط من نشرها, وكانت بعنوان (العتب على النظر) التي أصبحت عنوان آخر المجموعات القصصية التي أخرجها. وصدرت عن مركز الترجمة والنشر سنة 1988. وكانت القصة مكتوبة بطريقة قصائد الشعر الحر, وبالعامية, وفي شكل حواري بين طبيب عيون وفلاح يزوره كي يعمل نظارة لحماره, وذلك بعد أن لاحظ الفلاح أن حماره لم يعد يستطيع السير ولا العمل ولا ممارسة أدواره الجنسية. ويذهب الطبيب الراوي إلى ناجي (صاحب محلات نظارات شهير بالقاهرة) لعمل النظارة, ويفلحان في النهاية, بعد أن يقوما بتغيير العدسات المختلفة أمام عيني الحمار, إلى أن وصلا إلى العدسة المطلوبة, فتمكن الحمار من رؤية الأنثى, واندفع إليها في شهوة عارمة. ومن يومها تغير الحمار, وأخذ يطالع الجرائد, وهو يحدّق في مانشتات الصحف الحمراء, فإن لم يعجبه بعضها مضغ الصحيفة وعنوانها ثم لا يلبث أن يبصقها وينهق بشدة علامة الضيق.
ولم يكن فيما ذكرته مشكلة. ولكن المشكلة كانت في الجزء الذي يصف الهياج الجنسي للحمار, ويتعدى ذلك إلى وصف انتصابه تفصيليا. ولم يكن من الممكن للمرحوم عبدالقادر القط أن يتحمل مسئولية نشر هذا الجزء في مجلته. وحاول إقناع يوسف إدريس بحذفه, ولكن يوسف ركب رأسه, ورفض المحاولة, متمسكا بحرية الكتابة, مهاجما الجبن, ولم يستطع عبدالقادر القط الوصول إلى حل, فطلب مني التدخل بحكم علاقتي بيوسف إدريس. وقبلت, حرصا على نشر القصة الطريفة في (إبداع). وقضيت مع يوسف إدريس وقتا طويلا لإقناعه ولم أنجح إلا بعد أن سقت له العديد من المبررات التي تؤكد أن حذف هذا الجزء لن يضر القصة فنيا, بل على العكس يدفع القارئ إلى التركيز على مغزاها الساخر الذي يظهر في ذروة النهاية, خصوصا عندما يأتي الفلاح إلى طبيب العيون سائلا إياه: (مادام نضارات البني آدمين بتنفع الحمير, يا ترى نضارات الحمير تنفع للبني آدمين?). والهدف من السؤال هو الاستهزاء بالأعين الآدمية التي لم تعد ترى ما حولها, أو تتأثر به, على كل المستويات بالطبع. واقتنع يوسف إدريس في النهاية, ونشرت (إبداع) القصة بعد حذف الجزء الخطر منها بيدي يوسف إدريس الذي أعاد نشر القصة كما هي, بعد الحذف, في مجموعته الأخيرة.
وأذكر أنني سألت أسرة يوسف إدريس عن المخطوط الذي يوجد به هذا الجزء, لأفيد منه في دراسة دور الرقابة على نص إبداعي, ولكن كان هذا الجزء من المخطوط الأصلي قد ضاع, وضاع بضياعه أحد انفجارات يوسف إدريس التي لم تكن ترضى بأي عائق يعوق الإبداع, وتدفع صاحبها إلى تأكيد أن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتبا واحدا في الفعل الخلاق للكتابة الإبداعية.
جابر عصفور
مجلة العربي مايو 2003