الرواية مكتوبة باللهجة العامية لأهل نيويورك […] ولقد حاولت قدر الإمكان أن أحافظ على روح اللغة، وأرجو أن أكون قد وفقت” هكذا بدأ مترجم رواية الحارس في حقل الشوفان الأردني غالب هلسا (1932-1989) الرواية بمقدمة مختصرة، يبين بطريقة غير مباشرة أنه تعب في ترجمة الرواية، إذ أنها ليست كباقي الروايات مكتوبة بلغة إنجليزية كالتي ندرسها في المدرسة، بل بلغة عامية مليئة بالسباب والشتم والكلام العفوي.
جيروم ديفيد سالينجر (1919-2010)، كاتب إنجليزي، قرر أن يؤلف روايته الوحيدة في مسيرته التأليفية، فأبدع وكتب أحد أفضل الروايات في القرن العشرين، إذ تباع من الرواية ربع مليون نسخة سنويا، لماذا أفضل؟ سنعرف ذلك بعد قليل، الروائي أراد أن يتحدث عن مجتمعه الأمريكي المزيف، كلمة مزيف هي الكلمة المفتاحية للرواية ، لذلك اختار شخصية شاب تنوب عنه للتعبير عن سخطه وكرهه لهذا الوسط المزيف.
الشخصية الرئيسية هي هولدن كولفيلد، شاب يدرس في ثانوية بنسي، يتلقى برقية رسوب ليعد هذا الحدث افتتاحية للتسلسل التشاؤمي للأحداث، ثم تتوالى الأحداث بعد رسوبه ليهرب من مدرسته قبل عطلة عيد الميلاد بأيام، ويذهب لمدينته نيويورك، يتسكع في الشوارع والحانات إلى أن يصل يوم بداية العطلة فيذهب لمنزل عائلته، وبين ذاك وذاك أحداث مختلفة أترك للقارئ متعة استكشافها.
يمكننا أن نقسم الرواية إلى قسمين، قسم حدث في ثانوية بنسي –الثانوية التي يدرس فيها هولدن- وقسم حدث في مدينة نيويورك التي يسكن فيها والديه.
هولدن يتحدث معك في الرواية، كأنك جالس أمامه في طاولة مقهى، تحتسي معه كوب لاتيه ساخن ويحكي لك قصته وسخطه للمجتمع، تخيل ذلك. يتحدث هولدن بضمير المخاطب كثيرا، مما جعل من عنصر العفوية، عنصرا حاضرا بقوة في سرد هولدن للأحداث، وهذا أكسب الأحداث قوة سردية مميزة، مكنت من سالينجر – أو هولدن في الرواية – بتمرير رسالته بسهولة.
الحارس في حقل الشوفان؟ السر وراء هذا العنوان الجميل هو أنه كان يريد أن يصبح حارسا لأحد الحقول، يوجد فيها أطفال يمنعهم من السقوط في أحد الهضاب، وهذه إشارة أنه لا يريد للأطفال أن يسقطوا في فخ الزيف الاجتماعي والنفاق، هذا المعنى العميق الذي كان يريد سالينجر إيصاله. وهولدن يعتبر كل المجتمع مزيف إلا الأطفال، كان محبا للأطفال لأنهم أفضل المخلوقات التي تجسد البراءة والقلب الأبيض عن التزييف.
هل هولدن هو سالينجر؟ أستطيع الإجابة على هذا السؤال بنعم، لأن سالينجر كان كثير السخط من مجتمعه، مما شخصية هولدن كولفيلد كشخص كاره لكمية الزيف الموجودة في وسطه، كارها لهوليود والأفلام لأن كل فرد من المجتمع يقلد هوليود باحترافية.
وحتى في آخر الرواية كان هولدن يريد أن ينعزل في كوخ في الغابة ولا يعود لبيته أبدا ويعتمد على نفسه كليا، وهذا ما حققه سالينجر بعد نشره للرواية، إذ تفرغ للكتابة لنفسه في كوخ في الريف، منعزلا عن الجميع، رافضا المقابلات، ثم توفي عام 2010 في هذا الكوخ لتنتهي حياته الانعزالية – ما يزيد عن نصف القرن- في ذلك الكوخ بنيو هامبشر.
سالنيجر كتب الكثير خلال انعزاله، يقال أنه كان يكتب عن عائلة غلاس النيويوركية، التي صوب كل اهتمامه في الكاتبة عنها طيلة فترة الانعزال. [1] والوثائقي الذي يتحدث عن سيرة هذا الكاتب (-Salinger -2013) يشير أن الكاتب ترك تعليمات تتعلق بنشر بعض من كتبه بعد وفاته بين عامي 2015 و2020، وله قصص منشورة غير روايته المشهورة.
أثناء قرائتي للرواية، انتابني شعور أن المجتمع الذي يتحدث عن هولدن كولفيلد، هو نفس المجتمع الذي أعيشه حاليا، وهو نفس المجتمع الذي ينتشر في العالم أجمع، كل شيء مزيف، تصرفات مقززة، حتى شخصية هولدن توحي أنه يتحدث عن شخصيتي بطريقة عجيبة.
ولهذا السبب انتشرت الرواية بشكل رهيب، إذ كانت من الروايات الصريحة التي تعبر عن سخط مجتمع عن تصرفات مجتمع، كانت من الروايات التي تمثل شخصيات الكثيرين ومجتمعات الكثيرين، مما جعلها قريبة جدا لقلب القارئ ووسطه.
كل هذا جعل الرواية خفيفة، سهلة القراءة، سريعة الالتهام، يمكن أن تنهي تلك الـ 300 صفحة في يوم واحد بسبب السرد الممتع وإحساسك أنك أنت بروح أخرى تعيش في تلك الرواية.
الابتسامة لازمتني في كثير من المواضع في الرواية، حوارات كثيرة جعلتني أبتسم، وأكثر شخصية مميزة دخلت القلب مع هولدن كولفيلد هي شخصية أخته فيب كولفيلد، أخت ظريفة رائعة، وصفها هولدن بطريقة تجعلك تندمج مع التفاصيل الرائعة لها، فبالإضافة للسرد الممتع للأحداث، يوجد الوصف المميز للشخصيات.
الرواية لا تملك حبكة صريحة، لا يوجد عقدة أو شيء من أركان أدب الرواية المعروفة، هي رواية شبيهة بالمذكرات الشخصية، شبيهة بالجلوس لصديقك وهو يحكي لك عن ثلاث أيام قضاها بين ثانويته ونيويورك، وهناك من اعتبر هذا النوع من الكتابة جديدا سماه بالكتابة الغاضبة أو المتذمرة.
لنعد لنقطة الترجمة، غالب هلسا ذكر أن اللهجة عامية، هذا أثار اهتمامي كقارئ لاكتشاف أين تمثلت جهود المترجم في إبقاء روح اللغة كما هي، غالب ترجم السباب بطريقة تثير الابتسامة نوعا ما “بحق الجحيم، بحق الله، بحق المسيح” أكثر ما أثارني هو ترجمة “… أنت” ويقصد بها ” f**k you “، لكن عموما الترجمة كانت مميزة، لا يوجد ترجمات حرفية، وستبقى الترجمة بصمة حاضرة دائما كلما ذكر إسم “غالب هلسا”.
هناك من انتقد ترجمة غالب إذ هناك بعض الكلمات المترجمة بعيدة عن معناها الحقيقي في الرواية الأصلية، وقد نتفهم أن عملية ترجمة رواية كهذه أمر معقد وصعب، وقد نشر نبيل حاتم أحد المنتقدين لترجمة غالب دراسة مميزة مفصلة حول الأخطاء التي وقع فيها أثناء عملية الحفاظ على روح اللغة.
استحقت الرواية أن تكون رواية عالمية، إنها أحد الروايات التي تجعلك متعلقا بكاتبها، باحثا عن أي مؤلف آخر له لالتهامه، ولا يوجد ما له مترجما إلا مجموعة قصصية اسمها اليوم المرتجى لسمك الموز، رغم أن هناك قصص قصيرة أخرى تم نشرها لكن لم تترجم بعد.
* مدونة طارق ناصر
الحارس في حقل الشوفان … الصرخة الغاضبة عن نفاق المجتمعات
جيروم ديفيد سالينجر (1919-2010)، كاتب إنجليزي، قرر أن يؤلف روايته الوحيدة في مسيرته التأليفية، فأبدع وكتب أحد أفضل الروايات في القرن العشرين، إذ تباع من الرواية ربع مليون نسخة سنويا، لماذا أفضل؟ سنعرف ذلك بعد قليل، الروائي أراد أن يتحدث عن مجتمعه الأمريكي المزيف، كلمة مزيف هي الكلمة المفتاحية للرواية ، لذلك اختار شخصية شاب تنوب عنه للتعبير عن سخطه وكرهه لهذا الوسط المزيف.
الشخصية الرئيسية هي هولدن كولفيلد، شاب يدرس في ثانوية بنسي، يتلقى برقية رسوب ليعد هذا الحدث افتتاحية للتسلسل التشاؤمي للأحداث، ثم تتوالى الأحداث بعد رسوبه ليهرب من مدرسته قبل عطلة عيد الميلاد بأيام، ويذهب لمدينته نيويورك، يتسكع في الشوارع والحانات إلى أن يصل يوم بداية العطلة فيذهب لمنزل عائلته، وبين ذاك وذاك أحداث مختلفة أترك للقارئ متعة استكشافها.
يمكننا أن نقسم الرواية إلى قسمين، قسم حدث في ثانوية بنسي –الثانوية التي يدرس فيها هولدن- وقسم حدث في مدينة نيويورك التي يسكن فيها والديه.
هولدن يتحدث معك في الرواية، كأنك جالس أمامه في طاولة مقهى، تحتسي معه كوب لاتيه ساخن ويحكي لك قصته وسخطه للمجتمع، تخيل ذلك. يتحدث هولدن بضمير المخاطب كثيرا، مما جعل من عنصر العفوية، عنصرا حاضرا بقوة في سرد هولدن للأحداث، وهذا أكسب الأحداث قوة سردية مميزة، مكنت من سالينجر – أو هولدن في الرواية – بتمرير رسالته بسهولة.
الحارس في حقل الشوفان؟ السر وراء هذا العنوان الجميل هو أنه كان يريد أن يصبح حارسا لأحد الحقول، يوجد فيها أطفال يمنعهم من السقوط في أحد الهضاب، وهذه إشارة أنه لا يريد للأطفال أن يسقطوا في فخ الزيف الاجتماعي والنفاق، هذا المعنى العميق الذي كان يريد سالينجر إيصاله. وهولدن يعتبر كل المجتمع مزيف إلا الأطفال، كان محبا للأطفال لأنهم أفضل المخلوقات التي تجسد البراءة والقلب الأبيض عن التزييف.
هل هولدن هو سالينجر؟ أستطيع الإجابة على هذا السؤال بنعم، لأن سالينجر كان كثير السخط من مجتمعه، مما شخصية هولدن كولفيلد كشخص كاره لكمية الزيف الموجودة في وسطه، كارها لهوليود والأفلام لأن كل فرد من المجتمع يقلد هوليود باحترافية.
وحتى في آخر الرواية كان هولدن يريد أن ينعزل في كوخ في الغابة ولا يعود لبيته أبدا ويعتمد على نفسه كليا، وهذا ما حققه سالينجر بعد نشره للرواية، إذ تفرغ للكتابة لنفسه في كوخ في الريف، منعزلا عن الجميع، رافضا المقابلات، ثم توفي عام 2010 في هذا الكوخ لتنتهي حياته الانعزالية – ما يزيد عن نصف القرن- في ذلك الكوخ بنيو هامبشر.
سالنيجر كتب الكثير خلال انعزاله، يقال أنه كان يكتب عن عائلة غلاس النيويوركية، التي صوب كل اهتمامه في الكاتبة عنها طيلة فترة الانعزال. [1] والوثائقي الذي يتحدث عن سيرة هذا الكاتب (-Salinger -2013) يشير أن الكاتب ترك تعليمات تتعلق بنشر بعض من كتبه بعد وفاته بين عامي 2015 و2020، وله قصص منشورة غير روايته المشهورة.
أثناء قرائتي للرواية، انتابني شعور أن المجتمع الذي يتحدث عن هولدن كولفيلد، هو نفس المجتمع الذي أعيشه حاليا، وهو نفس المجتمع الذي ينتشر في العالم أجمع، كل شيء مزيف، تصرفات مقززة، حتى شخصية هولدن توحي أنه يتحدث عن شخصيتي بطريقة عجيبة.
ولهذا السبب انتشرت الرواية بشكل رهيب، إذ كانت من الروايات الصريحة التي تعبر عن سخط مجتمع عن تصرفات مجتمع، كانت من الروايات التي تمثل شخصيات الكثيرين ومجتمعات الكثيرين، مما جعلها قريبة جدا لقلب القارئ ووسطه.
كل هذا جعل الرواية خفيفة، سهلة القراءة، سريعة الالتهام، يمكن أن تنهي تلك الـ 300 صفحة في يوم واحد بسبب السرد الممتع وإحساسك أنك أنت بروح أخرى تعيش في تلك الرواية.
الابتسامة لازمتني في كثير من المواضع في الرواية، حوارات كثيرة جعلتني أبتسم، وأكثر شخصية مميزة دخلت القلب مع هولدن كولفيلد هي شخصية أخته فيب كولفيلد، أخت ظريفة رائعة، وصفها هولدن بطريقة تجعلك تندمج مع التفاصيل الرائعة لها، فبالإضافة للسرد الممتع للأحداث، يوجد الوصف المميز للشخصيات.
الرواية لا تملك حبكة صريحة، لا يوجد عقدة أو شيء من أركان أدب الرواية المعروفة، هي رواية شبيهة بالمذكرات الشخصية، شبيهة بالجلوس لصديقك وهو يحكي لك عن ثلاث أيام قضاها بين ثانويته ونيويورك، وهناك من اعتبر هذا النوع من الكتابة جديدا سماه بالكتابة الغاضبة أو المتذمرة.
لنعد لنقطة الترجمة، غالب هلسا ذكر أن اللهجة عامية، هذا أثار اهتمامي كقارئ لاكتشاف أين تمثلت جهود المترجم في إبقاء روح اللغة كما هي، غالب ترجم السباب بطريقة تثير الابتسامة نوعا ما “بحق الجحيم، بحق الله، بحق المسيح” أكثر ما أثارني هو ترجمة “… أنت” ويقصد بها ” f**k you “، لكن عموما الترجمة كانت مميزة، لا يوجد ترجمات حرفية، وستبقى الترجمة بصمة حاضرة دائما كلما ذكر إسم “غالب هلسا”.
هناك من انتقد ترجمة غالب إذ هناك بعض الكلمات المترجمة بعيدة عن معناها الحقيقي في الرواية الأصلية، وقد نتفهم أن عملية ترجمة رواية كهذه أمر معقد وصعب، وقد نشر نبيل حاتم أحد المنتقدين لترجمة غالب دراسة مميزة مفصلة حول الأخطاء التي وقع فيها أثناء عملية الحفاظ على روح اللغة.
استحقت الرواية أن تكون رواية عالمية، إنها أحد الروايات التي تجعلك متعلقا بكاتبها، باحثا عن أي مؤلف آخر له لالتهامه، ولا يوجد ما له مترجما إلا مجموعة قصصية اسمها اليوم المرتجى لسمك الموز، رغم أن هناك قصص قصيرة أخرى تم نشرها لكن لم تترجم بعد.
* مدونة طارق ناصر
الحارس في حقل الشوفان … الصرخة الغاضبة عن نفاق المجتمعات