بلقاسم بن عبد الله - وطار رائد القصة النضالية -1-

وكيف نتمكن الآن من التأريخ لمراحل تطور أدبنا الجزائري؟.. ذلك هو التساؤل الجوهري الذي واجهني وصافحني هذه الأيام بعد أن وصلتني الدعوة الرسمية من مديرية الثقافة بولاية عنابة، للمساهمة في الملتقى التكريمي لأديبنا الكبير المرحوم الطاهر وطار.. وسرعان ما عدت لأستنجد بكتابي الأخير بصمات وتوقيعات، حيث تتصدره مقالة نقدية عن وطار رائد القصة النضالية في الجزائر.

وقد سبق أن نشرت هذه المقالة المطولة بعناوينها الفرعية، بجريدة الشعب الوطنية بتاريخ 4 سبتمبر 1970 وأذيعت في حصتين من برنامج دنيا الأدب بالإذاعة الوطنية في نفس الفترة، وقد استأثرت طوال شهرين باهتمام عدد من الأقلام البارزة من بينها: محمد سعيدي- أحمد منور- مبروك نويس- محمد علي الهواري وغيرهم. كما دفعت أديبنا الطاهر وطار للرد على مجموع الكتابات السابقة بمقالة مطولة في ست حلقات، نشرت بنفس الجريدة ابتداء من 28 ديسمبر 1970 تحت عنوان كبير: الطعنات، الخبشات والأستاذوقراطية.

ولأهمية الدور الذي لعبه أديبنا وطار في التأسيس للقصة النضالية في الجزائر، نعيد اليوم بالمناسبة، نشر هذه المقالة، بعد أربعين سنة من كتابتها..
إنها لظاهرة مؤسفة حقا، وهي ظاهرة الفتور والإستقبال البارد من طرف مثقفينا عموما، لكل إنتاج جزائري جديد، في حين لا نزال نسمع بين الحين والآخر، رنة تعلو من هنا وهناك، تشكو من قلة هذا الإنتاج في مكتبتنا الجزائرية.
فمنذ أزيد من شهر أصدرت شركتنا الوطنية للنشر والتوزيع مجموعة لا بأس بها من الكتب الجديدة في شتى مناحي الأدب والثقافة، ومن يومها، أكاد أقول، أسدل عليها ستار النسيان!. إذ لم يترصد لها بالدراسة والتقييم إلا القلائل، كان للإذاعة الوطنية يومئذ قصب السبق. من خلال برنامجيها: كاتب وكتاب. ودنيا الأدب. إذ قدمت معظم تلك الكتب الجديدة.. وتلتها جريدة الشعب ببعض الدراسات عنها للإخوة أبو القاسم خمار ومحمد سعيدي وم.ع الهواري ومبروك نويس في حديثه مع الطاهر وطار ـ ثم غير هذا، لم يحرك أحد ساكنا!.. وكان الأمر ينتهي عند هذا الحد بينما كان من المفروض أن يثار نقاش حاد بين مثقفينا حول هذا النتاج الجديد تكون أعمدة الصحافة، وأمواج الأثير مسرحا له، بدلا من هذا الصمت الرهيب الذي يخنق كل محاولة تأليفية، ملقيا بها في غياهب النسيان والإهمال.

لكن لنترك هذا جانبا، لأن الحديث عنه يطول. المهم أن من بين تلك المجموعة الجديدة كتاب يستحق منا أكثر من وقفة، إذ لعله فتح جديد في دنيا القصة القصيرة في الجزائر. واعني بهذا الكتاب: الطعنات للطاهر وطار الكاتب القصصي المعروف لدى قراء العربية، من خلال ما ينشر من حين لآخر في صحافتنا الوطنية، وكذا مجموعته الأولى المشهورة التي طبعت في تونس تحت عنوان: دخان من قلبي ولقيت يومئذ رواجا منقطع النظير، بالنسبة لباكورة أي كاتب. وكما صدرت له أخيرا عن شركة "لاسنيد" مسرحية ذهنية في أربعة فصول، تحمل عنوان الهارب وهي تجربته المسرحية الأولى..

دخان من قلبي.. وصمت النقاد!

ومن المعروف أن أسلوب الطاهر وطار يمتاز بالسلاسة والعذوبة، ودقة الوصف وانتقاء الكلمات الموحية الأخاذة، زيادة عن تناول الكلمة تناولا فنيا مبدعا، مما يجعل القارئ يشعر بجاذبية قوية تجذبه لأن يلتهم كل ما يقع بين يديه من إنتاجه القصصي.. إذ الكلمة عنده لها سحر شاعري خاص وإن من البيان لسحرا.

ويجدر بنا هنا أن نقول بأن النقاد لدينا لم يكن لهم دور إيجابي في تناول مجموعة دخان من قلبي بالدرس والتحليل، حتى يكون لهم فضل على القارئ.
فوطار اتصل بقرائه بدون ذلك الجسر الذي يربط عادة القارئ بالكاتب، وهذا الإتصال الذي وقع بين القراء ووطار كان نتيجة لتناول هذا الأخير مواضع حية تمس القارئ من قريب أو بعيد، فمواضع تلك المجموعة كلها تصف لنا حياة الجماهير الكادحة أثناء الثورة التحريرية. أو تعرض علينا مشاكل اجتماعية، يعاني من شدة وقعها المجتمع الجزائري.

ونتيجة لالتزامها بهذا الخط الذي رسمه الطاهر وطار مسبقا، كان التوفيق حليفه، لدرجة أن مجموعته القصصية الأولى (دخان من قلبي) التي نشرها وسنها لا يتجاوز الخامسة والعشرين، قد نفذت طبعتها الأولى، كما أن عددا كبيرا من قصص تلك المجموعة ترجم إلى عدد من اللغات الأجنبية المختلفة.

لقد قيل الكثير بشأن تلك المجموعة فقال البعض: أنها ذاتية صرفة ووجدانية.. غير أننا نقول بأنها ملتزمة بالخط الثوري، وملتحمة بالجماهير ومعبرة عن الكادحين من عمال وفلاحين وإن أخذت ـ في بعض الأحيان ـ صبغتها الذاتية، إذ لكل قصة من تلك قصص أبعادها الإنسانية، وجذورها التاريخية عندما يتبنى الكاتب قضية الكادحين.

نعود إلى مجموعته القصصية الثانية التي صدرت في المدة الأخيرة عن شركتنا الوطنية للنشر والتوزيع، وتضم مجموعته الجديدة إحدى عشر قصة في حوالي مائتي صفحة من الحجم المتوسط. وهذه القصص ـ حسب التواريخ المذيلة بها ـ كتبت في الفترة الواقعة ما بين 1960 و1969 بعضها في تونس ومعظمها في الجزائر. وهي قصص تجعل من كاتب القصة بالإضافة إلى كل التعريفات التي أعطيت له بالوطن العربي ـ عبارة عن إنسان بإمكانه أن يتنبأ بأحداث ستقع مستقبلا!. أنت تحس من خلال قراءتك هذه المجموعة أن وطار يمضي بك بعيدا إلى ما سيقع.. وخاصة إذا أنهيت القصة، تجد تاريخ كتابتها يفرض عليك هذا الإحساس.

والمتتبع لإنتاج وطار القصصي يرى كيف تبلورت الكلمة المناضلة لديه وأصبحت أكثر فعالية ونضجا، بعد أن تبنى قضية الكادحين، من عمال وفلاحين معبرا عن آلامهم وآمالهم، ملتحما بمسيرتهم النضالية في الدروب الوعرة. فقصصه إذن ليست من ذلك النوع الذي يعتمد على الإثارة الجنسية والنزوات العابرة، إذ هي ترتفع وترتفع عن مثل هذه التفاهات والمهاترات.

ولو ألقينا نظرة خاطفة على القصص التي تضمنتها المجموعة لتأكدنا مما قلناه، فكلها ملتزمة بالخط الثوري وملتحمة بقضايا الجماهير الكادحة التي تكد وتكدح لتحصل على خبز يومها من يوميات فدائي. الدروب، السباق، البخار، رسالة اليتامى، الخناجر، وأخيرا رمانة. ومعظم هذه القصص لم يسبق نشرها من قبل.

الأبطال وست شخصيات تبحث عن مؤلف

كما ينبغي أن نلاحظ بأن بعض قصص هذه المجموعة يعتبر امتدادا لقصص سبق أن نشرها كاتبنا وطار في مجموعته الأولى دخان من قلبي، فالأبطال مثلا التي تذكرنا بقصته الأولى (ممر الأيام) التي يحكي فيها عن كاتب يريد كتابة فصل من مسرحية ثم يلقيها في سلة المهملات ليعيد كتابتها مرة أخرى، وهكذا..

ولعل هذا النوع من فن كتابة القصة، استلهمه صاحبنا الطاهر من المسرحية العالمية المعروف (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) للكاتب الإيطالي الشهير: لويجي براند يللو فهناك تقارب إلى حد ما، بين قصة (الأبطال) والمسرحية المذكورة، ولا سيما من حيث الهيكل العام، وتوزيع مختلف الأدوار على الأشخاص المناطة بهم تلك المهام، وفي ذلك يقول وطار: من الإنصاف والعدل، أن يطلع الأبطال ـ حقيقيين كانوا أم مزيفين ـ على مصائرهم قبل أن يبلغوها وأن من لا يعرف دوره، يظل منقوص الخلق.

ورغم الإرتباط الوثيق الموجود بين قصة الأبطال، والقصة الأخرى كما ذكرنا نستطيع أن نقول: أن الأبطال امتداد للقصة الأولى، إلا أنها مع ذلك مستقلة عنها إلى حد ما، فالكاتب هنا، يتقمص شخصية بطل القصة، يبحلق في الفراغ، ويمتص غليونه بشراهة، وينفث الدخان بدون انقطاع، وذلك لعل أسباب الحياة البسيطة تعود إلى أبطال قصته المغضوب عليهم، وفجأة يثور ويلعن من قلبه، أبطال قصته، الذين توقفوا عن العمل فيقول مزمجرا: هؤلاء الأنذال كأنما نسوا، أنني خالقهم وأنه في وسعي بين لحظة وأخرى أن أميتهم الملاعين المتنكرون، نخلقهم، ثم نحار في أمرهم، لا عد منهم، لا جعلنا خاتمتهم شر خاتمة.

وبعد معاناة طويلة يحكم الكاتب على أن أبطال قصته ليسوا إلا مجرد حروف سوداء مرتبطة ببعض على ورق أبيض، تهدد كل لحظة سلة المهملات. جرة قلم فقط.. قرار الخالق. فيمسخون إلى مجرد حثالات عادية، يمضغون الأشواك الجافة، وسط القطيع الأعمى.

ويغوص الكاتب في أحلام لذيذة، تعود له فيها أحداث القصة، فيغرق حتى الأذنين في مشاكلهم، فكل بطل من أبطاله، سواء عمر بن بوجمعة أو رهواجة أو معروف بن بادي، يطلب منه بأن يخفف من غضبه عليه فلا يملأ سيرته بالخطيئة، غير أن الكاتب لا يغيرهم أدنى انتباه، فمعروف بن بادي رجل شارك في معركة (ديان بيان فو) الشهيرة، ورجع إلى وطنه، لكنه بعد فترة، ولظروف خاصة، يعيد لبس الزي العسكري ويدخل في مهمة تفتيش منازل القرية حتى يصل إلى بيت رهواجة القالمية زوجة عمار بن بوجمعة، الذي انطلق نحو الجبل، وفي بيت أبيها، ويرفض معروف بن بادي الخروج من منزل رهواجة ويعمل بجميع الوسائل على إغرائها، وأخيرا ترمي هي في أحضانه ويوافق الأب على الزواج، فيرسل معروف يستحضر صديقه عمار بن بوجمعة في ليلة الزفاف، فتشتد غيرة عمار من هذا العمل، فيقرر إرسال مجموعة المسبلين، التي هي تحت قيادته، لاقتحام القرية، ويقصد هو المنزل الذي يضم في آن واحد، زوجته وعدوه، فيقتلهم هناك.. ويحاصر العدو عمارا فيرديه قتيلا، وهنا تتم خطة أحداث القصة، هذه هي قصة الأبطال التي تبدو للوهلة الأولى أنها قصة ذاتية صرفة، ولكنها في الحقيقة ملتزمة بالخط الثوري، وما أكثر ما وقعت شبيهاتها أثناء ثورتنا التحريرية فهي إذن قصة واقعية إلى حد لو ذكر لنا الكاتب كيف يتم التقاء خائن مع مجاهد، وهذا قد يكون، لكن المهم هو أن الخائن معروف بن بادي بكل تأكيد، يعرف صديقه وزوجته فكيف يرسل لاستحضاره في هذا الزواج غير الشرعي؟ اللهم إلا الجري وراء تعقيد العقدة.

الإزدواجية بين أحداث القصة والأسطورة

ونتيجة لهذا فهي من حيث الهيكل العام، تبدو لنا قصة ازدواجية، أو قصة داخل قصة، والملاحظ أن أكثر القصص الرائعة عند الطاهر وطار تمتاز في هذه الإزدواجية المحببة إلى النفوس، ونفس هذه الطريقة نجدها في قصة (اليتامى) حيث تزدوج الأسطورة الشعبية المعروفة (ببقرة اليتامى) التي يشتاق الأطفال كثيرا إلى سماعها، والمشاكل العويصة التي وقع فيها بطل القصة من جراء انحراف وقع من طرف مسير المزرعة التي يعمل فيها، فيثور العمال ضده ساخطين متبرمين فيعلن لهم مدير المزرعة بتبجح : (هذه المزرعة لم تعد مسيرة ذاتيا، لم تبق لكم، كما كنتم تتوهمون، لقد تحولت إلى أهلها إلى الذين كانوا يكافحون من أجل تحريرها. ما تأكله العنزة الحواء في الغابة، تلقاه في حانوت الدباغة، هي منذ اليوم لعشرة من قدماء المجاهدين الأبطال).

بينما في الجانب الآخر يواصل الجد حكاياته لأحفاده الذين يصغون إليه في اهتمام متزايد: (بقرة اليتامى) أواه، كانت هي التي يعيشون منها بعد أن حلت محل الأم كانت ترضعهم بحنان وود من ضرعها، حليبا نقيا عذبا). ويترك الكاتب خاتمة قصته هذه، في أحشاء الغد فما عساه يلد من مفاجآت؟.. (فهل ستحقق المعجزة وتحيا بقرة اليتامى) على حد تساؤل الأحفاد أمام الجد الذي يعدهم بإتمام القصة غدا..
ونجد مثل هذا الأسلوب الفني الممتع أسلوب الإزدواجية بين أحداث القصة والأسطورة الشعبية، نجده كذلك في قصة (الدروب) حيث تزدوج أحداث هذه القصة التي تدور حوادثها في منطقة الأوراس، أثناء الحرب التحريرية، مع الأسطورة الشعبية المعروفة (بحباح المرتاح).. إلا أننا نلاحظ بأن هذه الإزدواجية في قصة الدروب لا ترتفع إلى مستوى تلك الإزدواجية الرائعة في قصة اليتامى ومهما يكن من أمر فنحن نهلل لنجاح كاتبنا الطاهر في هذا الأسلوب الفني البكر، الذي لا يستطيع تناوله إلا من له باع طويل في فن كتابة القصة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...