هل كان الكاتب الإنجليزي جورج أورويل (1903-1950) يظن، وهو يتوجه إلى المغرب، أن الفترة الاستشفائية التي سيقضيها في مراكش لن تكون فترة نقاهة، وأنها ستمكّنه من معرفة معينة، ليس بوضع المغاربة في منطقة الحماية الفرنسية فحسب، وإنما بعموميات الظاهرة الاستعمارية، وبعض ملامح همجيتها؟
من الصعب أن نجيب بالإيجاب أو النفي، خاصة وأننا نعلم أن الكاتب لم يكن يعرف عن المغرب شيئا، عدا ما سمعه، وهو في كاتالونيا أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، عن شراسة الفيلق المغربي الذي كان يقاتل مع فرانكو ضد الشرعية الجمهورية. يؤكد هذا أن أورويل، حين قرر الذهاب إلى المغرب، اتصل بأحد معارفه، وكان كتبيا، يطلب منه بعض الوثائق الجغرافية والتاريخية واللسانية المتعلقة بهذا البلد.
في شهر أبريل من سنة 1938، تدهورت حالة أورويل الصحية إذ عاوده داء السل. وفي نهاية فترة استشفائه بالمصحة، نصحه الأطباء بأن يختار مكانا للنقاهة أدفأ وأكثر جفافا من جنوب فرنسا، واقترحوا عليه التوجه إلى المغرب. لم يكن مستوى العيش باهظا هناك، لكن الذهاب والعودة بحرا عبر المحيط الأطلسي كان يتطلب مصاريف ليست هينة خاصة وأن أورويل كان مضطرا إلى عدم السفر برا عبر إسبانيا، بسبب مواقفه المعروفة من الحرب الأهلية الإسبانية والنظام العسكري.
شرعت زوجته (إيلين) في الإعداد للإبحار إلى جبل طارق في شهر شتنبر، بيد أنهما لم يكونا قد حددا بالضبط ما ينبغي أن يفعلاه بعد الوصول إلى الصخرة. فقبل أسبوع فقط من مغادرتهما إنجلترا تحدث أورويل إلى أحد أصدقائه قائلا: «لقد حجزنا إلى غاية جبل طارق، ومن هناك إلى الدار البيضاء، بعد ذلك لا نعرف بالضبط ماذا سنفعل: قد نتوجه إلى جبال الأطلس. إن معلوماتنا الجغرافية عن المنطقة محدودة جدا، بحيث كنا أنا وزوجتي نظن أن مغرب الحماية الفرنسية يطل على البحر الأبيض المتوسط والحال أنه يطل أيضا، وبصفة أساسية، على المحيط الأطلسي». وبما أنه كان في حاجة إلى معرفة أدق بالبلد الذي يقصده، فقد استفسر أحد معارفه عما إذا كان يتوفر على نسخة من دليل «بيديكير Baedeker» السياحي عن المغرب، فضلا عن خرائط، مع معجم صغير ومبسط للدارجة المغربية. لقد كان أورويل يعرف أن فرنسيته المحدودة سوف تسهل له التعامل نسبيا مع الناس في المغرب، لكن بما أنه كان يفكر في الإقامة بضعة أشهر، فقد عزم القيام بمجهود معين لتعلم لغة المغاربة.
الصعود لاستنشاق الهواء
لم يترتب عن الإقامة الطويلة لجورج أورويل في مصحة «برستون هول» في مدينة «كنت» بإنجلترا تحسن ملحوظ في حالته الصحية، لكن الإقامة مكنته، بصفة عامة، من استرداد بعض عافيته ومن أن يستريح من العمل المرهق في الإذاعة البريطانية أكثر مما كان سيفعل لو مكث في بيته. وحينما كانت أوربا. تقترب من الحرب العظمى الثانية بخطى حثيثة، غادر هو وزوجته إلى المغرب. كانت أزمة ميونيخ قد بدأت ترخي بظلالها القاتمة على أوربا، وفي نهاية شهر شتنبر أعلن هتلر مطالبه التوسعية في الأراضي التشيكية ، فشرع العالم في التخوف من أن الحرب أصبحت لا محالة وشيكة. وأثناء الشهور الستة التي قضاها أورويل في المغرب ، كان يتتبع الأحداث العالمية عن كثب ، لكنه كان منشغلا أيضا بكتابة روايته «coming up for air» (الصعود لاستنشاق الهواء)، التي تجري بعض أحداثها في سنوات سابقة تماما على ثلاثينيات القرن الماضي. وحين كانت أوربا في معظمها منشغلة بالاستعداد لحرب شاملة ، طويلة الأمد، كان أورويل يخلد إلى الراحة في فيلا صغيرة خارج مراكش حيث كان يتخيل، وهو يكتب روايته، مشاهد جميلة عن السهول المجاورة لنهر التاميز، ويتذكر علاقات مستقرة تنتمي إلى العالم الذي عايشه أثناء طفولته.
وصل أورويل وإيلين إلى المغرب يوم حادي عشر شتنبر، مرهقين من السفر الطويل الذي قادهما من (تيليوري) إلى (جبل طارق)، ثم من عبور البوغاز نحو طنجة في يوم كان البحر شديد الهيجان والتيارات البحرية بالغة التقلب، بحيث كان على جورج أن يتناول عقار «فاسانو» الألماني المضاد للغثيان عدة مرات. وروت زوجته في بعض رسائلها أن تأثير العقار على زوجها كان جيدا حيث إنه كان يتجول على ظهر الباخرة دون أن يتأثر لمشهد بقية المسافرين وهم يتقيؤون بين الفينة والأخرى.
امتطيا في طنجة قطارا يقصد الدار البيضاء، ومن هناك توجها إلى مراكش التي وصلاها بعد يومين. كان الجو قائظا جدا، ولم يكن الفندق الذي حلا به ليلتهما الأولى ليثير فيهما أي طمأنينة: فلقد أدركا في ما بعد أنه كان في الحقيقة ماخورا. كان عليهما أن يمكثا هناك بعضا من الوقت، إلى أن أتيحت لهما فرصة الانتقال إلى مكان أكثر راحة وهدوءا هو فيلا (مدام فيلا) داخل مراكش، قبل أن يفكرا بعد شهر في الانتقال إلى «فيلا سيمونت» التي تبعد عن المدينة ببضعة كيلومترات. كانت الفيلا تقع وسط حقل برتقال، ولم يكن بها أثاث كثير، لكن مساحتها كانت كافية ليعيش فيها شخصان: كانت هناك غرفتان، وحمام ومطبخ وقاعة استقبال واسعة، فضلا عن حجرة فوق السطح استعملها جورج أورويل كمكتب له. وقد حاول الزوجان أن يواصلا في ذلك المكان نمط حياتهما المعتادة فشرعا في تعهد بستان صغير، ثم اقتنيا ماعزا ودجاجا ليطعما ويشربا مما ينتجان.
منذ بداية إقامته دهش أورويل لمنظر الأماكن المحيطة بمقر إقامته في مراكش والتي كانت تتسم بالجدب والاستيحاش، فضلا عن الفقر الذي يعشش في طرقات المدينة ودروبها. كان الوضع برمته يثير ابتئاسه إلى درجة أنه بعد مرور بضعة أسابيع على وصوله شرع يفكر جديا في شد رحال العودة إلى إنجلترا، ثم لم يمض إلا شهران حتى أحس بأن المجيء إلى المغرب برمته كان مضيعة للوقت والمال، فضلا عن الجهد. لم يدرك إذ ذاك أن الطقس كان سيدفع حالته الصحية إلى التحسن ، وكان يحس بملل ثقيل إزاء كل ما يشاهده من بؤس وفقر. في تلك الأثناء كتب إلى أحد أصدقائه يقول: «إن المغرب بلد ممل، فلا غابات ولا حيوانات متوحشة. الناس في المدن الكبرى أفسدتهم السياحة، ونظرا لفقرهم، تحولوا جميعا إلى سلالة من المتسولين وتجار الغرائب المبتذلة». كان الفقر على نحو خاص يثير حزن أورويل الشديد. ومع مرور الوقت والتأمل تمكن من إدراك أن السكان المغاربة كانوا يعيشون في أدنى درك، بينما استولى الفرنسيون على أفضل الأراضي وشرعوا يستغلون خيراتها بشره فظيع. هكذا اضطر العديد من المغاربة إلى فلاحة أراض زراعية صغيرة جدا، وجدباء، بواسطة عُدة قديمة تنتمي إلى تاريخ غابر، كما كانوا يعانون، داخل المدن، من ارتفاع حاد في نسبة انتشار الأمراض المعدية، فإذا قضوا نحبهم، نتيجة لذلك، دفنوا في قبور صغيرة. لقد سجل أورويل انطباعاته عن عملية دفن شاهدها، فكتب:
«جنازات المغاربة هنا هي أفظع ما شاهدته، فالميت يُحمل من طرف أصدقائه وأقاربه على نعش خشبي فظ، ملفوفا في خرقة من نسيج... تحفر في الأرض حفرة لا يتعدى عمقها قدمان، فتحشر فيها الجثة دون أن يوضع عليها شيء سوى كومة من تراب مع وضع قطعة من آجر حيثما يوضع رأس الهالك».
ذباب يقتفي جنازة
وروت إيلين في بعض رسائلها أنه بينما كانت هي وجورج يتناولان طعامهما في أحد المطاعم ذات يوم إذ مرت جنازة «فغادر الذباب المطعم على حين غرة لبضع دقائق كانت كافية له لأخذ عينات مجزية من الجثة العابرة». ومع أن إيلين لم تجد منظر مراكش موحشا مثل زوجها، فإنها تسرعت في بادئ الأمر فعبرت عن شعورها بأن العيش في مدينة السبعة رجال «قاتل لا يحتمل». لقد أعجبت بهندسة الأقواس والأسوار التي تتخلل دروب المدينة العتيقة، كما أثار انتباهها جمال الأطفال السمر الذين يملؤون تلك الدروب حيوية ونشاطا، بيد أنها لم تخف امتعاضها من الروائح القذرة المنبعثة من الزوايا، ولا من الأوساخ التي تطارد حركات الأطفال وخطاهم. وعندما استطابت ذات مساء رؤية مشهد غروب رائع، جاء جورج ليحدثها بأن الشمس تغرب في الواقع فوق مقبرة وأن المشهد الجميل «يهيمن عليه دود غير مرئي». رغم كل ذلك، كانت إيلين تشعر، مندهشة أحيانا، بأن زوجها يفكر في البقاء في مراكش مهما حدث. وفي أحيان أخرى كانت هي بدورها تحس أن ظروفا حسنة قد ساقتهما للإقامة هناك، وأنها في أعماقها ممتنة لذلك.
مع حلول شهر دجنبر، تدهورت حالة جورج الصحية ثم أخذ المرض بتلابيب إيلين أيضا ، وفي الوقت نفسه تقريبا. لم يكن الماء الذي يرتويان منه في الفيلا جيدا، لذا أصيب كلاهما باضطرابات معدية متواترة خلال شهري أكتوبر ونونبر، تجلت في شكل صداع وحمى. هكذا لازم جورج الفراش أسبوعا كاملا، لكنه كان يحاول إيهام زوجته بأن العلة بسيطة ، وبأنه سرعان ما سيعود إلى مواصلة كتابة روايته التي كان بصدد الاشتغال عليها.
وعندما تحسنت حالة الزوجين الصحية، أنهى جورج الصيغة الأولى من «الصعود لاستنشاق الهواء» فغادرا مراكش في اتجاه جبال الأطلس وبعض القرى الأمازيغية المنتشرة عليها لقضاء عطلة هناك. أعجب جورج إعجابا بما يرى، خاصة عندما بلغ ذرى ترتفع عن السهل خمسمائة قدم، حيث شاهد شعابا متعرجة عميقة تتجمد فيها كتل ناصعة من الثلج. حل الزوجان بأحد الفنادق ب«تدرت»، وهناك شرع أورويل في تدوين ملاحظات عن إقامته المراكشية ستتحول إلى روبورتاج نشر في ما بعد في أحد أعداد مجلة «New Writing (كتابات جديدة). كانت الجولة قصيرة زمنيا لكن الزوجين عادا منها وشعور بالانتعاش يغمرهما. وإذا كان هناك من شيء أثار انتباه الكاتب خلال هذه الرحلة فهو منظر النساء البدويات: لقد بدت له ملامحهن بالغة الإثارة، خاصة عيونهن حيث يتجلى سواد حاد.
بدأ جورج أورويل روبورتاجه «مراكش» بالحديث عن موكب جنازة فقيرة، يطاردها الذباب، ثم ينتقل إلى وصف طريقة الدفن والقبر الذي يترك بدون أية علامة. ويلاحظ الكاتب أن الناس في المدن التي تنتمي إلى إمبراطوريات استعمارية، لا يتوفرون على سحنات مميزة مثل القبور التي تطويهم عندما يقضون نحبهم بعد حياة كئيبة. وبعد رواية حادث إطعامه غزالا في إحدى الحدائق العامة وكيف أنه لم ينتبه إلى وجود فتى جائع جاء يلتمس منه السماح له بجمع فتات الخبز الذي أطعم منه الغزال، وصف الكاتب تجوله عبر ملاح اليهود حيث تأفف من مستوى عيشهم، وطول يوم عملهم، واستغرب من الإشاعات التي تنعت تسلطهم على الاقتصاد دون رحمة ، كما عبر عن دهشته من إقبالهم عليه يطلبون السجائر بإلحاح ، لكنه تنفس الصعداء قائلا: «إن أفضل شيء هو أن هتلر غير موجود هنا». ويتحدث عن عمل الفلاحين وسحناتهم فيلاحظ أن لون وجوههم كلون التربة، ذلك اللون الذي «.. يحول دون ملاحظة فقرهم وبؤسهم»، قبل أن يبرز أن أرض مراكش مقفرة وقاحلة، وأن الحرث بدائي، والماء نادر، والنساء يشقين من عمل متعب يحولهن في النهاية إلى شبه عجائز فانيات، ومن معاملة الرجال لهن على نحو مهين شبيه بمعاملتهم للدواب التي تحَمَّل فوق طاقتهم. في النهاية يصف أورويل مشهد مرور طابور سينغالي، وكيف رمقه أحد الجنود بخجل غريب وغير مفهوم، قبل أن يتساءل عما إذا كان الرجل الأبيض مطمئنا إلى أن سكان المستعمرات سيظلون دائما أذلاء، وطوع بنان السلطات الأجنبية التي تستعبدهم دون رحمة .
هتلر غير موجود هنا
لقد استعمل جورج أورويل في روبورتاجه المذكور ما شاهده في مراكش، مفتتحا إياه بمشهد ذباب المطعم الذي تلاشى لحظة مغيرا موقعه، وذلك حين مرور إحدى الجنازات. ويمكن القول إن الموضوع الرئيسي للروبورتاج هو، للمفارقة، «غياب» الفقر. إن مظاهر الفقر، من جهة، واضحة للعيان، بما ينطوي عليه الفقر من قذارة وأسمال بالية وعاهات وجثث، لكن أورويل كان يدرك أن هذه المظاهر تتحاشى السلطات الاستعمارية، التي تستطيع تحسين أوضاع الفقراء، النظر إليها. وتشكل المقابر الدليل الساطع على ذلك: فبما أن القبور واطئة وغير معلمة في الغالب، فإن المشي فوقها يتكرر بين آونة وأخرى. وإذا كان الفقراء الأحياء نساء ورجالا لا يثيرون اهتماما لدى الأوربيين، فإن عظام أمواتهم تثير في هؤلاء ذعرا غريبا :«يخرجون من الأرض، فيكدحون ويشقون، ويقاومون الجوع الممض بضعة أعوام، ثم يختفون تحت أكوام من تراب مقبرة ليس لها اسم أو عنوان. يرحلون في صمت فلا يفطن إلى رحيلهم أحد، بل إن قبورهم نفسها سرعان ما تضمحل وتتلاشى تدريجيا حتى تسوى بالأرض».
لم يكن أورويل يزعم أن الفرنسيين هم فقط من تجاهل إنسانية تلك الأشكال البشرية الفقيرة التي تكتظ بها الممرات والطرق في المدينة العتيقة، بل أنحى باللائمة على نفسه أيضا. ويروي الكاتب في روبورتاجه أنه كان ذات يوم يطعم ظبية في إحدى الحدائق ا لعمومية خبزا، فاقترب منه عامل جائع وطلب منه بعضا من ذلك الخبز. ويلاحظ أورويل أن العامل لم يكن مرئيا بالنسبة إليه في بداية الأمر، وأنه لم يعد مرئيا إلا حين اقترب من مجاله البصري وأصبح من الحيوان قاب قوسين أو أدنى .
ولعل أفضل لحظات الروبورتاج تتمثل في انتقال صوت الكاتب من الوصف إلى التساؤل. ففي نهاية النص يصف أورويل مرور فيلق من الجيش الاستعماري مؤلف في معظمه من أفارقة سود يمشون راجلين وهم يطيعون أذلاء أوامر ضباطهم البيض الذين يركبون متون خيل مطهمة. إذ ذاك يتوجه صوت الراوي إلى القارئ مباشرة حيث يتساءل :«إلى متى نظل نضحك على ذقون هؤلاء الناس؟ وكم يلزم من الوقت قبل أن يصوبوا فوهات بنادقهم في الإتجاه الآخر؟». يشعر القارئ بأنه من الصعب عليه أن يتجاهل هذا الصوت الإنساني، فهو يخرجه عنوة من انسياقه للوصف المُغرب ليطلب منه أن يتأمل، لحظة فقط، هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا وجوههم، والذين يشكلون العمود الفقري للجيوش والحشود اللامرئية في المدن الاستعمارية. فهل كان أورويل، بحدسه الملتبس، يدرك أن اليوم الذي سيطلب فيه هؤلاء من الرجل الأبيض أن ينظر إليهم
قريب؟
بعد انقضاء ستة أشهر ونيف، عيل صبر جورج وزوجته فقررا مغادرة مراكش والعودة إلى بلادهما. هكذا امتطيا في أواخر مارس 1939، متن سفينة يابانية ، حملتهما من الدار البيضاء إلى إنجلترا حيث وضع الكاتب كلمة الختام لروايته «الصعود لاستنشاق الهواء». من الواضح أن إقامته في مراكش لم تستطع أن تجد لها مكانا في تجربته الفكرية والأدبية على نحو ما فعلت إقامة «إليا كانيتي» و»خوان غويتيصولو» في المدينة نفسها. وإذا استثنينا الروبورتاج الذي يبرز ميولاته المضادة للأمبريالية على نحو عام، فإننا سنلاحظ أن أورويل، طيلة مدة الإقامة، كان منشغلا بالتطورات السياسية التي تجري في أوروبا في أفق انفجار الحرب العالمية الثانية، أكثر من اهتمامه بما يجري في المغرب، وأن احتكاكه بالمغاربة كان شبه منعدم. إن الرسائل التي بعث بها هو وزوجته لأصدقائهما على نحو منتظم تكشف أنهما لم يتمكنا قط من الارتفاع بوعيهما إلى مستوى إدراك سياسي عميق لحالة المغاربة ومآسيهم اليومية مع الفقر والتخلف والتسلط الاستعماري: كان هنالك حجاب يحول بينهما وبين ذلك حجاب غامض هو مزيج من المرض والتأفف والنظرة الجزئية والاعتكاف على الذات من خلال الكتابة وانتظار العودة بفارغ صبر.
* عن:
جورج أورويل .. الاعتكاف على الذات من خلال الكتابة
من الصعب أن نجيب بالإيجاب أو النفي، خاصة وأننا نعلم أن الكاتب لم يكن يعرف عن المغرب شيئا، عدا ما سمعه، وهو في كاتالونيا أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، عن شراسة الفيلق المغربي الذي كان يقاتل مع فرانكو ضد الشرعية الجمهورية. يؤكد هذا أن أورويل، حين قرر الذهاب إلى المغرب، اتصل بأحد معارفه، وكان كتبيا، يطلب منه بعض الوثائق الجغرافية والتاريخية واللسانية المتعلقة بهذا البلد.
في شهر أبريل من سنة 1938، تدهورت حالة أورويل الصحية إذ عاوده داء السل. وفي نهاية فترة استشفائه بالمصحة، نصحه الأطباء بأن يختار مكانا للنقاهة أدفأ وأكثر جفافا من جنوب فرنسا، واقترحوا عليه التوجه إلى المغرب. لم يكن مستوى العيش باهظا هناك، لكن الذهاب والعودة بحرا عبر المحيط الأطلسي كان يتطلب مصاريف ليست هينة خاصة وأن أورويل كان مضطرا إلى عدم السفر برا عبر إسبانيا، بسبب مواقفه المعروفة من الحرب الأهلية الإسبانية والنظام العسكري.
شرعت زوجته (إيلين) في الإعداد للإبحار إلى جبل طارق في شهر شتنبر، بيد أنهما لم يكونا قد حددا بالضبط ما ينبغي أن يفعلاه بعد الوصول إلى الصخرة. فقبل أسبوع فقط من مغادرتهما إنجلترا تحدث أورويل إلى أحد أصدقائه قائلا: «لقد حجزنا إلى غاية جبل طارق، ومن هناك إلى الدار البيضاء، بعد ذلك لا نعرف بالضبط ماذا سنفعل: قد نتوجه إلى جبال الأطلس. إن معلوماتنا الجغرافية عن المنطقة محدودة جدا، بحيث كنا أنا وزوجتي نظن أن مغرب الحماية الفرنسية يطل على البحر الأبيض المتوسط والحال أنه يطل أيضا، وبصفة أساسية، على المحيط الأطلسي». وبما أنه كان في حاجة إلى معرفة أدق بالبلد الذي يقصده، فقد استفسر أحد معارفه عما إذا كان يتوفر على نسخة من دليل «بيديكير Baedeker» السياحي عن المغرب، فضلا عن خرائط، مع معجم صغير ومبسط للدارجة المغربية. لقد كان أورويل يعرف أن فرنسيته المحدودة سوف تسهل له التعامل نسبيا مع الناس في المغرب، لكن بما أنه كان يفكر في الإقامة بضعة أشهر، فقد عزم القيام بمجهود معين لتعلم لغة المغاربة.
الصعود لاستنشاق الهواء
لم يترتب عن الإقامة الطويلة لجورج أورويل في مصحة «برستون هول» في مدينة «كنت» بإنجلترا تحسن ملحوظ في حالته الصحية، لكن الإقامة مكنته، بصفة عامة، من استرداد بعض عافيته ومن أن يستريح من العمل المرهق في الإذاعة البريطانية أكثر مما كان سيفعل لو مكث في بيته. وحينما كانت أوربا. تقترب من الحرب العظمى الثانية بخطى حثيثة، غادر هو وزوجته إلى المغرب. كانت أزمة ميونيخ قد بدأت ترخي بظلالها القاتمة على أوربا، وفي نهاية شهر شتنبر أعلن هتلر مطالبه التوسعية في الأراضي التشيكية ، فشرع العالم في التخوف من أن الحرب أصبحت لا محالة وشيكة. وأثناء الشهور الستة التي قضاها أورويل في المغرب ، كان يتتبع الأحداث العالمية عن كثب ، لكنه كان منشغلا أيضا بكتابة روايته «coming up for air» (الصعود لاستنشاق الهواء)، التي تجري بعض أحداثها في سنوات سابقة تماما على ثلاثينيات القرن الماضي. وحين كانت أوربا في معظمها منشغلة بالاستعداد لحرب شاملة ، طويلة الأمد، كان أورويل يخلد إلى الراحة في فيلا صغيرة خارج مراكش حيث كان يتخيل، وهو يكتب روايته، مشاهد جميلة عن السهول المجاورة لنهر التاميز، ويتذكر علاقات مستقرة تنتمي إلى العالم الذي عايشه أثناء طفولته.
وصل أورويل وإيلين إلى المغرب يوم حادي عشر شتنبر، مرهقين من السفر الطويل الذي قادهما من (تيليوري) إلى (جبل طارق)، ثم من عبور البوغاز نحو طنجة في يوم كان البحر شديد الهيجان والتيارات البحرية بالغة التقلب، بحيث كان على جورج أن يتناول عقار «فاسانو» الألماني المضاد للغثيان عدة مرات. وروت زوجته في بعض رسائلها أن تأثير العقار على زوجها كان جيدا حيث إنه كان يتجول على ظهر الباخرة دون أن يتأثر لمشهد بقية المسافرين وهم يتقيؤون بين الفينة والأخرى.
امتطيا في طنجة قطارا يقصد الدار البيضاء، ومن هناك توجها إلى مراكش التي وصلاها بعد يومين. كان الجو قائظا جدا، ولم يكن الفندق الذي حلا به ليلتهما الأولى ليثير فيهما أي طمأنينة: فلقد أدركا في ما بعد أنه كان في الحقيقة ماخورا. كان عليهما أن يمكثا هناك بعضا من الوقت، إلى أن أتيحت لهما فرصة الانتقال إلى مكان أكثر راحة وهدوءا هو فيلا (مدام فيلا) داخل مراكش، قبل أن يفكرا بعد شهر في الانتقال إلى «فيلا سيمونت» التي تبعد عن المدينة ببضعة كيلومترات. كانت الفيلا تقع وسط حقل برتقال، ولم يكن بها أثاث كثير، لكن مساحتها كانت كافية ليعيش فيها شخصان: كانت هناك غرفتان، وحمام ومطبخ وقاعة استقبال واسعة، فضلا عن حجرة فوق السطح استعملها جورج أورويل كمكتب له. وقد حاول الزوجان أن يواصلا في ذلك المكان نمط حياتهما المعتادة فشرعا في تعهد بستان صغير، ثم اقتنيا ماعزا ودجاجا ليطعما ويشربا مما ينتجان.
منذ بداية إقامته دهش أورويل لمنظر الأماكن المحيطة بمقر إقامته في مراكش والتي كانت تتسم بالجدب والاستيحاش، فضلا عن الفقر الذي يعشش في طرقات المدينة ودروبها. كان الوضع برمته يثير ابتئاسه إلى درجة أنه بعد مرور بضعة أسابيع على وصوله شرع يفكر جديا في شد رحال العودة إلى إنجلترا، ثم لم يمض إلا شهران حتى أحس بأن المجيء إلى المغرب برمته كان مضيعة للوقت والمال، فضلا عن الجهد. لم يدرك إذ ذاك أن الطقس كان سيدفع حالته الصحية إلى التحسن ، وكان يحس بملل ثقيل إزاء كل ما يشاهده من بؤس وفقر. في تلك الأثناء كتب إلى أحد أصدقائه يقول: «إن المغرب بلد ممل، فلا غابات ولا حيوانات متوحشة. الناس في المدن الكبرى أفسدتهم السياحة، ونظرا لفقرهم، تحولوا جميعا إلى سلالة من المتسولين وتجار الغرائب المبتذلة». كان الفقر على نحو خاص يثير حزن أورويل الشديد. ومع مرور الوقت والتأمل تمكن من إدراك أن السكان المغاربة كانوا يعيشون في أدنى درك، بينما استولى الفرنسيون على أفضل الأراضي وشرعوا يستغلون خيراتها بشره فظيع. هكذا اضطر العديد من المغاربة إلى فلاحة أراض زراعية صغيرة جدا، وجدباء، بواسطة عُدة قديمة تنتمي إلى تاريخ غابر، كما كانوا يعانون، داخل المدن، من ارتفاع حاد في نسبة انتشار الأمراض المعدية، فإذا قضوا نحبهم، نتيجة لذلك، دفنوا في قبور صغيرة. لقد سجل أورويل انطباعاته عن عملية دفن شاهدها، فكتب:
«جنازات المغاربة هنا هي أفظع ما شاهدته، فالميت يُحمل من طرف أصدقائه وأقاربه على نعش خشبي فظ، ملفوفا في خرقة من نسيج... تحفر في الأرض حفرة لا يتعدى عمقها قدمان، فتحشر فيها الجثة دون أن يوضع عليها شيء سوى كومة من تراب مع وضع قطعة من آجر حيثما يوضع رأس الهالك».
ذباب يقتفي جنازة
وروت إيلين في بعض رسائلها أنه بينما كانت هي وجورج يتناولان طعامهما في أحد المطاعم ذات يوم إذ مرت جنازة «فغادر الذباب المطعم على حين غرة لبضع دقائق كانت كافية له لأخذ عينات مجزية من الجثة العابرة». ومع أن إيلين لم تجد منظر مراكش موحشا مثل زوجها، فإنها تسرعت في بادئ الأمر فعبرت عن شعورها بأن العيش في مدينة السبعة رجال «قاتل لا يحتمل». لقد أعجبت بهندسة الأقواس والأسوار التي تتخلل دروب المدينة العتيقة، كما أثار انتباهها جمال الأطفال السمر الذين يملؤون تلك الدروب حيوية ونشاطا، بيد أنها لم تخف امتعاضها من الروائح القذرة المنبعثة من الزوايا، ولا من الأوساخ التي تطارد حركات الأطفال وخطاهم. وعندما استطابت ذات مساء رؤية مشهد غروب رائع، جاء جورج ليحدثها بأن الشمس تغرب في الواقع فوق مقبرة وأن المشهد الجميل «يهيمن عليه دود غير مرئي». رغم كل ذلك، كانت إيلين تشعر، مندهشة أحيانا، بأن زوجها يفكر في البقاء في مراكش مهما حدث. وفي أحيان أخرى كانت هي بدورها تحس أن ظروفا حسنة قد ساقتهما للإقامة هناك، وأنها في أعماقها ممتنة لذلك.
مع حلول شهر دجنبر، تدهورت حالة جورج الصحية ثم أخذ المرض بتلابيب إيلين أيضا ، وفي الوقت نفسه تقريبا. لم يكن الماء الذي يرتويان منه في الفيلا جيدا، لذا أصيب كلاهما باضطرابات معدية متواترة خلال شهري أكتوبر ونونبر، تجلت في شكل صداع وحمى. هكذا لازم جورج الفراش أسبوعا كاملا، لكنه كان يحاول إيهام زوجته بأن العلة بسيطة ، وبأنه سرعان ما سيعود إلى مواصلة كتابة روايته التي كان بصدد الاشتغال عليها.
وعندما تحسنت حالة الزوجين الصحية، أنهى جورج الصيغة الأولى من «الصعود لاستنشاق الهواء» فغادرا مراكش في اتجاه جبال الأطلس وبعض القرى الأمازيغية المنتشرة عليها لقضاء عطلة هناك. أعجب جورج إعجابا بما يرى، خاصة عندما بلغ ذرى ترتفع عن السهل خمسمائة قدم، حيث شاهد شعابا متعرجة عميقة تتجمد فيها كتل ناصعة من الثلج. حل الزوجان بأحد الفنادق ب«تدرت»، وهناك شرع أورويل في تدوين ملاحظات عن إقامته المراكشية ستتحول إلى روبورتاج نشر في ما بعد في أحد أعداد مجلة «New Writing (كتابات جديدة). كانت الجولة قصيرة زمنيا لكن الزوجين عادا منها وشعور بالانتعاش يغمرهما. وإذا كان هناك من شيء أثار انتباه الكاتب خلال هذه الرحلة فهو منظر النساء البدويات: لقد بدت له ملامحهن بالغة الإثارة، خاصة عيونهن حيث يتجلى سواد حاد.
بدأ جورج أورويل روبورتاجه «مراكش» بالحديث عن موكب جنازة فقيرة، يطاردها الذباب، ثم ينتقل إلى وصف طريقة الدفن والقبر الذي يترك بدون أية علامة. ويلاحظ الكاتب أن الناس في المدن التي تنتمي إلى إمبراطوريات استعمارية، لا يتوفرون على سحنات مميزة مثل القبور التي تطويهم عندما يقضون نحبهم بعد حياة كئيبة. وبعد رواية حادث إطعامه غزالا في إحدى الحدائق العامة وكيف أنه لم ينتبه إلى وجود فتى جائع جاء يلتمس منه السماح له بجمع فتات الخبز الذي أطعم منه الغزال، وصف الكاتب تجوله عبر ملاح اليهود حيث تأفف من مستوى عيشهم، وطول يوم عملهم، واستغرب من الإشاعات التي تنعت تسلطهم على الاقتصاد دون رحمة ، كما عبر عن دهشته من إقبالهم عليه يطلبون السجائر بإلحاح ، لكنه تنفس الصعداء قائلا: «إن أفضل شيء هو أن هتلر غير موجود هنا». ويتحدث عن عمل الفلاحين وسحناتهم فيلاحظ أن لون وجوههم كلون التربة، ذلك اللون الذي «.. يحول دون ملاحظة فقرهم وبؤسهم»، قبل أن يبرز أن أرض مراكش مقفرة وقاحلة، وأن الحرث بدائي، والماء نادر، والنساء يشقين من عمل متعب يحولهن في النهاية إلى شبه عجائز فانيات، ومن معاملة الرجال لهن على نحو مهين شبيه بمعاملتهم للدواب التي تحَمَّل فوق طاقتهم. في النهاية يصف أورويل مشهد مرور طابور سينغالي، وكيف رمقه أحد الجنود بخجل غريب وغير مفهوم، قبل أن يتساءل عما إذا كان الرجل الأبيض مطمئنا إلى أن سكان المستعمرات سيظلون دائما أذلاء، وطوع بنان السلطات الأجنبية التي تستعبدهم دون رحمة .
هتلر غير موجود هنا
لقد استعمل جورج أورويل في روبورتاجه المذكور ما شاهده في مراكش، مفتتحا إياه بمشهد ذباب المطعم الذي تلاشى لحظة مغيرا موقعه، وذلك حين مرور إحدى الجنازات. ويمكن القول إن الموضوع الرئيسي للروبورتاج هو، للمفارقة، «غياب» الفقر. إن مظاهر الفقر، من جهة، واضحة للعيان، بما ينطوي عليه الفقر من قذارة وأسمال بالية وعاهات وجثث، لكن أورويل كان يدرك أن هذه المظاهر تتحاشى السلطات الاستعمارية، التي تستطيع تحسين أوضاع الفقراء، النظر إليها. وتشكل المقابر الدليل الساطع على ذلك: فبما أن القبور واطئة وغير معلمة في الغالب، فإن المشي فوقها يتكرر بين آونة وأخرى. وإذا كان الفقراء الأحياء نساء ورجالا لا يثيرون اهتماما لدى الأوربيين، فإن عظام أمواتهم تثير في هؤلاء ذعرا غريبا :«يخرجون من الأرض، فيكدحون ويشقون، ويقاومون الجوع الممض بضعة أعوام، ثم يختفون تحت أكوام من تراب مقبرة ليس لها اسم أو عنوان. يرحلون في صمت فلا يفطن إلى رحيلهم أحد، بل إن قبورهم نفسها سرعان ما تضمحل وتتلاشى تدريجيا حتى تسوى بالأرض».
لم يكن أورويل يزعم أن الفرنسيين هم فقط من تجاهل إنسانية تلك الأشكال البشرية الفقيرة التي تكتظ بها الممرات والطرق في المدينة العتيقة، بل أنحى باللائمة على نفسه أيضا. ويروي الكاتب في روبورتاجه أنه كان ذات يوم يطعم ظبية في إحدى الحدائق ا لعمومية خبزا، فاقترب منه عامل جائع وطلب منه بعضا من ذلك الخبز. ويلاحظ أورويل أن العامل لم يكن مرئيا بالنسبة إليه في بداية الأمر، وأنه لم يعد مرئيا إلا حين اقترب من مجاله البصري وأصبح من الحيوان قاب قوسين أو أدنى .
ولعل أفضل لحظات الروبورتاج تتمثل في انتقال صوت الكاتب من الوصف إلى التساؤل. ففي نهاية النص يصف أورويل مرور فيلق من الجيش الاستعماري مؤلف في معظمه من أفارقة سود يمشون راجلين وهم يطيعون أذلاء أوامر ضباطهم البيض الذين يركبون متون خيل مطهمة. إذ ذاك يتوجه صوت الراوي إلى القارئ مباشرة حيث يتساءل :«إلى متى نظل نضحك على ذقون هؤلاء الناس؟ وكم يلزم من الوقت قبل أن يصوبوا فوهات بنادقهم في الإتجاه الآخر؟». يشعر القارئ بأنه من الصعب عليه أن يتجاهل هذا الصوت الإنساني، فهو يخرجه عنوة من انسياقه للوصف المُغرب ليطلب منه أن يتأمل، لحظة فقط، هؤلاء الأشخاص الذين فقدوا وجوههم، والذين يشكلون العمود الفقري للجيوش والحشود اللامرئية في المدن الاستعمارية. فهل كان أورويل، بحدسه الملتبس، يدرك أن اليوم الذي سيطلب فيه هؤلاء من الرجل الأبيض أن ينظر إليهم
قريب؟
بعد انقضاء ستة أشهر ونيف، عيل صبر جورج وزوجته فقررا مغادرة مراكش والعودة إلى بلادهما. هكذا امتطيا في أواخر مارس 1939، متن سفينة يابانية ، حملتهما من الدار البيضاء إلى إنجلترا حيث وضع الكاتب كلمة الختام لروايته «الصعود لاستنشاق الهواء». من الواضح أن إقامته في مراكش لم تستطع أن تجد لها مكانا في تجربته الفكرية والأدبية على نحو ما فعلت إقامة «إليا كانيتي» و»خوان غويتيصولو» في المدينة نفسها. وإذا استثنينا الروبورتاج الذي يبرز ميولاته المضادة للأمبريالية على نحو عام، فإننا سنلاحظ أن أورويل، طيلة مدة الإقامة، كان منشغلا بالتطورات السياسية التي تجري في أوروبا في أفق انفجار الحرب العالمية الثانية، أكثر من اهتمامه بما يجري في المغرب، وأن احتكاكه بالمغاربة كان شبه منعدم. إن الرسائل التي بعث بها هو وزوجته لأصدقائهما على نحو منتظم تكشف أنهما لم يتمكنا قط من الارتفاع بوعيهما إلى مستوى إدراك سياسي عميق لحالة المغاربة ومآسيهم اليومية مع الفقر والتخلف والتسلط الاستعماري: كان هنالك حجاب يحول بينهما وبين ذلك حجاب غامض هو مزيج من المرض والتأفف والنظرة الجزئية والاعتكاف على الذات من خلال الكتابة وانتظار العودة بفارغ صبر.
* عن:
جورج أورويل .. الاعتكاف على الذات من خلال الكتابة