“إن السلبيات التي تواجه الترجمة قد تتمثل في عدم أخذها بجدية كعملية إبداعية وليس مجرد نقل نص من لغة إلي لغة آخري، إضافة إلي الاهتمام الفاتر الذي تلقاه الترجمة في بلدنا”.
بهذه الكلمات عبرت المترجمة الشابة يارا المصري عن جانب من رؤيتها لعملية الترجمة من خلال صفحتها علي “الفيس بوك”، والتي تحولت لنافذة تعرض من خلالها رأيها في عملية الترجمة وقضاياها باعتبارها واحدة من المترجمين الشباب الواعدين، وربما كانت قضية النشر وعلاقتها بالترجمة واحدة من القضايا الهامة التي علقت عليها يارا من خلال رؤيتها لعلاقة الناشر بالمترجم حيث تقول إنها لا تثق في الناشر الذي لا يمنح المترجم مكافأة حتي وإن كانت رمزية مقابل مجهوده في ترجمة العمل، أو يتعامل مع المترجمين باستعلاء، أو لا يلتزم بوعوده…أو يكون سببا في قتل العمل من خلال عدم عمل الدعاية الكافية ..أو يتبع مبدأ ” الشللية” في عمله ..
ورغم صغر سنها إلا أن يارا تمكنت في غضون سنوات قليلة من ترك بصمة بارزة في عالم الترجمة، وربما يرجع ذلك لتخصصها في لغة يصعب وجود مترجمين أكفاء فيها وهي اللغة في مدينة جينان بالصين. وربما يرجع أيضا لغزارة إنتاجها وتخصصها في الترجمة الأدبية حيث صدر لها العديد من الترجمات ونشرت قصصاً ونصوصاً شعرية ودراسات في مجلات وصحف منها مجلة العربي، جريدة الأهرام، مجلة دبي الثقافية، أخبار الأدب.
وقد صدر لها أول كتاب مترجم عن الصينية “العظام الراكضة” ( مجموعة قصصية، للكاتبة الصينية: آشه) عن دار الحكمة للإعلام والثقافة في 2015، ورواية “الفرار في عام 1934” للكاتب سوتونغ الحائز علي جائزة البوكر الآسيوية عام 2009 عن دار الصدي ذ مجلة دبي الثقافية في 2015، كما قامت بترجمة مجموعة قصصية بعنوان “الرياح التي تهب إلي الشمال” للكاتبة الصينية بينغ يوان، وتعمل حالياً علي ترجمة رواية “الذواقة” ضمن مشروع سلسلة الجوائز الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب.
كما ترجمت يارا أيضا العديد من القصص القصيرة المنفردة ومنها ” أبي وأمي” للكاتبة فانغ جي، و”ستارة جدتي” للكاتب لينغ تشين، و”الابتسامة الأكثر بطئاً في العالم” للكاتبة بي شو مين، و”كوب من الماء” للكاتب تشو هوا تشنغ، و”الأفكار المحفوظة في صندوق” للكاتب يانغ هان قوانغ، و”الباب الأبدي ” للكاتب شاو باو جيان ، و” وقت مستقطع للاستمتاع” للكاتب تسوي لي، و”عش الطائر” للكاتبة ليو لين يينغ، و”مُربّي البط ” لمويان .. وغير ذلك، كما قامت بترجمة عدد من القصائد لكل من الشاعر الصيني “بي داو”، و”خاي زي” ، و”فينغ تشي” .. وغيرها
التقينا بالمترجمة الشابة يارا المصري وكان لنا معها هذا الحوار
ما الذي جذبك في الأساس لاختيار اللغة الصينية كمجال للدراسة؟
رغبت في البداية بدراسة الجيولوجيا في كلية العلوم، ثم اخترت كلية الآداب بعد تخرجي من الثانوية العامة، وفي النهاية اتفقت مع والدي علي دخول كلية الألسن، ودراسة اللغة الصينية، كان اقتراح والدي.
بعد اختيار اللغة الصينية، ما هي الصعوبات التي واجهتك وتختلف عن اللغات الأخري؟
هذا السؤال يعني أنني تعلمت لغات أخري غير الصينية، وهذا نسبياً صحيح، فأنا أتقن اللغتين العربية والإنجليزية من الدراسة والقراءة، لكن الصعوبة بالنسبة لي كمترجمة تبقي في اللغة التي أترجم عنها وهي اللغة الصينية، وهذه الصعوبة ستظل قائمة بالنسبة لي ولأي مترجم عن أي لغة، طالما اللغات تتطور وتدخلها ألفاظ جديدة وتتغير دلالات بعض ألفاظها القديمة، إن تركيزي في الحقيقة في الترجمة هو علي اللغة الصينية.
هل بدأتِ حياتك العملية بالترجمة الأدبية أم كانت هناك محاولات سابقة؟
نعم بدأت بالترجمة الأدبية، وإن كنت بعد ذلك وبالموازاة مع الترجمة الأدبية، أترجم أحياناً مقالات لها طبيعة ثقافية، ثمة مقال ترجمته أخيراً عن الجمل ذي السنامين في الصين، والذي كان معرضاً للانقراض، كونه يعيش في منطقة تجارب نووية، لكن عثر علماء علي بعض هذه الجمال ويقومون حالياً برعايتها. ونُشر هذا المقال أخيراً في مجلة تُعني بالإبل وتصدر في أبوظبي.
للترجمة الأدبية صعوباتها التي تضاف لصعوبات الترجمة فكيف واجهتِ تلك الصعوبات؟
من أكثر صعوبات الترجمة الأدبية عدم توافر قاعدة بيانات محددة ومعلومات كما الحال في مجالات الترجمة الأخري، إلي جانب ذلك، مترجم الأدب يعتمد علي نفسه اعتماداً كلياً علي محاورة مؤلف العمل من خلال قراءته للعمل عدة مرات، والاستعانة بالدراسات والمقالات التي كُتبت حول العمل إذا استدعي الأمر، وتخيل الأحداث، والبحث عن الخلفية التاريخية والثقافية للعمل المراد ترجمته. وقد ساعدتني القراءة أولاً وأخيراً علي التغلب علي تلك الصعوبات، وقراءة الأدب تحديداً. كما أنني أقرأ العمل أولاً مرتين علي الأقل، وأقرأ تعريفاً مفصلاً عن الكاتب، وفي أحيان كثيرة أبحث عن فيديوهات لأستمع إلي الكاتب أو الشاعر في مؤتمر أدبي مثلاً أو في حوار تلفزيوني، كما فعلت حين ترجمت قصائد للشاعر الصيني “بي داو” والكاتب الصيني “سوتونغ”. كما أنني أعطي العملَ حقه في البحث والدراسة والإلمام بكل ما كُتب عنه كما فعلت مع الكاتب الصيني “لو وين فو” في رواية “الذوَّاقة” التي انتهيت من ترجمتها مؤخراَ. كما أن القدرة علي تخيل أحداث العمل، وتخيل الألوان وطريق التعبير والحديث.. إلخ مهم جداً في الترجمة الأدبية، لأنها قائمة بالأساس علي مخيلة شخص.
وهل تجدين اختلافات جوهرية في التعامل مع نوع أدبي دون آخر يعني هل تختلف ترجمة الرواية عن القصص القصيرة؟
لا أستطيع الجزم من خلال ترجمة الرواية والشعر والقصة القصيرة والدراسات بأن هناك اختلافات جوهرية في الأنواع الأدبية وإن كانت مختلفة بالطبع من حيث البناء والتركيب، الرواية أحداثها متتابعة مليئة بالتفاصيل وقد يُدمج بها أبياتٌ من الشعر أو إشارةٌ إلي أسطورةٍ ما أو أمثالٌ وغير ذلك. أما القصة القصيرة فمركزة وأيسر نوعاً ما، ثم بعدها تأتي ترجمة الشعر، وهي صعبة بعض الشيء، لأنك تحاولين بقدر الإمكان الاقتراب والتماس مع الصورة والمعني الذي يريد الشاعر إظهاره في القصيدة. في النهاية يختلف كل نوع أيضا من حيث أسلوب الكاتب وطريقة تعبيره عن موضوع ما.
ولكن ما هي أكثر النصوص التي وجدتِ صعوبة في ترجمتها؟
أكثر النصوص التي كانت مرهقة نوعاً ما في ترجمتها كانت رواية “الذوَّاقة”، علي الرغم من أنها رواية قصيرة، ولكنها رواية معقدة إلي حدٍّ ما، مليئة بالتفاصيل التاريخية واللهجة المحلية للجنوب الصيني، بالإضافة إلي الشعر الصيني الكلاسيكي. أما أحب النصوص بالنسبة لي فهي رواية “الفرار في عام 1934” للكاتب سوتونغ، لأنني قرأت لهذا الكاتب بعض الأعمال ويعتبر من الكتاب الذين أود ترجمة أعماله الكاملة في يوم من الأيام، كما أنني أميل إلي هذا النوع والأسلوب في الكتابة.
لماذا اخترتِ رواية “الذوَّاقة” بالرغم من صعوبتها في الترجمة كما قلتِ؟ وكذلك رواية الفرار في عام 1934؟
تُعَدُّ رواية “الذوَّاقة” أهم عمل للكاتب الصيني “لو وين فو” وقد نُشرت لأول مرة عام 1983 في العدد الأول من مجلة “الحصاد”. وتدور أحداث الرواية في مدينة سوجو جنوب الصين، وهي مدينة مشهورة بجمال الطبيعة وأماكنها الترفيهية، ومعروفة كذلك بمطبخها الشعبي الغني. وتحكي الرواية عن العلاقة بين أحد الأثرياء الذي يحبون تناول الطعام ويعمل كذوَّاقة وهو تشو زي تشي، وبين أحد المشاركين في الثورة الذي يعمل جاهداً لتنفيذ أهدافها والبعد عن البذخ والإسراف وهو قاو شياو تينغ.
وهي رواية ثرية ، وقد بدأ “لو وين فو” عام 1955 مسيرته الأدبية والتي استمرت أكثر من خمسين عاماً، وبعد أن نشر رواية “الذوَّاقة” عام 1983، افتتح “لو وين فو” مطعم “ذاوَّقةُ سوجو القديمة”، ليقدم في مطعمهِ مأكولات سوجو التقليدية، كوسيلةٍ لتحقيقِ فكرته المثاليةِ عن الطعام الجيد، وكان معروفاً في الوسط الأدبي الصيني باشتغاله في أعمال المطاعم.
أما المشترك بين تلك الرواية ورواية “الفرار في عام 1934” هو التاريخ الصيني الحديث، الثورة، المجاعة، البؤس الإنساني.. حيث تعالج رواية “الذوَّاقة” هذا الموضوع من زاوية “الطعام والجوع” بينما تعالجه رواية “الفرار في عام 1934” من زاوية “تفشي الوباء ورحيل الرجال عن القري إلي المدينة وترك النساء لمواجهة مصائرهن” وأهمية الروايتين تأتي من القدرة علي الإبداع استناداً إلي التاريخ كما لو كان حاضراً مستمراً نعيشه، وهو ما نلمسه في مصر مثلاً حيث البؤس والمرض والثورة علي اختلاف المكان والزمن والظروف.
هناك دائما إشكاليات في الترجمة تتعلق بالفجوات الثقافية واللغوية والدينية؟ فما هي الآلية التي تتبعينها للتغلب علي تلك الصعوبات؟
من خلال القراءة الجادة والبحث والدراسة. ودائماً ما يواجه المترجم مثل هذه الفجوات بالطبع، سأضرب مثالاً واحداً:
في رواية “الذواقة” وردت جملة علي لسان سيدة باللهجة المحلية لجنوب الصين، سألت أصدقاء صينيين عن معني الجملة التي يمكن أن نقولها بالعامية المصرية كالآتي “يا سيد تشو، سمعت فين الكلام الفارغ ده، إحنا هنا مش بنعمل طبخات مشهورة، إحنا هنا بنعمل وجبات خفيفة وبنعملها لما بنكون زهقانين وعايزين نتسلي”
وكانت صياغتي للجملة بالعربية الفصحي في الترجمة كالآتي:
” يا سيد تشو، أين سمعت هذا الكلامَ الفارغ؟ نحن هنا لا نُعدُّ فقط أطباقاً مشهورة، بل وجباتٍ خفيفةً كذلك، كتسليةٍ حينما نكون ضَجرين.”
بالنسبة لي كان لا بد من صياغة الجملة بالفصحي، لتباين اللهجات المحلية العربية، وبالتالي تكون الفصحي البسيطة من وجهة نظري هي الحل المثالي لقراءتها في البلدان العربية المختلفة. وفي كل الأحوال يجب علي المترجم كما قلت أن يدرك أن الترجمة ليست نقلاً فقط من لغة إلي لغة وإنما هي “عمل ثقافي وإبداعي” إن جاز التعبير لأنها تتطلب بحثاً في مصادر مختلفة لإحياء النص في لغة غير لغته الأصلية.
ولكن هل ساعد وجودك في الصين خلال فترة دراستك علي فهم المجتمع الصيني وهل انعكس ذلك علي ترجمتك؟
بالتأكيد، الاحتكاك المباشر مع أهل اللغة التي يترجم عنها المترجم أمر مهم وضروري جداً، لأنه يساعد المترجم علي التعرف بشكل أكثر علي ثقافة أهل اللغة وعاداتهم علي أرض الواقع، وفهم لغتهم بشكل أكبر. وهذا بالطبع انعكس علي ترجمتي، فلولا السفر إلي الصين والدراسة هناك، والمجهود الذاتي في تعلم اللغة الذي كنت أبذله في فترات الصيف من خلال تحميل دروس بمستويات متعددة ودراستها، والدردشة مع الصينيين عبر الإنترنت والتعرف علي الطلبة الصينيين في مصر وتكوين صداقات، بالإضافة إلي سماع الراديو وقراءة المجلات والكتب ومشاهدة الأفلام والبرامج الصينية وغيرها، لما استطعت استيعاب اللغة بهذا الشكل، وبالتالي لم أكن لأستطيع الترجمة.
ذكرت أنك تعتمدين كثيرا علي بناء معارفك بالقراءة .. إذا فأنت تطبقين مقولة المترجم الجيد هو بالأساس قارئ جيد؟
بلا شك أن الترجمة هي فعل قراءة والمترجم بالأصل قارئ، وأنا لا أثق في المترجمين الذين لا يقرأون. شرط أساسي من شروط الترجمة برأيي هو المعرفة، والمعرفة لا تأتي إلَّا عن طريقة القراءة والبحث. وأنا عن نفسي قبل الشروع في ترجمة عمل ما، أهيئ نفسي بقراءة بعض الكتب أولاً، ثم أبدأ في خطة الترجمة التي أعددتها، كما أنني لا أتوقف عن القراءة خلال مرحلة الترجمة. إلي جانب ذلك، تفرض الترجمة وتجبر المترجم علي القراءة سواء شاء أم أبي. أذكر أنني عندما ترجمت إحدي القصص في المجموعة القصصية الأولي (العظام الراكضة)، اضطررت إلي قراءة ملف بالكامل عن اللؤلؤ حتي أستطيع استيعاب النص وتخيله، وحدث الأمر مرة أخري مع رواية (الذوَّاقة)، لقد قرأت مواد كثيرة عن مهنة الذوَّاقة وعن المدينة التي تدور فيها أحداث الرواية وغيرها. والآن أعمل علي ترجمة مختارات شعرية للشاعر الصيني الراحل (خاي زي)، وكانت إحدي قصائده عن فان جوخ، وقد حدث أنني أوقفت ترجمة القصيدة، وقرأت كتاباً عن حياة فان جوخ بالكامل، ثم عدت للترجمة. القراءة أمر مهم في عملية الترجمة، ولا أنصح أي مترجم بإهمالها أو الابتعاد عنها مهما حدث.
هل تختارين النصوص بنفسك؟ وما هي المعايير التي تحكم عملية ترجمة عمل دون آخر؟
نعم أختار النصوص بنفسي، في بعض الأحيان أتناقش مع أستاذي المترجم القدير الدكتور محسن فرجاني، لكن في أغلب الأحيان أختار النصوص بنفسي. بالنسبة لي، إن لم يُحدِث النص تأثيراً نفسياً وإن لم أتفاعل معه فلا أترجمه، هذا هو المعيار الأول لاختياري النصوص المترجمة، وأنا أعتقد أن هذا المعيار مهم للغاية في ترجمة الأدب بالذات، باعتبار مهمة الأدب (قصة، شعر، رواية، مسرحية وغيرها) هي إحداث تأثير ما لدي المرء وإمتاعه سواء أكان نصاً مبهجاً أو العكس. وفي بعض الأحيان يكون المعيار هو شهرة الكتاب داخل بلده أو في الخارج، ورغبة الناس في قراءة المزيد من النصوص، مثل قصة (مُربِّي البط) التي ترجمتها للكاتب مويان الحاصل علي جائزة نوبل للآداب عام 2012، أو راوية (الفرار في عام 1934) للكاتب سوتونغ الحاصل علي جائزة البوكر الآسيوية عام 2009. وأحيانا يكون المعيار البحث عن عمل أدبي ما يناسب أو يعكس ما يحدث في البلد من تحولات اجتماعية ونفسية واقتصادية، كرواية (الذوَّاقة) مثلاً. وأنا أهتم في المقام الأول بالكتاب الشباب، والنصوص غير المعروفة للكتاب المشهورين.
من وجهة نظرك من هم أهم الكتاب الصينيين الذين تركوا بصمات واضحة في الأدب الصيني؟
هناك العديد من الكتاب الصينيين المهمين بحيث لا يمكنني حصرهم ومنهم : لوشون، ولاوشه، وباجين، وسوتونغ، ومويان، وغاو شينجيان، ويو هوا، والكاتبة تيي نينغ، وجيا بينغ آو، ويو تشيو يو، والكاتبة جانغ آي لينغ، والكاتبة تشياو يي، والكاتب بي فيْ يو، ووالشاعر بي داو، الكاتب خان خان وغيرهم كثيرون.
أما أنا فبصورة عامة أفضل الكاتب سوتونغ، والكاتب يو هوا، والكاتبة تشياو يي، والكاتبة تيي نينغ، والكاتبة تشي لي والشاعر خاي زي والشاعر فينغ تشي.
ولكن هناك أعمالا أكثر شهرة أو تأثيراً في أدب كل دولة؟ مثل مائة عام من العزلة؟ أو ثلاثية نجيب محفوظ في مصر؟ ما هي الأعمال الصينية التي تذكر علي المستوي نفسه؟
في الحقيقة لا يمكن اختزال الأدب الصيني في عمل أو عملين، لأنه أدب غزير وممتد منذ آلاف السنين، ومن الصعب حصر الأعمال الإبداعية في عدة أعمال، ولكن بشكل عام هناك أعمال مؤثرة وأساسية ومعروفة لدي الكتاب الصينيين وغير الكتاب والمبدعين كذلك: الروايات الكلاسيكية الأربع “رحلة إلي الغرب”، “الممالك الثلاث”، “حافة الماء”، و”حلم المقصورة الحمراء”، التي وصفها الكاتب بورخيس بأنها رواية تشبه المتاهة، وتعتبر “إنجيل” الكتاب الصينيين. وهناك أيضاً كتاب “تعاليم كونفوشيوس”، وكتاب “سجلات التاريخ” الذي وضعه المؤرخ سيما تشيان “سيما كين”، وكتاب الأغاني. كما تعتبر أعمال كبير الأدباء الصينيين الراحل السيد لوشون من أهم الأعمال المؤثرة في الأدب الصيني، كذلك أعمال الكاتب باجين، ولاوشه، وغيرهم من الكتاب.
هل ترين أن الترجمة العكسية من العربية إلي الصينية لا تزال فقيرة؟ وهل الصين مطلعة علي الثقافة العربية؟
الصين مطلعة علي الثقافة العربية قدر ما تُرجم إلي اللغة الصينية، أو من خلال ترجمات وسيطة إلي اللغة الصينية، ولكن تظل الترجمات قليلة بالطبع مقارنة بما يترجم عن اللغة الانجليزية أو الروسية أو الإسبانية إلي اللغة الصينية.
ولكن هل هناك نقص بالتعريف بالأدب الصيني المعاصر في العالم العربي؟
هناك بالطبع نقص وقصور شديد في التعريف بالأدب الصيني في العالم العربي، تعرضت لذلك الموقف الذي قال لي فيه أحد الأصدقاء: “أي أدب صيني معاصر تتحدثين عنه؟”، ولا أستطيع أن أضع اللوم سوي علينا نحن كمترجمين وكمؤسسات للترجمة.
إذا كان الأدب الصيني بعيداً عن المجتمع العربي بسبب نقص الترجمة؟ فما هو وضع الأدب الصيني علي الصعيد العالمي؟
علي العكس تماماً، فالأدب الصيني حاضر بشكل قوي علي الساحة الأدبية العالمية، الأعمال الأدبية المترجمة والدراسات والأبحاث الشاملة عن اللغة الصينية والترجمة وفروع أخري. وأنا شخصياً أقرأ العديد من الدراسات المترجمة من اللغة الصينية إلي الإنجليزية
ما هي أشهر الأعمال العربية المعروفة في الصين؟ ولو كان بمقدورك اختيار أعمال لترجمتها للصينية فما هذه الأعمال؟
هناك العديد من الأعمال العربية التي ترجمت إلي اللغة الصينية، مثل كتاب “النبي” لجبران خليل جبران، وأعمال نجيب محفوظ، وكتاب “الأيام” لطه حسين، وكتاب “تاريخ الأدب العربي” لحنا الفاخوري، و”تاريخ الأدب العربي في مصر” للدكتور شوقي ضيف، و”الأدب الروائي والمسرحي في مصر” لأحمد هيكل، “كليلة ودمنة”، “مختارات من ألف ليلة وليلة”، والشعر العربي القديم، وقصيدة “البردة” لشرف الدين البوصيري، وأعمال لإحسان عبد القدوس، وتوفيق الحكيم، ويوسف السباعي ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي، وترجمت أعمال أيضاً لميخائيل نعيمة وجرجي زيدان وتوفيق يوسف عواد، كما ترجمت أعمال متفرقة لبعض الكتاب، منهم أسماء كبيرة في الأدب العربي الحديث، مثل أبو القاسم الشابي وغسان كنفاني وحنا مينا وعبد الحميد بن هدوقة وعبد المجيد بن جلون والطاهر بن جلون وأحمد إبراهيم الفقيه والطيب صالح وآسيا جبار وسعاد الصباح وليلي عثمان. وأعتقد أن التراث العربي أثبت وجوده في الصين عبر أجيال من المترجمين. ومع ذلك تري الصين أن مجهودها في الترجمة لايزال ناقصاً وتسعي إلي تأهيل مترجمين لترجمة أكبر قدر ممكن من الثقافة العربية وتعريف القارئ الصيني بها. وأعتقد أنه لو أتيحت لي فرصة ترجمة أعمال من العربية إلي الصينية فقد أختار رواية “فساد الأمكنة” لصبري موسي، أو قصص لمحمد إبراهيم مبروك، أو أهتم بشكل عام بترجمة الأدب العربي الذي يكتبه الشباب.
هناك أكثر من مؤسسة تهتم بالترجمة في العالم العربي، ومنها المركز القومي للترجمة في مصر ونظيره في تونس ومشروع كلمة في أبوظبي؟ هل تمكنت هذه المؤسسات من سد فراغ؟ وهل ثمة تعاون وتنسيق بين هذه المؤسسات؟
لا أعتقد أنها تمكنت من سد الفراغ، لأنه إلي الآن لا توجد خطة ومشروع جدي للترجمة عن اللغة الصينية بكل فروعها، ولا زالت الجهود فردية.
كيف تنظرين إلي وضع الترجمة في العالم العربي؟ وإشكاليات الترجمة المؤسسية من وجهة نظرك؟
من الصعب الإجابة علي سؤالٍ كهذا، لأنه يتطلب إحاطة كبيرة بكل ما تُرجم في الفترة الأخيرة، ولا يمكنني كمترجمة متخصصة في لغة تقديم إجابة دقيقة، هذا عمل باحثين في الغالب ويتطلب إحصائيات عن عدد الترجمات ومجالاتها والمؤسسات التي تبنتها ومدي أهمية كل ذلك بالنسبة لنا في مصر كأفراد أو كمؤسسات تعليمية وعلمية وجامعية. ولكن ينقصنا مؤسسات تتبني مشاريع الترجمة في مختلف المجالات بشكل جِدِّي، وتقوم بتأهيل وتدريب المترجمين، وإقامة ورش للترجمة بشكل دوري ومستمر، وتشجيع من لديه القدرة والموهبة علي الترجمة، ودعم المترجمين الجيدين بتشجيع أعمالهم المترجمة والدعاية لها وإعطاءهم حقهم في المكافآت، وإتباع سياسة نشر تناسب الطرفين. وبشكل عام تعاني مؤسسات الترجمة في مصر مما تعانيه المؤسسات الأخري، خاصة في فترة التحولات الأخيرة التي تمر بها مصر.
ولكن هل هناك قاعدة بيانات تساعد المترجم علي اختيار الأعمال التي يترجمها؟
حتي الآن كل مشاريع الترجمة هي جهود فردية، المترجم هو مَن يبحث عن الأعمال، وهو الذي يضع خطة للترجمة ويختار العمل، وفي كثير من الأحيان يتواصل مع دار النشر أو الكاتب للحصول علي حقوق الملكية، فشخصياً أعتقد أنه لا يوجد دعم كاف للمترجم إلي الآن، كما أنه لا توجد نقابة للمترجمين تدعمهم وتحافظ علي حقوقهم وترعي عملهم.
العمل الصيني الذي تتمني أن تترجميه؟
لا يوجد عمل بعينه أتمني ترجمته، لأنني كما ذكرت سابقاً لا أستطيع اختزال الأعمال الإبداعية الصينية في عمل أو عملين، ولكن بشكل عام، أتمني ترجمة الأعمال الكاملة للكاتب سوتونغ، والأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الصيني الراحل “خاي زي”، وإن كنت قد أنهيت ترجمة مجموعة من قصائده لتقديمها إلي القارئ العربي وللتعريف بهذا الشاعر، ولكن تظل ترجمة أعماله الشعرية الكاملة مشروعاً مهماً أود إنجازه. إلي جانب ذلك، يوجد العديد من الشاعرات والكاتبات الصينيات المعاصرات الذي أود تقديمهن كذلك للقراء، إلي جانب ترجمة بعض المقالات والدراسات المختصصة في الأدب الصيني المعاصر لسد ولو جزء بسيط جداً من الفراغ في تعريف القارئ والمهتم بالثقافة والأدب الصيني.
بهذه الكلمات عبرت المترجمة الشابة يارا المصري عن جانب من رؤيتها لعملية الترجمة من خلال صفحتها علي “الفيس بوك”، والتي تحولت لنافذة تعرض من خلالها رأيها في عملية الترجمة وقضاياها باعتبارها واحدة من المترجمين الشباب الواعدين، وربما كانت قضية النشر وعلاقتها بالترجمة واحدة من القضايا الهامة التي علقت عليها يارا من خلال رؤيتها لعلاقة الناشر بالمترجم حيث تقول إنها لا تثق في الناشر الذي لا يمنح المترجم مكافأة حتي وإن كانت رمزية مقابل مجهوده في ترجمة العمل، أو يتعامل مع المترجمين باستعلاء، أو لا يلتزم بوعوده…أو يكون سببا في قتل العمل من خلال عدم عمل الدعاية الكافية ..أو يتبع مبدأ ” الشللية” في عمله ..
ورغم صغر سنها إلا أن يارا تمكنت في غضون سنوات قليلة من ترك بصمة بارزة في عالم الترجمة، وربما يرجع ذلك لتخصصها في لغة يصعب وجود مترجمين أكفاء فيها وهي اللغة في مدينة جينان بالصين. وربما يرجع أيضا لغزارة إنتاجها وتخصصها في الترجمة الأدبية حيث صدر لها العديد من الترجمات ونشرت قصصاً ونصوصاً شعرية ودراسات في مجلات وصحف منها مجلة العربي، جريدة الأهرام، مجلة دبي الثقافية، أخبار الأدب.
وقد صدر لها أول كتاب مترجم عن الصينية “العظام الراكضة” ( مجموعة قصصية، للكاتبة الصينية: آشه) عن دار الحكمة للإعلام والثقافة في 2015، ورواية “الفرار في عام 1934” للكاتب سوتونغ الحائز علي جائزة البوكر الآسيوية عام 2009 عن دار الصدي ذ مجلة دبي الثقافية في 2015، كما قامت بترجمة مجموعة قصصية بعنوان “الرياح التي تهب إلي الشمال” للكاتبة الصينية بينغ يوان، وتعمل حالياً علي ترجمة رواية “الذواقة” ضمن مشروع سلسلة الجوائز الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب.
كما ترجمت يارا أيضا العديد من القصص القصيرة المنفردة ومنها ” أبي وأمي” للكاتبة فانغ جي، و”ستارة جدتي” للكاتب لينغ تشين، و”الابتسامة الأكثر بطئاً في العالم” للكاتبة بي شو مين، و”كوب من الماء” للكاتب تشو هوا تشنغ، و”الأفكار المحفوظة في صندوق” للكاتب يانغ هان قوانغ، و”الباب الأبدي ” للكاتب شاو باو جيان ، و” وقت مستقطع للاستمتاع” للكاتب تسوي لي، و”عش الطائر” للكاتبة ليو لين يينغ، و”مُربّي البط ” لمويان .. وغير ذلك، كما قامت بترجمة عدد من القصائد لكل من الشاعر الصيني “بي داو”، و”خاي زي” ، و”فينغ تشي” .. وغيرها
التقينا بالمترجمة الشابة يارا المصري وكان لنا معها هذا الحوار
ما الذي جذبك في الأساس لاختيار اللغة الصينية كمجال للدراسة؟
رغبت في البداية بدراسة الجيولوجيا في كلية العلوم، ثم اخترت كلية الآداب بعد تخرجي من الثانوية العامة، وفي النهاية اتفقت مع والدي علي دخول كلية الألسن، ودراسة اللغة الصينية، كان اقتراح والدي.
بعد اختيار اللغة الصينية، ما هي الصعوبات التي واجهتك وتختلف عن اللغات الأخري؟
هذا السؤال يعني أنني تعلمت لغات أخري غير الصينية، وهذا نسبياً صحيح، فأنا أتقن اللغتين العربية والإنجليزية من الدراسة والقراءة، لكن الصعوبة بالنسبة لي كمترجمة تبقي في اللغة التي أترجم عنها وهي اللغة الصينية، وهذه الصعوبة ستظل قائمة بالنسبة لي ولأي مترجم عن أي لغة، طالما اللغات تتطور وتدخلها ألفاظ جديدة وتتغير دلالات بعض ألفاظها القديمة، إن تركيزي في الحقيقة في الترجمة هو علي اللغة الصينية.
هل بدأتِ حياتك العملية بالترجمة الأدبية أم كانت هناك محاولات سابقة؟
نعم بدأت بالترجمة الأدبية، وإن كنت بعد ذلك وبالموازاة مع الترجمة الأدبية، أترجم أحياناً مقالات لها طبيعة ثقافية، ثمة مقال ترجمته أخيراً عن الجمل ذي السنامين في الصين، والذي كان معرضاً للانقراض، كونه يعيش في منطقة تجارب نووية، لكن عثر علماء علي بعض هذه الجمال ويقومون حالياً برعايتها. ونُشر هذا المقال أخيراً في مجلة تُعني بالإبل وتصدر في أبوظبي.
للترجمة الأدبية صعوباتها التي تضاف لصعوبات الترجمة فكيف واجهتِ تلك الصعوبات؟
من أكثر صعوبات الترجمة الأدبية عدم توافر قاعدة بيانات محددة ومعلومات كما الحال في مجالات الترجمة الأخري، إلي جانب ذلك، مترجم الأدب يعتمد علي نفسه اعتماداً كلياً علي محاورة مؤلف العمل من خلال قراءته للعمل عدة مرات، والاستعانة بالدراسات والمقالات التي كُتبت حول العمل إذا استدعي الأمر، وتخيل الأحداث، والبحث عن الخلفية التاريخية والثقافية للعمل المراد ترجمته. وقد ساعدتني القراءة أولاً وأخيراً علي التغلب علي تلك الصعوبات، وقراءة الأدب تحديداً. كما أنني أقرأ العمل أولاً مرتين علي الأقل، وأقرأ تعريفاً مفصلاً عن الكاتب، وفي أحيان كثيرة أبحث عن فيديوهات لأستمع إلي الكاتب أو الشاعر في مؤتمر أدبي مثلاً أو في حوار تلفزيوني، كما فعلت حين ترجمت قصائد للشاعر الصيني “بي داو” والكاتب الصيني “سوتونغ”. كما أنني أعطي العملَ حقه في البحث والدراسة والإلمام بكل ما كُتب عنه كما فعلت مع الكاتب الصيني “لو وين فو” في رواية “الذوَّاقة” التي انتهيت من ترجمتها مؤخراَ. كما أن القدرة علي تخيل أحداث العمل، وتخيل الألوان وطريق التعبير والحديث.. إلخ مهم جداً في الترجمة الأدبية، لأنها قائمة بالأساس علي مخيلة شخص.
وهل تجدين اختلافات جوهرية في التعامل مع نوع أدبي دون آخر يعني هل تختلف ترجمة الرواية عن القصص القصيرة؟
لا أستطيع الجزم من خلال ترجمة الرواية والشعر والقصة القصيرة والدراسات بأن هناك اختلافات جوهرية في الأنواع الأدبية وإن كانت مختلفة بالطبع من حيث البناء والتركيب، الرواية أحداثها متتابعة مليئة بالتفاصيل وقد يُدمج بها أبياتٌ من الشعر أو إشارةٌ إلي أسطورةٍ ما أو أمثالٌ وغير ذلك. أما القصة القصيرة فمركزة وأيسر نوعاً ما، ثم بعدها تأتي ترجمة الشعر، وهي صعبة بعض الشيء، لأنك تحاولين بقدر الإمكان الاقتراب والتماس مع الصورة والمعني الذي يريد الشاعر إظهاره في القصيدة. في النهاية يختلف كل نوع أيضا من حيث أسلوب الكاتب وطريقة تعبيره عن موضوع ما.
ولكن ما هي أكثر النصوص التي وجدتِ صعوبة في ترجمتها؟
أكثر النصوص التي كانت مرهقة نوعاً ما في ترجمتها كانت رواية “الذوَّاقة”، علي الرغم من أنها رواية قصيرة، ولكنها رواية معقدة إلي حدٍّ ما، مليئة بالتفاصيل التاريخية واللهجة المحلية للجنوب الصيني، بالإضافة إلي الشعر الصيني الكلاسيكي. أما أحب النصوص بالنسبة لي فهي رواية “الفرار في عام 1934” للكاتب سوتونغ، لأنني قرأت لهذا الكاتب بعض الأعمال ويعتبر من الكتاب الذين أود ترجمة أعماله الكاملة في يوم من الأيام، كما أنني أميل إلي هذا النوع والأسلوب في الكتابة.
لماذا اخترتِ رواية “الذوَّاقة” بالرغم من صعوبتها في الترجمة كما قلتِ؟ وكذلك رواية الفرار في عام 1934؟
تُعَدُّ رواية “الذوَّاقة” أهم عمل للكاتب الصيني “لو وين فو” وقد نُشرت لأول مرة عام 1983 في العدد الأول من مجلة “الحصاد”. وتدور أحداث الرواية في مدينة سوجو جنوب الصين، وهي مدينة مشهورة بجمال الطبيعة وأماكنها الترفيهية، ومعروفة كذلك بمطبخها الشعبي الغني. وتحكي الرواية عن العلاقة بين أحد الأثرياء الذي يحبون تناول الطعام ويعمل كذوَّاقة وهو تشو زي تشي، وبين أحد المشاركين في الثورة الذي يعمل جاهداً لتنفيذ أهدافها والبعد عن البذخ والإسراف وهو قاو شياو تينغ.
وهي رواية ثرية ، وقد بدأ “لو وين فو” عام 1955 مسيرته الأدبية والتي استمرت أكثر من خمسين عاماً، وبعد أن نشر رواية “الذوَّاقة” عام 1983، افتتح “لو وين فو” مطعم “ذاوَّقةُ سوجو القديمة”، ليقدم في مطعمهِ مأكولات سوجو التقليدية، كوسيلةٍ لتحقيقِ فكرته المثاليةِ عن الطعام الجيد، وكان معروفاً في الوسط الأدبي الصيني باشتغاله في أعمال المطاعم.
أما المشترك بين تلك الرواية ورواية “الفرار في عام 1934” هو التاريخ الصيني الحديث، الثورة، المجاعة، البؤس الإنساني.. حيث تعالج رواية “الذوَّاقة” هذا الموضوع من زاوية “الطعام والجوع” بينما تعالجه رواية “الفرار في عام 1934” من زاوية “تفشي الوباء ورحيل الرجال عن القري إلي المدينة وترك النساء لمواجهة مصائرهن” وأهمية الروايتين تأتي من القدرة علي الإبداع استناداً إلي التاريخ كما لو كان حاضراً مستمراً نعيشه، وهو ما نلمسه في مصر مثلاً حيث البؤس والمرض والثورة علي اختلاف المكان والزمن والظروف.
هناك دائما إشكاليات في الترجمة تتعلق بالفجوات الثقافية واللغوية والدينية؟ فما هي الآلية التي تتبعينها للتغلب علي تلك الصعوبات؟
من خلال القراءة الجادة والبحث والدراسة. ودائماً ما يواجه المترجم مثل هذه الفجوات بالطبع، سأضرب مثالاً واحداً:
في رواية “الذواقة” وردت جملة علي لسان سيدة باللهجة المحلية لجنوب الصين، سألت أصدقاء صينيين عن معني الجملة التي يمكن أن نقولها بالعامية المصرية كالآتي “يا سيد تشو، سمعت فين الكلام الفارغ ده، إحنا هنا مش بنعمل طبخات مشهورة، إحنا هنا بنعمل وجبات خفيفة وبنعملها لما بنكون زهقانين وعايزين نتسلي”
وكانت صياغتي للجملة بالعربية الفصحي في الترجمة كالآتي:
” يا سيد تشو، أين سمعت هذا الكلامَ الفارغ؟ نحن هنا لا نُعدُّ فقط أطباقاً مشهورة، بل وجباتٍ خفيفةً كذلك، كتسليةٍ حينما نكون ضَجرين.”
بالنسبة لي كان لا بد من صياغة الجملة بالفصحي، لتباين اللهجات المحلية العربية، وبالتالي تكون الفصحي البسيطة من وجهة نظري هي الحل المثالي لقراءتها في البلدان العربية المختلفة. وفي كل الأحوال يجب علي المترجم كما قلت أن يدرك أن الترجمة ليست نقلاً فقط من لغة إلي لغة وإنما هي “عمل ثقافي وإبداعي” إن جاز التعبير لأنها تتطلب بحثاً في مصادر مختلفة لإحياء النص في لغة غير لغته الأصلية.
ولكن هل ساعد وجودك في الصين خلال فترة دراستك علي فهم المجتمع الصيني وهل انعكس ذلك علي ترجمتك؟
بالتأكيد، الاحتكاك المباشر مع أهل اللغة التي يترجم عنها المترجم أمر مهم وضروري جداً، لأنه يساعد المترجم علي التعرف بشكل أكثر علي ثقافة أهل اللغة وعاداتهم علي أرض الواقع، وفهم لغتهم بشكل أكبر. وهذا بالطبع انعكس علي ترجمتي، فلولا السفر إلي الصين والدراسة هناك، والمجهود الذاتي في تعلم اللغة الذي كنت أبذله في فترات الصيف من خلال تحميل دروس بمستويات متعددة ودراستها، والدردشة مع الصينيين عبر الإنترنت والتعرف علي الطلبة الصينيين في مصر وتكوين صداقات، بالإضافة إلي سماع الراديو وقراءة المجلات والكتب ومشاهدة الأفلام والبرامج الصينية وغيرها، لما استطعت استيعاب اللغة بهذا الشكل، وبالتالي لم أكن لأستطيع الترجمة.
ذكرت أنك تعتمدين كثيرا علي بناء معارفك بالقراءة .. إذا فأنت تطبقين مقولة المترجم الجيد هو بالأساس قارئ جيد؟
بلا شك أن الترجمة هي فعل قراءة والمترجم بالأصل قارئ، وأنا لا أثق في المترجمين الذين لا يقرأون. شرط أساسي من شروط الترجمة برأيي هو المعرفة، والمعرفة لا تأتي إلَّا عن طريقة القراءة والبحث. وأنا عن نفسي قبل الشروع في ترجمة عمل ما، أهيئ نفسي بقراءة بعض الكتب أولاً، ثم أبدأ في خطة الترجمة التي أعددتها، كما أنني لا أتوقف عن القراءة خلال مرحلة الترجمة. إلي جانب ذلك، تفرض الترجمة وتجبر المترجم علي القراءة سواء شاء أم أبي. أذكر أنني عندما ترجمت إحدي القصص في المجموعة القصصية الأولي (العظام الراكضة)، اضطررت إلي قراءة ملف بالكامل عن اللؤلؤ حتي أستطيع استيعاب النص وتخيله، وحدث الأمر مرة أخري مع رواية (الذوَّاقة)، لقد قرأت مواد كثيرة عن مهنة الذوَّاقة وعن المدينة التي تدور فيها أحداث الرواية وغيرها. والآن أعمل علي ترجمة مختارات شعرية للشاعر الصيني الراحل (خاي زي)، وكانت إحدي قصائده عن فان جوخ، وقد حدث أنني أوقفت ترجمة القصيدة، وقرأت كتاباً عن حياة فان جوخ بالكامل، ثم عدت للترجمة. القراءة أمر مهم في عملية الترجمة، ولا أنصح أي مترجم بإهمالها أو الابتعاد عنها مهما حدث.
هل تختارين النصوص بنفسك؟ وما هي المعايير التي تحكم عملية ترجمة عمل دون آخر؟
نعم أختار النصوص بنفسي، في بعض الأحيان أتناقش مع أستاذي المترجم القدير الدكتور محسن فرجاني، لكن في أغلب الأحيان أختار النصوص بنفسي. بالنسبة لي، إن لم يُحدِث النص تأثيراً نفسياً وإن لم أتفاعل معه فلا أترجمه، هذا هو المعيار الأول لاختياري النصوص المترجمة، وأنا أعتقد أن هذا المعيار مهم للغاية في ترجمة الأدب بالذات، باعتبار مهمة الأدب (قصة، شعر، رواية، مسرحية وغيرها) هي إحداث تأثير ما لدي المرء وإمتاعه سواء أكان نصاً مبهجاً أو العكس. وفي بعض الأحيان يكون المعيار هو شهرة الكتاب داخل بلده أو في الخارج، ورغبة الناس في قراءة المزيد من النصوص، مثل قصة (مُربِّي البط) التي ترجمتها للكاتب مويان الحاصل علي جائزة نوبل للآداب عام 2012، أو راوية (الفرار في عام 1934) للكاتب سوتونغ الحاصل علي جائزة البوكر الآسيوية عام 2009. وأحيانا يكون المعيار البحث عن عمل أدبي ما يناسب أو يعكس ما يحدث في البلد من تحولات اجتماعية ونفسية واقتصادية، كرواية (الذوَّاقة) مثلاً. وأنا أهتم في المقام الأول بالكتاب الشباب، والنصوص غير المعروفة للكتاب المشهورين.
من وجهة نظرك من هم أهم الكتاب الصينيين الذين تركوا بصمات واضحة في الأدب الصيني؟
هناك العديد من الكتاب الصينيين المهمين بحيث لا يمكنني حصرهم ومنهم : لوشون، ولاوشه، وباجين، وسوتونغ، ومويان، وغاو شينجيان، ويو هوا، والكاتبة تيي نينغ، وجيا بينغ آو، ويو تشيو يو، والكاتبة جانغ آي لينغ، والكاتبة تشياو يي، والكاتب بي فيْ يو، ووالشاعر بي داو، الكاتب خان خان وغيرهم كثيرون.
أما أنا فبصورة عامة أفضل الكاتب سوتونغ، والكاتب يو هوا، والكاتبة تشياو يي، والكاتبة تيي نينغ، والكاتبة تشي لي والشاعر خاي زي والشاعر فينغ تشي.
ولكن هناك أعمالا أكثر شهرة أو تأثيراً في أدب كل دولة؟ مثل مائة عام من العزلة؟ أو ثلاثية نجيب محفوظ في مصر؟ ما هي الأعمال الصينية التي تذكر علي المستوي نفسه؟
في الحقيقة لا يمكن اختزال الأدب الصيني في عمل أو عملين، لأنه أدب غزير وممتد منذ آلاف السنين، ومن الصعب حصر الأعمال الإبداعية في عدة أعمال، ولكن بشكل عام هناك أعمال مؤثرة وأساسية ومعروفة لدي الكتاب الصينيين وغير الكتاب والمبدعين كذلك: الروايات الكلاسيكية الأربع “رحلة إلي الغرب”، “الممالك الثلاث”، “حافة الماء”، و”حلم المقصورة الحمراء”، التي وصفها الكاتب بورخيس بأنها رواية تشبه المتاهة، وتعتبر “إنجيل” الكتاب الصينيين. وهناك أيضاً كتاب “تعاليم كونفوشيوس”، وكتاب “سجلات التاريخ” الذي وضعه المؤرخ سيما تشيان “سيما كين”، وكتاب الأغاني. كما تعتبر أعمال كبير الأدباء الصينيين الراحل السيد لوشون من أهم الأعمال المؤثرة في الأدب الصيني، كذلك أعمال الكاتب باجين، ولاوشه، وغيرهم من الكتاب.
هل ترين أن الترجمة العكسية من العربية إلي الصينية لا تزال فقيرة؟ وهل الصين مطلعة علي الثقافة العربية؟
الصين مطلعة علي الثقافة العربية قدر ما تُرجم إلي اللغة الصينية، أو من خلال ترجمات وسيطة إلي اللغة الصينية، ولكن تظل الترجمات قليلة بالطبع مقارنة بما يترجم عن اللغة الانجليزية أو الروسية أو الإسبانية إلي اللغة الصينية.
ولكن هل هناك نقص بالتعريف بالأدب الصيني المعاصر في العالم العربي؟
هناك بالطبع نقص وقصور شديد في التعريف بالأدب الصيني في العالم العربي، تعرضت لذلك الموقف الذي قال لي فيه أحد الأصدقاء: “أي أدب صيني معاصر تتحدثين عنه؟”، ولا أستطيع أن أضع اللوم سوي علينا نحن كمترجمين وكمؤسسات للترجمة.
إذا كان الأدب الصيني بعيداً عن المجتمع العربي بسبب نقص الترجمة؟ فما هو وضع الأدب الصيني علي الصعيد العالمي؟
علي العكس تماماً، فالأدب الصيني حاضر بشكل قوي علي الساحة الأدبية العالمية، الأعمال الأدبية المترجمة والدراسات والأبحاث الشاملة عن اللغة الصينية والترجمة وفروع أخري. وأنا شخصياً أقرأ العديد من الدراسات المترجمة من اللغة الصينية إلي الإنجليزية
ما هي أشهر الأعمال العربية المعروفة في الصين؟ ولو كان بمقدورك اختيار أعمال لترجمتها للصينية فما هذه الأعمال؟
هناك العديد من الأعمال العربية التي ترجمت إلي اللغة الصينية، مثل كتاب “النبي” لجبران خليل جبران، وأعمال نجيب محفوظ، وكتاب “الأيام” لطه حسين، وكتاب “تاريخ الأدب العربي” لحنا الفاخوري، و”تاريخ الأدب العربي في مصر” للدكتور شوقي ضيف، و”الأدب الروائي والمسرحي في مصر” لأحمد هيكل، “كليلة ودمنة”، “مختارات من ألف ليلة وليلة”، والشعر العربي القديم، وقصيدة “البردة” لشرف الدين البوصيري، وأعمال لإحسان عبد القدوس، وتوفيق الحكيم، ويوسف السباعي ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي، وترجمت أعمال أيضاً لميخائيل نعيمة وجرجي زيدان وتوفيق يوسف عواد، كما ترجمت أعمال متفرقة لبعض الكتاب، منهم أسماء كبيرة في الأدب العربي الحديث، مثل أبو القاسم الشابي وغسان كنفاني وحنا مينا وعبد الحميد بن هدوقة وعبد المجيد بن جلون والطاهر بن جلون وأحمد إبراهيم الفقيه والطيب صالح وآسيا جبار وسعاد الصباح وليلي عثمان. وأعتقد أن التراث العربي أثبت وجوده في الصين عبر أجيال من المترجمين. ومع ذلك تري الصين أن مجهودها في الترجمة لايزال ناقصاً وتسعي إلي تأهيل مترجمين لترجمة أكبر قدر ممكن من الثقافة العربية وتعريف القارئ الصيني بها. وأعتقد أنه لو أتيحت لي فرصة ترجمة أعمال من العربية إلي الصينية فقد أختار رواية “فساد الأمكنة” لصبري موسي، أو قصص لمحمد إبراهيم مبروك، أو أهتم بشكل عام بترجمة الأدب العربي الذي يكتبه الشباب.
هناك أكثر من مؤسسة تهتم بالترجمة في العالم العربي، ومنها المركز القومي للترجمة في مصر ونظيره في تونس ومشروع كلمة في أبوظبي؟ هل تمكنت هذه المؤسسات من سد فراغ؟ وهل ثمة تعاون وتنسيق بين هذه المؤسسات؟
لا أعتقد أنها تمكنت من سد الفراغ، لأنه إلي الآن لا توجد خطة ومشروع جدي للترجمة عن اللغة الصينية بكل فروعها، ولا زالت الجهود فردية.
كيف تنظرين إلي وضع الترجمة في العالم العربي؟ وإشكاليات الترجمة المؤسسية من وجهة نظرك؟
من الصعب الإجابة علي سؤالٍ كهذا، لأنه يتطلب إحاطة كبيرة بكل ما تُرجم في الفترة الأخيرة، ولا يمكنني كمترجمة متخصصة في لغة تقديم إجابة دقيقة، هذا عمل باحثين في الغالب ويتطلب إحصائيات عن عدد الترجمات ومجالاتها والمؤسسات التي تبنتها ومدي أهمية كل ذلك بالنسبة لنا في مصر كأفراد أو كمؤسسات تعليمية وعلمية وجامعية. ولكن ينقصنا مؤسسات تتبني مشاريع الترجمة في مختلف المجالات بشكل جِدِّي، وتقوم بتأهيل وتدريب المترجمين، وإقامة ورش للترجمة بشكل دوري ومستمر، وتشجيع من لديه القدرة والموهبة علي الترجمة، ودعم المترجمين الجيدين بتشجيع أعمالهم المترجمة والدعاية لها وإعطاءهم حقهم في المكافآت، وإتباع سياسة نشر تناسب الطرفين. وبشكل عام تعاني مؤسسات الترجمة في مصر مما تعانيه المؤسسات الأخري، خاصة في فترة التحولات الأخيرة التي تمر بها مصر.
ولكن هل هناك قاعدة بيانات تساعد المترجم علي اختيار الأعمال التي يترجمها؟
حتي الآن كل مشاريع الترجمة هي جهود فردية، المترجم هو مَن يبحث عن الأعمال، وهو الذي يضع خطة للترجمة ويختار العمل، وفي كثير من الأحيان يتواصل مع دار النشر أو الكاتب للحصول علي حقوق الملكية، فشخصياً أعتقد أنه لا يوجد دعم كاف للمترجم إلي الآن، كما أنه لا توجد نقابة للمترجمين تدعمهم وتحافظ علي حقوقهم وترعي عملهم.
العمل الصيني الذي تتمني أن تترجميه؟
لا يوجد عمل بعينه أتمني ترجمته، لأنني كما ذكرت سابقاً لا أستطيع اختزال الأعمال الإبداعية الصينية في عمل أو عملين، ولكن بشكل عام، أتمني ترجمة الأعمال الكاملة للكاتب سوتونغ، والأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الصيني الراحل “خاي زي”، وإن كنت قد أنهيت ترجمة مجموعة من قصائده لتقديمها إلي القارئ العربي وللتعريف بهذا الشاعر، ولكن تظل ترجمة أعماله الشعرية الكاملة مشروعاً مهماً أود إنجازه. إلي جانب ذلك، يوجد العديد من الشاعرات والكاتبات الصينيات المعاصرات الذي أود تقديمهن كذلك للقراء، إلي جانب ترجمة بعض المقالات والدراسات المختصصة في الأدب الصيني المعاصر لسد ولو جزء بسيط جداً من الفراغ في تعريف القارئ والمهتم بالثقافة والأدب الصيني.