لأن القطار، عبر مراحل التاريخ المصري الحديث، يمثل جزءًا من نسيج الحياة اليومية، يبدو منطقيًا أن يحظى بوجود مكثف دال في الإبداع الروائي والقصصي والمسرحي، وهو ما نجده عند الشقيقين محمد ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم ومحمود البدوي وعبدالرحمن الشرقاوي ويوسف الشاروني وفتحي غانم ويوسف إدريس وسعد الدين وهبة، وصولاً إلى إبراهيم عبدالمجيد.
*بذلة الأسير*
في مجموعته القصصية الأولى: "همس الجنون"، يتخذ نجيب محفوظ من محطة الزقازيق مسرحًا مكانيًا لقصة "بذلة الأسير". تنعقد البطولة لجحشة بائع السجائر المتجول، الذي يحقق عمله المتواضع رواجًا نسبيًا مع ركاب القطارات: "كان يعد المحطة بحق سوقه النافقة، فيمضي على الإفريز في نشاط منقطع النظير يتصيد الزبائن بعينيه الصغيرتين الخبيرتين".
ما يُقال عن نشر المجموعة في العام 1938، كما هو مثبت في قائمة أعمال نجيب، لا يمكن أن يكون صحيحًا، ذلك أن القصة تشير إلى الأسرى الإيطاليين الذين تنقلهم القطارات تحت حراسة مسلحة مشددة إلى معسكرات الاعتقال: "وتساءل الخلق: فقيل لهم إن هؤلاء أسرى الإيطاليين الذين تساقطوا بين يدي عدوهم بغير حساب، وأنهم يُساقون الآن إلى المعتقلات".
ينفرد نجيب في قصته المبكرة بالتوقف عند ظاهرة استثنائية في تاريخ السكك الحديدية المصرية، ويجسّد معاناة فقراء المصريين جراء الحرب العالمية الثانية، عبر العلاقة الغرائبية بين جحشة والجنود الإيطاليين، فهو يبيع لهم سجائره مقابل الحصول على ملابسهم العسكرية، وعندئذ يتحول إلى جندي من الناحية الشكلية، ويطلق عليه الحراس الإنجليز الرصاص عندما يتحرك القطار ولا يستجيب لنداءات الصعود، ويُعامل كأسير هارب.
في الهامش الضئيل الضيق لمحطات القطار الإقليمية، يتكسب أمثال جحشة من امتهان أعمال متواضعة ضئيلة الربح، أما الأغنياء فإن علاقتهم مع القطار ذات أسلوب مختلف، وهو ما تقدمه المجموعة نفسها في قصة "نكث الأمومة"، حيث عودة الأرستقراطية روحية هانم مع عشيقها المحامي عاصم في قطار الصعيد، بعد رحلة إلى أسوان بمعرفة الزوج الذي ينتظرهما على رصيف الوصول!.
عالم مختلف ذو مفردات مغايرة لما يكابده جحشة وغيره من ضحايا الفقر والعوز، فلا غرابة أن يكون القطار مختلفًا يليق بالسادة الأٍثرياء المترفين.
*نسيج الحياة*
يمثل القطار وسيلة السفر الأرخص والأسرع لفقراء المصريين، قبل شيوع وانتشار وسائل النقل الأخرى. في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، يسافر محجوب عبدالدائم في "القاهرة الجديدة" لعيادة والده المريض في القناطر، وليس إلا الدرجة الثالثة في القطار من درجة تليق بمكانته الاجتماعية المتواضعة، لكن الأمر يختلف مع ابن بلدته الموظف الانتهازي سريع الصعود سالم الإخشيدي. يجمعهما لقاء مصادفة قصير عند شباك التذاكر: "ثم استأذن الإخشيدي واتجه نحو عربة الدرجة الأولى، وأتبعه الشاب عينيه حتى اختفى، ثم سار إلى الدرجة الثالثة تعلو وجهه الكآبة والأحلام".
عربات الدرجة الثالثة فقيرة متواضعة مثل ركابها، والبرودة تنفذ إلى الداخل على الرغم من إحكام غلق النوافذ، ولابد أن الأمر مختلف في الدرجة الأولى. الفارق شاسع بين الدرجتين في قطار واحد، وهو الفارق نفسه بين ابني المكان الواحد: سالم الذي يتخلص بانتهازيته من لعنة الفقر، ومحجوب الذي يتهيأ لمواجهة المجهول الذي يهدد مستقبله، ولا شيء يتسلح به في مواجهة المخاوف إلا مزيج الكآبة والأحلام.
عالم القطار ومحطاتها يمثل ترجمة أمينة لمعطيات الواقع المصري وتفاعلاته، وفي "بداية ونهاية" يسافر حسين كامل علي إلى طنطا لاستلام وظيفته، التي يضحي في سبيلها باستكمال رحلة التعليم. يرصد محفوظ مشهد الوداع الذي يجمعه بشقيقه حسنين قبل الرحيل: "غاب وجه حسنين في زحمة المودعين، وتراجع سقف محطة مصر الهرمي حتى بدا من الداخل مظلمًا. كل شيء يتراجع بسرعة متزايدة، وداعا يا مصر".
"القاهرة" هي "مصر" عند أبناء العاصمة الذين لا يعرفون غيرها وطنًا، ومن هنا يهيمن الإسراف الانفعالي كأنه سفر بعيد يعادل الغربة في بلد بعيد يصعب الوصول إليه. عبر تجربة حسين، في رحلته الأولى بالقطار، يقدم نجيب محفوظ رصدًا دقيقًا عميقًا لمشاعر الركاب "الغرباء" الذي يجمعهم القطار ويوحدهم. ما أسرع التعارف والاندماج وتبادل الأحاديث والحكايات، وسرعان ما تحل الألفة والصداقة فيستعين الشاب الصغير قليل الخبرة بواحد من الركاب ليدله على فندق مناسب للإقامة في طنطا.
بالقطار يسافر حسين إلى طنطا لاستلام وظيفته، وبالقطار أيضًا يعود رشدي عاكف، في "خان الخليلي"، من أسيوط إلى القاهرة. أحمد عاكف ينتظر أخاه في المحطة كأنه يخوض مغامرة: "وتولاه ما يتولاه عادة من القلق إذا وجد بمحضر القطر المردة فرآها تنفث الدخان وتطلق الصفير الحاد. ولم يكن استقل قطارًا قط ولا غادر حدود القاهرة، ولا هزته رغبة في يوم ما إلى الارتحال والسفر".
ينتمي أحمد إلى الفئة التي تضيق بالسفر وتتسم علاقتها مع القطار بقدر كبير من التوتر والاضطراب والعداء، ومن البديهي أن يشعر بالخوف والقلق في أجواء الازدحام التي تميز محطة عملاقة لا تتوقف الحركة في جنباتها. ليس أدل على الضيق بفكرة السفر من تعامل أحمد مع الذهاب إلى المصحة في حلوان كأنه سفر يعادل الرحلة الشاقة!، وهو الموقف نفسه الذي يتخذه المعلم زفتة تاجر المخدرات، عندما ينتقل أحمد للسكنى في حلمية الزيتون:
"- ولكن الزيتون هذه بلدة بعيدة لا يبلغها طالبها إلا بالقطار!
فقال أحمد مبتسمًا:
- ما كان لقطار أن يمنع صاحبًا عن صحبه!".
المسافات القريبة تبدو بعيدة في المجتمع المصري التقليدي قبل عواصف التغيير والتحديث، وركوب القطار من علامات المشقة التي لا تُحتمل، في "حديث الصباح والمساء"، تتزوج دلال حمادة القناوي واحدًا من أقارب أبيها في قنا، وتعلّق الأم صدرية عمرو عزيز على زيجتها: "قُضي عليّ بأن يفرّق القطار بيني وبين بناتي"!
هل تحتاج مقولتها هذه إلى تعليق أو تحليل؟!.
*سائق القطار*
عندما يضطرب الواقع وتسود الفوضى، لأسباب سياسية واجتماعية، تنعكس الأجواء السلبية بالضرورة على القطارات وإيقاعها المستقر الراسخ، ومن ذلك ما نجده عند حريق القاهرة في يناير 1952، يعود عيسى الدباغ، في "السمان والخريف"، من مهمته السياسية في مدن القناة الساخنة بالأحداث الحافلة، فيصطدم عند وصوله بعلامات تنم عن وقوع أحداث خطيرة: "وقف القطار ولكنه لم يجد أحدًا في انتظاره. أين السكرتير؟ أين موظفو المكتب؟ أين السعاة؟ وأجال بصره في المكان والناس بلا جدوى.
لا عربة واحدة لتنقله. وفي ميدان المحطة جماهير تجري في كل اتجاه".
ينعكس الاضطراب العام على القطارات ومحطاتها والمتعاملين مع عالمها وثيق الصلة بحركة المجتمع، ولأن المصادفة تمثل عنصرًا بارزًا في تشكيل إيقاع الحياة اليومية، يبدو منطقيًا مبررًا ألا تخلو ساحة محطات السكك الحديدية من المصادفات التي تقلب الأوضاع رأسًا على عقب، وهو ما يقدمه نجيب ببراعة في "الحب تحت المطر".
يذهب مرزوق أنور إلى محطة مصر بصحبة أبيه وخطيبته، تهيؤا للسفر إلى بني سويف واستلام وظيفته المرشح لها من القوى العاملة: "وجلسوا حول مائدة في البوفيه حتى يأزف ميعاد قيام قطار الصعيد".
في جلسة الانتظار القصيرة هذه، تقع عينا المخرج السينمائي محمد رشوان على مرزوق فيرشحه لبطولة فيلم، ويتغير المسار فجأة من بني سويف والوظيفة الصغيرة إلى ساحة الشهرة والنجومية.
القطار وسيلة نقل شعبية آمنة، لكن الأمر لا يخلو من حوادث كتلك التي يموت فيها إبراهيم الأسواني في "حديث الصباح والمساء"، ولا يخلو الأمر كذلك من كارثة كابوسية فردية يقدمها محفوظ في قصة "سائق القطار"، مجموعة "بيت سيئ السمعة".
يتمرد السائق عبدالغفار على قواعد العمل، ولا يتوقف في المحطات المحددة: "السائق جن!.. وسيهلكنا جميعًا!".
يعتدي السائق على مساعده، ويقذف به خارج حجرة القيادة. يندفع بالقطار مسرعًا في حالة هستيرية، وتنبئ المؤشرات جميعًا عن حادث مروع لا مهرب منه ولا نجاة. ردود فعل الركاب تتسم بالتوتر والإسراف الانفعالي المبرر، والاقتراب من الموت على هذا النحو يكشف عما يعتمل في أعماقهم من هواجس وهموم، لكن الأمر في النهاية يتحول إلى كابوس ثقيل، تعود الحياة بعده إلى إيقاعها المألوف المعتاد.
* نقلا عن:
بوابة الحضارات | حياة وأوجاع المصريين في قطارات نجيب محفوظ
*بذلة الأسير*
في مجموعته القصصية الأولى: "همس الجنون"، يتخذ نجيب محفوظ من محطة الزقازيق مسرحًا مكانيًا لقصة "بذلة الأسير". تنعقد البطولة لجحشة بائع السجائر المتجول، الذي يحقق عمله المتواضع رواجًا نسبيًا مع ركاب القطارات: "كان يعد المحطة بحق سوقه النافقة، فيمضي على الإفريز في نشاط منقطع النظير يتصيد الزبائن بعينيه الصغيرتين الخبيرتين".
ما يُقال عن نشر المجموعة في العام 1938، كما هو مثبت في قائمة أعمال نجيب، لا يمكن أن يكون صحيحًا، ذلك أن القصة تشير إلى الأسرى الإيطاليين الذين تنقلهم القطارات تحت حراسة مسلحة مشددة إلى معسكرات الاعتقال: "وتساءل الخلق: فقيل لهم إن هؤلاء أسرى الإيطاليين الذين تساقطوا بين يدي عدوهم بغير حساب، وأنهم يُساقون الآن إلى المعتقلات".
ينفرد نجيب في قصته المبكرة بالتوقف عند ظاهرة استثنائية في تاريخ السكك الحديدية المصرية، ويجسّد معاناة فقراء المصريين جراء الحرب العالمية الثانية، عبر العلاقة الغرائبية بين جحشة والجنود الإيطاليين، فهو يبيع لهم سجائره مقابل الحصول على ملابسهم العسكرية، وعندئذ يتحول إلى جندي من الناحية الشكلية، ويطلق عليه الحراس الإنجليز الرصاص عندما يتحرك القطار ولا يستجيب لنداءات الصعود، ويُعامل كأسير هارب.
في الهامش الضئيل الضيق لمحطات القطار الإقليمية، يتكسب أمثال جحشة من امتهان أعمال متواضعة ضئيلة الربح، أما الأغنياء فإن علاقتهم مع القطار ذات أسلوب مختلف، وهو ما تقدمه المجموعة نفسها في قصة "نكث الأمومة"، حيث عودة الأرستقراطية روحية هانم مع عشيقها المحامي عاصم في قطار الصعيد، بعد رحلة إلى أسوان بمعرفة الزوج الذي ينتظرهما على رصيف الوصول!.
عالم مختلف ذو مفردات مغايرة لما يكابده جحشة وغيره من ضحايا الفقر والعوز، فلا غرابة أن يكون القطار مختلفًا يليق بالسادة الأٍثرياء المترفين.
*نسيج الحياة*
يمثل القطار وسيلة السفر الأرخص والأسرع لفقراء المصريين، قبل شيوع وانتشار وسائل النقل الأخرى. في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، يسافر محجوب عبدالدائم في "القاهرة الجديدة" لعيادة والده المريض في القناطر، وليس إلا الدرجة الثالثة في القطار من درجة تليق بمكانته الاجتماعية المتواضعة، لكن الأمر يختلف مع ابن بلدته الموظف الانتهازي سريع الصعود سالم الإخشيدي. يجمعهما لقاء مصادفة قصير عند شباك التذاكر: "ثم استأذن الإخشيدي واتجه نحو عربة الدرجة الأولى، وأتبعه الشاب عينيه حتى اختفى، ثم سار إلى الدرجة الثالثة تعلو وجهه الكآبة والأحلام".
عربات الدرجة الثالثة فقيرة متواضعة مثل ركابها، والبرودة تنفذ إلى الداخل على الرغم من إحكام غلق النوافذ، ولابد أن الأمر مختلف في الدرجة الأولى. الفارق شاسع بين الدرجتين في قطار واحد، وهو الفارق نفسه بين ابني المكان الواحد: سالم الذي يتخلص بانتهازيته من لعنة الفقر، ومحجوب الذي يتهيأ لمواجهة المجهول الذي يهدد مستقبله، ولا شيء يتسلح به في مواجهة المخاوف إلا مزيج الكآبة والأحلام.
عالم القطار ومحطاتها يمثل ترجمة أمينة لمعطيات الواقع المصري وتفاعلاته، وفي "بداية ونهاية" يسافر حسين كامل علي إلى طنطا لاستلام وظيفته، التي يضحي في سبيلها باستكمال رحلة التعليم. يرصد محفوظ مشهد الوداع الذي يجمعه بشقيقه حسنين قبل الرحيل: "غاب وجه حسنين في زحمة المودعين، وتراجع سقف محطة مصر الهرمي حتى بدا من الداخل مظلمًا. كل شيء يتراجع بسرعة متزايدة، وداعا يا مصر".
"القاهرة" هي "مصر" عند أبناء العاصمة الذين لا يعرفون غيرها وطنًا، ومن هنا يهيمن الإسراف الانفعالي كأنه سفر بعيد يعادل الغربة في بلد بعيد يصعب الوصول إليه. عبر تجربة حسين، في رحلته الأولى بالقطار، يقدم نجيب محفوظ رصدًا دقيقًا عميقًا لمشاعر الركاب "الغرباء" الذي يجمعهم القطار ويوحدهم. ما أسرع التعارف والاندماج وتبادل الأحاديث والحكايات، وسرعان ما تحل الألفة والصداقة فيستعين الشاب الصغير قليل الخبرة بواحد من الركاب ليدله على فندق مناسب للإقامة في طنطا.
بالقطار يسافر حسين إلى طنطا لاستلام وظيفته، وبالقطار أيضًا يعود رشدي عاكف، في "خان الخليلي"، من أسيوط إلى القاهرة. أحمد عاكف ينتظر أخاه في المحطة كأنه يخوض مغامرة: "وتولاه ما يتولاه عادة من القلق إذا وجد بمحضر القطر المردة فرآها تنفث الدخان وتطلق الصفير الحاد. ولم يكن استقل قطارًا قط ولا غادر حدود القاهرة، ولا هزته رغبة في يوم ما إلى الارتحال والسفر".
ينتمي أحمد إلى الفئة التي تضيق بالسفر وتتسم علاقتها مع القطار بقدر كبير من التوتر والاضطراب والعداء، ومن البديهي أن يشعر بالخوف والقلق في أجواء الازدحام التي تميز محطة عملاقة لا تتوقف الحركة في جنباتها. ليس أدل على الضيق بفكرة السفر من تعامل أحمد مع الذهاب إلى المصحة في حلوان كأنه سفر يعادل الرحلة الشاقة!، وهو الموقف نفسه الذي يتخذه المعلم زفتة تاجر المخدرات، عندما ينتقل أحمد للسكنى في حلمية الزيتون:
"- ولكن الزيتون هذه بلدة بعيدة لا يبلغها طالبها إلا بالقطار!
فقال أحمد مبتسمًا:
- ما كان لقطار أن يمنع صاحبًا عن صحبه!".
المسافات القريبة تبدو بعيدة في المجتمع المصري التقليدي قبل عواصف التغيير والتحديث، وركوب القطار من علامات المشقة التي لا تُحتمل، في "حديث الصباح والمساء"، تتزوج دلال حمادة القناوي واحدًا من أقارب أبيها في قنا، وتعلّق الأم صدرية عمرو عزيز على زيجتها: "قُضي عليّ بأن يفرّق القطار بيني وبين بناتي"!
هل تحتاج مقولتها هذه إلى تعليق أو تحليل؟!.
*سائق القطار*
عندما يضطرب الواقع وتسود الفوضى، لأسباب سياسية واجتماعية، تنعكس الأجواء السلبية بالضرورة على القطارات وإيقاعها المستقر الراسخ، ومن ذلك ما نجده عند حريق القاهرة في يناير 1952، يعود عيسى الدباغ، في "السمان والخريف"، من مهمته السياسية في مدن القناة الساخنة بالأحداث الحافلة، فيصطدم عند وصوله بعلامات تنم عن وقوع أحداث خطيرة: "وقف القطار ولكنه لم يجد أحدًا في انتظاره. أين السكرتير؟ أين موظفو المكتب؟ أين السعاة؟ وأجال بصره في المكان والناس بلا جدوى.
لا عربة واحدة لتنقله. وفي ميدان المحطة جماهير تجري في كل اتجاه".
ينعكس الاضطراب العام على القطارات ومحطاتها والمتعاملين مع عالمها وثيق الصلة بحركة المجتمع، ولأن المصادفة تمثل عنصرًا بارزًا في تشكيل إيقاع الحياة اليومية، يبدو منطقيًا مبررًا ألا تخلو ساحة محطات السكك الحديدية من المصادفات التي تقلب الأوضاع رأسًا على عقب، وهو ما يقدمه نجيب ببراعة في "الحب تحت المطر".
يذهب مرزوق أنور إلى محطة مصر بصحبة أبيه وخطيبته، تهيؤا للسفر إلى بني سويف واستلام وظيفته المرشح لها من القوى العاملة: "وجلسوا حول مائدة في البوفيه حتى يأزف ميعاد قيام قطار الصعيد".
في جلسة الانتظار القصيرة هذه، تقع عينا المخرج السينمائي محمد رشوان على مرزوق فيرشحه لبطولة فيلم، ويتغير المسار فجأة من بني سويف والوظيفة الصغيرة إلى ساحة الشهرة والنجومية.
القطار وسيلة نقل شعبية آمنة، لكن الأمر لا يخلو من حوادث كتلك التي يموت فيها إبراهيم الأسواني في "حديث الصباح والمساء"، ولا يخلو الأمر كذلك من كارثة كابوسية فردية يقدمها محفوظ في قصة "سائق القطار"، مجموعة "بيت سيئ السمعة".
يتمرد السائق عبدالغفار على قواعد العمل، ولا يتوقف في المحطات المحددة: "السائق جن!.. وسيهلكنا جميعًا!".
يعتدي السائق على مساعده، ويقذف به خارج حجرة القيادة. يندفع بالقطار مسرعًا في حالة هستيرية، وتنبئ المؤشرات جميعًا عن حادث مروع لا مهرب منه ولا نجاة. ردود فعل الركاب تتسم بالتوتر والإسراف الانفعالي المبرر، والاقتراب من الموت على هذا النحو يكشف عما يعتمل في أعماقهم من هواجس وهموم، لكن الأمر في النهاية يتحول إلى كابوس ثقيل، تعود الحياة بعده إلى إيقاعها المألوف المعتاد.
* نقلا عن:
بوابة الحضارات | حياة وأوجاع المصريين في قطارات نجيب محفوظ