من اشد العلاقات غرابة في الحياة هي العلاقة بين الاب وابنه. وانا اعرف ذلك الآن لأن لي ابناء.
يريد الابن شيئا خاصا من ابيه. يقال ان الاباء يريدون ان يحقق ابناؤهم ما لم يستطيعوا هم ان يحققوه. وانا اقول ان العكس صحيح ايضا. فعندما كنت صغيرا كنت اريد ابي ان يكون مختلفا عما كان. كنت اريده ان يكون ابا وقورا ومعتزا بنفسه. فاذا كنت مع صبية اخرين في الشارع ومر هو كنت اريد ان اشعر بالفخر وان اهتف : "هذا هو ابي."
ولكنه لم يكن كذلك. ولم يستطع ان يكون كذلك. لنقل ان شخصا من بلدتنا كان يريد ان يقيم عرضا مسرحيا. وكان ذلك كثير الحدوث. وكان يحضر العرض الصيدلي وبائع الاحذية والطبيب البيطري وجمهور من النساء والفتيات وآخرون. كان ابي يتولى اداء دور الكوميديا الرئيسي. واذا كان العرض عن الحرب الاهلية كان ابي يستأثر بدور جندي ايرلندي مهرج. لقد كان يقوم باداء اكثر الادوار سخفا. وكان الناس يرون انه مضحك. اما انا فما كنت اراه كذلك.
كنت اعتقد انه اخرق الى حد بعيد. ولم افهم كيف كانت امي تحتمل ذلك. فقد كانت تضحك مع الاخرين. وربما كان خليقا بي ان اضحك لو لم يكن ابي هو الذي يؤدي الدور.
واذا كان هناك عرض عسكري بمناسبة الرابع من يوليو او بمناسبة عيد الشهداء كان ابي يشارك في ذلك ايضا. فيركب على جواد ابيض يستأجره من احد الاسطبلات ويسير في المقدمة.
وللاسف لم يكن يحسن الركوب. فكان يسقط عن ظهر الجواد ويغرق كل من يراه في الضحك. ولم يكن يهمه ذلك. واذكر انه مرة ارتكب حماقة في الشارع الرئيسي، وكنت آنذلك بصحبة صبية آخرين. فضحكوا وهتفوا. فرد على الهتاف بمثله مستمتعا بكل دقيقة كما كانوا. فما كان مني الا ان عدوت الى احد الازقة الخلفية. وهناك بكيت بكاء مرا.
او كان يعود ليلا الى البيت، بينما اكون في فراشي، سعيدا وبصحبته لفيف من اصدقائه. ولم يكن ابي رجلا يحب العزلة على الاطلاق. فقبل ان يفلس حانوت لوازم الخيول الذي كان يملكه كان في الحانوت كثير من الرجال يقضون الوقت بلا حساب. وليس من ريب في ان ابي افلس لانه كان يبيع بالتقسيط. فما كان يستطيع ان يرفض طلبا لاحد. ولذلك كنت اعتقد انه احمق. وكنت في ذلك الوقت اشعر بشيء من الكراهية نحوه.
وكنت اعتقد انه لا بد ان صنفا معينا من الرجال لا يمكن ان يرغبوا في اللهو معه. وكان من بينهم مدير مدرستنا، ورجل هادئ كان يدير حانوتا للخرداوات، ورجل ابيض الشعر كان يعمل محاسبا في المصرف. وكان يدهشني كيف ان رجالا كهؤلاء كانوا يحبون ذلك الرجل الثرثار. وما كنت اعتبره الا ثرثارا. اما الان فانا اعرف ما كان يشدهم الى معاشرته. السبب هو انه في بلدتنا، كما هو الحال في البلدات الصغيرة، كانت الحياة رتيبة وكان ابي يضفي عليها كثيرا من البهجة فيضحكهم بقصصه ويسليهم باغنياته.
واذا لم يحضروا الى بيتنا كانوا يتوجهون في الليل مثلا الى مكان معشوشب على ضفة جدول وهناك يأكلون ويشربون ويجلسون للاستمتاع بقصصه.
وكان يروي القصص عن نفسه دائما. فهو يقول ان هذا الشيء او ذاك قد حدث له وان جعله ذلك الشيء يبدو احمق. ولكنه لم يكن يبالي.
واذا وفد الى بيتنا رجل ايرلندي اسرع ابي الى اخباره بانه هو ايضا من ايرلندا. ويخبره في اي مقاطعة ايرلندية ولد ويروي له احداثا وقعت له هناك عندما كان صبيا. وكان يوحي بالصدق الى درجة اني لو لم اكن اعلم انه ولد في جنوب اوهايو لصدقت ادعاءاته.
واذا كان الرجل اسكوتلنديا حدث الشيء ذاته. وكان ابي يصطنع لكنة في كلامه. وكذلك اذا كان الرجل المانيا او سويديا. فقد كان ابي دائما من البلاد نفسها التي وفد منها الزائر. وانا احسب الان انهم كانوا يعرفون انه كاذب. ولكنهم كانوا يحبونه على الرغم من ذلك. وعندما كنت طفلا لم اكن افهم سر ذلك.
اما امي فكيف كانت تحتمل هذا كله؟ اردت ان اسأل ولكني لم افعل لان امي لم تكن من ذلك اللون من النساء اللواتي يسألن مثل هذه الاسئلة.
وفي بعض الاحيان بينما كان ابي يروي قصصه كنت في فراشي في الطابق العلوي في حجرتي فوق الرواق. وكثير من قصصه كانت عن الحرب الاهلية. وكان يوحي انه كان في كل معركة تقريبا من تلك الحرب. فقد تعرف الى (غرانت) و(شيرمان) وغيرهما كثير. وكان على علاقة طيبة على نحو خاص مع الجنرال (غرانت) ولذلك عندما انتقل (غرانت) شرقا ليتولى قيادة الجيوش اخذ ابي معه.
-"لقد كنت ضابط اتصال في مركز القيادة. وقال لي (غرانت) سآخذك معي يا ايرف."
ويبدو انه هو و(غرانت) كانا من حين الى آخر ينسلان الى ركن من الاركان ويحتسيان الشراب في جو هادئ. هذا ما كان ابي يقوله. وكان يروي قصصا عن اليوم الذي استسلم فيه الجنرال (لي). وكيف انهم لم يعثروا على (غرانت) عندما جاءت اللحظة الحاسمة.
كان ابي يقول: "تقرأ في مذكرات (غرانت) عن صداع اصابه. وفجأة فارقه الصداع على نحو خارق عندما بلغه ان (لي) كان مستعدا للاستسلام."
ويضيف ابي: "كان في الغابة معي. كنت هناك مسندا ظهري الى شجرة من الاشجار، وكنت ثملا وامسك بزجاجة من الشراب الفاخر. وكانوا يبحثون عن (غرانت) الذي كان قد نزل عن جواده ودخل الغابة. وهناك وجدني. كان ملوثا بالوحل. وكنت ممسكا بالزجاجة بيدي. ماذا يهمني؟ لقد انتهت الحرب. وكنا نعرف اننا انتصرنا عليهم."
وكان ابي هو الذي ابلغ (غرانت) بشأن (لي). ذلك ان ضابط اتصال آخر قد اعلم ابي لان ذلك الضابط كان يعرف مدى العلاقة الوثيقة التي تربط ابي بـ (غرانت). وقد شعر (غرانت) بالحرج.
وقال لابي: "ولكن انظر يا ايرف: اني مغطى بالوحل."
وعندئذ قال ابي انه هو و(غرانت) قررا ان يشربا معا. وبعد تناول كأسين حطم ابي الزجاجة بالشجرة لانه لم يكن يريد ان يظهر (غرانت) ثملا امام (لي) الذي كان خاليا من العيوب.
-"ان (سام غرانت) قد مات الان. ولا اريد ان يلومه احد."
ذلك بعض مما كان يقوله. ولا ريب ان الناس كانوا يعرفون انه كاذب ولكنهم كانوا يحبون الاستماع اليه بالرغم من كل شيء.
وعندما ضاقت احوالنا المالية هل تعتقدون انه كان يحضر شيئا الى البيت؟ لا ابدا. فاذا لم يكن في البيت ما يأكله كان من دأبه ان يطوف على البيوت الريفية زائرا وكان جميع اهلها يرحبون به. واحيانا كان يقضي اسابيع وشهورا بعيدا عن البيت. وكانت امي تعمل لتطعمنا. وبعد ذلك يعود حاملا قطعة من اللحم كان قد اعطاه اياها صديق مزارع فيرمي بها على مائدة المطبخ ويقول: "اريد الاولاد ان يأكلوا." كانت امي تقف وتبتسم له. وما كان من عادتها ان تقول كلمة واحدة عن الاسابيع والاشهر التي غاب فيها عن البيت تاركا ايانا من غير مال نشتري به طعاما. ومرة سمعتها تتحدث الى جارة لنا كانت تتعاطف معها. قالت:
-"اننا بخير. فهو ليس مملا كمعظم الرجال في هذا الحي. ان الحياة ليست مملة بالقرب من زوجي."
بيد اني كنت اشعر بالمرارة. واحيانا كنت اتمنى لو انه لم يكن ابي. لا بل كنت اتخيل رجلا آخر ابا لي. ولاحمي سمعة امي كنت اخترع قصصا عن زواج سري لم يعلن لسبب غريب. فكأن رجلا من الرجال، لنقل مدير شركة السكك الحديدية، او ربما نائبا في مجلس النواب، كان قد تزوج امي ظنا منه ان زوجته قد ماتت ثم اكتشف انها لم تمت.
وعلى هذا كان عليهما ان يبقيا زواجهما سرا. ولكن كنت قد ولدت على اي حال. لقد صدقت هذه القصص الخيالية او كدت.
ثم جاءت ليلة. وكانت امي خارج البيت. ولعلها كانت في الكنيسة. ودخل ابي. كان قد غاب عن البيت اسبوعين او ثلاثة اسابيع، فألفاني وحيدا في البيت اقرأ بالقرب من مائدة المطبخ.
كان المطر يهطل مدرارا. وكان ابي مبتلا جدا. جلس ونظر الي نظرة طويلة من غير ان يقول كلمة. فقد كان على وجهه نظرة حزينة لم اكن قد رأيت مثلها في حياتي. وجلس فترة من الوقت، وكانت ثيابه تقطر ماء. ثم نهض.
قال: "تعال معي."
ونهضت وذهبت معه الى خارج البيت. كانت تملأني الدهشة. ولكني لم اشعر بالخوف. وأخذنا طريقا ترابيا يؤدي الى احد الاودية على بعد ميل او ميلين من البلدة حيث كانت بركة ماء. مشينا صامتين. كان الرجل المولع بالحديث صامتا.
وما كنت اعلم ما سيحدث. واستولى علي شعور باني مع رجل غريب. ولست ادري ان كان ابي اراد ان يخلق عندي ذلك الشعور. ولكني لا اعتقد انه اراد ذلك.
كانت بركة الماء كبيرة. وكان المطر مايزال منهمرا. وكان هناك برق ورعد. وعندما تكلم ابي كنا على ضفة للبركة معشوشبة. كان صوته غريبا في الظلام والمطر.
قال: "اخلع ثيابك."
واخذت اخلع ثيابي والدهشة لاتزال تستحوذ علي. وفي ومضة برق رأيت انه قد خلع ثيابه ايضا.
ونزلنا الى البركة عاريين. واخذ بيدي وراح يدفعني الى وسط البركة. ولعلي كنت مستغربا الى درجة اني لم اتكلم. فقبل تلك الليلة لم يولني ابي اي اهتمام.
وساءلت نفسي: ماذا سيحدث الان؟ ولم اكن اتقن السباحة. ولكنه وضع يدي على كتفه وغصنا في قلب الظلام.
كان رجلا ذا منكبين عريضين, وكان سباحا قويا. وسبحنا الى الطرف البعيد من البركة. ومن ثم قفلنا عائدين الى حيث تركنا ثيابنا. وواصل المطر هطوله وعصفت الرياح. وكان ابي يسبح احيانا على ظهره. وكان اذ ذاك يأخذ بيدي في يده الكبيرة القوية ويضعها على كتفه دائما. واحيانا كان يومض البرق فأرى وجهه بوضوح.
كان وجها مملوءا بالحزن كما كنت رأيته في المطبخ من قبل. وكنت المح وجهه لحظة ثم تسود الظلمة وتعصف الرياح وينهمر المطر. وتولد في داخلي شعور لا عهد لي به من قبل.
كان شعورا غريبا بالدفء كما لو كنا الوحيدين في العالم. وكما لو انني خرجت من نفسي وخرجت من عالم تلميذ المدرسة – العالم الذي كنت اخجل فيه من ابي.
لقد اصبح جزءا من دمي – هو السباح القوي، وانا الطفل المتعلق به في الظلام. وسبحنا في صمت. وفي صمت ارتدينا ثيابنا المبللة ومضينا الى البيت.
كان هناك مصباح مشتعل في المطبخ. وعندما دخلنا والماء يقطر من ثيابنا رأينا امي فابتسمت لنا.
واذكر انها وصفتنا بالصبيين وقالت: "اين كنتما ايها الصبيان؟" لكن ابي لم يجب. فكما بدأ فترة المساء تلك صامتا انهاها صامتا. التفت ونظر الي، ثم خرج بوقار غريب جديد لا عهد لي به من قبل.
صعدت السلم الى حجرتي. وخلعت ثيابي. واندسست في فراشي. ولم استطع ان انام. لا بل لم اشعر برغبة في النوم. فللمرة الاولى ادركت اني ابن ابي. لقد كان ابي قاصا كما كان مقدرا لي ان اكون. ولعلي ضحكت ضحكة خافتة هناك في الظلام. وكنت واثقا اني لا اريد ابا ثانيا مرة اخرى.
------------------------------
[email protected]
يريد الابن شيئا خاصا من ابيه. يقال ان الاباء يريدون ان يحقق ابناؤهم ما لم يستطيعوا هم ان يحققوه. وانا اقول ان العكس صحيح ايضا. فعندما كنت صغيرا كنت اريد ابي ان يكون مختلفا عما كان. كنت اريده ان يكون ابا وقورا ومعتزا بنفسه. فاذا كنت مع صبية اخرين في الشارع ومر هو كنت اريد ان اشعر بالفخر وان اهتف : "هذا هو ابي."
ولكنه لم يكن كذلك. ولم يستطع ان يكون كذلك. لنقل ان شخصا من بلدتنا كان يريد ان يقيم عرضا مسرحيا. وكان ذلك كثير الحدوث. وكان يحضر العرض الصيدلي وبائع الاحذية والطبيب البيطري وجمهور من النساء والفتيات وآخرون. كان ابي يتولى اداء دور الكوميديا الرئيسي. واذا كان العرض عن الحرب الاهلية كان ابي يستأثر بدور جندي ايرلندي مهرج. لقد كان يقوم باداء اكثر الادوار سخفا. وكان الناس يرون انه مضحك. اما انا فما كنت اراه كذلك.
كنت اعتقد انه اخرق الى حد بعيد. ولم افهم كيف كانت امي تحتمل ذلك. فقد كانت تضحك مع الاخرين. وربما كان خليقا بي ان اضحك لو لم يكن ابي هو الذي يؤدي الدور.
واذا كان هناك عرض عسكري بمناسبة الرابع من يوليو او بمناسبة عيد الشهداء كان ابي يشارك في ذلك ايضا. فيركب على جواد ابيض يستأجره من احد الاسطبلات ويسير في المقدمة.
وللاسف لم يكن يحسن الركوب. فكان يسقط عن ظهر الجواد ويغرق كل من يراه في الضحك. ولم يكن يهمه ذلك. واذكر انه مرة ارتكب حماقة في الشارع الرئيسي، وكنت آنذلك بصحبة صبية آخرين. فضحكوا وهتفوا. فرد على الهتاف بمثله مستمتعا بكل دقيقة كما كانوا. فما كان مني الا ان عدوت الى احد الازقة الخلفية. وهناك بكيت بكاء مرا.
او كان يعود ليلا الى البيت، بينما اكون في فراشي، سعيدا وبصحبته لفيف من اصدقائه. ولم يكن ابي رجلا يحب العزلة على الاطلاق. فقبل ان يفلس حانوت لوازم الخيول الذي كان يملكه كان في الحانوت كثير من الرجال يقضون الوقت بلا حساب. وليس من ريب في ان ابي افلس لانه كان يبيع بالتقسيط. فما كان يستطيع ان يرفض طلبا لاحد. ولذلك كنت اعتقد انه احمق. وكنت في ذلك الوقت اشعر بشيء من الكراهية نحوه.
وكنت اعتقد انه لا بد ان صنفا معينا من الرجال لا يمكن ان يرغبوا في اللهو معه. وكان من بينهم مدير مدرستنا، ورجل هادئ كان يدير حانوتا للخرداوات، ورجل ابيض الشعر كان يعمل محاسبا في المصرف. وكان يدهشني كيف ان رجالا كهؤلاء كانوا يحبون ذلك الرجل الثرثار. وما كنت اعتبره الا ثرثارا. اما الان فانا اعرف ما كان يشدهم الى معاشرته. السبب هو انه في بلدتنا، كما هو الحال في البلدات الصغيرة، كانت الحياة رتيبة وكان ابي يضفي عليها كثيرا من البهجة فيضحكهم بقصصه ويسليهم باغنياته.
واذا لم يحضروا الى بيتنا كانوا يتوجهون في الليل مثلا الى مكان معشوشب على ضفة جدول وهناك يأكلون ويشربون ويجلسون للاستمتاع بقصصه.
وكان يروي القصص عن نفسه دائما. فهو يقول ان هذا الشيء او ذاك قد حدث له وان جعله ذلك الشيء يبدو احمق. ولكنه لم يكن يبالي.
واذا وفد الى بيتنا رجل ايرلندي اسرع ابي الى اخباره بانه هو ايضا من ايرلندا. ويخبره في اي مقاطعة ايرلندية ولد ويروي له احداثا وقعت له هناك عندما كان صبيا. وكان يوحي بالصدق الى درجة اني لو لم اكن اعلم انه ولد في جنوب اوهايو لصدقت ادعاءاته.
واذا كان الرجل اسكوتلنديا حدث الشيء ذاته. وكان ابي يصطنع لكنة في كلامه. وكذلك اذا كان الرجل المانيا او سويديا. فقد كان ابي دائما من البلاد نفسها التي وفد منها الزائر. وانا احسب الان انهم كانوا يعرفون انه كاذب. ولكنهم كانوا يحبونه على الرغم من ذلك. وعندما كنت طفلا لم اكن افهم سر ذلك.
اما امي فكيف كانت تحتمل هذا كله؟ اردت ان اسأل ولكني لم افعل لان امي لم تكن من ذلك اللون من النساء اللواتي يسألن مثل هذه الاسئلة.
وفي بعض الاحيان بينما كان ابي يروي قصصه كنت في فراشي في الطابق العلوي في حجرتي فوق الرواق. وكثير من قصصه كانت عن الحرب الاهلية. وكان يوحي انه كان في كل معركة تقريبا من تلك الحرب. فقد تعرف الى (غرانت) و(شيرمان) وغيرهما كثير. وكان على علاقة طيبة على نحو خاص مع الجنرال (غرانت) ولذلك عندما انتقل (غرانت) شرقا ليتولى قيادة الجيوش اخذ ابي معه.
-"لقد كنت ضابط اتصال في مركز القيادة. وقال لي (غرانت) سآخذك معي يا ايرف."
ويبدو انه هو و(غرانت) كانا من حين الى آخر ينسلان الى ركن من الاركان ويحتسيان الشراب في جو هادئ. هذا ما كان ابي يقوله. وكان يروي قصصا عن اليوم الذي استسلم فيه الجنرال (لي). وكيف انهم لم يعثروا على (غرانت) عندما جاءت اللحظة الحاسمة.
كان ابي يقول: "تقرأ في مذكرات (غرانت) عن صداع اصابه. وفجأة فارقه الصداع على نحو خارق عندما بلغه ان (لي) كان مستعدا للاستسلام."
ويضيف ابي: "كان في الغابة معي. كنت هناك مسندا ظهري الى شجرة من الاشجار، وكنت ثملا وامسك بزجاجة من الشراب الفاخر. وكانوا يبحثون عن (غرانت) الذي كان قد نزل عن جواده ودخل الغابة. وهناك وجدني. كان ملوثا بالوحل. وكنت ممسكا بالزجاجة بيدي. ماذا يهمني؟ لقد انتهت الحرب. وكنا نعرف اننا انتصرنا عليهم."
وكان ابي هو الذي ابلغ (غرانت) بشأن (لي). ذلك ان ضابط اتصال آخر قد اعلم ابي لان ذلك الضابط كان يعرف مدى العلاقة الوثيقة التي تربط ابي بـ (غرانت). وقد شعر (غرانت) بالحرج.
وقال لابي: "ولكن انظر يا ايرف: اني مغطى بالوحل."
وعندئذ قال ابي انه هو و(غرانت) قررا ان يشربا معا. وبعد تناول كأسين حطم ابي الزجاجة بالشجرة لانه لم يكن يريد ان يظهر (غرانت) ثملا امام (لي) الذي كان خاليا من العيوب.
-"ان (سام غرانت) قد مات الان. ولا اريد ان يلومه احد."
ذلك بعض مما كان يقوله. ولا ريب ان الناس كانوا يعرفون انه كاذب ولكنهم كانوا يحبون الاستماع اليه بالرغم من كل شيء.
وعندما ضاقت احوالنا المالية هل تعتقدون انه كان يحضر شيئا الى البيت؟ لا ابدا. فاذا لم يكن في البيت ما يأكله كان من دأبه ان يطوف على البيوت الريفية زائرا وكان جميع اهلها يرحبون به. واحيانا كان يقضي اسابيع وشهورا بعيدا عن البيت. وكانت امي تعمل لتطعمنا. وبعد ذلك يعود حاملا قطعة من اللحم كان قد اعطاه اياها صديق مزارع فيرمي بها على مائدة المطبخ ويقول: "اريد الاولاد ان يأكلوا." كانت امي تقف وتبتسم له. وما كان من عادتها ان تقول كلمة واحدة عن الاسابيع والاشهر التي غاب فيها عن البيت تاركا ايانا من غير مال نشتري به طعاما. ومرة سمعتها تتحدث الى جارة لنا كانت تتعاطف معها. قالت:
-"اننا بخير. فهو ليس مملا كمعظم الرجال في هذا الحي. ان الحياة ليست مملة بالقرب من زوجي."
بيد اني كنت اشعر بالمرارة. واحيانا كنت اتمنى لو انه لم يكن ابي. لا بل كنت اتخيل رجلا آخر ابا لي. ولاحمي سمعة امي كنت اخترع قصصا عن زواج سري لم يعلن لسبب غريب. فكأن رجلا من الرجال، لنقل مدير شركة السكك الحديدية، او ربما نائبا في مجلس النواب، كان قد تزوج امي ظنا منه ان زوجته قد ماتت ثم اكتشف انها لم تمت.
وعلى هذا كان عليهما ان يبقيا زواجهما سرا. ولكن كنت قد ولدت على اي حال. لقد صدقت هذه القصص الخيالية او كدت.
ثم جاءت ليلة. وكانت امي خارج البيت. ولعلها كانت في الكنيسة. ودخل ابي. كان قد غاب عن البيت اسبوعين او ثلاثة اسابيع، فألفاني وحيدا في البيت اقرأ بالقرب من مائدة المطبخ.
كان المطر يهطل مدرارا. وكان ابي مبتلا جدا. جلس ونظر الي نظرة طويلة من غير ان يقول كلمة. فقد كان على وجهه نظرة حزينة لم اكن قد رأيت مثلها في حياتي. وجلس فترة من الوقت، وكانت ثيابه تقطر ماء. ثم نهض.
قال: "تعال معي."
ونهضت وذهبت معه الى خارج البيت. كانت تملأني الدهشة. ولكني لم اشعر بالخوف. وأخذنا طريقا ترابيا يؤدي الى احد الاودية على بعد ميل او ميلين من البلدة حيث كانت بركة ماء. مشينا صامتين. كان الرجل المولع بالحديث صامتا.
وما كنت اعلم ما سيحدث. واستولى علي شعور باني مع رجل غريب. ولست ادري ان كان ابي اراد ان يخلق عندي ذلك الشعور. ولكني لا اعتقد انه اراد ذلك.
كانت بركة الماء كبيرة. وكان المطر مايزال منهمرا. وكان هناك برق ورعد. وعندما تكلم ابي كنا على ضفة للبركة معشوشبة. كان صوته غريبا في الظلام والمطر.
قال: "اخلع ثيابك."
واخذت اخلع ثيابي والدهشة لاتزال تستحوذ علي. وفي ومضة برق رأيت انه قد خلع ثيابه ايضا.
ونزلنا الى البركة عاريين. واخذ بيدي وراح يدفعني الى وسط البركة. ولعلي كنت مستغربا الى درجة اني لم اتكلم. فقبل تلك الليلة لم يولني ابي اي اهتمام.
وساءلت نفسي: ماذا سيحدث الان؟ ولم اكن اتقن السباحة. ولكنه وضع يدي على كتفه وغصنا في قلب الظلام.
كان رجلا ذا منكبين عريضين, وكان سباحا قويا. وسبحنا الى الطرف البعيد من البركة. ومن ثم قفلنا عائدين الى حيث تركنا ثيابنا. وواصل المطر هطوله وعصفت الرياح. وكان ابي يسبح احيانا على ظهره. وكان اذ ذاك يأخذ بيدي في يده الكبيرة القوية ويضعها على كتفه دائما. واحيانا كان يومض البرق فأرى وجهه بوضوح.
كان وجها مملوءا بالحزن كما كنت رأيته في المطبخ من قبل. وكنت المح وجهه لحظة ثم تسود الظلمة وتعصف الرياح وينهمر المطر. وتولد في داخلي شعور لا عهد لي به من قبل.
كان شعورا غريبا بالدفء كما لو كنا الوحيدين في العالم. وكما لو انني خرجت من نفسي وخرجت من عالم تلميذ المدرسة – العالم الذي كنت اخجل فيه من ابي.
لقد اصبح جزءا من دمي – هو السباح القوي، وانا الطفل المتعلق به في الظلام. وسبحنا في صمت. وفي صمت ارتدينا ثيابنا المبللة ومضينا الى البيت.
كان هناك مصباح مشتعل في المطبخ. وعندما دخلنا والماء يقطر من ثيابنا رأينا امي فابتسمت لنا.
واذكر انها وصفتنا بالصبيين وقالت: "اين كنتما ايها الصبيان؟" لكن ابي لم يجب. فكما بدأ فترة المساء تلك صامتا انهاها صامتا. التفت ونظر الي، ثم خرج بوقار غريب جديد لا عهد لي به من قبل.
صعدت السلم الى حجرتي. وخلعت ثيابي. واندسست في فراشي. ولم استطع ان انام. لا بل لم اشعر برغبة في النوم. فللمرة الاولى ادركت اني ابن ابي. لقد كان ابي قاصا كما كان مقدرا لي ان اكون. ولعلي ضحكت ضحكة خافتة هناك في الظلام. وكنت واثقا اني لا اريد ابا ثانيا مرة اخرى.
------------------------------
[email protected]