لعبت الأسطورة دورا كبيرا فى تحديد مفهوم الشعر العربى القديم فى أولياته، وكان لها دور مهم فى بقية عصور الشعر اللاحقة؛ فالأسطورة عقيدة لا يتطرق إليها الشك عند أصحابها، فهى دين متكامل الأبعاد والحدود، وهى عند من لا يؤمن بها خرافة أو أحاديث كاذبة لا تاريخ لها ولا حقيقة وراءها، فهى من أعمال الخيال الإنسانى.
وقد وجهت الأسطورة –عند من يؤمن بها ومن لا يؤمن بها- إلى استخدامها فى الفن الإنسانى.
وهذا الكتاب للدكتور/ أحمد شمس الدين الحجاجى، الذى يتناول من خلاله استخدام الأدباء العرب للأسطورة فى بنية فنية تستعيد فيها الخلق الفنى للأدب كما رآها المبدع العربى القديم، ودورها فى استلهام ذلك الأدب العظيم.
قسم "الحجاجى" الكتاب إلى مقدمة وبابين مهمين، الأول: للنثر، والثانى: للشعر، وقسم كل باب إلى فصلين، يقول فى مقدمته: هذا الكتاب يمثل عصارة رحلة طويلة لى مع الأسطورة؛ فالأسطورة ليست علما فقط بالنسبة إلىّ، ولكنها أسلوب حياة أيضا، عشتها عقيدة وحياة فى صغرى وكبرى وفى رحلاتى لكوريا وأوربا وأمريكا وكثير من بلدان العالم العربى؛ فالإنسان عندى أسطورة، إذا أدركتها أدركته وفهمته.
المقامة الأسودية والإبليسية..
وجاء الفصل الأول تحت عنوان: "المقامة الأسودية والإبليسية للهمذانى"، وقد نال بديع الزمان الهمذانى شهرة كبيرة فى الأدب العربى بكتباته المقامات المشهورة باسمه، والمقامة نوع من القصص القصيرة مبنية فى معظمها على شخصيتين؛ إحداهما عيسى بن هشام والأخرى أبو الفتح السكندرى، وهو من الأدباء اليسارين أو المكدين السائلين، يطوف من كل مكان يستجدى الناس بفصاحته. وراوى القصة هو عيسى بن هشام الذى كثيرا ما يحكى أخباره وأخبار صاحبه إلى الفتح السكندرى.
ويوضح المؤلف أن المقامة الأسودية سميت بهذا الاسم نسبة إلى الأسود بن قنان الذى نزل بيته عيسى بن هشام. وقد اتهم بأنه أصاب ملا بغير حق؛ فهام على وجهه هاربا حتى أتى إلى البادية، ووصل إلى ظل خيمة يستظل بها، فصادف غلاما حدثا يلعب فى التراب مع أترابه، وهو ينشد الشعر، تعجب عيسى من قدرة الغلام، فرد عليه الطفل كاشفا له السر فى نبوغه الشعرى صغيرا:
إنى وإن كنت صغير السن وكأن فى العين نبوغى
فإن شيطانى أمير الجن يذهب بى فى الشعر كل فن
حتى يرد عارض التظنى فامض على رسلك ولأغرب عنى
وبعد ذلك انتقلت المقامة إلى الموضوع الأساسى وهو الكدية والمدح بمناداة الفتى الصغير على فتاة،فتحضر ويطمئن عيسى إلى أنه نزل فى مأمن، يستخدم الهمذانى ذلك مدخلا ليمتدح الأسود بن قنان، ثم يتحرك بعدها للشكل العام الذى بنى عليه معظم مقاماته، وهو الكدية؛ فالفتاة تومئ للفتى الصغير أن يأخذه إلى بيت الأسود حيث يجد أبا الفتح السكندرى بين الضيوف.
التوابع والزوابع..
وينتقل بنا إلى الفصل الثانى المعنون "التوابع والزوابع لابن شهيد"، حيث يؤكد الكاتب على أن أبو عامر أحمد الملقب باين شهيد من أهم الكتاّب الذين استخدموا هذا الموضوع فى أعمالهم الأدبية، وقد أشتهر ابن شهيد بالشعر والنثر ولكن أهم أعماله التوابع والزوابع الذى استخدم فيه موضوع الجن وارتباطه بالإبداع الأدبى، وما بقى من أعمال ابن شهيد الشعرية والنثرية لا يصل إلى مستوى التوابع والزوابع، فهذا العمل لا يعد أهم ما خلف ابن شهيد من أعمال أدبية فحسب، وإنما يعد أيضا من أهم الأعمال الأدبية التى بقيت لنا من التراث القديم.
ويضيف أن رسالة التوابع والزوابع أدت وظيفة مهمة لابن شهيد، وهى محاولة الدفاع عن نفسه وعن أعماله الشعرية والنثرية أمام معاصريه، ولقد ظهر هذا الدفاع مباشرا فى أكثر من موضع فى الرسالة، وقد يكون هذا الدفاع مقنعا لمعاصريه أو غير معاصريه من قرائه، إلا أن الدفاع الحقيقى الذى دافع به ابن الشهيد عن نفسه كان الرسالة نفسها، وقد كتب هذا العمل من خلال عنصرين مرتبطين بالكاتب.
العنصر الأول: هو نظرة الكاتب داخل ذاته مدركا بوعى إحساسه بالتفوق والتفرد على معاصريه.
العنصر الثانى: هو الوعى بالجماعة والمجتمع المحيط به؛ لذا فإن العمل يكشف عن رؤية ابن الشهيد لنفسه من خلال علاقته بالجماعة والمجتمع.
ويعرج هذا الفصل على حساد ابن الشهيد، فقد نال من حساده كثيرا باستخدامه لتوابع الجن وشمل فى نقده لهم رؤيته لنفسه ولمجتمعه، وعلى نشأته الأرستقراطية فى قرطبة، وفى الفترة التى ولد وعاش فيها ابن الشهيد حتى وفاته وهى فترة لا تتعدى ثلاثة وأربعون عاما تغير فيها وجه قرطبة والأندلس تغيرا كاملا انتهت إثره الدولة العامرية.
أسطورة الجن:
ويتناول الفصل الأول من الباب الثانى، دراسة قصيدة الحكم بن عمرو البهرانى، وهى قصيدة كانت الأسطورة موضوعها، كما كان الجن وعلاقته بالخلق الفنى أحد العناصر المكونة لبنائها.
ولقد تحدث كثير من الشعراء عن أسطورة الجن وعلاقاتهم بالإنسان، يتبدى فى بعضها أن هؤلاء الشعراء يؤمنون بما يقولون أو أنهم يعلمون أن جمهورهم يؤمن به، وقد روى الجاحظ عن أبى نواس أنه خرج يطلب أعرابيا فصيحا فسأله، هل القنفذ يحمل الجنى؟ أم الجنى يحمل القنفذ؟ قال: هذا من تكاذيب الأعراب، وأنشده شعرا فى قنفذ ويربوع رآهما ليلة يلتمسان الرزق، وقد ربط بينهما وبين الجن، فسأله إن قال غير هذا الشعر؛ فأنشده:
أراه سميعا للسرار كقنفذ لقد ضاع سر الله يا أم معبد!
ويروى هذا الأعرابى أن هذا الشعر أصدق شئ قاله لزوجته، ولقد كانت قصيدة الحكم بن عمرو البهرانى أكمل قصيدة تحدثت عن الاعتقادات فى الجن وعلاقاتهم بالإنسان.
ويمضى المؤلف فى شرح مضمون هذه القصيدة، وأهميتها فى هذا العصر، وخلص إلى أن هذه القصيدة لم تحظ بالاهتمام، لذا انحصر الموضوع عن الأدب الرسمى ودخل دائرة الأدب الشعبى.
مجنون ليلى:
ويختتم الكتاب فى الفصل الثانى المعنون "مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقى"، حيث يقول: منذ دخل شوقى إلى المسرح العربى أداة جديدة وهى الشعر فإن دراسة هذا المسرح لم تتوق. وقد تعدت هذه الدراسات محاولة الوقوف عند دراسة النصوص المسرحية وعرضها، أو الأداء الشعرى وكيفية مطاوعته لفن المسرح إلى الحديث عن علاقة مسرح شوقى بالتراث العرب. وتأثير المذاهب الغربية من كلاسيكية رومانسية وواقعية على هذا المسرح.
استخدم شوقى قصة باقية معروفة فى الأدب العربى، شائعة بين العامة والخاصة. وعلى الرغم من قدمها فإنها لازالت جزءا من التراث العربى، ولازال اسما قيس وليلى يعيشان رمزا للحب العذرى الصادق؛ فالقصة تخطت حدود الزمن لتعيش فى كل عصور الأدب العربى.
ركز شوقى على عناصر عدة فى رسم شخصياته؛ فهى تمثل أخلاقياتها عامة للجمال الصافى النقى والعاطفة التى لا تأثير للزمن عليها؛ إذ إنها دائما مشتعلة لا تعرف التوقف، ومع هذا الاشتعال فهى لا تتنازل عن أخلاقياتها فى سبيل تحقيق أغراضها.
ولم يتوقف شوقى عند الجمال فى رسم الشخصيات؛ وإنما قدم أيضا الجمال فى الحدث، فأحداث القضية تتابع فى خط واحد حتى يجسد العالم المحيط بقيس قصة حبه الخالدة.
* منقول عن:
بوابة الحضارات | تجليات أسطورة الخلق الفنى فى الأدب العربى..!!
وقد وجهت الأسطورة –عند من يؤمن بها ومن لا يؤمن بها- إلى استخدامها فى الفن الإنسانى.
وهذا الكتاب للدكتور/ أحمد شمس الدين الحجاجى، الذى يتناول من خلاله استخدام الأدباء العرب للأسطورة فى بنية فنية تستعيد فيها الخلق الفنى للأدب كما رآها المبدع العربى القديم، ودورها فى استلهام ذلك الأدب العظيم.
قسم "الحجاجى" الكتاب إلى مقدمة وبابين مهمين، الأول: للنثر، والثانى: للشعر، وقسم كل باب إلى فصلين، يقول فى مقدمته: هذا الكتاب يمثل عصارة رحلة طويلة لى مع الأسطورة؛ فالأسطورة ليست علما فقط بالنسبة إلىّ، ولكنها أسلوب حياة أيضا، عشتها عقيدة وحياة فى صغرى وكبرى وفى رحلاتى لكوريا وأوربا وأمريكا وكثير من بلدان العالم العربى؛ فالإنسان عندى أسطورة، إذا أدركتها أدركته وفهمته.
المقامة الأسودية والإبليسية..
وجاء الفصل الأول تحت عنوان: "المقامة الأسودية والإبليسية للهمذانى"، وقد نال بديع الزمان الهمذانى شهرة كبيرة فى الأدب العربى بكتباته المقامات المشهورة باسمه، والمقامة نوع من القصص القصيرة مبنية فى معظمها على شخصيتين؛ إحداهما عيسى بن هشام والأخرى أبو الفتح السكندرى، وهو من الأدباء اليسارين أو المكدين السائلين، يطوف من كل مكان يستجدى الناس بفصاحته. وراوى القصة هو عيسى بن هشام الذى كثيرا ما يحكى أخباره وأخبار صاحبه إلى الفتح السكندرى.
ويوضح المؤلف أن المقامة الأسودية سميت بهذا الاسم نسبة إلى الأسود بن قنان الذى نزل بيته عيسى بن هشام. وقد اتهم بأنه أصاب ملا بغير حق؛ فهام على وجهه هاربا حتى أتى إلى البادية، ووصل إلى ظل خيمة يستظل بها، فصادف غلاما حدثا يلعب فى التراب مع أترابه، وهو ينشد الشعر، تعجب عيسى من قدرة الغلام، فرد عليه الطفل كاشفا له السر فى نبوغه الشعرى صغيرا:
إنى وإن كنت صغير السن وكأن فى العين نبوغى
فإن شيطانى أمير الجن يذهب بى فى الشعر كل فن
حتى يرد عارض التظنى فامض على رسلك ولأغرب عنى
وبعد ذلك انتقلت المقامة إلى الموضوع الأساسى وهو الكدية والمدح بمناداة الفتى الصغير على فتاة،فتحضر ويطمئن عيسى إلى أنه نزل فى مأمن، يستخدم الهمذانى ذلك مدخلا ليمتدح الأسود بن قنان، ثم يتحرك بعدها للشكل العام الذى بنى عليه معظم مقاماته، وهو الكدية؛ فالفتاة تومئ للفتى الصغير أن يأخذه إلى بيت الأسود حيث يجد أبا الفتح السكندرى بين الضيوف.
التوابع والزوابع..
وينتقل بنا إلى الفصل الثانى المعنون "التوابع والزوابع لابن شهيد"، حيث يؤكد الكاتب على أن أبو عامر أحمد الملقب باين شهيد من أهم الكتاّب الذين استخدموا هذا الموضوع فى أعمالهم الأدبية، وقد أشتهر ابن شهيد بالشعر والنثر ولكن أهم أعماله التوابع والزوابع الذى استخدم فيه موضوع الجن وارتباطه بالإبداع الأدبى، وما بقى من أعمال ابن شهيد الشعرية والنثرية لا يصل إلى مستوى التوابع والزوابع، فهذا العمل لا يعد أهم ما خلف ابن شهيد من أعمال أدبية فحسب، وإنما يعد أيضا من أهم الأعمال الأدبية التى بقيت لنا من التراث القديم.
ويضيف أن رسالة التوابع والزوابع أدت وظيفة مهمة لابن شهيد، وهى محاولة الدفاع عن نفسه وعن أعماله الشعرية والنثرية أمام معاصريه، ولقد ظهر هذا الدفاع مباشرا فى أكثر من موضع فى الرسالة، وقد يكون هذا الدفاع مقنعا لمعاصريه أو غير معاصريه من قرائه، إلا أن الدفاع الحقيقى الذى دافع به ابن الشهيد عن نفسه كان الرسالة نفسها، وقد كتب هذا العمل من خلال عنصرين مرتبطين بالكاتب.
العنصر الأول: هو نظرة الكاتب داخل ذاته مدركا بوعى إحساسه بالتفوق والتفرد على معاصريه.
العنصر الثانى: هو الوعى بالجماعة والمجتمع المحيط به؛ لذا فإن العمل يكشف عن رؤية ابن الشهيد لنفسه من خلال علاقته بالجماعة والمجتمع.
ويعرج هذا الفصل على حساد ابن الشهيد، فقد نال من حساده كثيرا باستخدامه لتوابع الجن وشمل فى نقده لهم رؤيته لنفسه ولمجتمعه، وعلى نشأته الأرستقراطية فى قرطبة، وفى الفترة التى ولد وعاش فيها ابن الشهيد حتى وفاته وهى فترة لا تتعدى ثلاثة وأربعون عاما تغير فيها وجه قرطبة والأندلس تغيرا كاملا انتهت إثره الدولة العامرية.
أسطورة الجن:
ويتناول الفصل الأول من الباب الثانى، دراسة قصيدة الحكم بن عمرو البهرانى، وهى قصيدة كانت الأسطورة موضوعها، كما كان الجن وعلاقته بالخلق الفنى أحد العناصر المكونة لبنائها.
ولقد تحدث كثير من الشعراء عن أسطورة الجن وعلاقاتهم بالإنسان، يتبدى فى بعضها أن هؤلاء الشعراء يؤمنون بما يقولون أو أنهم يعلمون أن جمهورهم يؤمن به، وقد روى الجاحظ عن أبى نواس أنه خرج يطلب أعرابيا فصيحا فسأله، هل القنفذ يحمل الجنى؟ أم الجنى يحمل القنفذ؟ قال: هذا من تكاذيب الأعراب، وأنشده شعرا فى قنفذ ويربوع رآهما ليلة يلتمسان الرزق، وقد ربط بينهما وبين الجن، فسأله إن قال غير هذا الشعر؛ فأنشده:
أراه سميعا للسرار كقنفذ لقد ضاع سر الله يا أم معبد!
ويروى هذا الأعرابى أن هذا الشعر أصدق شئ قاله لزوجته، ولقد كانت قصيدة الحكم بن عمرو البهرانى أكمل قصيدة تحدثت عن الاعتقادات فى الجن وعلاقاتهم بالإنسان.
ويمضى المؤلف فى شرح مضمون هذه القصيدة، وأهميتها فى هذا العصر، وخلص إلى أن هذه القصيدة لم تحظ بالاهتمام، لذا انحصر الموضوع عن الأدب الرسمى ودخل دائرة الأدب الشعبى.
مجنون ليلى:
ويختتم الكتاب فى الفصل الثانى المعنون "مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقى"، حيث يقول: منذ دخل شوقى إلى المسرح العربى أداة جديدة وهى الشعر فإن دراسة هذا المسرح لم تتوق. وقد تعدت هذه الدراسات محاولة الوقوف عند دراسة النصوص المسرحية وعرضها، أو الأداء الشعرى وكيفية مطاوعته لفن المسرح إلى الحديث عن علاقة مسرح شوقى بالتراث العرب. وتأثير المذاهب الغربية من كلاسيكية رومانسية وواقعية على هذا المسرح.
استخدم شوقى قصة باقية معروفة فى الأدب العربى، شائعة بين العامة والخاصة. وعلى الرغم من قدمها فإنها لازالت جزءا من التراث العربى، ولازال اسما قيس وليلى يعيشان رمزا للحب العذرى الصادق؛ فالقصة تخطت حدود الزمن لتعيش فى كل عصور الأدب العربى.
ركز شوقى على عناصر عدة فى رسم شخصياته؛ فهى تمثل أخلاقياتها عامة للجمال الصافى النقى والعاطفة التى لا تأثير للزمن عليها؛ إذ إنها دائما مشتعلة لا تعرف التوقف، ومع هذا الاشتعال فهى لا تتنازل عن أخلاقياتها فى سبيل تحقيق أغراضها.
ولم يتوقف شوقى عند الجمال فى رسم الشخصيات؛ وإنما قدم أيضا الجمال فى الحدث، فأحداث القضية تتابع فى خط واحد حتى يجسد العالم المحيط بقيس قصة حبه الخالدة.
* منقول عن:
بوابة الحضارات | تجليات أسطورة الخلق الفنى فى الأدب العربى..!!