أدب السجون إبراهيم عبد المجيد - الأدباء والسجون

لماذا يدخل الأدباء السجون؟ للإجابة على هذا السؤال ستجد عشرات الأسباب فهناك من اتهم بمعاقرة الخمر والإشادة بها، أو اتهم بالزندقة والكفر، كما حدث في العصور الإسلامية. وهناك من هجا القبيلة أو الحاكم، كما حدث في عصور ما قبل الإسلام. المئات عبر العصور الإسلامية عرفوا مرارة السجون، والأمر طبعا لم يتوقف. استمر حتى العصر الحديث، رغم قيام دول عصرية، أو يقال إنها كذلك.
لقد عرفت السجون في كل الدول العربية بلا استثناء كثيرا جدا من الأدباء والكتاب، ولا تزال. وفي مصر مثلا عرفت السجون في العصر الحديث أدباء وشعراء مثل محمود سامي البارودي وعباس محمود العقاد في بداية عصر النهضة، وعرفت بعد ذلك أيام الحكم الناصري وبعده. أعني منذ عام 1952 أسماء مثل يوسف إدريس ومحمود السعدني وصنع الله إبراهيم وسمير عبد الباقي والأبنودي، وطبعا أحمد فؤاد نجم ولطيفة الزيات ونوال السعداوي وجمال الغيطاني، وبعدهم مثل سعيد الكفراوي ومحمود الورداني وعبده جبير، والشعراء محمد سليمان وأحمد طه وفتحي عبد الله وغيرهم أسماء كثيرة لا تنتهي.
ناهيك عن المفكرين والسياسيين، فأنا اليوم أتحدث عن الأدباء ولغز سجنهم أو، بمعنى أدق، المبدعين. هؤلاء أصحاب ما يسمى بالقوة الناعمة، أي الفن الذي ليس هو دبابة ولا مدفعا رشاشا ولا قنبلة من أي نوع . هو حديث الروح.
الأمر طبعا لم يكن في العالم العربي فقط، بل امتد ليشمل من قبل الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وكوبا وتقريبا كل دول أمريكا اللاتينية، وكذلك إسبانيا أيام فرانكو، وهكذا. ما الذي يجعل النظم الشمولية في الأغلب أو نظم الحاكم الفرد تسجن الأدباء وتقتلهم في بعض الأحيان وتساوي بينهم وبين المعارضة السياسية، أو المعارضة المسلحة، بينما منتج الأدباء قصة قصيرة أو قصيدة أو رواية أو ديوان شعر أو مسرحية. منتج تستمتع به أو تلقي به إذا لم يعجبك. بضاعة في النهاية غير سرية، بل مُتاحة في المكتبات وعلى الأرصفة، وعلى صفحات الصحف. أفهم أن يتم ذلك تحت نير الاستعمار الذي لايرضى بأي صوت مغاير أو مشجع على المقاومة، كما حدث لمحمود سامي البارودي الذي كان ضابطا عسكريا كبيرا انضم للحركة العرابية أو لكتاب فلسطين تحت حكم الاستعمار الصهيوني مثل محمود درويش أو سميح القاسم أو توفيق زياد أو راشد حسين، أو غيرهم، لكن بلدا قويا كما حدث أيام الخلافة الإسلامية والعصور الإسلامية كلها ما الذي يرعب الحاكم من الأدباء أو الفنانين، وقديما حتى كان الإبداع لا ينتشر بين الناس كما هو الآن . لماذا لا يفهم أحد أن الادباء يخرجون من ساحة المعارضة لأي نظام لأنهم يبحثون دائما عما هو أفضل في أي زمان ومكان، حتى لو أقيمت الجنة على الأرض. لا أحد يفهم أبدا سر معارضة الأدباء للحكم.
أفلاطون كان أول من فهم ويظل فهمه هو الأبسط والأجمل والأوقع والأحق، فالرجل وهو يرسم عالم المدينة الفاضلة أوصى بعدم دخول الشعراء إليها، لأنهم لن يتماهوا أبدا مع ما فيها.. لماذا؟ لأنهم ينشدون دائما ما هو أفضل حتى من المدينة الفاضلة. هذا أمر لا يكتسبه الأدباء ولا الفنانون. هذا أمر مجدول مع الموهبة، فالموهبة ليست الكتابة فقط أو حبها لكن أيضا أن تلوذ بالهامش الذي يبدو ضيقا، لكنه في الحقيقة أوسع حيث الرؤية والحكمة. والهامش الذي اقصده هو الاستغراق في الإبداع بعيدا عما حولك. هذا عمل روحي أكثر مما هو عمل عقلي.. حتى لو انضم الأدباء إلى أحزاب معارضة فسرعان ما يتركونها بعد أن ينالوا بعض الخبرات في الدنيا. والتاريخ يحدثنا عن أدباء كثيرين انضموا لأحزاب سياسية ثم تركوها فهم ضد القيود، لكل منهم نداهة أخرى هي الفن أو الكتابة. السياسيون يمكن أن تتغير مواقفهم حتى من النظام الحاكم الذين يعارضونه، وقد رأينا مثلا أن كثيرا جدا من اليساريين المصريين بعد خروجهم من المعتقلات أيام عبد الناصر صاروا مؤمنين بجدوى ما يفعله من أجل البسطاء، أو الاشتراكية كما كان الشعار. وكثير منهم تولى مناصب مهمة في الثقافة والإعلام، وكانوا صادقين مع أنفسهم. ولقد رأينا الإخوان المسلمين وكيف تغير موقفهم من ثورة يوليو/تموز وتعاونوا مع السادات حتى خرجت منهم جماعات متشددة قتلته! الأدباء يلوذون بالصمت عن الحديث، ممكن، لكنهم يلوذون أكثر بأعمالهم الأدبية التي تقيم عالما موازيا أجمل مما حولهم حتى لو كان أصله القبح السائد في الحياة من حولهم. الأنظمة الديمقراطية ترى في ازدهار الأدب ازدهارا للروح، والسبب بسيط جدا وهو أن الحاكم عابر يعرف أن أهدافه عابرة وليست أبدية، وإذا كان هناك سبب، بل أسباب لسجن المفكرين والسياسيين وهو أمر أيضا لا يمكن الموافقة عليه إلا أنه يمكن أن ينتهي بتغير موقف السياسي أو المفكر أو زوال الحاكم. في الأدب الأزمة لا تنتهي، فالأديب أصلا لا يتوافق مع هذا العالم كله.
ولا يكون ذلك بالقصد لكن بالطبيعة الروحية للإبداع. هي محنة أزلية وأبدية لا تنتهي إلا بتطور المجتمعات نحو الديمقراطية. معركة النظم الشمولية مع الأدباء والفنانين في المكان الخطأ، لأن أصحابها لا يمكن أن يخرجوا من هامش عدم الاتفاق مع الدنيا كلها مهما كان المجتمع جميلا. إنها تضع الأديب المبدع في خانة المعارضة السياسية التي في الغالب قد لا يتوافق معها أيضا! لكن لا أحد يدري، في النهاية أنتج الأدباء المساجين أعمالا فنية أدانت الأنظمة التي سجنتهم أكثر من كل ما كتبته المعارضة وأهم، سينما أو رواية أو شعرا أو غيرها فهؤلاء لا يضيع حقهم، حتى لو من غيرهم ممن لم يصبهم الأذى، وستظل الأعمال باقية وشاهدا على عصرها. والأمثلة كثيرة على رأسها فيلم «451 فهرنهايت» الذي لم يكتبه أو يخرجه أو يمثله مسجون سابق، فما بالك بما كتب أو أنتج المساجين. لقد صارت روايات السجون رافدا في أدبنا العربي، وتظل باقية والحديث عنها طويل، لكن منها على سبيل المثال «العين ذات الجفن المعدنية» لشريف حتاتة و«شرف» لصنع الله إبراهيم و«العسكري الأسود» ليوسف إدريس و«القطار» لصلاح حافظ و«الحقد الأسود» لشاكر خصباك و«السجن» لنبيل سليمان و«الوشم» لعبد الرحن مجيد الربيعي و«يا صاحبي السجن» لأيمن المعتوم و«القوقعة» لمصطفى خليفة و«شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف و«الزنزانة رقم 10» لأحمد المرزوقي و«تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلون و«الكرنك» لنجيب محفوظ وعشرات الروايات والدواوين لمن سجنوا، أو لم يسجنوا ستبقى علامة على من لم يفهموا لماذا يكون الأديب ناشزا عن هذا العالم.

٭ روائي مصري


إبراهيم عبد المجيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى