الباب الثالث
البحر في الحديث الشريف
ورد ذكر البحر في الكثير من الأحاديث الشريفة في معرض الإرشاد والموعظة والترغيب في عمل البر كما جاء في بعضها أحكام وتشريعات، ففي الحديث الآتي ينهى رسول الله {صلى الله عليه وسلَّم} عن ركوب البحر لغير ضرورة ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص {رضي الله عنهما} قال ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ{صلى الله عليه وسلم}:((لاَ يَرْكَبَنَّ رَجُلٌ بَحْرًا إِلاَّ غَازِيًا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجًّا فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرٌ وَتَحْتَ الْبَحْرِ نَارٌ وَلاَ يُشْتَرَى مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فِي ضَغْطَةٍ)).(1) فقد حدّد {عليه الصلاة والسلام } المجالات التي يُسْتَحَبُّ فيها ركوب البحر وهي الجهاد في سبيل الله ، والحجّ والعمرة إلى بيت الله ، لأن الرسول الكريم ما أحبَّ لأمَّته المخاطرة بحياتهم في مغامرات غير مضمونة العواقب ، لذلك نهى عن ركوب البحر فيما لا طائل منه ،كما نهى في هذا الحديث أن يستغل المسلم ضائقة أخيه المسام وحاجته الماسة فيشتري منه متاعه بثمن بخس كما أن كشف الرسول الأعظم ، في هذا الحديث ، عن حقيقة علمية أثبتها البحث العلمي بعد قرون ، ألا وهي أنّه ثمّة نار تحت مياه البحر . نعم في باطن الأرض نار ملتهبة وحمم بركانية، عبارة عن مواد منصهرة من شدّة الحرارة. وهذه التي نشاهدها تخرج من البراكين الثائرة.
أما أن يكون تحت هذه النار بحر آخر فهذا لم يعرفه البحث العلمي الحديث بعد، إلا أن يُراد أنَّ تلك الحُممَ التي في باطن الأرض أشدُّ انصهاراً بحيث تشبه الماء .
والذي هو أقرب للذهن ، بحسب المعطيات الحالية ، أنّك لو واصلت في التقدم نحو مركز الأرض ثم تجاوزت المركز إلى الناحية الأخرى من الكرة الأرضية فإنك تجد من الطرف الآخر للكرة الأرضية بحاراً ومحيطات أخرى ، والله أعلم. (2)
لكن الرسول الكريم الذي حذر من ركوب البحر فيما لا نفع فيه جعل للمؤمن حصناً من خطر هذا البحر الذي لا يُؤمَنُ جانبُه ، فعلمنا كلمات نقولها فنأمنَ من غضب البحر ونتجنّب أخطاره.قَالَ رَسُولُ اللهِ {صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}:((أَمَانٌ لأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا الْبَحْرَ أَنْ يَقُولُوا : ((بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جميعاً قبضتُه والسموات مطويات بيمينه ))، الآيَةَ (3)
و هذه قصّةٌ وردت في الصحيحين من طرق متعدِّدةٍ عن رجلٍ مِن بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه ، وعندما حضرته الوفاة جمع أبناءه وقال لهم : أيَّ أبٍ كنتُ لكم ؟ فأثْنَوْا عليه خيراً ، فقال لهم : إني لم أفعل في حياتي خيراً قط ، فو الله لئن قَدِرَ اللهُ عليَّ ليُعذِّبَني عذابًا شديدًا ، فإذا متُّ فحرِّقوني وذرّوا رمادي نصفَه في البرِّ ونصفه في البحر، واخذ عليهم مَوْثِقاً بذلك ، ففعل به بَنوه ذلك لمّا ماتَ ، فأمرَ اللهُ البحرَ فجمع ما فيه ، وأمرَ البرَّ فجمع ما فيه ؛ فإذا هو قائم ، فسأله اللهُ عن ذلك فقال:ما الذي حملك على ذلك ؟ قال : يا ربّ مخافتُك ، قال النبيُّ {صلى الله عليه وسلم}:فغفر الله له.وهذه روايةُ الإمام مسلمٍ فيما رواه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {رضي الله عنه} أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ {صلى الله عليه وسلم} قَالَ:((قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لأَهْلِهِ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَ اللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ : لِمَ فَعَلْتَ هَذَا ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ . فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ)).(4)
وهذا البحر الزاخر الذي يحتفظ برماد ذلك النادم الذي ظلم نفسه بما فرّط في حقّ الله نراه يضيق بكلمة غيبةٍ من النوعِ الذي لا يعبأ به أكثر البشر ، وفيه انتقاصٌ من قدر إنسان ، ولو كانت هذه الكلمةُ تعبّر عن صفةٍ أَوْدَعها الخالقُ {سبحانه} فيه وليست من كسبه ، كالطول أو القصر أو غير ذلك ، فعن أمِّ المؤمنين السيدة عائشة الصدّيقة {رضي الله عنها} قالت:قلتُ للنبيّ{صلى الله عليه وسلم} حَسْبُك من صَفيّةَ كذا وكذا ــ تعني : قصيرة ــ فقال :((لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماء البحر لمزجتْها)).(5) إذاً، لقد مازجت هذه الكلمةُ الغيبةُ ، من الصِدِّيقةِ ابنةِ الصِدّيق {رضي الله عنهما} ماء البحر الكثير والكثير جدّاً بالسوء، فنهاها الرسولُ الكريمُ أن تعود لمثلها ، وفي ذلك تعليم لنا وتحذير من أن يقع بعضُنا في عِرض البعض الآخر ، وشبّه في حديثٍ آخرَ هذا العمل بأكلِ لحمِ الجيفةِ وما فيه من إثم عظيم.
وهذه صورةٌ أخرى للبحر في الحديث الشريف ، صورة الإنسان المؤمن الذي يخاف الله {عزَّ وجلَّ} ويؤتمن على دراهم فيحفظ الأمانة ويحملها من شاطئ إلى شاطئ ليؤديها إلى صاحبها . فعن أبي هريرة {رضي الله عنه} عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال :((كان رجلٌ يُسلِّفُ الناسَ في بني إسرائيل ، فأتاه رجلٌ فقال : يا فلان أسلفني ستَّ مئةِ دينارٍ . قال : نعم إن أتيتني بكفيلٍ . قال : اللهُ كفيلي . فقال : سبحان الله، نعم قد قبلتُ اللهَ كفيلاً ، فأعطاه ستَّ مئة دينار ، وضرَبَ له أجلاً ، فركب {الرجلُ}البحرَ بالمال ليتَّجر به ، وقدَّر اللهُ أنْ حلَّ الأجلُ وارتجَّ البحرُ بينهما ، وجعل ربُّ المال يأتي الساحلِ يسألُ عنه ، فيقول : الذين يسألهم عنه تركناه بموضع كذا وكذا ، فيقول : رَبُّ المالِ اللهمَّ أخلِفني في فلان بما أعطيتُه بك ، قال : وينطلق الذي عليه المالُ فينحت خشَبَةً ويجعل المالَ في جوفِها ثم كتبَ صحيفةً من فلان إلى فلان : إنّي دفعتُ مالك إلى كفيلي ، ثمَّ سَدَّ على فَمِ الخَشَبَةِ فرمى بها في عُرْضِ البحر ، فجعل {البحرُ}يهوي بها حتّى رمى بها إلى الساحل ، ويذهب رَبُّ المال إلى الساحل فيسألُ فيجد الخشَبَةَ فحَمَلَها فذهب بها إلى أهله ، وقال : أوقدوا بهذه فكسروها فانتثرت الدنانير والصحيفة ، فأخذها فقرأها فعرَف ، وتقدم الآخر فقال: له ربُّ المال: مالي ، فقال : قد دفعتُ مالي إلى كفيلي الموكل بي ، فقال له : أوفاني كفيلُك)) قال أبو هريرة فلقد رأيتُنا يكثر مِراؤنا ولغطُنا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيننا أيهما آمن {أكثر أمانةً}. (6)
وفي هذه القصة التي حكاها الحديث الشريف آنفاً ما لا يخفى من بليغ الموعظة وعظيم العِبرة , من وجوب وفاء المرء بعهده وأدائه ما في ذمته من دينٍ. فإذا صدق في عهده وأخلص في نيّتِه ، وحالت بينه وبين وفائه ظروف قاهرة ، خارجة عن إرادته ، أدّى الله عنه ،كما ورد في
أحاديث أخرى لا مجال لذكرها في هذا الكتاب .
وهذا البحر الزاخر بالعجائب الفيّاض بالخيرات المؤدّي للأمانات، محبٌّ للخير يجلُّ العلمَ ويحترم العلماء ، حتى إن أسماكه وحيتانه تشارك الموجودات بالدعاء والاستغفار لطلبة العلم فيما روَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ {رضي الله عنه}قَالَ:قَالَ رَسُولُ الله {صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}:((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَطَالِبُ الْعِلْمِ ــ أَوْ صَاحِبُ الْعِلْمِ ــ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ)).(7)
والبحر بعد ذلك طاهرٌ مطهِّرٌ عند النبيِّ الخاتم ، فقد سأله رَجُلٌ فقَالَ :
يَا رَسُولَ الله ، إِنَّا نَرْكَبُ أَرْمَاثًا فِي الْبَحْرِ ، فَنَحْمِلُ مَعَنَا الْمَاءَ لِلشفه، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِمَائِنَا عَطِشْنَا ، وَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِمَاءِ الْبَحْرِ ، كَانَ فِي أَنْفُسِنَا مِنْهُ شَيْءٌ ! فَقَالَ رَسُولُ الله:{صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}:((هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)).(8)
وعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيُّ {صلى الله عليه وسلم} قَالَ:((مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْبَحْرُ فَلاَ طَهَّرَهُ اللَّهُ)).(9) وهو دعاء منه {عليه الصلاة والسلام} على مَن شكَّ في هذا الحكم الشرعي الذي شرعه النبيُّ الكريم ، وفيه أيضاً نفي
لوسواس النفس والشيطان .
وقد حرص الرسول على أمته أشدَّ الحرص ، ولا غرو فهو أرحم بنا من أنفسنا ، لأنه ربما يضرُّ أحدُنا نفسه عن جهل أو تهوّرٍ وربما تأخذُه شهوات نفسِه ووساوس شيطانِه إلى ما فيه هلاكه ، أمّا رسولُ الله فهو المعصوم عن الخطأ الذي:((وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحيٌ يوحى)).(10) وهو الرحمةُ المهداةُ ، وقد وصفَه ربُّهُ بأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، قال تعالى في كتابه العزيز:(( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)).(11) وقال في أيضاً:((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (12)
وجاء ذكر البحر في حديث آخر من هديه {عليه الصلاة والسلام} مثل للحياة الاجتماعية بسفينة في البحر والمجتمع فيها كجماعة من ركّابها ، جماعة في أعلاها وجماعة في أسفلها ، ولنَستمِعْ إلى النعمان بن بشير {رضي الله عنه} يروي هذا الحديث عن سيدنا رسول الله،قال:قال رسول الله:((مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها ، كمثل قوم استهموا ، على سفينة في البحر ، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، وكان الذين في أسفلها يخرجون فيستقون الماء ويشقّون على الذين في أعلاها ، فقال الذين في أعلاها:لا ندعكم تمرون علينا فتؤذونا، فقال الذين في أسفلها : إن منعتمونا فتحنا بابا من أسفلها، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم ، نجوا جميعاً ، وإن تركوهم هلكوا جميعاً)).(13) إذاً نحن في هذه الحياة مجتمع متكافل متضامن خيره يعم الجميع وشرُّه كذلك ، فيجب على الفرد أن يراعي مصلحة الآخرين في تصرّفاته الشخصيّة ، فهو حرٌّ طالما أنّ حرّيته الشخصيّة هذه لا تتعارض مع حريات الآخرين ، ثم إنه من الواجب على المجتمع أنْ يمنع الانحراف عن الخط القويم والصراط المستقيم وإلاّ حصد السوء .
وهذا حديث آخر في نفس السياق تقريباً ، يوجب الاحتياط للأمور وعدم الزجّ بالنفس في المخاطر وتعريضها إلى المهالك ، فإنَّ الله الذي خلق هذه النفس محاسبٌ صاحبَها عن كلِّ ضرر يلحقه بها عامداً متعمّداً ، وليس من حقِّ المرء أن يقول {نفسي وأنا حرٌّ بها} .
لذلك يقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم}:((مَنْ بَاتَ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ ، وَمَنْ رَمَى بِلَيْلٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَمَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ فِي ارْتِجَاجِهِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ)).(14)
وَارْتِجَاجُ الْبَحْرِ هَيَجَانُهُ . والمؤمن محظور عليه أن يركب البحر حال هياجه ، وكذلك أن ينام على سطح غير مسيّج أو أن يرمي السهم ليلاً ، ومثلُ السهمِ الرصاص في عصرنا ، فهو أمر محظور في الليل إلا إذا كان الإنسان يرى ما يرميه ، لما في ذلك كله من مخاطرة بالنفس البشرية، إذ قد تؤدي هذه الأفعال إلى هلاكها ، وهي وديعةُ اللّه عندك أيها الإنسان فيجب عليك المحافظة عليها لا أن تعرضها لما يسيء إلى هذه الأمانة .
ثمّ نختم هذا الباب بجملة من الأحاديث التي بشّر بها رسول الله{صلى الله عليه وسلم} أمته بأنه سوف يركبون البحر فاتحين ، وبأنهم سوف يسيطرون عليه ، حتى يكون لهم بمثابة سرير الملك ،فعن سيدنا عمر بن الخطاب {رضي الله عنه} قال:قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}:((يظهر الإسلام حتى تخوض الخيل البحار ، وحتى يختلف التجار في البحر ..)).(15) عن أنس بن مالك قال ، قال رسول الله {صلى الله عليه و سلم} : ((يركب قومٌ من أمّتي ثَبَجَ البحر ، أو ثَبَجَ هذا البحر، هم الملوك على الأسِرَّة أو كالملوك على الأسِرَّة)) . (16)
و في حديث آخر عن الصحابيّة الجليلة أُمِّ حَرَامٍ أنّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ {صلى الله عليه وسلم} يَقُولُ:((أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ هَذَا الْبَحْرَ،قَدْ أَوْجَبُوا، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنَا فِيهِمْ ؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ ثم قَالَ:أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ،مَغْفُورٌ لَهُمْ قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَنَا مِنْهُمْ ؟ قَالَ : لا)) . (17)
وقد رغّب {عليه الصلاة والسلام} أمَّته بركوب البحر جهاداً في سبيل الله وإعلاءً لكلمته ، جاء ذلك في أحاديث كثيرة نذكر بعضاً منها:((وغزوة في البحر خير من عشرِ غزوات في البرِّ ومَنِ اجتاز البحرَ فكأنما اجتاز الأودية كلَّها والمائدُ فيه كالمتشحِّطِ في دَمِه)).(18) فالأجر على قدْر المتاعب والمخاطر ، ولا يخفى أنَّ الغزو في البحر أعظم خطراً من البحر وأن متاعبه أشدً.
وقد فضّل {عليه الصلاة والسلام} شهادة البحر على الشهادة في البرِّ، قال:((إن شهداء البحر أفضل ُعند الله من شهداء البر)).(19) والسببُ واضح كما سلف ، ولذلك اندفع المسلمون ، ومنذ عصر الإسلام الأول وعبر القرون المتتالية حتى أواخر أيام الدولة العثمانية ، يصارعون أمواج البحار لينشروا النور والهداية في أصقاع المعمورة فوصلت زحوفهم إلى فيينا وقرعت أبواب باريس ورفعت راياتها على سوار الصين .
وعن الصحابي الجليل سلمان الفارسي {رضي الله عنه} عن النبي{صلى الله عليه وسلم} قال:((إنّ الله عز وجل يقبض أرواح شهداء البحر بيده ولا يَكِلهم إلى ملك الموت ، ومَثَلُ روحِهِ حين يخرج من صدره كمثل اللبن حين يدخل صدره)).(20)
وعن أنس بن مالك {رضي الله عنه} عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنّه قال:((من حرس ليلة على ساحل البحر كان أفضل من عبادة رجل في أهله ألف سنة السنة ثلاث مئة وستون يوماً كل يوم ألف سنة)).(21)
فهنيئاً للمجاهدين في سبيل الله الذين تجشّموا الصعاب وركبوا المخاطر وطووا البحار لينشروا نـور الإســـلام والحق والعدالـــة حاملين إلى البشريّة رسالة الله التي فيها عزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ففازوا برضوان الله ومحبّته وجزيل عطائه .
فقد صدق الصحابة الكرام {رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم} عهدهم لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} عندما قام سعد بن عبادة خطيباً باسم الأنصار {رضي الله تعالى عنهم} قُبيْل غزوة بدر إذ كان الرسول خرج بأصحابه يريد قافلة لقريش الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقد حان الوقت ليستردّوا بعضَ ما سُلب منهم ، ووصل الخبر إلى أبي سفيان فقاد القافلة بعيداً فنجت ، وخرج جيش المشركين من مكة بقيادة أبي جهل لقتال المسلمين ، وتغيرت أهداف خروجه {صلى الله عليه وسلم} فطلب المشورة من أصحابه فقام عدد من المهاجرين مفوضين الأمر إليه، ولكنّه {صلى الله عليه وسلم} كان في كلِّ مرة يقول : ((أشيروا عليَّ فقام)) زعيم الأنصار سعد بن عبادة {رضي الله عنه} فقال : ((إيانا تريد يا رسول الله ؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أنْ نُخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أنْ نَضرِبَ أكبادَها إلى بَرْك الغَمادِ لفعلنا)). (22) وبرك الغماد مكان كثير السباع شديد المخاطر يعدل في خطره البحر وربما فاقه ، فجزاهم الله تعلى عن الإسلام والمسلمين ما يليق بكرمه فقد كانوا كما وصفهم ربهم:((وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلها)).(23)
مصادر الباب الثاني:
1 ــ السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص : / 18 / .
2 ــ أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر – (ج 1 / ص 75)
3 ــ إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي – (ج 1 / ص 273)
4 ــ صحيح مسلم – (ج 8 / ص 97)
5 ــ جمع الجوامع أو الجامع الكبير للإمام السيوطي(ج1 ص 16465) حديث حسن صحيح .
6 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 21354)
7 ــ إتحاف الخيرة المهرة – (ج 1 / ص 197)
8 ــ إتحاف الخيرة المهرة – (ج 6 / ص 121)
9 ــ السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي – (ج 1 / ص 4)
10 ــ سورة النجم الآيتان : / 3و4 / .
11 ــ سورة الأحزاب ، الآية : / 6 / .
12 ــ سورة التوبة الآية : / 128 / .
13 ــ البحر الزخّار ـ مسند البزّار – (ج 8 / ص 191)
14 ــ إتحاف الخيرة المهرة – (ج 6 / ص 479)
15 ــ البحر الزخار ـ مسند البزار – (ج 1 / ص 367)
16 ــ مسند أحمد بن حنبل – (ج 3 / ص 240)
17 ــ إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي – (ج 9 / ص 484)
18 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 16604)
19 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 16823)
20 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 16842)
21 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 16678)
22ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 17019)
23 ــ سورة الفتح ، الآية : / 26 / .
البحر في الحديث الشريف
ورد ذكر البحر في الكثير من الأحاديث الشريفة في معرض الإرشاد والموعظة والترغيب في عمل البر كما جاء في بعضها أحكام وتشريعات، ففي الحديث الآتي ينهى رسول الله {صلى الله عليه وسلَّم} عن ركوب البحر لغير ضرورة ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص {رضي الله عنهما} قال ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ{صلى الله عليه وسلم}:((لاَ يَرْكَبَنَّ رَجُلٌ بَحْرًا إِلاَّ غَازِيًا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجًّا فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرٌ وَتَحْتَ الْبَحْرِ نَارٌ وَلاَ يُشْتَرَى مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فِي ضَغْطَةٍ)).(1) فقد حدّد {عليه الصلاة والسلام } المجالات التي يُسْتَحَبُّ فيها ركوب البحر وهي الجهاد في سبيل الله ، والحجّ والعمرة إلى بيت الله ، لأن الرسول الكريم ما أحبَّ لأمَّته المخاطرة بحياتهم في مغامرات غير مضمونة العواقب ، لذلك نهى عن ركوب البحر فيما لا طائل منه ،كما نهى في هذا الحديث أن يستغل المسلم ضائقة أخيه المسام وحاجته الماسة فيشتري منه متاعه بثمن بخس كما أن كشف الرسول الأعظم ، في هذا الحديث ، عن حقيقة علمية أثبتها البحث العلمي بعد قرون ، ألا وهي أنّه ثمّة نار تحت مياه البحر . نعم في باطن الأرض نار ملتهبة وحمم بركانية، عبارة عن مواد منصهرة من شدّة الحرارة. وهذه التي نشاهدها تخرج من البراكين الثائرة.
أما أن يكون تحت هذه النار بحر آخر فهذا لم يعرفه البحث العلمي الحديث بعد، إلا أن يُراد أنَّ تلك الحُممَ التي في باطن الأرض أشدُّ انصهاراً بحيث تشبه الماء .
والذي هو أقرب للذهن ، بحسب المعطيات الحالية ، أنّك لو واصلت في التقدم نحو مركز الأرض ثم تجاوزت المركز إلى الناحية الأخرى من الكرة الأرضية فإنك تجد من الطرف الآخر للكرة الأرضية بحاراً ومحيطات أخرى ، والله أعلم. (2)
لكن الرسول الكريم الذي حذر من ركوب البحر فيما لا نفع فيه جعل للمؤمن حصناً من خطر هذا البحر الذي لا يُؤمَنُ جانبُه ، فعلمنا كلمات نقولها فنأمنَ من غضب البحر ونتجنّب أخطاره.قَالَ رَسُولُ اللهِ {صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}:((أَمَانٌ لأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا الْبَحْرَ أَنْ يَقُولُوا : ((بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جميعاً قبضتُه والسموات مطويات بيمينه ))، الآيَةَ (3)
و هذه قصّةٌ وردت في الصحيحين من طرق متعدِّدةٍ عن رجلٍ مِن بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه ، وعندما حضرته الوفاة جمع أبناءه وقال لهم : أيَّ أبٍ كنتُ لكم ؟ فأثْنَوْا عليه خيراً ، فقال لهم : إني لم أفعل في حياتي خيراً قط ، فو الله لئن قَدِرَ اللهُ عليَّ ليُعذِّبَني عذابًا شديدًا ، فإذا متُّ فحرِّقوني وذرّوا رمادي نصفَه في البرِّ ونصفه في البحر، واخذ عليهم مَوْثِقاً بذلك ، ففعل به بَنوه ذلك لمّا ماتَ ، فأمرَ اللهُ البحرَ فجمع ما فيه ، وأمرَ البرَّ فجمع ما فيه ؛ فإذا هو قائم ، فسأله اللهُ عن ذلك فقال:ما الذي حملك على ذلك ؟ قال : يا ربّ مخافتُك ، قال النبيُّ {صلى الله عليه وسلم}:فغفر الله له.وهذه روايةُ الإمام مسلمٍ فيما رواه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {رضي الله عنه} أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ {صلى الله عليه وسلم} قَالَ:((قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لأَهْلِهِ إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَ اللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ : لِمَ فَعَلْتَ هَذَا ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ . فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ)).(4)
وهذا البحر الزاخر الذي يحتفظ برماد ذلك النادم الذي ظلم نفسه بما فرّط في حقّ الله نراه يضيق بكلمة غيبةٍ من النوعِ الذي لا يعبأ به أكثر البشر ، وفيه انتقاصٌ من قدر إنسان ، ولو كانت هذه الكلمةُ تعبّر عن صفةٍ أَوْدَعها الخالقُ {سبحانه} فيه وليست من كسبه ، كالطول أو القصر أو غير ذلك ، فعن أمِّ المؤمنين السيدة عائشة الصدّيقة {رضي الله عنها} قالت:قلتُ للنبيّ{صلى الله عليه وسلم} حَسْبُك من صَفيّةَ كذا وكذا ــ تعني : قصيرة ــ فقال :((لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَتْ بماء البحر لمزجتْها)).(5) إذاً، لقد مازجت هذه الكلمةُ الغيبةُ ، من الصِدِّيقةِ ابنةِ الصِدّيق {رضي الله عنهما} ماء البحر الكثير والكثير جدّاً بالسوء، فنهاها الرسولُ الكريمُ أن تعود لمثلها ، وفي ذلك تعليم لنا وتحذير من أن يقع بعضُنا في عِرض البعض الآخر ، وشبّه في حديثٍ آخرَ هذا العمل بأكلِ لحمِ الجيفةِ وما فيه من إثم عظيم.
وهذه صورةٌ أخرى للبحر في الحديث الشريف ، صورة الإنسان المؤمن الذي يخاف الله {عزَّ وجلَّ} ويؤتمن على دراهم فيحفظ الأمانة ويحملها من شاطئ إلى شاطئ ليؤديها إلى صاحبها . فعن أبي هريرة {رضي الله عنه} عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال :((كان رجلٌ يُسلِّفُ الناسَ في بني إسرائيل ، فأتاه رجلٌ فقال : يا فلان أسلفني ستَّ مئةِ دينارٍ . قال : نعم إن أتيتني بكفيلٍ . قال : اللهُ كفيلي . فقال : سبحان الله، نعم قد قبلتُ اللهَ كفيلاً ، فأعطاه ستَّ مئة دينار ، وضرَبَ له أجلاً ، فركب {الرجلُ}البحرَ بالمال ليتَّجر به ، وقدَّر اللهُ أنْ حلَّ الأجلُ وارتجَّ البحرُ بينهما ، وجعل ربُّ المال يأتي الساحلِ يسألُ عنه ، فيقول : الذين يسألهم عنه تركناه بموضع كذا وكذا ، فيقول : رَبُّ المالِ اللهمَّ أخلِفني في فلان بما أعطيتُه بك ، قال : وينطلق الذي عليه المالُ فينحت خشَبَةً ويجعل المالَ في جوفِها ثم كتبَ صحيفةً من فلان إلى فلان : إنّي دفعتُ مالك إلى كفيلي ، ثمَّ سَدَّ على فَمِ الخَشَبَةِ فرمى بها في عُرْضِ البحر ، فجعل {البحرُ}يهوي بها حتّى رمى بها إلى الساحل ، ويذهب رَبُّ المال إلى الساحل فيسألُ فيجد الخشَبَةَ فحَمَلَها فذهب بها إلى أهله ، وقال : أوقدوا بهذه فكسروها فانتثرت الدنانير والصحيفة ، فأخذها فقرأها فعرَف ، وتقدم الآخر فقال: له ربُّ المال: مالي ، فقال : قد دفعتُ مالي إلى كفيلي الموكل بي ، فقال له : أوفاني كفيلُك)) قال أبو هريرة فلقد رأيتُنا يكثر مِراؤنا ولغطُنا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بيننا أيهما آمن {أكثر أمانةً}. (6)
وفي هذه القصة التي حكاها الحديث الشريف آنفاً ما لا يخفى من بليغ الموعظة وعظيم العِبرة , من وجوب وفاء المرء بعهده وأدائه ما في ذمته من دينٍ. فإذا صدق في عهده وأخلص في نيّتِه ، وحالت بينه وبين وفائه ظروف قاهرة ، خارجة عن إرادته ، أدّى الله عنه ،كما ورد في
أحاديث أخرى لا مجال لذكرها في هذا الكتاب .
وهذا البحر الزاخر بالعجائب الفيّاض بالخيرات المؤدّي للأمانات، محبٌّ للخير يجلُّ العلمَ ويحترم العلماء ، حتى إن أسماكه وحيتانه تشارك الموجودات بالدعاء والاستغفار لطلبة العلم فيما روَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ {رضي الله عنه}قَالَ:قَالَ رَسُولُ الله {صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}:((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَطَالِبُ الْعِلْمِ ــ أَوْ صَاحِبُ الْعِلْمِ ــ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ)).(7)
والبحر بعد ذلك طاهرٌ مطهِّرٌ عند النبيِّ الخاتم ، فقد سأله رَجُلٌ فقَالَ :
يَا رَسُولَ الله ، إِنَّا نَرْكَبُ أَرْمَاثًا فِي الْبَحْرِ ، فَنَحْمِلُ مَعَنَا الْمَاءَ لِلشفه، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِمَائِنَا عَطِشْنَا ، وَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِمَاءِ الْبَحْرِ ، كَانَ فِي أَنْفُسِنَا مِنْهُ شَيْءٌ ! فَقَالَ رَسُولُ الله:{صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم}:((هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ)).(8)
وعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيُّ {صلى الله عليه وسلم} قَالَ:((مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْبَحْرُ فَلاَ طَهَّرَهُ اللَّهُ)).(9) وهو دعاء منه {عليه الصلاة والسلام} على مَن شكَّ في هذا الحكم الشرعي الذي شرعه النبيُّ الكريم ، وفيه أيضاً نفي
لوسواس النفس والشيطان .
وقد حرص الرسول على أمته أشدَّ الحرص ، ولا غرو فهو أرحم بنا من أنفسنا ، لأنه ربما يضرُّ أحدُنا نفسه عن جهل أو تهوّرٍ وربما تأخذُه شهوات نفسِه ووساوس شيطانِه إلى ما فيه هلاكه ، أمّا رسولُ الله فهو المعصوم عن الخطأ الذي:((وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحيٌ يوحى)).(10) وهو الرحمةُ المهداةُ ، وقد وصفَه ربُّهُ بأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، قال تعالى في كتابه العزيز:(( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)).(11) وقال في أيضاً:((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (12)
وجاء ذكر البحر في حديث آخر من هديه {عليه الصلاة والسلام} مثل للحياة الاجتماعية بسفينة في البحر والمجتمع فيها كجماعة من ركّابها ، جماعة في أعلاها وجماعة في أسفلها ، ولنَستمِعْ إلى النعمان بن بشير {رضي الله عنه} يروي هذا الحديث عن سيدنا رسول الله،قال:قال رسول الله:((مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها ، كمثل قوم استهموا ، على سفينة في البحر ، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، وكان الذين في أسفلها يخرجون فيستقون الماء ويشقّون على الذين في أعلاها ، فقال الذين في أعلاها:لا ندعكم تمرون علينا فتؤذونا، فقال الذين في أسفلها : إن منعتمونا فتحنا بابا من أسفلها، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم ، نجوا جميعاً ، وإن تركوهم هلكوا جميعاً)).(13) إذاً نحن في هذه الحياة مجتمع متكافل متضامن خيره يعم الجميع وشرُّه كذلك ، فيجب على الفرد أن يراعي مصلحة الآخرين في تصرّفاته الشخصيّة ، فهو حرٌّ طالما أنّ حرّيته الشخصيّة هذه لا تتعارض مع حريات الآخرين ، ثم إنه من الواجب على المجتمع أنْ يمنع الانحراف عن الخط القويم والصراط المستقيم وإلاّ حصد السوء .
وهذا حديث آخر في نفس السياق تقريباً ، يوجب الاحتياط للأمور وعدم الزجّ بالنفس في المخاطر وتعريضها إلى المهالك ، فإنَّ الله الذي خلق هذه النفس محاسبٌ صاحبَها عن كلِّ ضرر يلحقه بها عامداً متعمّداً ، وليس من حقِّ المرء أن يقول {نفسي وأنا حرٌّ بها} .
لذلك يقول رسول الله {صلى الله عليه وسلم}:((مَنْ بَاتَ عَلَى سَطْحٍ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ ، وَمَنْ رَمَى بِلَيْلٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ، وَمَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ فِي ارْتِجَاجِهِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ)).(14)
وَارْتِجَاجُ الْبَحْرِ هَيَجَانُهُ . والمؤمن محظور عليه أن يركب البحر حال هياجه ، وكذلك أن ينام على سطح غير مسيّج أو أن يرمي السهم ليلاً ، ومثلُ السهمِ الرصاص في عصرنا ، فهو أمر محظور في الليل إلا إذا كان الإنسان يرى ما يرميه ، لما في ذلك كله من مخاطرة بالنفس البشرية، إذ قد تؤدي هذه الأفعال إلى هلاكها ، وهي وديعةُ اللّه عندك أيها الإنسان فيجب عليك المحافظة عليها لا أن تعرضها لما يسيء إلى هذه الأمانة .
ثمّ نختم هذا الباب بجملة من الأحاديث التي بشّر بها رسول الله{صلى الله عليه وسلم} أمته بأنه سوف يركبون البحر فاتحين ، وبأنهم سوف يسيطرون عليه ، حتى يكون لهم بمثابة سرير الملك ،فعن سيدنا عمر بن الخطاب {رضي الله عنه} قال:قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}:((يظهر الإسلام حتى تخوض الخيل البحار ، وحتى يختلف التجار في البحر ..)).(15) عن أنس بن مالك قال ، قال رسول الله {صلى الله عليه و سلم} : ((يركب قومٌ من أمّتي ثَبَجَ البحر ، أو ثَبَجَ هذا البحر، هم الملوك على الأسِرَّة أو كالملوك على الأسِرَّة)) . (16)
و في حديث آخر عن الصحابيّة الجليلة أُمِّ حَرَامٍ أنّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ {صلى الله عليه وسلم} يَقُولُ:((أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ هَذَا الْبَحْرَ،قَدْ أَوْجَبُوا، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنَا فِيهِمْ ؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ ثم قَالَ:أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ،مَغْفُورٌ لَهُمْ قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ : يَا رَسُولَ اللهِ،أَنَا مِنْهُمْ ؟ قَالَ : لا)) . (17)
وقد رغّب {عليه الصلاة والسلام} أمَّته بركوب البحر جهاداً في سبيل الله وإعلاءً لكلمته ، جاء ذلك في أحاديث كثيرة نذكر بعضاً منها:((وغزوة في البحر خير من عشرِ غزوات في البرِّ ومَنِ اجتاز البحرَ فكأنما اجتاز الأودية كلَّها والمائدُ فيه كالمتشحِّطِ في دَمِه)).(18) فالأجر على قدْر المتاعب والمخاطر ، ولا يخفى أنَّ الغزو في البحر أعظم خطراً من البحر وأن متاعبه أشدً.
وقد فضّل {عليه الصلاة والسلام} شهادة البحر على الشهادة في البرِّ، قال:((إن شهداء البحر أفضل ُعند الله من شهداء البر)).(19) والسببُ واضح كما سلف ، ولذلك اندفع المسلمون ، ومنذ عصر الإسلام الأول وعبر القرون المتتالية حتى أواخر أيام الدولة العثمانية ، يصارعون أمواج البحار لينشروا النور والهداية في أصقاع المعمورة فوصلت زحوفهم إلى فيينا وقرعت أبواب باريس ورفعت راياتها على سوار الصين .
وعن الصحابي الجليل سلمان الفارسي {رضي الله عنه} عن النبي{صلى الله عليه وسلم} قال:((إنّ الله عز وجل يقبض أرواح شهداء البحر بيده ولا يَكِلهم إلى ملك الموت ، ومَثَلُ روحِهِ حين يخرج من صدره كمثل اللبن حين يدخل صدره)).(20)
وعن أنس بن مالك {رضي الله عنه} عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنّه قال:((من حرس ليلة على ساحل البحر كان أفضل من عبادة رجل في أهله ألف سنة السنة ثلاث مئة وستون يوماً كل يوم ألف سنة)).(21)
فهنيئاً للمجاهدين في سبيل الله الذين تجشّموا الصعاب وركبوا المخاطر وطووا البحار لينشروا نـور الإســـلام والحق والعدالـــة حاملين إلى البشريّة رسالة الله التي فيها عزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ففازوا برضوان الله ومحبّته وجزيل عطائه .
فقد صدق الصحابة الكرام {رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم} عهدهم لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} عندما قام سعد بن عبادة خطيباً باسم الأنصار {رضي الله تعالى عنهم} قُبيْل غزوة بدر إذ كان الرسول خرج بأصحابه يريد قافلة لقريش الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقد حان الوقت ليستردّوا بعضَ ما سُلب منهم ، ووصل الخبر إلى أبي سفيان فقاد القافلة بعيداً فنجت ، وخرج جيش المشركين من مكة بقيادة أبي جهل لقتال المسلمين ، وتغيرت أهداف خروجه {صلى الله عليه وسلم} فطلب المشورة من أصحابه فقام عدد من المهاجرين مفوضين الأمر إليه، ولكنّه {صلى الله عليه وسلم} كان في كلِّ مرة يقول : ((أشيروا عليَّ فقام)) زعيم الأنصار سعد بن عبادة {رضي الله عنه} فقال : ((إيانا تريد يا رسول الله ؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أنْ نُخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أنْ نَضرِبَ أكبادَها إلى بَرْك الغَمادِ لفعلنا)). (22) وبرك الغماد مكان كثير السباع شديد المخاطر يعدل في خطره البحر وربما فاقه ، فجزاهم الله تعلى عن الإسلام والمسلمين ما يليق بكرمه فقد كانوا كما وصفهم ربهم:((وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلها)).(23)
مصادر الباب الثاني:
1 ــ السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص : / 18 / .
2 ــ أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر – (ج 1 / ص 75)
3 ــ إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي – (ج 1 / ص 273)
4 ــ صحيح مسلم – (ج 8 / ص 97)
5 ــ جمع الجوامع أو الجامع الكبير للإمام السيوطي(ج1 ص 16465) حديث حسن صحيح .
6 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 21354)
7 ــ إتحاف الخيرة المهرة – (ج 1 / ص 197)
8 ــ إتحاف الخيرة المهرة – (ج 6 / ص 121)
9 ــ السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي – (ج 1 / ص 4)
10 ــ سورة النجم الآيتان : / 3و4 / .
11 ــ سورة الأحزاب ، الآية : / 6 / .
12 ــ سورة التوبة الآية : / 128 / .
13 ــ البحر الزخّار ـ مسند البزّار – (ج 8 / ص 191)
14 ــ إتحاف الخيرة المهرة – (ج 6 / ص 479)
15 ــ البحر الزخار ـ مسند البزار – (ج 1 / ص 367)
16 ــ مسند أحمد بن حنبل – (ج 3 / ص 240)
17 ــ إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي – (ج 9 / ص 484)
18 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 16604)
19 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 16823)
20 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 16842)
21 ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 16678)
22ــ التبويب الموضوعي للأحاديث – (ج 1 / ص 17019)
23 ــ سورة الفتح ، الآية : / 26 / .