في الخيمة المعتمة ، حيث رقد الجند علي الأسرة السود ، يتصاعد لحن الحياة ، خليطا من الأصوات المتباينة المتداخلة ، شادي الصغير ، يغني بصوت الطفل: ياحنينة يا عيني.. عيني يا حنينة.
التقطها من أفواه الصبية في عرس إحدى القريبات ، ضجة المذياع في مقهى الأقرع ممزوجة بالسيمفونية الكلاسك منطلقة من مذياعي ، بنداءات ( عابد ) بائع العرقسوس ـ يصلي علي النبي.
وتك .. تك.. تك تأتى من غرب الدار حيث الطاحونة العجوز تنفخ دخانها ، في ملل ونواح مجهد ، يغطي عليه صخب أحجار الطاولة ، وزعيق الرجال يسبون الدين ، ويتنخمون البصاق الذي تمطى علي الجدار المقابل.
هذا هو صوت الضحى في دارنا...
أعرف المواقيت من الصوت الذي أحن إليه في المنفى البعيد..
وأنا مثقل بالذكرى ، والملامح الحادة القريبة.
في الخيمة المعتمة ، الصامدة للريح والشمس القاسية ، أهرب إلى التبة العالية ، أحلم. أستحضر التذكارات القديمة ، في محاولة لإخراجها فنا منسقا ، يدفعه الأمل المراوغ.
على التبة ، وعبر نظري الملقى على صحراء النبت الشيطاني ، أرى دارنا..
نهارها يبدأ من المئذنة ، تعلن للناس: أن الصلاة خير من النوم وتسبح بمن تسمى قبل أن يتسمى.
فتهرول إليها سيقان كهلة متكسرة الخطو ، تسير على وقع عصا هرمة سابحة في ترانيم صوفية تخرج من أفواه مهشمة.
في الشارع الكبير يسير رجال ونسوة ـ يعالجن بقايا نوم خاطف ـ خلف حمير تشيل الخضر إلى أسواق المدينة.
وهناك يفتح إسحق بابه ، هو أول من يقوم من بائعي الفول ، وآخر من يبيع ، إذا وقفت عل سلم المحطة ، أو على جسر النهر ، أو بين هياكل الخشب في السوق ، أسمع يدي الحديد تهرس الفول في الحوض العميق..
هذا الصوت عريق في أذني ، يرعش القلب الحبيس..
في سني التوتر ، والقلب الأمرد ، كنت أسمعه مقبلا من بيت فتاتي ، ويدفعني عبر ضباب الصبح للوقوف خلف الجدار ، أرقبها فارعة قوية ، على رأسها قدرة الفول ، تنفث بخارها المحموم.. ولما تعود من دكان أبيها أهمس لها بالكلمة التي دبرتها بالليل ، أو ألقي لها بالرسالة المطوية على زهرة اختطفتها من البستان المسور بالسلك والشوك المشرع.
قطار الخامسة يقبل من الجنوب ، يقف بين الرصيفين لاهثا ، يطلق الدخان والصفارة التي تخفق لها حيطان الدور.
ترك - تحت المظلة - الجريدة والمجلة التي يسعى إليها بائع الأخبار ، وبحرص طفولي برئ أبتاع الجريدة الأولى.. فتواجهني صورة السلطان المتحدية القبيحة ، تعيد لذاكرتي ملامح من حكايات قديمة ، مكثفة بالدم ، ومنتهية براحة الخلاص..
الأخبار لا تسر ، ما زال العالم ضدي ، حتى الأغنية المترعة بالشبق لحبيب لا يوجد إلا على خيوط الأثير.
السرير يغري بالراحة والأحلام..
أعطي ظهري لموقف السيارات ـ صبيانه يصرخون بأسماء المدن البعيدة ، ينفثون من أشداقهم أبخرة الصبح ، كذلك الجند والتلاميذ والموظفون الذين احتشدوا بالسيارة التي ذابت في الشبورة.
السرير يغري بالراحة والأحلام...
برغم وابور بائع الطعمية القوي المتفجر ، وبرغم ميكرفون المسجد الذي يخبر عن موت امرأة من الحي المجاور ، ربما أخفى ضجيجه صوت جنين لحظة عبوره الرحم المظلم إلى ضوء النهار المبهر.
والنوم عادة موروثة ، تذكر ببداية الإنسان.
لما أنتبه ساعة الضحى ، تكون الدار ضاجة بالنور الوفير ، أطرده بشيش النافذة لأفتح الكتاب على ضوء خفيف ، وأطلق موسيقى المذياع ، لتأتيني الأصوات المتباينة المتداخلة ، شادي الذي يغني ، واحتدام أحجار الطاولة ، وتكتكات الطاحونة العجوز.
أعيش بقية النهار الطويل ، وفي انتظار الليل القصير ، وينقضي يوم ، ويوم ، ويوم ، أرتدي بزة الجندية ، وأحمل الحقيبة المكتظة بالهدوم والكتب لأبدأ رحلة الصحراء ، وفي الخيمة المعتمة ، أو على التبة العالية ، يتجدد الشوق ، وتتجمر الذكرى ، وتقترب أصوات الليل والنهار ، مجهدة بالنداء الصعب.
التقطها من أفواه الصبية في عرس إحدى القريبات ، ضجة المذياع في مقهى الأقرع ممزوجة بالسيمفونية الكلاسك منطلقة من مذياعي ، بنداءات ( عابد ) بائع العرقسوس ـ يصلي علي النبي.
وتك .. تك.. تك تأتى من غرب الدار حيث الطاحونة العجوز تنفخ دخانها ، في ملل ونواح مجهد ، يغطي عليه صخب أحجار الطاولة ، وزعيق الرجال يسبون الدين ، ويتنخمون البصاق الذي تمطى علي الجدار المقابل.
هذا هو صوت الضحى في دارنا...
أعرف المواقيت من الصوت الذي أحن إليه في المنفى البعيد..
وأنا مثقل بالذكرى ، والملامح الحادة القريبة.
في الخيمة المعتمة ، الصامدة للريح والشمس القاسية ، أهرب إلى التبة العالية ، أحلم. أستحضر التذكارات القديمة ، في محاولة لإخراجها فنا منسقا ، يدفعه الأمل المراوغ.
على التبة ، وعبر نظري الملقى على صحراء النبت الشيطاني ، أرى دارنا..
نهارها يبدأ من المئذنة ، تعلن للناس: أن الصلاة خير من النوم وتسبح بمن تسمى قبل أن يتسمى.
فتهرول إليها سيقان كهلة متكسرة الخطو ، تسير على وقع عصا هرمة سابحة في ترانيم صوفية تخرج من أفواه مهشمة.
في الشارع الكبير يسير رجال ونسوة ـ يعالجن بقايا نوم خاطف ـ خلف حمير تشيل الخضر إلى أسواق المدينة.
وهناك يفتح إسحق بابه ، هو أول من يقوم من بائعي الفول ، وآخر من يبيع ، إذا وقفت عل سلم المحطة ، أو على جسر النهر ، أو بين هياكل الخشب في السوق ، أسمع يدي الحديد تهرس الفول في الحوض العميق..
هذا الصوت عريق في أذني ، يرعش القلب الحبيس..
في سني التوتر ، والقلب الأمرد ، كنت أسمعه مقبلا من بيت فتاتي ، ويدفعني عبر ضباب الصبح للوقوف خلف الجدار ، أرقبها فارعة قوية ، على رأسها قدرة الفول ، تنفث بخارها المحموم.. ولما تعود من دكان أبيها أهمس لها بالكلمة التي دبرتها بالليل ، أو ألقي لها بالرسالة المطوية على زهرة اختطفتها من البستان المسور بالسلك والشوك المشرع.
قطار الخامسة يقبل من الجنوب ، يقف بين الرصيفين لاهثا ، يطلق الدخان والصفارة التي تخفق لها حيطان الدور.
ترك - تحت المظلة - الجريدة والمجلة التي يسعى إليها بائع الأخبار ، وبحرص طفولي برئ أبتاع الجريدة الأولى.. فتواجهني صورة السلطان المتحدية القبيحة ، تعيد لذاكرتي ملامح من حكايات قديمة ، مكثفة بالدم ، ومنتهية براحة الخلاص..
الأخبار لا تسر ، ما زال العالم ضدي ، حتى الأغنية المترعة بالشبق لحبيب لا يوجد إلا على خيوط الأثير.
السرير يغري بالراحة والأحلام..
أعطي ظهري لموقف السيارات ـ صبيانه يصرخون بأسماء المدن البعيدة ، ينفثون من أشداقهم أبخرة الصبح ، كذلك الجند والتلاميذ والموظفون الذين احتشدوا بالسيارة التي ذابت في الشبورة.
السرير يغري بالراحة والأحلام...
برغم وابور بائع الطعمية القوي المتفجر ، وبرغم ميكرفون المسجد الذي يخبر عن موت امرأة من الحي المجاور ، ربما أخفى ضجيجه صوت جنين لحظة عبوره الرحم المظلم إلى ضوء النهار المبهر.
والنوم عادة موروثة ، تذكر ببداية الإنسان.
لما أنتبه ساعة الضحى ، تكون الدار ضاجة بالنور الوفير ، أطرده بشيش النافذة لأفتح الكتاب على ضوء خفيف ، وأطلق موسيقى المذياع ، لتأتيني الأصوات المتباينة المتداخلة ، شادي الذي يغني ، واحتدام أحجار الطاولة ، وتكتكات الطاحونة العجوز.
أعيش بقية النهار الطويل ، وفي انتظار الليل القصير ، وينقضي يوم ، ويوم ، ويوم ، أرتدي بزة الجندية ، وأحمل الحقيبة المكتظة بالهدوم والكتب لأبدأ رحلة الصحراء ، وفي الخيمة المعتمة ، أو على التبة العالية ، يتجدد الشوق ، وتتجمر الذكرى ، وتقترب أصوات الليل والنهار ، مجهدة بالنداء الصعب.