طفل خجول نفور من الناس، لكنه رقيق المشاعر شديد الحس جياش العاطفة. ثم جندي يحارب في سبيل الوطن. مستهتر متهتك مبالغ في الاستهتار. وهو ملحد مغرق في الإلحاد ساخر بالدنيا. ثم هو كهل شديد الإيمان قوي الثقة في الحياة.
وأخيراً تتمخض حياة الروائي الكبير عن شيخ يعتزل ثروته ويترك المدنية بكل زينتها وخداعها ونفاقها ليعمل جنباً إلى جنب مع فلاحيه، وليفيض قلبه حنانا على الإنسانية المعذبة. وليصبح شخصية خالدة على ممر الدهور.
هكذا كان تولستوي وهكذا كانت حياته.
ثم فلسفة قوية مليئة بالحياة هي فلسفة الإيمان والعاطفة، وعاطفة قوية صريحة يدعمها العقل، ويحركها التأمل، ويفيض عليها الإلهام نورا عميقا.
هكذا كانت فلسفة تولستوي.
فلن تجد في فلسفته هذه المشكلات المنطقية، وهذا اللف والدوران وهذا التكلف والتعمل اللذان تجدهما في كثير من الفلسفات. بل لم يحاول تولستوي مرة أن يضع كتابا في الفلسفة أو يجمع آراءه في صوره مرتبة منمقة.
ففلسفته في شتات رواياته التي تتجاوز العشرين. وهي في شتات أشخاص هذه الروايات التي تعبر كل واحدة منها عن ناحية من نواحي المؤلف نفسه: عن شكه أو سخريته، عن إيمانه أو إلحاده.
ولذلك ففلسفته محببة إلى النفس. يقدمها في لون من أشهى الألوان إلى القلب: في صورة قصة أو في صورة ذكريات.
وهو لم يكن يكتب ليرتزق من وراء كتبه كمعظم الروائيين. ولم يكن يكتب ليضحك من الناس أو يسخر منهم كما فعل أناطول فرانس. بل كان يكتب معبراً عن عاطفة قوية أحست بالحياة، وشكّت في الإله، ثم آمنت به من بعد شك. ثم اعتزت بالحياة من بعد سخرية.
وهو لم يبحث في الإله وصفاته، أو في الروح وطبيعتها، أو في الجسد وعلاقتها بالروح، أو في الزمان والمكان، أو في ترتيب الخلق والموجودات، أو فيما شابه ذلك من أمهات المسائل التي تشغل بال الفلاسفة. بل كانت فلسفته من صنف آخر لا يقل جودة ولا ينقص عظمة ولا عمقا. حاول فيها أن يخفف من الآلام الإنسانية وعذابها، وأن يرشد الفرد والجماعة إلى الطريق السوي. وأن يرسم لهما مثلا أعلى يعملان من أجله. فلسفة بحثت في جميع أمراض الإنسانية فشخصت الداء وبينت مواضع الضعف. ثم أخيرا أرشدت إلى أنواع العلاج.
وقد عالج تولستوي سعادة الفرد وكيف يمكن تحقيقها، ووصف عيوب المجتمع الذي نعيش فيه. وبيّن سخافاته ومتناقضاته والطريق إلى علاج هذه المتناقضات. وبحث في الدين والعلم والفن وأخيرا في كل ما يمس المجتمع الإنساني وما يتصل بأفراد هذا المجتمع بسبب.
وسنحاول في هذه العجالة أن نطلعك على ناحية من نواحي فلسفته. ناحية حاول فيها أن يرسم للفرد مثلا أعلى. وأن ينهج له الطريق إلى السعادة التي ينشدها.
كل منا قد تساءل ما الحياة وما قيمتها؟ ولماذا نحياها هكذا؟ أخلقنا لنشقى أو عشنا لنموت؟
وكل منا مرت به ساعات من السخط على الحياة أو الابتسام لها. لا ندري لماذا نبتسم ولماذا نسخط؟
وكل منا يرغب في سعادة هادئة مطمئنة، سعادة لا يفوز ولم يفز ويظهر أنه لن يفوز بها! ومع ذلك فنحن دائبون في العمل لها. وهي دائبة في البعد عنا.
ومر بخلد تولستوي هذه الشكوك وانتابته هذه الحيرة وجرى وراء السعادة، فأقبل يرتوي من منهل الحياة: يعربد ويتهتك ويتمتع بكل ما حرم ولذ، ونال من الحياة ما لم ينله غيره.
فهو من أشراف الروسيا، له من المجد ما لهم، وله من العبيد ما يزيد على سبعمائة. وهو غني في غير حاجة إلى عمل يرهقه، أو رئيس يخضع له، والطبيعة وإن لم تزوده بوجه جميل، قد أعطته من جمال الروح ورقة العاطفة ما خفف من حدة قبحه، وقلل من بشاعة منظره، وتزوج فأخلصت له زوجته، وتمتع بأشهى ما تصبو إليه نفس من وفاق عائلي وذرية صالحة.
ماذا يريد بعد هذا من أطايب الحياة ولذات المعيشة؟
على أنه لم يفز بالأمل المنشود. ولم يظفر بالسعادة ولا بظلها، بل كان ينتابه شعور بسخف الحياة وعبثها.
فهي إما ساكنة هادئة، ولكنها مملة جافة. وهي إما مضطربة هائجة، ولكنها مؤلمة قاسية. وهي في كل هذا سخيفة من دون معنى ولا غرض ولا غاية واضحة. أيعتزلها كراهب؟ ولكن أنى له الخبز الذي يملأ بطنه الجائع؟ وما قيمة حياة يعتزلها المرء؟ وأنى للإنسانية أن تعيش إذا قدر لكل فرد أن يعتزل العالم؟ وهل يجد الإنسان في العزلة راحة وهدوءا؟
أيحياها كما حيتها مئات الأجيال من قبله، وكما ستحياها من بعده؟ ولكن هذه سخافة لا تطاق. وما الذي يحمله على أن يتعذب ويتألم ويقاسي ليكون نعجة من نعاج هذا العالم يسمن ليذبح، أو يهزل ليمرض ويموت؟ أيعتقد في حياة أخرى ليست هذه الدنيا إلا مزرعة لها؟ وما يكون إذن معنى الحياة؟ أهي تجربة سخيفة؟ وماذا يمنعنا من اختصار هذه التجربة؟ ولماذا لا نسرع فنأتي على حياة بائسة لندرك أخرى أسعد منها أو أقل منها سخفا.
وأخيراً ما هي السعادة؟ وما الطريق إليها؟ أهي ثروة وضياع وجاه؟ ولكن تولستوي جربها فلم تبدد شكوكه ولم تشبع مطامعه بل أصابه منها ملل قاتل لا يدري كنهه، وسأم مروع زهده فيها.
أهي درس وقراءة واطلاع؟ ولكن تولستوي قرأ وقرأ أحسن ما أنتجه بشر، فلم ترضه هذه القراءة، ولم تضع حدا لشكوكه، وأخيراً ما فائدة الاطلاع والمعرفة والعلم؟
وقف تولستوي من الحياة هذا الموقف، وأخذ يفكر ويجهد نفسه في التفكير لعله يوفق إلى تعريف الحياة. وأخذ يقرأ لعله يصل إلى حل يطمئن إليه أو فلسفة يرضى عنها. ولكنه حاول عبثا وبدا له أخيراً أن الفكر وإعنات الروية لن يجديا شيئا. وتملكه يأس وأخلص فيه. ولكن ما لبث أن أشرق عليه نور جديد: نور الإيمان في الله، ونور الاعتقاد في الحياة وفي عظمتها. نور وهاج قوي يقف أمامه العقل خاشعا، ولا يستطيع العلم المادي بكل جبروته أن يجابهه أو يسخر منه!
أنريد فهما للحياة ولسر وجودنا فيها؟ أنريد فوزا بالسعادة؟ حسن! فلنعمل ما تطلبه منا الحياة. ولتنفذ مشيئة الله. وما غاية الحياة؟ هي أن نعمل ونجيد ما نعمله. وليكن عملنا في سبيل الغير، ولنضح بأنفسنا في سبيلهم، ولنحبهم كما نحب أنفسنا بل أكثر مما نحبها. ولنتعاون معهم، ولننم جميع قوانا من عقلية وجسمية، ولنحسن استخدامها في خدمة الآخرين: التعاون، الحب، العمل، ثالوث مقدس هو سر الحياة وسر السعادة. ليمتد حبنا إلى جميع أفراد الإنسانية. ولنعمل لإخواننا في البشرية، ولننس أنفسنا فنكون بذلك قد أدينا مهمة الحياة التي خلقنا من أجلها وفي هذا طمأنينة لنا وهدوء.
لقد أسأنا فهم الحياة. وحسبناها مسرحا لقتال دام يفترس فيه القوي الضعيف، ويلتهم فيه الكبير الصغير. ثم اتهمناها بالقسوة وما هي بقاسية بل هي أعز شيء في الوجود.
وبحسبنا السعادة في هذا النضال السمج، وبحسبنا الراحة في هذا القتال العنيف.
بالغنا في الأنانية، أردنا الحياة لنا وحدنا، أردنا مالا وجاها وحبا وبنين لأنفسنا ولأنفسنا وحدها.
والحياة لا تريد منا هذا، فالفرد ذرة لا معنى له في الوجود دون غيره. ذرة من أصغر ذرات العالم، فإذا ما اجتمعت هذه الذرات واتحدت وتعاونت استطاعت أن تصل إلى أقصى سعادتها وهي مستطيعة أن تنال جميع أمانيها، فإذا ما اختلفت وتناحرت وتفرقت أصبحت لا شيء. وهي واقعة في شقاء لا خلاص منه.
لقد ظننا بالحياة شراً، وقد حاولنا أن نجعل من قانون سخيف ندعوه تنازع الحياة وبقاء الأصلح قانونا للحياة. فالأفراد في تنافس، والأمم في تناحر، ومن هذا النزاع الدائم يتولد البؤس واليتم والفقر والآلام، وتتولد الإنسانية عاجزة خادعة ماكرة ضعيفة.
لننس هذه الأحقاد مرة واحدة، ولنتعاون، ولينس الفرد أنه خلق لنفسه، وليجعل غايته خدمة غيره. خدمة أولاده، خدمة أفراد الإنسانية جمعاء، إذن يخف كل شقاء. وتعم السعادة الجميع. سنقول هذا خيال شاعر وأمل فيلسوف.
ولكن تولستوي لا يقول لك ضح بنفسك لأن في التضحية نبلا أو جمالا. وهو لا يقول لك كن خيّرا لأن الجنة للخير والنار للشرير. وهو لا يزعم أن في خدمة الآخرين قياما بواجب لا تستطيع أن تفهم من فرضه عليك. هو يقول لك أحب جارك واعمل لغيرك، لأن هذا هو قانون الحياة، ولأنك لا تملك عنه محيداً، وهو يقول ضح بنفسك لأنك ستضحي بها مرغما إذا أبيت. هو يقول لك سامح عدوك وأدر له خدك الأيسر إذا أصاب منك خدك الأيمن لأن في الخلاف شقاء لك وله.
وليس في هذا جري وراء خيال أو مثل أعلى يضاف إلى غيره من الأمثلة العليا. ولكن جرب بنفسك. اقتنع بأنك خلقت لغيرك وسترى أي سعادة ستجلبها عليك هذه التجربة، لن يخيفك الموت بعد هذا لأنك سترى فيه إفساحاً للطريق أمام غيرك. لن تعبأ بالآلام تصيبك لأنك سترى فيها تخفيفا لآلام اخوتك من البشر.
أما إذا أبيت هذا، وضننت بنفسك أن تكون ضحية في سبيل الآخرين، فكن أنانيا جشعا وابلغ المجد على أكتاف الناس، واجمع حولك من متاع الدنيا ما تسرقه وما لا تسرقه، ولكنك لن تكون سعيدا. وستظل شقيا بائساً، ولن تشعر براحة ما دام لديك ذرة من ضمير. وستمعن الحياة في السخرية منك، تجعلك آلة لها تنفذ مشيئتها، وستكون ضحية على رغم أنفك، وستعيش خائفا وجلا من الموت أو من خصم قوي، وسيؤنبك ضميرك، ولا يلبث أن يضيع ما أنفقت حياتك من أجله، سيلتهم مالك وجاهك من هو أقوى منك، أو لا تلبث أن تموت، فيتمتع به غيرك، وبذا تكون الحياة قد انتقمت منك شر انتقام.
وليس معنى خدمتك للغير أو تضحيتك بالنفس أن تنسى ذاتك أو تعتبرها كمالاً مهملًا في الوجود. إذ هي شرط من شروط الحياة وشرط هام لا تستطيع الإنسانية أن تتحقق بدونه، ولكنها ليست غاية الحياة، وليس من أجلك وحدك قد كانت الحياة.
وليس معنى هذا أن تكبت غرائزك أو تحمل نفسك ما لا تطيق. بل وجِّه نشاطك إلى ما خلق له. .
في مثل هذه اللغة البسيطة الساذجة القوية يحدثك تولستوي. ولا يضير فلسفة تولستوي أن تبدو شعرية عاطفية إذ هي لا تكاد تخرج عما قالته الأديان. فالمسيحية ومن قبلها اليهودية ومن بعدها الإسلام تبشر بما قاله تولستوي. وكلها حضت على التعاون وقالت أن المؤمنين اخوة وأحب لغيرك ما تحب لنفسك. وكلها رفعت من شأن العمل للآخرين وكلها حضت على الإيثار وكلها أمرت بالتقرب إلى الله وحده وجعلت منه رمزا للوحدة.
لم يأت بجديد. ولكنه أحب أن يثبت أن ما قالته الأديان صحيحا، وأنه عملي، وأنه الطريق الأوحد إلى السعادة الفردية والإنسانية، وأحب فوق هذا أن يبين أن ما قالته الأديان ليس مثلا أعلى يصعب تحقيقه، بل هو الغاية التي لا محيد عنها، والشيء الذي نعمله كارهين أو راضين.
لقد رأى أن الحياة لا معنى لها في الأفراد مشتتين. بل لا يمكن تصورها إلا في الأفراد مجتمعين متعاونين. وقد رأى أن للحياة غرضا بسيطا هو أن يلتئم الأفراد ويتحدوا، هو أن تجتمع الذرات الإنسانية لتصبح ذرة واحدة كبيرة ترجع إلى خالقها. وفي هذا الاتحاد كل سعادتها.
ولم ير الحياة الدنيا إعداداً لحياة أخرى كما ترى معظم الأديان بل وجد فيها سلسلة لا تنقطع. فليس في موت الأفراد انتهاء للحياة. بل موتهم معناه بقاؤهم في نسلهم، ومعناه حلقة جديدة قد تكون أحسن استعدادا وأكثر تضامنا.
وهو متفائل راض مطمئن على مصير الإنسانية، فهي تسير إلى الوحدة منفذة في ذلك مشيئة خالقها.
وهو يرى أن كل ما فينا أعد لتنفيذ غاية الحياة. ففينا حب الحياة لنستطيع أن نحيا، وفينا حب النشاط والحركة وكره السكون حتى نعمل، وفينا الجانب الحيواني بكل غرائزه لنستطيع أن نعمل، وفينا العقل لنفهم كيف نعمل والى أي غاية نسير، وفينا الضمير ليؤنبنا وليحاربنا إذا ما حاولنا الحياد عن الغاية المرسومة لنا. وفينا غريزة النسل لتخرج ذرية أقوى تستطيع أن تتمم ما تريده الحياة إذا ما ضعفنا أو متنا.
يعد تولستوي الشقاء الذي نشعر به نتيجة طبيعية لمخالفتنا ضمائرنا التي تفهم وحدها الغرض الوحيد من الحياة. وتنبهنا كلما حدنا عن الطريق المستقيم، وهذا الشقاء داع إلى تفكيرنا في أنفسنا. والى شعورنا بالحياة وغرضها.
ويعلل تولستوي الحيرة والقلق اللذين يستوليان على المرء بأنهما نتيجة لإهماله واجبه المقدس في الحياة، وإغفاله العمل، أو لمقته الآخرين وترك معونتهم. وهذه الحيرة نفسها خطوة أولية نحو الشعور بالحياة والتأمل فيها والوصول إلى فهمها.
وهو يرى في العقيدة والإيمان ملجأ حصينا من الشك والتورط فيه. إذ العقيدة النيرة الحية البعيدة عن التعصب، هي التي تدفعك إلى العمل وحب الغير وتجعلك طفلا فرحا سعيدا وهي التي تجعلك هادئا قرير العين بالحياة.
قد تقول أن هذا شيء تعرفه. وأنه لم يأتك بجديد. ولكن تولستوي لم يحاول أن يبهرك بآراء غريبة تضعها بين آلاف الآراء، ولم يحاول أن يتحفك بطريف الأفكار. بل أراد أن يرشدك إلى منهاج السعادة في الحياة وهو منهاج عملي جربه بنفسه فنجح فيه نجاحاً باهراً.
أحب جارك. أحب لكل إنسان ما تحبه لنفسك؛ اعمل لغيرك، ففي كل هذا سعادتك.
لا تقل أن غيرك لا يعمل لهذا، فليس معنى تقصيره أن تقصر أنت، ولا تسأل لماذا تكون أنت الوحيد الذي يختط لنفسه هذا الطريق.
بل اعتقد أن الناس لا بد صائرون إليه، وأن لا مرية في أنهم منتهون إلى اتباعه. فلماذا لا توفر على نفسك شقاء؟ ولماذا تضن على نفسك بالطمأنينة والسعادة؟
ذلك جانب من فلسفة تولستوي. وهناك جانب آخر عالج الرجل فيه المجتمع ومساوئه، وموعدنا به عدد قادم.
شهدي عطية الشافعي
خريج قسم الاجتماع والفلسفة من
الجامعة المصرية
وأخيراً تتمخض حياة الروائي الكبير عن شيخ يعتزل ثروته ويترك المدنية بكل زينتها وخداعها ونفاقها ليعمل جنباً إلى جنب مع فلاحيه، وليفيض قلبه حنانا على الإنسانية المعذبة. وليصبح شخصية خالدة على ممر الدهور.
هكذا كان تولستوي وهكذا كانت حياته.
ثم فلسفة قوية مليئة بالحياة هي فلسفة الإيمان والعاطفة، وعاطفة قوية صريحة يدعمها العقل، ويحركها التأمل، ويفيض عليها الإلهام نورا عميقا.
هكذا كانت فلسفة تولستوي.
فلن تجد في فلسفته هذه المشكلات المنطقية، وهذا اللف والدوران وهذا التكلف والتعمل اللذان تجدهما في كثير من الفلسفات. بل لم يحاول تولستوي مرة أن يضع كتابا في الفلسفة أو يجمع آراءه في صوره مرتبة منمقة.
ففلسفته في شتات رواياته التي تتجاوز العشرين. وهي في شتات أشخاص هذه الروايات التي تعبر كل واحدة منها عن ناحية من نواحي المؤلف نفسه: عن شكه أو سخريته، عن إيمانه أو إلحاده.
ولذلك ففلسفته محببة إلى النفس. يقدمها في لون من أشهى الألوان إلى القلب: في صورة قصة أو في صورة ذكريات.
وهو لم يكن يكتب ليرتزق من وراء كتبه كمعظم الروائيين. ولم يكن يكتب ليضحك من الناس أو يسخر منهم كما فعل أناطول فرانس. بل كان يكتب معبراً عن عاطفة قوية أحست بالحياة، وشكّت في الإله، ثم آمنت به من بعد شك. ثم اعتزت بالحياة من بعد سخرية.
وهو لم يبحث في الإله وصفاته، أو في الروح وطبيعتها، أو في الجسد وعلاقتها بالروح، أو في الزمان والمكان، أو في ترتيب الخلق والموجودات، أو فيما شابه ذلك من أمهات المسائل التي تشغل بال الفلاسفة. بل كانت فلسفته من صنف آخر لا يقل جودة ولا ينقص عظمة ولا عمقا. حاول فيها أن يخفف من الآلام الإنسانية وعذابها، وأن يرشد الفرد والجماعة إلى الطريق السوي. وأن يرسم لهما مثلا أعلى يعملان من أجله. فلسفة بحثت في جميع أمراض الإنسانية فشخصت الداء وبينت مواضع الضعف. ثم أخيرا أرشدت إلى أنواع العلاج.
وقد عالج تولستوي سعادة الفرد وكيف يمكن تحقيقها، ووصف عيوب المجتمع الذي نعيش فيه. وبيّن سخافاته ومتناقضاته والطريق إلى علاج هذه المتناقضات. وبحث في الدين والعلم والفن وأخيرا في كل ما يمس المجتمع الإنساني وما يتصل بأفراد هذا المجتمع بسبب.
وسنحاول في هذه العجالة أن نطلعك على ناحية من نواحي فلسفته. ناحية حاول فيها أن يرسم للفرد مثلا أعلى. وأن ينهج له الطريق إلى السعادة التي ينشدها.
كل منا قد تساءل ما الحياة وما قيمتها؟ ولماذا نحياها هكذا؟ أخلقنا لنشقى أو عشنا لنموت؟
وكل منا مرت به ساعات من السخط على الحياة أو الابتسام لها. لا ندري لماذا نبتسم ولماذا نسخط؟
وكل منا يرغب في سعادة هادئة مطمئنة، سعادة لا يفوز ولم يفز ويظهر أنه لن يفوز بها! ومع ذلك فنحن دائبون في العمل لها. وهي دائبة في البعد عنا.
ومر بخلد تولستوي هذه الشكوك وانتابته هذه الحيرة وجرى وراء السعادة، فأقبل يرتوي من منهل الحياة: يعربد ويتهتك ويتمتع بكل ما حرم ولذ، ونال من الحياة ما لم ينله غيره.
فهو من أشراف الروسيا، له من المجد ما لهم، وله من العبيد ما يزيد على سبعمائة. وهو غني في غير حاجة إلى عمل يرهقه، أو رئيس يخضع له، والطبيعة وإن لم تزوده بوجه جميل، قد أعطته من جمال الروح ورقة العاطفة ما خفف من حدة قبحه، وقلل من بشاعة منظره، وتزوج فأخلصت له زوجته، وتمتع بأشهى ما تصبو إليه نفس من وفاق عائلي وذرية صالحة.
ماذا يريد بعد هذا من أطايب الحياة ولذات المعيشة؟
على أنه لم يفز بالأمل المنشود. ولم يظفر بالسعادة ولا بظلها، بل كان ينتابه شعور بسخف الحياة وعبثها.
فهي إما ساكنة هادئة، ولكنها مملة جافة. وهي إما مضطربة هائجة، ولكنها مؤلمة قاسية. وهي في كل هذا سخيفة من دون معنى ولا غرض ولا غاية واضحة. أيعتزلها كراهب؟ ولكن أنى له الخبز الذي يملأ بطنه الجائع؟ وما قيمة حياة يعتزلها المرء؟ وأنى للإنسانية أن تعيش إذا قدر لكل فرد أن يعتزل العالم؟ وهل يجد الإنسان في العزلة راحة وهدوءا؟
أيحياها كما حيتها مئات الأجيال من قبله، وكما ستحياها من بعده؟ ولكن هذه سخافة لا تطاق. وما الذي يحمله على أن يتعذب ويتألم ويقاسي ليكون نعجة من نعاج هذا العالم يسمن ليذبح، أو يهزل ليمرض ويموت؟ أيعتقد في حياة أخرى ليست هذه الدنيا إلا مزرعة لها؟ وما يكون إذن معنى الحياة؟ أهي تجربة سخيفة؟ وماذا يمنعنا من اختصار هذه التجربة؟ ولماذا لا نسرع فنأتي على حياة بائسة لندرك أخرى أسعد منها أو أقل منها سخفا.
وأخيراً ما هي السعادة؟ وما الطريق إليها؟ أهي ثروة وضياع وجاه؟ ولكن تولستوي جربها فلم تبدد شكوكه ولم تشبع مطامعه بل أصابه منها ملل قاتل لا يدري كنهه، وسأم مروع زهده فيها.
أهي درس وقراءة واطلاع؟ ولكن تولستوي قرأ وقرأ أحسن ما أنتجه بشر، فلم ترضه هذه القراءة، ولم تضع حدا لشكوكه، وأخيراً ما فائدة الاطلاع والمعرفة والعلم؟
وقف تولستوي من الحياة هذا الموقف، وأخذ يفكر ويجهد نفسه في التفكير لعله يوفق إلى تعريف الحياة. وأخذ يقرأ لعله يصل إلى حل يطمئن إليه أو فلسفة يرضى عنها. ولكنه حاول عبثا وبدا له أخيراً أن الفكر وإعنات الروية لن يجديا شيئا. وتملكه يأس وأخلص فيه. ولكن ما لبث أن أشرق عليه نور جديد: نور الإيمان في الله، ونور الاعتقاد في الحياة وفي عظمتها. نور وهاج قوي يقف أمامه العقل خاشعا، ولا يستطيع العلم المادي بكل جبروته أن يجابهه أو يسخر منه!
أنريد فهما للحياة ولسر وجودنا فيها؟ أنريد فوزا بالسعادة؟ حسن! فلنعمل ما تطلبه منا الحياة. ولتنفذ مشيئة الله. وما غاية الحياة؟ هي أن نعمل ونجيد ما نعمله. وليكن عملنا في سبيل الغير، ولنضح بأنفسنا في سبيلهم، ولنحبهم كما نحب أنفسنا بل أكثر مما نحبها. ولنتعاون معهم، ولننم جميع قوانا من عقلية وجسمية، ولنحسن استخدامها في خدمة الآخرين: التعاون، الحب، العمل، ثالوث مقدس هو سر الحياة وسر السعادة. ليمتد حبنا إلى جميع أفراد الإنسانية. ولنعمل لإخواننا في البشرية، ولننس أنفسنا فنكون بذلك قد أدينا مهمة الحياة التي خلقنا من أجلها وفي هذا طمأنينة لنا وهدوء.
لقد أسأنا فهم الحياة. وحسبناها مسرحا لقتال دام يفترس فيه القوي الضعيف، ويلتهم فيه الكبير الصغير. ثم اتهمناها بالقسوة وما هي بقاسية بل هي أعز شيء في الوجود.
وبحسبنا السعادة في هذا النضال السمج، وبحسبنا الراحة في هذا القتال العنيف.
بالغنا في الأنانية، أردنا الحياة لنا وحدنا، أردنا مالا وجاها وحبا وبنين لأنفسنا ولأنفسنا وحدها.
والحياة لا تريد منا هذا، فالفرد ذرة لا معنى له في الوجود دون غيره. ذرة من أصغر ذرات العالم، فإذا ما اجتمعت هذه الذرات واتحدت وتعاونت استطاعت أن تصل إلى أقصى سعادتها وهي مستطيعة أن تنال جميع أمانيها، فإذا ما اختلفت وتناحرت وتفرقت أصبحت لا شيء. وهي واقعة في شقاء لا خلاص منه.
لقد ظننا بالحياة شراً، وقد حاولنا أن نجعل من قانون سخيف ندعوه تنازع الحياة وبقاء الأصلح قانونا للحياة. فالأفراد في تنافس، والأمم في تناحر، ومن هذا النزاع الدائم يتولد البؤس واليتم والفقر والآلام، وتتولد الإنسانية عاجزة خادعة ماكرة ضعيفة.
لننس هذه الأحقاد مرة واحدة، ولنتعاون، ولينس الفرد أنه خلق لنفسه، وليجعل غايته خدمة غيره. خدمة أولاده، خدمة أفراد الإنسانية جمعاء، إذن يخف كل شقاء. وتعم السعادة الجميع. سنقول هذا خيال شاعر وأمل فيلسوف.
ولكن تولستوي لا يقول لك ضح بنفسك لأن في التضحية نبلا أو جمالا. وهو لا يقول لك كن خيّرا لأن الجنة للخير والنار للشرير. وهو لا يزعم أن في خدمة الآخرين قياما بواجب لا تستطيع أن تفهم من فرضه عليك. هو يقول لك أحب جارك واعمل لغيرك، لأن هذا هو قانون الحياة، ولأنك لا تملك عنه محيداً، وهو يقول ضح بنفسك لأنك ستضحي بها مرغما إذا أبيت. هو يقول لك سامح عدوك وأدر له خدك الأيسر إذا أصاب منك خدك الأيمن لأن في الخلاف شقاء لك وله.
وليس في هذا جري وراء خيال أو مثل أعلى يضاف إلى غيره من الأمثلة العليا. ولكن جرب بنفسك. اقتنع بأنك خلقت لغيرك وسترى أي سعادة ستجلبها عليك هذه التجربة، لن يخيفك الموت بعد هذا لأنك سترى فيه إفساحاً للطريق أمام غيرك. لن تعبأ بالآلام تصيبك لأنك سترى فيها تخفيفا لآلام اخوتك من البشر.
أما إذا أبيت هذا، وضننت بنفسك أن تكون ضحية في سبيل الآخرين، فكن أنانيا جشعا وابلغ المجد على أكتاف الناس، واجمع حولك من متاع الدنيا ما تسرقه وما لا تسرقه، ولكنك لن تكون سعيدا. وستظل شقيا بائساً، ولن تشعر براحة ما دام لديك ذرة من ضمير. وستمعن الحياة في السخرية منك، تجعلك آلة لها تنفذ مشيئتها، وستكون ضحية على رغم أنفك، وستعيش خائفا وجلا من الموت أو من خصم قوي، وسيؤنبك ضميرك، ولا يلبث أن يضيع ما أنفقت حياتك من أجله، سيلتهم مالك وجاهك من هو أقوى منك، أو لا تلبث أن تموت، فيتمتع به غيرك، وبذا تكون الحياة قد انتقمت منك شر انتقام.
وليس معنى خدمتك للغير أو تضحيتك بالنفس أن تنسى ذاتك أو تعتبرها كمالاً مهملًا في الوجود. إذ هي شرط من شروط الحياة وشرط هام لا تستطيع الإنسانية أن تتحقق بدونه، ولكنها ليست غاية الحياة، وليس من أجلك وحدك قد كانت الحياة.
وليس معنى هذا أن تكبت غرائزك أو تحمل نفسك ما لا تطيق. بل وجِّه نشاطك إلى ما خلق له. .
في مثل هذه اللغة البسيطة الساذجة القوية يحدثك تولستوي. ولا يضير فلسفة تولستوي أن تبدو شعرية عاطفية إذ هي لا تكاد تخرج عما قالته الأديان. فالمسيحية ومن قبلها اليهودية ومن بعدها الإسلام تبشر بما قاله تولستوي. وكلها حضت على التعاون وقالت أن المؤمنين اخوة وأحب لغيرك ما تحب لنفسك. وكلها رفعت من شأن العمل للآخرين وكلها حضت على الإيثار وكلها أمرت بالتقرب إلى الله وحده وجعلت منه رمزا للوحدة.
لم يأت بجديد. ولكنه أحب أن يثبت أن ما قالته الأديان صحيحا، وأنه عملي، وأنه الطريق الأوحد إلى السعادة الفردية والإنسانية، وأحب فوق هذا أن يبين أن ما قالته الأديان ليس مثلا أعلى يصعب تحقيقه، بل هو الغاية التي لا محيد عنها، والشيء الذي نعمله كارهين أو راضين.
لقد رأى أن الحياة لا معنى لها في الأفراد مشتتين. بل لا يمكن تصورها إلا في الأفراد مجتمعين متعاونين. وقد رأى أن للحياة غرضا بسيطا هو أن يلتئم الأفراد ويتحدوا، هو أن تجتمع الذرات الإنسانية لتصبح ذرة واحدة كبيرة ترجع إلى خالقها. وفي هذا الاتحاد كل سعادتها.
ولم ير الحياة الدنيا إعداداً لحياة أخرى كما ترى معظم الأديان بل وجد فيها سلسلة لا تنقطع. فليس في موت الأفراد انتهاء للحياة. بل موتهم معناه بقاؤهم في نسلهم، ومعناه حلقة جديدة قد تكون أحسن استعدادا وأكثر تضامنا.
وهو متفائل راض مطمئن على مصير الإنسانية، فهي تسير إلى الوحدة منفذة في ذلك مشيئة خالقها.
وهو يرى أن كل ما فينا أعد لتنفيذ غاية الحياة. ففينا حب الحياة لنستطيع أن نحيا، وفينا حب النشاط والحركة وكره السكون حتى نعمل، وفينا الجانب الحيواني بكل غرائزه لنستطيع أن نعمل، وفينا العقل لنفهم كيف نعمل والى أي غاية نسير، وفينا الضمير ليؤنبنا وليحاربنا إذا ما حاولنا الحياد عن الغاية المرسومة لنا. وفينا غريزة النسل لتخرج ذرية أقوى تستطيع أن تتمم ما تريده الحياة إذا ما ضعفنا أو متنا.
يعد تولستوي الشقاء الذي نشعر به نتيجة طبيعية لمخالفتنا ضمائرنا التي تفهم وحدها الغرض الوحيد من الحياة. وتنبهنا كلما حدنا عن الطريق المستقيم، وهذا الشقاء داع إلى تفكيرنا في أنفسنا. والى شعورنا بالحياة وغرضها.
ويعلل تولستوي الحيرة والقلق اللذين يستوليان على المرء بأنهما نتيجة لإهماله واجبه المقدس في الحياة، وإغفاله العمل، أو لمقته الآخرين وترك معونتهم. وهذه الحيرة نفسها خطوة أولية نحو الشعور بالحياة والتأمل فيها والوصول إلى فهمها.
وهو يرى في العقيدة والإيمان ملجأ حصينا من الشك والتورط فيه. إذ العقيدة النيرة الحية البعيدة عن التعصب، هي التي تدفعك إلى العمل وحب الغير وتجعلك طفلا فرحا سعيدا وهي التي تجعلك هادئا قرير العين بالحياة.
قد تقول أن هذا شيء تعرفه. وأنه لم يأتك بجديد. ولكن تولستوي لم يحاول أن يبهرك بآراء غريبة تضعها بين آلاف الآراء، ولم يحاول أن يتحفك بطريف الأفكار. بل أراد أن يرشدك إلى منهاج السعادة في الحياة وهو منهاج عملي جربه بنفسه فنجح فيه نجاحاً باهراً.
أحب جارك. أحب لكل إنسان ما تحبه لنفسك؛ اعمل لغيرك، ففي كل هذا سعادتك.
لا تقل أن غيرك لا يعمل لهذا، فليس معنى تقصيره أن تقصر أنت، ولا تسأل لماذا تكون أنت الوحيد الذي يختط لنفسه هذا الطريق.
بل اعتقد أن الناس لا بد صائرون إليه، وأن لا مرية في أنهم منتهون إلى اتباعه. فلماذا لا توفر على نفسك شقاء؟ ولماذا تضن على نفسك بالطمأنينة والسعادة؟
ذلك جانب من فلسفة تولستوي. وهناك جانب آخر عالج الرجل فيه المجتمع ومساوئه، وموعدنا به عدد قادم.
شهدي عطية الشافعي
خريج قسم الاجتماع والفلسفة من
الجامعة المصرية